إن بدا لك هذا الوضع مشابها لوضع مصر اليوم، فهذا لأنه تشبيه في محله على نحو مدهش، يذكرنا بأن مصر قد عادت إلى النقطة التي بدأت منها، وبأن الحنين إلى عهد الملك فاروق الذي تشعر به بعض القطاعات من نخبة العصر الحالي ينم في جزء منه عن نظرة وردية إلى الماضي، تغفل الواقع الذي واجهه المصريون يوميا في تلك الآونة. إلا أن هناك اختلافا جوهريا يفصل هنا بين الماضي والحاضر؛ ففي مصر اليوم الآخذة أحوالها في التدهور، لم يثمر ترف الطبقة الحاكمة عن شيء ذي قيمة، أما الفساد في عهد فاروق فكان أرضا خصبة متطورة لمجتمع متعدد الثقافات يحتضن الفنون والثقافة المصرية ويستوعب أيضا الأفكار الغريبة عن البلاد الواردة من كل بقاع الأرض، مسبغا عليها طابعا مصريا مميزا، شكلته بدقة طبيعة مصر التي تحتضن الاختلاف. نعم كان ذاك عالما مجحفا قاسيا عنيفا يشبه بطريقة ما الحاضر، إلا أنه اتسم بالتنوع والاختلاط. كانت أرضه خصبة تتسع للكثير من الآمال، وحتى إن لم يرجح أن تتحقق تلك الآمال، لقد أتاح هذا العالم باختصار الأمل معه. أما في مصر ما بعد عبد الناصر، التي تجردت من الحس الثقافي وخضعت لتطهير عرقي، فلم يعد حتى للمال قيمة؛ فهو لا ينتج للأثرياء إلا تقليدا عقيما للحياة في بقعة أخرى، ولا يمول إلا حملات البلطجة لإزهاق أي تعبير حر عن الرأي. •••
أحب الرئيس أنور السادات الترويج لنفسه على أنه رجل تقي من الشعب، حتى عندما باع هوية مصر إلى الغرب الذي أبهره وتاق لأن يحتضنه ويحظى باحترامه، من ثم سعى جاهدا لتأسيس علاقات مع قادة جماعة الإخوان المسلمين حتى قبل انقلاب عام 1952. ولما تسلم الرئاسة سارع بإعادة سيطرة أفكار الجماعة على الشارع السياسي، ساعيا إلى إقصاء دائرة عبد الناصر لتحل دائرته محلها في أوائل السبعينيات، وسهل تشجيعه للحركات الشبابية الإسلامية بالدرجة الأولى نشأة الاتحادات الطلابية القوية بالجامعات المصرية. علل السادات لهذا قائلا: «أود تنشئة شباب مسلم أتعهده بالإنفاق، فهؤلاء سيكونون عمادنا.» وقد تحمس الإخوان المسلمون لمبدأ الخصخصة، فهو مبدأ إسلامي لا يمت بصلة للشيوعية، من ثم اعتنقوا في البداية سياسات الانفتاح التي تبناها السادات والتي بدا أنها تفسح مجالا في الاقتصاد للقطاع الخاص، وتفتح سبيلا مجزيا، وتعد بتغيير يختلف عن عهد عبد الناصر الذي لم يكافئ إلا المذعن لنظامه، ويعاقب المعارض. إلا أن نقد الإخوان الجريء المتزايد للفساد والنظام الطبقي الذي ساهمت الخصخصة في مفاقمته، علاوة على نقدهم لتوقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، أعاد الفجوة بين الجماعة والنظام العسكري الحاكم. ثم أعاد حسني مبارك تصوير أعضاء الجماعة من جديد كمجموعة طائشة خارجة على القانون، بعد بضعة محاولات للتصالح معهم في أعقاب اغتيال السادات عام 1981 على يد متطرفين إسلاميين أكثر تعصبا بسبب زيارته لإسرائيل. عنى قانون الطوارئ الذي صدر مجددا عقب اغتيال السادات أن أعضاء الجماعة قد يعتقلون في أي وقت، ولأي سبب، بناء على هوى النظام. وكانت إحدى التبعات العديدة التي تولدت عن ذلك ولا تزال قائمة إلى اليوم هي مئات الإسلاميين المكبلين في غرف التعذيب المصرية. ومن الجدير بالذكر بالطبع أن أعضاء الجماعة، لا سيما بسطائها الذين انضموا إليها عن اقتناع شديد، قد عانوا معاناة هائلة تحت وطأة النظام، تحملوها في كثير من الأحيان بدرجة كبيرة من الصمود. أما قادتهم فقد منحتهم تلك الحقيقة فرصة مستحقة بقدر ما لتصوير أنفسهم على أنهم شهداء الحرية والعدالة. •••
يضطر من يتقدمون للترشح للانتخابات من جماعة الإخوان المسلمين في ظل قانون الطوارئ أن يتقدموا رسميا إلى الانتخابات باعتبارهم «مرشحين مستقلين »، ويديرون حملاتهم الانتخابية علنا تحت أبرز شعاراتهم المبسطة إلى حد مفرط: «الإسلام هو الحل»، ليتضح للجميع انتماؤهم الحقيقي. أول ما وقعت عليه عيناي في صالة الاستقبال بالدور الأرضي لمقرهم الجديد، عندما ذهبت للقاء رئيس ممثليهم في البرلمان كان ملصقا كتب عليه: «القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.»
التقيت بعد بضعة أشهر من انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 بممثل الجماعة البارز حمدي حسن في مقر الجماعة الجديد بالقاهرة. وحمدي حسن هو أيضا ممثل كتلة المعارضة البرلمانية للجماعة وهو رجل طويل متوسط العمر بدأ الصلع يزحف على رأسه، ارتدى زيا أنيقا من حلة ورباط عنق (كدأب جميع مسئولي الجماعة). صافحني بقوة ووجهه تعلوه ابتسامة عريضة وأنا أخلع نعلي، ثم سرنا على بسط الصلاة ليستقر بنا المقام على أريكة. تساءلت ما الذي يدعونا إلى الالتقاء في قاعة صلاة، وثمة ثمانية طوابق في هذا المقر الجديد؟ واكتشفت فيما بعد أن حسن هو تجسيد لكل ما يجده نقاد جماعة الإخوان المسلمين مثيرا للسخط؛ من ميلهم إلى الحديث عن أفكار مجردة بدلا من الخوض في التفاصيل، واختزال القضايا في شعارات، والإدلاء للأجانب بما تود حكوماتهم سماعه. أثار غيظي في البداية لإصراره على الحديث إلي بالعربية الفصحى مع أنني احتججت على ذلك بأنني أتحدث العامية المصرية، ومن ثم سأجد فهم ما يقوله أصعب. يفضل الكثير من الإسلاميين التحدث بلسان العربية الفصحى التي تستقي ألفاظها من القرآن؛ إذ يرونها لغة خالصة تقريبا من الشوائب التي أدخلتها تيارات العصر الحديث البذيئة، من ثم هي أقرب إلى اللغة التي تحدث بها النبي محمد. لكن من جهة أخرى لا يستطيع أي مصري آخر تقريبا أن يتحدث بها بطلاقة، أو أن يستمتع بسماع الحديث بها، بل إن المصريين في الواقع يفتخرون بأن لهجتهم صارت اللهجة المشتركة في العالم العربي وهذا يرجع إلى حد بعيد إلى السيطرة التاريخية لقطاع صناعة التليفزيون والأفلام والموسيقى القاهري على المنطقة العربية منذ زمن بعيد. ومن العجيب أن جماعة تزعم أنها تمثل مصالح الشعب المصري الحقيقية وتعظم برامجها الاجتماعية تبقي على فواصل بهذه الأهمية بينها وبين المواطن العادي. اعتمدنا في نهاية المطاف على مترجم يترجم من الفصحى الرفيعة التي استخدمها حسن إلى لغتي - الإنجليزية - أو إلى اللهجة العامية المصرية الدارجة، وهو ما بدا أمرا شديد الغرابة. ولعل عناد حسن يبين كيف قد تنتصر المذهبية على العملية والعقلانية عندما يصعد هو وزملاؤه إلى السلطة.
أخبرني حسن أنه اعتقل مرتين منذ انتخابات ديسمبر/كانون الأول عام 2005، وقال لي أيضا إن «أسر أعضاء الجماعة الآخرين وأصدقاءهم ومعارفهم يعتقلون أو يتعرضون للضغوط دائما؛ فالنظام يهدف إلى ترهيبنا لنقلع عن جهودنا لتحقيق أهدافنا السياسية والدينية.» لكن الأرجح أن أعضاء الجماعة لن يحيدوا عن أهدافهم بقدر ما سيضطرون إلى تبني ردة فعل غير عقلانية تتخذ شكل تحدي النظام تحديا مباشرا أو اللجوء إلى العنف. وحرص حسن على أن يوضح لي أن التغيير الثوري المفاجئ هو عكس ما يؤيده هو وزملاؤه تماما، فقال: «إذا وقع التغيير فجأة في مصر، فستنشأ الفوضى وهذا يضر بمصر والعالم أجمع.»
أردت أن أعرف ما الذي جعل برنامجه كمرشح في الانتخابات يثير سخط الحكومة المصرية إلى هذا الحد، فأجابني:
هذه هي الفترة الثانية لي كممثل في البرلمان، وفلسفتي هي أن الإنسان جزء من مجتمعه. والإخوان المسلمون جزء من كل بقعة من بقاع المجتمع؛ في المنظمات غير الحكومية، والنقابات، والمجالس المحلية، وهذا يجعل برنامجنا مختلفا عن الآخرين. نحن ننظر إلى الجوانب الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية لمشكلات البلاد، ونلبي احتياجات الناس في محافظات البلاد كافة على جميع المستويات، ونقصد المواطن العادي في الشوارع لنتعرف على احتياجاته ونحاول إشباعها. نحن لا نسعى إلى جمهورية إسلامية، وإنما إلى دولة حديثة متحضرة، لكن قائمة على أسس إسلامية، ولا نعارض الديمقراطية أو الدستور، ولا آليات الدولة الحديثة المتحضرة. نحن جبهة معارضة قوية في البرلمان، ونستطيع أن نجعل صوتنا مسموعا.
بالطبع لم يتبين لي من إجابته ما فعله هو وغيره ليتعرضوا للضغط أو الاعتقال أو الحبس؛ فلم يكن أي مما قاله مثار اعتراض أو يشكل تهديدا، لكن قد يتساءل الليبراليون إن كان الإيمان بأن الإنسان جزء من مجتمعه يعني إخضاع حقوق الفرد للمصلحة العامة، في ظل عدم وضوح المسئول عن تعريف ما يسمى بالمصلحة العامة. إلا أن النظام الحاكم ليس ليبراليا على الإطلاق؛ بل ما قد يجده النظام مقلقا أكثر هو سعي الجماعة إلى تلبية احتياجات المجتمع على نحو يدين بطريق غير مباشر ضعف قدرة النظام. لكنني بدلا من التنقيب في النواحي الفلسفية اتجهت إلى الناحية العملية؛ فسألت حسن: هل يمكن أن يضع الإسلاميون والعلمانيون أجندة مشتركة باسم الشعب المصري، عوضا عن التحالف غير الرسمي الذي شكلته جماعة الإخوان المسلمين مع الاشتراكيين وغيرهم من ممثلي جبهة المعارضة بالبرلمان، والجماعات الشعبية الداعمة للديمقراطية كجماعة (كفاية) التي قادت المظاهرات ضد نظام مبارك في الشوارع؟
أجابني: «كثير من الأشياء تدفعنا إلى الاتحاد، لا سيما القضايا السياسية، كاحتمال أن يتسلم جمال مبارك الرئاسة. جميعنا يعارض ذلك، ونحن أيضا نؤيد الإصلاح السياسي، وحرية الأحزاب السياسية، وإنهاء قانون الطوارئ، وتحرير الصحافة. المناخ السياسي هو ما يجمع بيننا.»
وماذا عن حرية التعبير؟ إن أصبح القرآن هو الدستور، ألن يفرض هذا قيودا على المجتمع المصري سيرفضها العلمانيون؟
نامعلوم صفحہ