أي متحف هذا المتحف؟! إن صورته لتثير في الذهن صورة قاعة من قاعات المتحف المصري بالقاهرة، أو بهو من أبهاء متاحف العواصم الأوروبية، ولم يكن أهل ذلك العصر ينظرون إلى هذه الصورة والتماثيل كما ننظر نحن اليوم إليها، ولا كانوا يعتبرونها بعض آثار الفن كما نعتبرها ، بل كانوا يبعثون إلى هذه الصور المادية حياة يتوهمونها ثم يكبرونها، ثم يشركون أصحابها في الألوهية، أو يتخذونها إلى الله زلفى؛ لذا كانت الكعبة إلى تلك الساعة حين دخلها محمد هيكل الوثنية والشرك، كما كانت هيكلهما قبل ذلك أجيالا وآجالا، أما والإسلام ينكر الشرك ويدعو إلى التوحيد كما دعا إليه إبراهيم منذ أقام البيت، فليعد بيت الله هيكل التوحيد كما كان؛ لذلك أمر محمد فطمست الصور، وحطمت الأصنام وألقيت إلى ظهورها، وطهرت الكعبة من كل أثر لها، وعادت إليها بساطة التوحيد ومهابته بمعناه الروحي السامي توحيه إلى من يطوف بها ويدخل إلى جوفها فتوجه قلبه إلى الله وحده، له وحده الحمد وله الملك وإليه يرجع الأمر كله.
يا لعظمتها ساعة من ساعات التاريخ تلك التي طهر محمد الكعبة فيها من فنون الشرك وآثامه! لقد تمثلت لي مناظرها جميعا واضحة جلية في بهاء جلالها كأنها تمر أمام باصرتي على شاشة بيضاء، بل كأنها تحيا في عالمنا من جديد كرة أخرى، وجعلت أشهدها وأنا واقف على عتبة باب الكعبة، فتمتلئ بها روحي وتتغذى بها نفسي، فيزيدني ذلك تعظيما لموقفي وإكبارا للرسول الكريم الذي محا آية الضلال، ثم تنفرج شفتاي عن كلمة هي جماع هذه الروحانية العظمى: «لا إله إلا الله، الله أكبر.»
لو أدرك المسلمون ذلك كله إدراكا حل منهم محل اليقين لما نزل بالإسلام ما نزل به، وما اجترأ على بيت الله يوما مجترئ، لكن الفتح الإسلامي أدخل في دين الله أقواما لم تمتثل نفوسهم مبادئ هذا الدين في سمو صفائها، وفي دعوتها إلى الإسلام الصحيح لله، وفي احترامها حرمة بيته احتراما وقر في النفس العربية من قبل الإسلام، ثم زاده الإسلام قوة وتثبيتا؛ لذلك قامت الفتن بعد مقتل عثمان، واستقل بنو أمية بالملك، وجعلوا دمشق عاصمتهم ... فلما آل الأمر إلى يزيد بن معاوية كان عبد الله بن الزبير ما يزال منتقضا على إمارة الأمويين، ثائرا بهم بمكة، ولقد جرد يزيد جيشا لإخضاعه وأمر عليه الحصين بن نمير، فسار إليه وضيق عليه الحصار بمكة، ولم يطق ابن الزبير ورجاله مقاومته، فلجئوا منه إلى الحرم وبنوا حول الكعبة خصاصا من القصب يحتمون بها من حجارة المنجنيق الذي نصبه ابن نمير على جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، ولم تمنع هذه الخصاص اللاجئين إليها، فقد أمر الحصين أصحابه أن يرموا الكعبة من المنجنيق بعشرة آلاف حجر، وكانوا يرمون ويرتجزون، وكانت الحجارة تصيب الكعبة حتى تمزقت كسوتها وبدت أحجارها، وأصاب الذين يقيمون بالخصاص والخيام حول الكعبة الفزع، حتى إن أحدهم ليوقد نارا في خيمة قائمة بين ركن الحجر الأسود والركن اليماني، إذ طارت منه شرارة أحرقت الخيام وتعلقت بأستار البيت، ولما كان بناء الكعبة يومئذ مدماكا من حجر ومدماكا من خشب الساج؛ فقد احترق الخشب ووهن البناء كله حتى كان وقوع الحمام على الكعبة كافيا لتناثر حجارتها.
ولقد فزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعا، وترك ابن الزبير الكعبة ليراها الناس، فيكون مرآها محرضا لهم على أهل الشام، وظل الأمر كذلك، وظل الحصين بن نمير محاصرا للبلد الحرام حتى بلغه نعي يزيد بن معاوية، وتحدث إليه رجال من أهل مكة واتهموا رجاله بأنهم رموا الكعبة بالنفط، وقالوا له: أما وقد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا نقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى ترى ما يجتمع عليه رأي صاحبك، يريدون معاوية بن يزيد، ورجع الحصين إلى الشام تاركا الكعبة واهية توشك أن تنقض.
خريطة مكة المكرمة.
وتحدث ابن الزبير إلى أهل مكة: ماذا يصنع بالبيت، أيصلح ما وهى منه؟ أم ينقضه ويعيد بناءه؟ وكان عبد الله بن عباس على رأي المعارضين للهدم وإعادة البناء، قال موجها كلامه لابن الزبير: دعها على ما أقرها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها ويبنيها، ثم يأتي بعد ذلك آخر، فلا تزال أبدا تهدم وتبنى فتذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم، ولا أحب ذلك، ولكن أرقعها، وأجابه ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله - سبحانه - وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته، وأقام أياما يشاور ويستخير، ثم أجمع على هدم الكعبة، وهدمها وأعاد بناءها، وإذ كانت خالته عائشة أم المؤمنين تذكر أن رسول الله قال لها: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم»؛ لذلك زاد ابن الزبير في مساحة الكعبة فأدخل فيها حجر إسماعيل بعد أن كشف على أساسها وجعل لها بابين وألصقها بالأرض.
ولما هدم ابن الزبير الكعبة وشرع في إعادة بنائها بعث إليه عبد الله بن عباس يقول: «لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلوا إليها»، ونفذ ابن الزبير مشورة ابن عباس، فلما بلغ البناء الركن وآن أن يوضع الحجر الأسود في مكانه أمر ابن الزبير ابنه عباسا وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلا الحجر في ثوب، وقال لهما: «إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملاه واجعلاه في موضعه فأنا أطول الصلاة، فإذا فرغتما فكبرا حتى أخفف صلاتي»، فلما وضع الرجلان الحجر في موضعه وطوقا عليه الركن كبرا، وخفف ابن الزبير صلاته، وغضب رجال من قريش حين لم يحضرهم ابن الزبير، وأعادوا قصة تحكيم أجدادهم أول داخل من باب الصفا، وحكم رسول الله قبل بعثه بينهم، لكنهم كانوا أمام الأمر الواقع، فلم يزيدوا على أن غضبوا ثم رضوا.
ولما تم بناء الكعبة اعتمر ابن الزبير محرما من التنعيم، واعتمر الناس معه، ونحروا، وأقاموا يطعمون ويطعمون شكرا لله على تيسير بناء بيته الحرام، وكان ذلك في السنة الخامسة والستين من الهجرة.
وظلت الكعبة كما بناها ابن الزبير عشر سنوات، فلما كان عهد عبد الملك بن مروان وحاصر الحجاج ابن الزبير وقتله، كتب إلى عبد الملك يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس منها وأحدث فيها بابا آخر، ويستأذنه في رد ذلك إلى ما كان عليه في الجاهلية. وأذن عبد الملك، وغير الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر وسد الباب الغربي ورفع البناء، ورفع باب الكعبة على ما كانت في الجاهلية، وأذن عبد الملك، وغير الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر وسد الباب الغربي ورفع البناء ورفع باب الكعبة على ما كانت في الجاهلية، ويذكرون أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج ولعنه وقال: «وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك.»
نامعلوم صفحہ