تقع بطحاء عرفة على يسار الصاعد إليها من المزدلفة مارا بمسجد نمرة، وفي الجانب الآخر من هذه البطحاء يقع مسجد الصخيرات، وهو اليوم أثر متهدم كما شهدت، وقد تخطت بنا السيارة بعده أثناء وادي نعمان والجبال تنفسح عنا تارة وتقترب منا أخرى، حتى بلغت بنا مصدر عين زبيدة التي تروي مكة وتروي الحجيج اليوم، والتي تعتبر عملا من الأعمال الهندسية الخالدة الاسم على التاريخ، وإن تغيرت من بعد وتطور رسمها مع تقدم العلم.
وسميت هذه العين باسم زبيدة زوج أمير المؤمنين هارون الرشيد؛ لأنها أول من أجراها، فقد كانت مكة قبلها تستقي من الآبار والعيون ، وكانت الآبار كثيرا ما تغيض، والعيون كثيرا ما تطم، وقد كان معاوية بن أبي سفيان أجرى الماء إلى مكة من العيون والآبار في قنوات، واتخذ حياضا بعرفة لسقيا الحجيج منها، بيد أن هذه القنوات والحياض لم تلبث أن تخربت وأصاب الناس بذلك جهد شديد، هنالك أمرت زبيدة بإجراء عين حنين بوادي نخلة إلى مكة بعد أن اشترت الأراضي التي كانت مياه العين تسقيها، كما أمرت بإجراء عين من وادي نعمان إلى عرفة.
وتنبع عين نعمان من جبل كراء الذي يصل بين عرفة والطائف، وقد أجريت مياه نعمان حتى بلغت منى، وتعذر إجراؤها بعد ذلك إلى مكة لشدة صلابة الأرض، وتعرض هذا العمل لأفاعيل الزمن، فكان يتخرب أحيانا وينقطع منه الماء عن مكة وعن عرفات أحيانا، ولقد أمر كثيرون من أمراء المؤمنين بإصلاحه في عصور وأزمان مختلفة، وأنفقوا عليه نفقات طائلة، لكن ذلك لم يحل دون تخربه واضطراب مسيل الماء إلى مكة وإلى عرفة، ففي النصف الأخير من القرن العاشر الهجري طلبت الأميرة فاطمة هانم كريمة السلطان سليمان الإذن في تعمير العيون وفي القيام بعمل جديد عظيم هو إيصال ماء نعمان إلى مكة، وكان المال المطلوب لذلك ثلاثين ألف دينار، وأذن لها أبوها، وتم هذا العمل العظيم في عشر سنوات، وكان يوم تمامه من أعياد مكة الكبرى، تصدق الناس وأجروا الخيرات وقاموا من أعمال البر بما أعاد إلى ذاكرتهم ما فعله أسلافهم يوم أتم عبد الله بن الزبير بناء الكعبة.
ولقد طغت السيول بعد ذلك غير مرة على مجاري هذه المياه تحت الأرض ودخلت الأتربة من البازانات إليها ومست الحاجة إلى إصلاحها، وكان والي مصر محمد علي ممن أصلحوها، ولا يزال المهندسون يرون تعديل نظام المجرى الحالي تعديلا يجعل مياهه أبعد عن التلوث وعن أن تفسدها الأتربة والرمال التي تدفعها السيول.
ولقد دهشت أيما دهش ونحن نسير في هضاب نعمان حين ذكر لي صاحبي أننا بلغنا مبدأ العين، فهذا المبدأ أشبه ببئر تنحدر إليها المياه لتسري خلال الجبال ولا يبدو للناظر منها شيء، وليس يبدو من المجرى غير البازانات المختلفة يراها الإنسان في الطريق من مكة إلى عرفة ويراها في أماكن مختلفة من مكة، ولست أدري لعل صاحبي لا يعرف أين تبدأ العين حقا، وإن أكد لنا رجل لقيناه هناك ما قاله صاحبي برغم إلحاحي في السؤال وإظهار التردد في تصديق النبأ.
يسير الطريق بعد نعمان إلى شداد على سفح جبل كراء، ومن هناك يبدأ الصاعد إلى الطائف صعوده حتى يبلغ جبل كر، ثم ينحدر منه حتى يبلغ الطائف، ولم نجاوز نحن نعمان إلى ما بعده، بل قفلنا منه راجعين إلى مكة.
هذا الطريق الذي سرنا فيه كثيرا ما طرقه الرسول - عليه السلام - في حياته، وإن كان مسيره فيه في حجة الوداع أشهر ما يذكر التاريخ، كثيرا ما سلكه في السنوات الأولى من بعثه وإلى حين هاجر من أم القرى، فهو قد كان يذهب في موسم الحج يبادئ القبائل بالدعوة إلى دين الله، وخير مكان كان يلقاهم فيه عرفة ومنى، في تلك الأيام النائية منذ أربعة عشر قرنا كان الرسول يخرج وحيدا أو في نفر ممن اتبعوه، فإذا أنس إلى قوم من القبائل الآتية إلى الحج اتصل بهم وتحدث إليهم وجادلهم بالتي هي أحسن ودعاهم إلى دينه، ومن هؤلاء كان يرده ردا غير جميل، ومنهم من كان ينصت إليه ثم ينصرف عنه مفكرا، ومنهم من لم يكن الرسول يكاد يتركه حتى يجيئه من قريش من يحذره مغبة دعوة فرقت أهل مكة شيعا، ويرى الرسول إعراض الناس عنه وتحذير قومه إياهم منه فلا يصده ذلك عن دعوته، بل يزيده استمساكا بالدعوة وحرصا عليها، وتؤذيه قريش بمساءتها، ويؤذيه شعراؤها بهجائهم فلا يهن، ولا يتردد، وينقضي العام ويتلوه العام وهو أشد على الدعوة حرصا، والناس ينأون عنه، وقريش تحارب دعوته، فلا يصرفه عنها صارف، وقد أمره ربه أن يبلغ رسالته، لقد كنت أتصور هذه المواقف ونحن نمر بهذه الأماكن، ثم أتصور موقف الرسول الذي صدقه العرب جميعا في حجة الوداع، فيشيع الإكبار في نفسي وأكاد أسمع بأذني قوله - تعالى:
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
وهذا الطريق الذي رأى محمدا يطارده قومه وتزور القبائل عنه، ثم رآه من بعد ذلك وقد فتح الله له فانضوى العرب كلهم تحت لوائه، هو الطريق الذي رآه وليدا يوم حملته حليمة السعدية معها من مكة ذاهبة إلى الطائف في طريقها إلى قبيلة بني سعد بن بكر. نعم! في هذا الطريق سار الرضيع تحمله مرضعته الفقيرة على حمارها تتخطى به بين الجبال ثم تصعد به سفوح كر وكراء، وتتخطى به بوادي الطائف حتى تصل إلى قومها!
أليس هذا عجبا؟! الطريق الذي سار فيه محمد طفلا لأول ما ولد هو الطريق الذي سار فيه شيخا يعلن إلى الناس أن رسالة ربه بلغت غايتها، إذ يبلغهم قوله - تعالى:
نامعلوم صفحہ