ذلك ما كان ينبغي أن يكون، أما ما هو قائم بيننا اليوم في نظم التعليم، ففيه ما يعمق الفجوات بين أبناء الشعب، ومن ذلك أن الخط الدراسي المؤدي إلى الأزهر يبدأ استقلاله منذ اللحظة الأولى في حياة الدارس، بمعنى أن يخرج الشقيقان من بيت واحد . وهما بعد على الدرجة الأولى من سلم التعليم، فإذا كان مقصودا بأحدهما أن يدرس آخر الشوط في الأزهر ومقصودا بالآخر أن ينتهي به طريق الدراسة إلى إحدى الجامعات الأخرى، فإن الشقيقين منذ اللحظة الأولى يختلفان اتجاها؛ فأولهما إلى مدرسة أولية تبدأ منها سلسلة المعاهد الدينية، وثانيهما إلى مدرسة أولية من صنف آخر تبدأ منها سلسلة أخرى من حلقات التعليم، فماذا نتوقع بعد ذلك، سوى أن يصبحا رجلين مختلفين في طريقة النظر إلى الأشياء والأفكار وأنماط الحياة؟ وأعيد هنا سؤالي: أليس أول ما تمليه علينا البديهة في هذا الصدد هو أن يتحد جميع أبناء الأمة وبناتها في تعليم واحد، إلى أن نصل بهم إلى نقطة يحدث عندها التفريع، فتختلف بينهم التخصصات دون أن تختلف عندهم الأصول الأولى في تكوين وجهة النظر؟ إنه إذا كانت الدراسة على برامج المعاهد الدينية هي الأصلح - في رأي رجال التربية - فلتكن تلك الدراسة للجميع، وإذا كانت الدراسة في الخط التعليمي العام هي الأصلح، فلتكن كذلك هي الدراسة للجميع. وأما أن نشق جمهورنا شقين، من بداية الطريق إلى نهايتها، فذلك بمثابة من يشير إلى كل من الطائفتين، قائلا لها: أنت طائفة مختلفة عن الطائفة الأخرى، وكان الأصوب أن نقدم إلى الناشئة جميعا ما يوحي لهم بقوة أنهم أبناء أمة واحدة، لا بد أن تكون لها رؤية ثقافية واحدة.
ومع ذلك، فيا ليت الازدواجية الثقافية التي نخلقها بأيدينا خلقا، تظل ازدواجية ولا يتسع بها الانشقاق والشقاق، والمخالفة والاختلاف، فكما يحدث لقطرة المداد تلقي بها في إناء الماء فلا تظل محدودة بحدودها، بل إنها لتتسع وتتسع حتى تتناول بأثرها كل الإناء وما فيه، كذلك يحدث في الازدواجية الثقافية حين تلقي بها في صفوف الجماهير، فتأخذ في التفرع والتوسع حتى يكون لكل مجموعة من الناس رأيها واعتقادها، وتنتج لنا حالة كالتي نحياها اليوم، ولولا عروق ممتدة في حياتنا من تاريخ مشترك طويل، لرأيت ما قد استحدث فينا من أضداد ومتناقضات أشد وضوحا.
إن سفينتنا واحدة تحيط بها لجة خطرة من موج غاضب يتربص بها ليغرقها، ولا يحميها من الخطر الداهم إلا أن تتوحد السفينة ركابا وربانا، فركابها يحددون الهدف المنشود، وربانها هو السائر بالسفينة نحو ذلك الهدف، فإذا رأينا الهدف قد تشقق أهدافا متعارضة، تتأرجح بها السفينة بين أمام ووراء وبين يمين ويسار؛ فهل نملك إلا أن نصيح صيحة الفازع: أدرك السفينة يا ربانها!
عودة إلى تجويع النمر
كنت في إنجلترا إبان الحرب العالمية الثانية دارسا، ولم تكن سني عندئذ هي متوسط السن عند الدارسين، بل كانت تعلو فوق ذلك المستوى بعدة أعوام، إذ لم يشأ لي الله سفرا بعد التخرج إلا بعد أن بلغت تلك السن المتقدمة بالنسبة إلى الآخرين، فلأمر ما، سارت بي الحياة بمثل تلك الحركة البطيئة التي يصطنعونها بآلات التصوير، عندما يريدون للمشاهد أن يرى على شاشات السينما أو التليفزيون حركة معينة بكل دقائقها وتفصيلاتها، كحركات اللاعبين والمتسابقين، أو حركات الحيوان في معاركه أو في مناشط حياته، فتتحرك الأجسام في بطء وتراخ، وكأنها مخدرة بنعاس ثقيل، وهكذا شاء لي الرحمن أن تسير مراحل حياتي، كل مرحلة منها تجيء، لا لترحل عند انقضاء أوانها، بل «تتمطى بصلبها، وتردف أعجازها، وكأنها تنوء بحمل ثقيل يحول بينها وبين خفة الحركة» - مستعيرا صور امرئ القيس في وصف ليله الطويل - فكانت كل مرحلة تبدأ معي ثم لا تريد أن تخلي الطريق إلى ما بعدها، فيتقدم السائرون وأنا مجمد القدمين، كأني ملصق بأديم الأرض، لا أتزحزح من مكاني إلا كما تتزحزح السلاحف، ولم تكن تلك الحركة البطيئة نتيجة ضعف في الجهد، أو قصور في الهمة وبلادة في الحس والإدراك، فقد كنت أيام الدراسة في طليعة المتفوقين، ثم أخذت بعد التخرج أبذل الجهود فوق الجهود، لا كلل ولا ملل، ولا شكوى.
لا، لم تكن الحركة البطيئة في تعاقب المراحل، نتيجة لقلة الجهد المبذول، أو لبلادة الذهن وقصوره، وإنما هي - في أرجح الظن - نتيجة لجهلي باللغة التي يتفاهم بها الناس في بلادنا، ولست أعني بالطبع لغة القواميس، بل أعني تلك الرموز السحرية التي تنفتح لها الأبواب للداخلين من قبيل «افتح يا سمسم» في قصة علي بابا، والأقدار بعد ذلك لا ترحم من تلكأت قدماه على الطريق.
أوه! ذلك هو عصرنا، وهذه مصرنا، ونحن أبناؤه وأبناؤها.
إنني لم أمسك بقلمي لأكتب شيئا من هذا، بل أردت أن أقول إنني كنت في إنجلترا إبان الحرب العالمية الثانية دارسا، وكانت الحرب قد بلغت تلك المرحلة التي كانت فيها ألمانيا تقذف إنجلترا بقذائف كانوا يسمونها ف2، وهي قذائف لم تعد تجدي معها صفارات الإنذار؛ لأنها تباغت الناس، فقد تكون في قاعة المحاضرات، أو في المطعم تتناول طعام الغداء، أو ماشيا في الطريق، أو حيثما تكون، وإذا بالدوي الذي يصم الآذان، والذي ترتج له الأرض والجدران رجا عنيفا، وإذا بالقذيفة التي أحدثته لا تبعد عنك إلا بضعة أمتار، فإذا ما وقع هذا، ساد الصمت بضع ثوان، ثم مضى كل فيما هو فاعله، لا هلع، ولا صوت، ولا حركة، ولا تبادل نظرات، ولا أي شيء من هذا كله أو ما يشبهه، ترى له أثرا على أحد.
وكان بيني وبين زميل مصري موعد، ضربناه ليكون عند «القوس المرمري»، فهنالك كان مشرب الشاي لأمثالنا، في «بيت الناصية»، وهو مكان اشتهر برخص أسعاره، مع فخامة في معداته، فمثلنا لم يكن يقوى على أكثر من هذا كلما أراد طعاما أو شرابا؛ لأنه محدود بحدود البنسات والشلنات، فما جاءت ساعة اللقاء، إلا وقذيفة من تلك القذائف المباغتة قد نزلت على ميدان القوس المرمري، فاستحال اللقاء، وطافت برأسي فكرة، قلت لعل فكرة مثلها تخطر لزميلي، وهي أن أنعرج إلى شارع «بارك لين» قاصدا إلى نادي الطلبة المصريين، وهو قريب من هناك، وفي النادي وجدت مجلة الثقافة ملقاة على إحدى المناضد، فأخذت أتصفحها انتظارا للزميل المرتقب.
وفي تلك المجلة قرأت مقالا رائعا، للمرحوم الأستاذ محمد فريد أبو حديد، كان له وقع في نفسي، حال بيني وبين النوم في تلك الليلة، قبل أن أكتب مقالة من وحي ما كتبه الأستاذ أبو حديد؛ لأبعث بها إلى النشر في مجلة الثقافة ، ولأبعث بها صباح اليوم التالي، وجعلت عنوان مقالتي: «تجويع النمر»، وها أنا ذا أستأذن القارئ في نشر الجزء الأول منها، تمهيدا للإضافة الجديدة التي عن لي اليوم أن أضيفها:
نامعلوم صفحہ