نعم! ذكرت وأنا بموقفي هذا كيف صد أهل مكة نبي الله عن بيت الله؟ وكيف فتح محمد مكة دون أن يسفك دما؟ وكيف عفا يومئذ عن أشد خصومه لددا في عداوته، ثم انطوى الزمن أمام بصيرتي فخلتني وأنا أقف حيث وقف الرسول وكأنما أشهد هذا كله، فيزيدني ما أشهد خشوعا وإكبارا.
وقمت فدلني السادن على مواضع صلى فيها الأنبياء والخلفاء قبالة الجدران الأخرى، فصليت حيث صلوا منذ قرون مضت، وتلوت بعد صلواتي ما طلب إلي السادن أن أتلوه، فلما أتممت التلاوة جعلت أسأله عن شئون البيت وكسوته وبنائه، وجعل يجيبني في ظرف ورقة سائغين، ما أجدره بهما وهو من سلالة بني شيبة الذين أقر الرسول فيهم سدانة الكعبة يوم الفتح لا يأخذها منهم إلا ظالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها!
والتفت السادن إلى والدتي وجعل لها كل عنايته، يجيبها عما تسأل عنه، وتتلو وإياه ما يطيب به قلبها ويطمئن له روحها، إذ ذاك أدرت بصري في جوانب البيت، ما أشده بساطة! وما أعظمه مع ذلك مهابة! هو غرفة أو - إن شئت - بهو رفيع خال من كل زخرف، وهنا بساطته، وهو هيكل التوحيد في أشد صور التوحيد صفاء وأشدها للشرك إنكارا، وهنا عظمته ومهابته، وهو كذلك اليوم، وكان كذلك منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده، تقلبت عليه أجيال أنكرت التوحيد وأشركت بالله وجعلته مثابة أصنامها، وجاءت بعد الإسلام أجيال تنكر له بعض بنيها ولم يعرفوا له حرمته، وها هو ذا هيكل التوحيد اليوم كما كان حين أقيمت قواعده، وهو يزداد كل يوم تعظيما حتى ينصر الله دينه على الدين كله، فيكون قبلة العالم جميعا في مشارق الأرض ومغاربها.
وإني لفي إكباري لبيت الله وفي تعظيمي حرمته إذ رأيتني أردد في دخيلة نفسي:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ، وتمثلت لي عقيدة التوحيد في صفاء جوهرها السامي يتضافر الدين والعلم على إكبارها؛ فعجبت كيف لا تمتثلها النفوس جميعا كما امتثلتها نفسي؟! وكيف لا يدرك الناس جميعا ما في هذه الآيات التي رددتها روحي من حقيقة تراها البصيرة واضحة محسوسة؟! وكيف لا يرى الناس وجه الله أينما ولوا وجوهم؟! كيف لا يرونه مضيئا بنور الحق في خلق السموات والأرض والليل والنهار وما نعلمه نحن وما لا يعلمه إلا هو؟! إذ ذاك ازددت إكبارا لهيكل التوحيد على إكباري إياه، وازددت عجبا لأولئك الذين يملكهم حب الحياة عن أن يروا وجهه الكريم متجليا في كل ما حولنا؛ وهو أشد تجليا في ذات نفوسنا وأعماق قلوبنا وفي كل حس وفي كل جارحة.
الكعبة بهو رفيع خال من كل زينة وزخرف، وسقفها يعتمد اليوم على ثلاثة عمد من الخشب الضارب لونه إلى حمرة تشوبها صفرة، ويرجع العهد بهذه العمد إلى أجيال طويلة خلت، فعبد الله بن الزبير هو الذي وضعها حين جدد بناء الكعبة، ولم يصب هذه العمد فساد على طول العهد بها إلا ما كان منذ خمسين سنة أو نحوها حين تآكل أسفلها فشدت بدوائر من خشب طوقت بها وسمرت عليها، وتعلو هذه الدوائر عن أرض الكعبة ما يزيد قليلا على ثلاث أذرع، وأرضها مفروشة برخام أبيض عادي، قصد منه إلى المتانة ولم يقصد إلى الزخرف.
فأما الجدار فأحيط أسفله برخام ملون مزركش بنقوش لم تعمل فيها يد ذوي الفن ولم تخرج بيت الله عن بساطته.
وغطيت جدران الكعبة بستر من الحرير، قيل: إنه كان أحمر ورديا في زمانه، ثم أحالته السنون إلى ما يشبه الرمادي الضارب إلى الخضرة، ولقد أنبأني السادن أن هذا الستر، الذي شد إلى جدرانها في عهد الخليفة العثماني عبد العزيز منذ ستين سنة أو يزيد، قد أثار قدمه واستحالة لونه العاهل النجدي عبد العزيز بن آل سعود فأمر بصنع غيره ليستبدل به، وهذا الستار القديم قد زركش بالنسيج الأبيض طرزت عليه عبارات وألفاظ توائم روح العصر الإسلامي الذي كتبت فيه من حيث دلالتها، فمنها: «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» و«يا حنان يا سلطان، يا منان يا سبحان»، وهذه العبارات الأخيرة مكتوبة داخل دوائر من النسيج الذي طرزت به، ولست أدري أية عبارات طرزت على الستر الذي أمر ابن السعود بصنعه، والذي يكسو اليوم جدار الكعبة في جوفها؛ أهي آيات قرآنية تتصل بالبيت وإقامته، أم بالتوحيد وصفائه وقوته، أم هي أحاديث الرسول في يوم الفتح، أم هي ألفاظ تعبدية كالألفاظ التي كانت على الستر يوم رأيته؟
يختلف الركن الأيمن مما يلي باب الكعبة حين دخولك منه عن سائر جدرها وأركانها؛ ففي هذا الركن يقوم الدرج الصاعد إلى سطح الكعبة، وقد وضع عند باب هذا الدرج ستر أسود مطرز بالقصب الفضي المموه بالذهب من نوع الستر المنسدل على باب الكعبة.
هذا كل ما في الكعبة من داخلها، وهو لا يغير من بساطتها شيئا كما ترى، فهذا الستر الذي يكسو جدارها ليس منها، وهو بعد كل ما فيها من زخرف، أما ما وراءه فالبساطة كل البساطة القوية التي تأخذ بمجامع النفس، البساطة الجديرة بهيكل التوحيد في بداهته وصفائه وقوته.
نامعلوم صفحہ