وأستعين الله وأستغفره مرة أخرى، إذا قلت إن تفسيرا كهذا لا يصادف عندي قبولا، ولا ما يقترب من القبول؛ لأنه يضيع علينا قوة المعنى الصحيح وعمقه واتساع آفاقه؛ وأول الاختلاف بين الرؤيتين، هو في معنى «أحسن تقويم»، فلا أظن أن التقويم هنا يشير فقط إلى الشكل الخارجي والصورة الظاهرة في جسم الإنسان، وإنما الإشارة هنا إلى ذلك الجهاز الإدراكي القادر، الذي وضعه الله جلت قدرته، في الإنسان، فهنالك في باطن الإنسان قدرة عاقلة أولا، تعرف كيف تستدل استدلالا صحيحا عما يعرض لها من أحداث ومواقف، ومع تلك القدرة العقلية هنالك العواطف والمشاعر والمواهب المختلفة ثم الغرائز الحيوية، ذلك هو «التقويم»، وبالطبع تعد الحواس الظاهرة والحواس الباطنة جزءا من ذلك التقويم، فليس التقويم الذي خلق الله الإنسان عليه، والذي قدم له بقسم يشير إلى الأنبياء هو شكل الجسم وصورته، بل هو «حشو» الجسم - إذا صح هذا التعبير - حشوه بكل ما فيه من قدرات. ولنلحظ أننا حين نقول عن شيء ما إن «قوامه» هو كذا وكذا، فإنما نعني بذلك عناصره و«مقوماته» فضلا عن أن «القيم» مشتق لفظها من الأصل اللغوي الذي تفرعت عنه كلمة «التقويم».
وأهم ما نلفت النظر إليه هنا هو أن ذلك الجهاز الإدراكي والمحرك للإنسان وهو على فطرته، يكون «محايدا» ويستطيع صاحبه أن يستخدمه في أعمال صالحات، كما يستطيع أن يستخدمه في السوء، وإرادته ساعة اختيار هذا الطريق أو ذاك هي التي تجعله إما بين الذين آمنوا، الذين يؤجرون أجرا لا يمن عليهم به؛ لأنهم يستحقونه (وإني لأعجب من تفسير الطبري للأجر غير الممنون بأنه الأجر غير المنقوص). وإما تجعله بين الذين يردون أسفل سافلين يوم الحساب.
استرسلت في حديثي ذاك، وكأنني نسيت الغلام الذي كان هدف الخطاب، وكنا عندئذ نجلس في الحديقة على مقعد خشبي، فنظرت إليه لأجده قد أثنى عنقه إلى الوراء قليلا، ليسدد بصره إلى شفتي، ليرى كيف يتحركان بعبارات، ربما فهم بعضها وغاب عنه المعنى في بعضها الآخر، فلما لمحت ذلك في عينيه، قلت: لقد كنت أحدثك يا ولدي في ضرورة الوقوف عند جزئية واحدة مما نريد أن نفكر فيه، لكي نحسن التصور والفهم؛ لأن أخذ الموضوع ب «الجملة» من شأنه أن يضيع علينا رؤية الدقائق، فافرض - مثلا - أنك تريد أن تعرف بدقة ووضوح موقف الأمة العربية في حالتها الراهنة، فلا يجديك كل الجدوى أن تسمع عن آلاف الملايين من الدراهم أو الدنانير أو الدولارات أو الجنيهات، التي أصبحت تجري كالأنهار تحت أقدامنا، لكن الصورة تكون أشد وضوحا، إذا أنت وقفت طويلا عند نبأ يقول إن شابا عربيا من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، قد أرغم تحت تهديد السلاح من جندي إسرائيلي أن يسير على أربع - على اليدين والقدمين - نابحا كما تنبح الكلاب، فهل تصدقني يا بني، إذا قلت لك إن عيني قد دمعتا حين قرأت النبأ؟ نعم، ولقد قرأت كذلك بعدئذ أن الحكومة الإسرائيلية قدمت جنديها إلى المحاكمة؟ لكن ما حدث قد حدث، وإنه لمن أركان المنهج العلمي أن واقعة واحدة تنفي زعما مزعوما، تكفي لرفض ذلك الزعم، حتى لو أيدته آلاف الوقائع الأخرى، فانظر ماذا تجد، إذا سمعت منا ادعاءنا، عن الأمة العربية أنها - في يومنا هذا - بخير، بدليل الملايين التي تجري كالأنهار تحت أقدامها، ثم سمعت عن هذه الواقعة الواحدة، تحدث لشاب عربي واحد، فماذا أنت قائل؟
إنه لسوء طوالعنا نحن البشر ألا يكون لنا ذلك الخيال القوي، الذي نتصور به حقائق الناس في يأسهم وفي بؤسهم، ونحن على مبعدة منهم، وهل كان يمكن - لو كان للبشر مثل هذا الخيال الناصع، الذي يرى الأحداث وبشاعتها، حين تحدث على غير مرأى من العين - هل كان يمكن لإنسان أن يقدم على إقامة عمارة فوق أسس من الغش والخديعة، لتنقض على رءوس ساكنيها؟ قف يا ولدي عند جزئية واحدة لتتصور وتفهم؛ لأنك إذا اكتفيت بالحقائق في تعميمها وتجريدها، كنت كمن يسمع معادلة رياضية لا يعلم من رموزها إلى أي شيء تشير، قف من قصة العمارات المنهارة عند ذلك الرجل الذي ترك زوجته وأولاده في المسكن «الجديد»، وذهب ليؤدي صلاة الجمعة ثم عاد ليجد العمارة أنقاضا مكومة على جثث زوجته وأولاده.
نعم إن «العلم» لا يكون إلا بالتجريد والتعميم واستخلاص الأحكام العامة من المعطيات الجزئية المحسوسة، فعلم النبات - مثلا - يدرس هذه الزهرة التي بدأنا بها حديثنا هذا، لا يدرسها ليقف عندها، بل ليستخرج منها القوانين العامة التي تصدق عليها وعلى جميع أفراد نوعها، فإذا ما تحققت له تلك القوانين، نسي الزهرة وأهمل شأنها، لكن الإنسان - يا ولدي - بقدر ما يريد «العلم» في تعميماته وتجريداته تلك، فهو كذلك مضطر أن يحيا حياته اليومية العملية مع أفراد الناس ومفردات الأشياء، فأنت لا تتعامل مع «الإنسانية» أو مع «الأمة»، وإنما تتعامل مع إسماعيل وأحمد وفاطمة وزينب، وأنت لا تتعامل مع «الدولة» أو مع «الحكومة»، بل تتعامل مع هذا الموظف الواحد المعين الجالس إلى مكتبه يقرأ الصحيفة ويقضم الساندوتش ويرفض إنجاز شئونك في مواعيدها.
أريد لك أن تفتح عينيك وأذنيك وقلبك وعقلك، حتى لا تفلت منك الأفراد والمفردات في ضجة العبارات العامة المبهمة الغامضة، فإذا قيل لك - مثلا - إن «الهدف» الأسمى الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا جميعا هو قوة الوطن وازدهار الشعب، فانظر بدقة إلى «الوسائل» التي تخطط لتحقيق ذلك «الهدف» النبيل، فإذا وجدت من الوسائل أن تكم الأفواه وتجوع المعدات وتذل النفوس، فارفض أن يكون سمو الهدف مبررا لسفالة الوسيلة؛ لأن هذه الوسيلة هي فلان الفلاني الذي خلقت له معدة لتأكل، ولسان ليتكلم، وعقل ليفكر وهو حر.
لعلك قد سمعتني أوجه تهمة «السطحية» إلى كثرة غالبة من شباب هذا الجيل، حتى لقد سألتني مرة قائلا: ماذا تعني بهذه الكلمة؟ لم أجبك ساعتها، لأني ظننتك عندئذ - وكان هذا منذ عامين - أصغر من أن تستوعب الجواب، وها أنا ذا الآن أذكر لك أطرافا مما كنت أعنيه، فلقد رأيت شبابا بالألوف - وأنت تعلم أن تعليم الشباب هو مهنتي - رأيتهم يقرءون ما يقرءونه وكأنهم مسافرون في طائرة لا يرون من نوافذها تفصيلات الطريق، فالرحلة تنتهي وهم لا يعرفون هل مروا على صحراء أو على أرض مزروعة؟ إنهم لم يدربوا على الوقوف عند التفصيلات، فأصبحت تصنعهم العبارات المجوفة والألفاظ المفرغة من معانيها.
أما أنت يا ولدي فأريد لك أن تفتح عينيك وأذنيك وقلبك وعقلك، فمن كل بستان يصادفك في حياتك وفي دراستك، حسبك منه زهرة واحدة تمعن فيها وتجيد فحصها، ولك بعد ذلك، أو عليك بعد ذلك، أن تقيم الصورة الكلية الشاملة للبستان، على أسس ثابتة من دراستك للمحتوى زهرة زهرة، فإذا كان بستانك كتابا، فادرسه كلمة كلمة، ومعنى معنى.
صورتان من القرن الرابع الهجري
والصورتان من دنيا الفكر والثقافة، أردت عرضهما على قارئ اليوم، لتأخذه معي حسرة على زماننا وما أصابنا فيه، أو ما أصبناه نحن به، من تفاهة وضحالة وصغار. ومعياري في هذا الحكم ليس هو الموضوعات التي تشغلنا في حياتنا الثقافية بقدر ما هو اهتمامنا، إلى أين تتجه؟ وكيف؟ وبأي درجة من الشدة والشيوع؟ وليعذرني القارئ إذا أحس في صوتي نبرة التشاؤم وخيبة الرجاء؛ إذ الحق - كما أراه - هو أني كلما قارنت اهتماماتنا الفكرية إبان ما بعد منتصف هذا القرن، بما قد كان في حياتنا إما في الأعوام المائة والخمسين السابقة مباشرة على هذه الفترة الأخيرة، وإما على أي فترة أخرى تختارها منذ القرن السابع الميلادي إلى الخامس عشر، لما وجدتها - أي هذه المرحلة التي جاءت بعد منتصف القرن - تقوى على المنافسة، وإذا صدقت هذه الرؤية، كان الأمر أخطر من أن نلهو به ونتبادل النكات.
نامعلوم صفحہ