وفهمت أن الخطبة تمت حين نودي للصلاة من فوق المبلغات - أو المكبريات إن شئت، وقام الناس جميعا من أقصى المسجد إلى أقصاه يأتمون للصلاة، وكان كل يكبر بعد نية الصلاة ثم يقف خاشعا مطرقا ذاكرا قوله - تعالى:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ، وإن لم يستمع إلى قراءة الإمام إلا الذين كانوا على مقربة منه، ساد هذه الألوف المؤلفة صمت خشوع كله جلال ورهبة؛ جلال النظام ورهبة الإيمان، فهم جميعا يستمعون إلى الإمام يتلو «الفاتحة» في صمتهم المهيب كأنهم في ساعة الحشر إكبارا وتقديسا، فلما أتم الإمام تلاوته انفرجت الصدور كلها عن «آمين» قيلت في خشوع وصوت خافض، ودوى المسجد بها فازدادت القلوب والمشاعر رهبة واهتزازا، ثم انطلق كل يتلو الفاتحة، وصمت الإمام، فلما أتموها تلا هو ما تيسر من القرآن، ثم كبر وكبر المبلغون على أثره، وركع هذا الجمع الحافل كله يسبح بالله العظيم، وكبر المبلغون، فاعتدل الناس؛ ثم كبروا فسجدوا يسبحون باسم ربهم الأعلى، وكبروا للركعة الثانية، فتلا الإمام الفاتحة ودوى المسجد من بعده ب «آمين»، وكبر الناس وركعوا، وكبروا وسجدوا وتلوا التحيات ثم ختموا صلاتهم بتحية الختام: «السلام عليكم ورحمة الله» لافتين رءوسهم ناحية اليمين فاليسار.
لم تترك صلاة لجماعة ولا تركت صلاة لجمعة في نفسي من الأثر ما تركته هذه الصلاة في الحرم، ولطالما وازنت بين صلاة الجماعة يقوم بها المسلمون في مساجدهم وما رأيت من صلوات في الكنائس المختلفة، فألفيت صلاة المسلمين أعظم في النفس أثرا؛ لأنها توجه لله الأحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ولأن المسلم هو الذي يصلي بنفسه، ويتصل بالله بقلبه، ويستغفر الله عن ذنبه، ليس للإمام عليه سلطان، بل يقف عمل الإمام عند تنظيم صلاة الجماعة، بلا قيد لحرية الفرد في صلته بربه إلا عمله وتقواه، أما صلاة الجمعة في الحرم فقد اهتز لها كل وجودي، وقد أثارت أمام ذهني صورة مجسمة من المعاني السامية كنت أقدسها من قبل ولكني لم أكن ألمسها لمسا ماديا ، ولم أكن أراها بارزة بالوضوح الذي رأيتها به أثناء هذه الصلاة ولا إثرها، ولقد جلست مكاني والناس ينصرفون من المسجد أفكر فيما رأيت فلا أجد من مزيد التفكير فيه إلا مزيدا في تأثري به وإكباري له، ولولا أن جاء صاحبي يدعوني لمغادرة المسجد إلى الدار لأقمت حيث كنت مسترسلا في تفكيري ملتمسا العبرة البالغة منه، وما أكبرها عبرة وما أبلغها عظة!
وأبلغ أثر تركته هذه الصلاة في نفسي هذا النظام الكامل لعشرات ألوف يخطئها العد عن إسلام به، وإيمان بوجوبه، وحب إياه، وإقبال عليه، فها هي ذي عشرات الألوف تقف وراء الإمام صامتة خاشعة متجهة بكل قلوبها إلى الله مؤمنة إيمانا كاملا بكل كلمة وكل حرف من هذه السبع المثاني التي يتلوها الإمام إذ يتلو سورة الفاتحة، ثم تتلو هذه السبع المثاني من بعده؛ تحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا تعبد إلا إياه، ولا تستعين إلا إياه، تستهديه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم فلم يغضب عليهم ولم يضلوا.
وها هي ذي عشرات الألوف من كل الأجناس والألوان واللغات ينتظمها إيمان واحد بهذا الذي تتلو، إيمان لا يتلجلج ولا يكبو، فإذا سمعت التكبير للركوع ركعت جميعا مؤمنة تسبح بحمد ربها العظيم الذي تؤمن به وتقدسه، وإذا سمعت التكبير للسجود سجدت تسبح بحمده كرة أخرى، وها هي ذي تعيد في الركعة الثانية حمدها وتسبيحها واستغفارها ربها وعبادتها إياه واستعانتها به في مثل نظامها في الركعة الأولى، وتتوجه كل هذه الألوف في هذا النظام الذي يأخذ بالقلوب والأفئدة إلى بيت الله من جوانبه الأربعة.
أي جيش جيش الإيمان هذا؟! وأية قوة في العالم تستطيع أن تغلب هذا الجيش لو أنه عرف كيف ينظم الحياة مثل نظام الصلاة الجامعة، وأن يجعل الإيمان قواما لنظام الحياة كما أنه قوام هذه الصلاة، ألا لو أن ذلك كان واجتمع من في الأرض جميعا لم غلب قوما ذلك إيمانهم، وذلك نظامهم، وذلك سموهم إلى الله، وهذه عبادتهم إياه وحده لا شريك له .
الإيمان قوام هذا النظام البالغ في كماله، الذي جمع الأوروبي والإفريقي والآسيوي وأهل الأرض جميعا في صعيد واحد، والإيمان هو الذي جعلهم إخوة متفاهمين على تباين لغاتهم واختلاف أجناسهم، وإيمانهم له كل هذا السلطان؛ لأنه إيمان تجرد من كل ما سوى الفكرة السامية، لا تشوبها شائبة، ولا تندس إليها غاية من غايات هذه الحياة الدنيا؛ الفكرة المجردة من كل مطمع ومن كل هوى إلا رضا الله رضا يستعذب المسلمون التضحية بكل شيء في سبيله، التضحية بالهناءة والطمأنينة، وبالمال والجاه، وبكل ما في الحياة، بل بالحياة نفسها، وهذه الفكرة السامية يؤمن بها عشرات الألوف هؤلاء، ويؤمن بها المسلمون جميعا، تتلخص في كلمتين اثنتين هما أبلغ وأقوى ما عرفت الإنسانية منذ وجدت، ولا يمكن أن تعرف أبلغ ولا أقوى منهما إلى أن يبيد الله الأرض وما عليها: «الله أكبر».
نعم! هاتان الكلمتان هما أبلغ ما عرفت الإنسانية، وما يمكن أن تعرف، هما مظهر السمو الإنساني على ما يتصل به الإنسان من سائر الكائنات، وهما مظهر سمو النفس وقوتها، فلا يعتريها ضعف ولا يزعزع منها سلطان، يكفي أن يحيط الإنسان بمعنى هاتين الكلمتين كاملا، وأن يؤمن به إيمانا صادقا ليتصل بالله اتصالا صحيحا، وليرقى بهذا الاتصال فوق الألم، وفوق الأمل الخادع، وفوق الغرور الكاذب، وفوق كل ما في الحياة الدنيا، إننا - نحن المسلمين - لنسمع هاتين الكلمتين ولنقولهما في كل يوم عشرات المرات؛ نسمعهما مرات ساعة الأذان، ونسمعهما ونقولهما مرات حين الصلاة، ونرددهما في مناسبات كثيرة ونؤمن بهما حقا، لكن الكثيرين منا يؤمنون بهما ولا يحيطون بمعناهما إحاطة إدراك تام وشعور متنبه لهذا المعنى.
فما أعظم سلطان المال وما أكبر حكم أصحابه! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان هذا الملك الحاكم فوق العباد! نعم! لكن الله أكبر، وما كان أعظم سلطان رومية وامتداد إمبراطوريتها! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان أوروبا سلطانا تحكم به الشرق وتتحكم به في مصير العالم كله! نعم! لكن الله أكبر، فإذا أنت اتصلت بالله وحده، وعبدته وحده، واستعنته وحده، لم يكن للمال ولا للملك ولا للإمبراطورية البريطانية ولا لأوروبا ولا لقوة من القوى بالغا ما بلغ كبرها أي سلطان عليك.
وما هذه القوى جميعا وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟! وإن من التجديف حين نذكر أن الله أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم أن نذكر هذه القوى الضئيلة في حياة الكون والتي تبدو اليوم وتختفي غدا، وتقوى اليوم وتضعف غدا، وتوجد اليوم وتنعدم غدا، يبتلع البحر من الأرض ما شاء الله أن يبتلع، ويذهب الأقوياء فلا يبقى لهم بعد ذهابهم إلا ذكر قوتهم، لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء يعيشون ويأكلون وإلى ثراها يرجعون، ما أكبرها! لكن الله أكبر، والشمس ما أكبرها! لكن الله أكبر، والوجود كله من محسوس نشهده وغائب نتوسمه ما أكبره! لكن الله أكبر، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم.
نامعلوم صفحہ