أتذكرين؟ أتذكرين ونحن معا في مطارح الغربة نتلفت حولنا، فنرى لكل فرد من ملايين الأفراد قدرته وكرامته وعزة نفسه؟ أتذكرين يوم رأينا معا ذلك الصف الطويل من الرجال والنساء، كل ممسك بصحنه في يده، يتقدمون خطوة بطيئة بعد خطوة بطيئة ليصلوا إلى حيث وجبة طعامهم وشرابهم، فلمحنا في الصف خادما ووزيرا، والخادم في دوره يسبق دور الوزير، فلا الوزير أقلقه أن يقف وراء الخادم، ولا الخادم أخافه أن يقف أمام الوزير، أتذكرين؟
أتذكرين ما قلته لك عندئذ: إنه حتى لو حدث في بلادنا أن رضي الوزير بموقفه من الصف، لما رضي له الخادم، وإذا نحن ترجمنا هذا الكلام بمقياس أوسع، لقلنا إنه حتى لو رضي صاحب السلطة في بلادنا بأن يلزم حدوده تجاه الشعب العامل، لما رضي ذلك الشعب العامل إلا أن يفسح له الطريق. أتذكرين يا نفسي كيف تعاهدنا عندئذ أن نحاول التغيير بكل ما في وسعنا من جهد وجهاد؟ فماذا صنعت، وها نحن قد بتنا قاب قوسين من الأجل؟ إن شيئا لم يتغير، لا على يديك ولا على يدي أحد سواك؟ فما تزال كتلة الشعب تعالج أمورها كما كانت تعالجها منذ أمد طويل.
ومرة أخرى أجابت النفس: وماذا كنت تريدني أن أصنع، فهل أزحزح الجبل؟ إنك تعلم، كما أعلم، أن الخطوة الأولى في سبيل التغيير، هي أن يشعر الناس بوجوب أن يتغيروا! فماذا أنت صانع إذا وجدت الناس قد ملئت صدورهم بفكرة قائلة إنه إذا كان لا بد من تغير، فإنما يكون التغير بالسير إلى الوراء؟
وهكذا ترى الناس في بلادنا أحد رجلين: فإما هو راض بما هو فيه، وإما يريد أن يغير ما هو فيه، بالسير إلى الوراء! فالكمال كان في أمس، ولن يكون في يومنا أو في غد! إنهم يسمون الرجوع تقدما، ويسمون اللاعقل اعتزازا بالتراث.
قلت لنفسي: يا نفسي لو كان الناس على صواب لما كان بنا حاجة إلى أصحاب فكر وأرباب قلم، ففيم يعمل الفكر، وبماذا يجري القلم، إذا كان كل شيء على ما يرام - كما يقول - وكانت الحالة «معدنا»، ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان؟ إن «الفكر» - بحكم تعريفه - هو حل للمشكلات، وإذا لم تكن مشكلات فلا فكر، فأنت - يا نفسي - حين وصفت الناس بأنهم على ما هم عليه، كنت بمثابة من يضع أمامنا مشكلة تريدين لها حلا، وهذا هو ما أردت أن أقوله حين سألتك ماذا صنعنا، وماذا صنع المثقفون جميعا بكل ما قالوه وكتبوه، إذا بقيت مشكلتنا على حالها التي كانت عليها بالأمس وما قبل الأمس؟
قالت لي نفسي: إنك يا صاحبي تنحو علي وعلى نفسك باللائمة لهذا الجمود الراكد الذي يغشى حياتنا، وتنسى ظروف التربة التي بذرنا فيها بذورنا، فبذورنا وبذور سوانا من أصحاب البيان والقلم إنما تسقط على صوان أخرس وأصم، نعم إنه صوان صلب عنيد، ولكنه بسبب تلك الصلابة فيه وهذا العناد، بات لا ينبت الشجر الأخضر.
سألتها: وماذا تعنين بتلك التربة الصماء؟
أجابت: أعني ما قلته لك مرارا، وهو أن أمتنا قد أصبحت أمة من الدراويش؟ وأريد بالدروشة تلك الغيبوبة الثقافية التي تفقد صاحبها قدرته على دقة التوازن بين الأولى والآخرة؟ ولم تصب مصر بفقدان التوازن هذا إلا بعد الفتح التركي، وأما ما يزيد على ستين قرنا قبل ذلك التاريخ فلم تشهد من المصري إلا متدينا عاملا، أو عاملا متدينا، كان المصري طوال عمره الطويل يتدين كما يتنفس، فهو بناء للعمائر والهياكل متدين، وهو زارع لأرضه متدين، وهو نجار أو حداد متدين، وهو عالم أو فنان متدين، إنه كان أي شيء في حياته العملية المنتجة والدين بطانته، لم يكن الموقف في حياته موقف من يقول: إما عمل وإما دين، بل كان العمل والدين وجهين لعملة واحدة، ولبث الأمر كذلك خلال الحضارات المتعاقبة التي خاضها. كان كذلك - بالطبع - في عصره الفرعوني القديم، وكان كذلك يوم أن سقطت الشعلة من أيدي اليونان فالتقطتها مصر، لتكون هي الفيلسوفة المتدينة وهي العالمة المتدينة، وهكذا لبثت مصر تحمل كل حضارة تالية وفي قلب المصري إيمانه الديني، ولما نشأ الأزهر الشريف في القرن العاشر الميلادي، ظل ستة قرون يؤدي الرسالة المزدوجة: العلم والدين، وهو لا يفصل بين الحياتين: فهو عالم حين يتدين، وهو متدين حين يخدم العلم، حتى لا يكون العلم من علوم الدين.
وجاء الفتح التركي، فما أسرع ما انفجرت الشعبتان وكأنهما لم يكونا فرعين من جذع واحد، أو قل إن إحدى الشعبتين - شعبة العلم الأصيل - قد توارت، وبقيت شعبة الدين، وأصبح المتخرج في الأزهر رجل دين، أكثر منه رجل دين وعلم مندمجين في كيان واحد، فلما اقتحمت ديارنا حضارة الغرب وأطراف من ثقافته، منذ الحملة الفرنسية فصاعدا، أخذنا ما جاءنا من الغرب من علوم وفنون وأفكار ونظم للتعليم والحكم وغير ذلك، لكننا أخذناه حفظا وتسميعا، ومن هنا استقلت الشعبتان إحداهما عن الأخرى، ودخلت ساحتنا صيغة زائفة باطلة، وهي الصيغة التي كانت تصول بها: إما دين وتدين وإما علم حديث وحضارة حديثة، هذه صورة موجزة، يا صاحبي، كما حدث، وهي الصورة التي نتج عنها الموقف الراهن، الذي هو: كتلة الشعب من الناحية الثقافية في ناحية، ومعها رواد يسوسونها على ذلك الطريق، وقلة قليلة جدا تشربت ثقافة العصر وحضارته من ناحية أخرى، فإذا كتب أفراد من هذه القلة القليلة ما يكتبونه، فلن يجاوزوا بكتاباتهم حدود أنفسهم، إنهم لن يخترقوا بكتاباتهم حاجز الصوت ليصلوا إلى آذان جمهور الشعب، وتلك هي التربة الصماء التي عنيتها حين قلت - يا صاحبي - إننا نحن وأمثالنا نبذر بذورنا لتقع على صوان صلب أصم وأخرس، فهو أصم بالنسبة إلينا، ولكنه مفتوح الآذان لآخرين، وهو كذلك أخرس بالنسبة إلى اللغة التي تتكلمها تلك القلة القليلة التي أشرت إليها، لكنه ناطق بالنسبة إلى لغة الآخرين.
قلت لنفسي: حقا لقد ألقيت لي الضوء فوضح الغامض، ولكن أنترك الأمر على هذه الحالة؟ وإلى متى نتركه؟ وماذا نحن صانعون لو أردنا أن نغيره؟
نامعلوم صفحہ