قلت في نفسي: أولا يهدي الله رجلا من المسلمين إلى كتابة تاريخ لهذه البقعة والذين دفنوا بها ينشر فيه ما عملوا ويحلله تحليلا علميا، ويرده إلى أصوله ويبين ما كان له في الوجود من أثر؟! إن في قصص ما صنعوا وما كانوا عليه لأبلغ العبرة، وهو بعد يكشف من تاريخ هذا العالم عن شيء كثير ما أحوج العالم إلى أن يقف عليه، فهؤلاء جميعا من أصحاب رسول الله، وهم عرب من أبناء شبه الجزيرة، فما اتخذوه في حياتهم من عمل أدنى إلى تصوير الروح الحق لهذا الدين الحنيف وإلى هداية الناس لهذا الروح، وما أشد حاجة الناس إلى هذه الهداية.
ألا لو أن عملا ضخما كهذا العمل أتمه رجل أو رجال لأسدوا إلى الإسلام وإلى التاريخ وإلى الإنسانية خدمة جلى، ولمهدوا لأولي الفن أن يقيموا في هذا المكان أثرا خالدا يصور هذا الروح روح الإقدام في سبيل الحق والإرادة الصادقة في سبيل الله.
ما أقصر سني الحياة! فلو أن لي من القدرة على القيام بشيء من هذا العمل الجليل أمهد به الطريق لإتمامه لأقدمت غير مبتغ إلا رضا الله وحسن ثوابه، وكفى بالله وليا ونصيرا.
ولكن، من لي بأن أقوم - أنا الضعيف العاجز - فأجمع من شتيت الأسفار ما يؤرخ البقيع ورجاله من أصحاب رسول الله؟! فلأذر هذا الأمر يهيئ الله له من شاء من عباده، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
على قبر حمزة
صه! فأنت هنا أمام عرين الأسد، وهذه الجبال والأودية مما حولك كلها مجاله، فيها كان يجول ويصول، أثناءها كان يصيح بفرائسه من شجعان قريش، فإذا هي تنهد إلى الأرض رعبا وفزعا، هذا جبل أحد أمامك، وهذا جبل سلع من خلفك، وهذا وادي قناة يجري بينهما، وهذه البساتين تمتد ها هنا وهناك عن يمين وعن شمال وراء هذا المهمه الذي ظل خلاء من هيبة صاحب العرين، ما لي أراك الآن حاسر الرأس خاشعا، وما يبكيك؟ أتراك كأهل هذه المدينة لا يبكون فقيدا لهم إلا بكوا قبله حمزة أسد الله وأسد رسوله؟! أم تراك ادكرت مصرعه على مقربة منك وهذا دمه الذكي تتراءى لعينيك في كل قطرة منه معاني النبل والكرامة والاستبسال والشجاعة، فأنت تبكي لهذه الخصال غالها وحشي في غير مصاولة أو مبارزة! ابك ما طاب لك البكاء، وامتثل من صفات حمزة ومن شممه وإقدامه ومن إيمانه وسمو نفسه ما شئت، فما أنت ببالغ من بكائك ومن امتثالك إلا ما يزيدك شوقا إلى هذا القبر، تعود إليه لتقف عنده فتبكي صاحبه، وتتمثل فيه الأسد الذي صرع في غزوة أحد لا كما تصرع الأبطال في ميدان القتال، بل كما يغتال الكرام في حلك الظلام، وهل كان أحد من شجعان العرب جميعا يحسب نفسه كفؤا لحمزة ونزاله؟! وهل كان يظن أحد أن يطالع الموت حمزة في معركة على طول ما مشى بين صفوف الموت مختالا؟! ولكن ما عسى تغني الشجاعة والنبل حين يختبئ الاغتيال في حندس الليل فيورد صاحبهما حتفه.
كان حمزة بن عبد المطلب عم النبي وأخوه في الرضاع الإباء والشمم، وكان البطل المعلم، والمغوار الذي تهابه الشجعان منذ نشأته، لما افتدى عبد المطلب ابنه عبد الله من الآلهة بمائة من الإبل فكر في تزويجه، وكان عبد المطلب يومئذ في السبعين من عمره، فخرج بعبد الله حتى أتى به منازل بني زهرة وخطب آمنة بنت وهب إلى أبيها زوجا لابنه، وخطب ابنة عمها هالة زوجا لنفسه، وولدت آمنة محمدا، وولدت هالة حمزة، والروايات تختلف؛ أي الطفلين سبق صاحبه إلى الحياة؟ وإن أرضعتهما جميعا ثويبة جارية أبي لهب، وشب محمد يهيئه الله لما أراد من رسالته، وشب حمزة فتى أبيا قويا، رضي الخلق، وسيم الطلعة، مفتول العضل، محبا للقنص يخرج له في الفلاة ويرمي بقوسه، فإذا عاد منه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، ثم لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث مع من فيه، وكانوا جميعا يحبونه ويهابونه أن كان أعز قريش وأشدها شكيمة.
ولما بعث الله ابن أخيه نبيا ورسولا وبدأت قريش تناوئه وتؤذيه، لم يطب حمزة بما يصنعون نفسا، لكنه ظل يكظم غضبه حتى لا يخرج على الجماعة في عقيدتها، ولقد كان كلما رأى من ذلك شيئا جعل يفكر في أمر ابن أخيه وما يدعو إليه فيرى فيه الحق لا سبيل إلى إنكاره، لكن قومه من بني هاشم لم يتابعوا محمدا، ولم يتابعه أخوه أبو طالب الذي كان من محمد في مقام الأبوة، والذي كان يحميه من قريش وأذاها، ولكن حمزة أخ لمحمد وليس عما له وكفى، وهو بعد أصغر إخوته سنا وأشدهم بأسا وأكثرهم لذلك صراحة، وهو من لا يطيق أن يرى الحق فيما يقول محمد ولا يصارح الناس جميعا بتصديقه إياه وإيمانه به، وإنه يوما لفي قنصه غائب عن مكة إذ لقي أبو جهل محمدا جالسا عند الصفا، وكان أبو جهل رجلا حديد الوجه واللسان، لا يفتأ ينكر على محمد دعوته ويتهمه فيها، فلما لقيه في مجلسه ذاك آذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، ولم يكلمه محمد، بل انصرف عنه إلى بيته، وعمد أبو جهل إلى جماعة من قريش عند الكعبة فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها فوق الصفا تسمع ما كان بين الرجلين، فلم تلبث حين رأت حمزة بن عبد المطلب مقبلا من قنصه متوشحا سيفه أن وجهت إليه الحديث، فسلمت وقالت: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا قبل أن تأتي من أبي الحكم بن هشام! وجده ها هنا جالسا فسبه وآذاه وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه، هنالك احتمل حمزة الغضب فخرج سريعا لا يقف على أحد، كما كان يصنع، يريد الطواف بالكعبة، معدا لأبي جهل بن هشام إذا لقيه أن يقع به، فلما بلغ الكعبة نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة فشجه شجة منكرة، وقال له: أتسبه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فرد ذلك علي إن استطعت، وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسما للشر ومخافة استفحاله بين عشيرته وقومه، واعترف أنه سب محمدا سبا قبيحا.
من يومئذ أصبح حمزة أسد الله وأسد رسوله، وحسبت قريش لمحمد وأصحابه حسابا لم يكن يدور لها بخلد من قبل.
لما اتحذ محمد دار الأرقم مجلسا له مع المسلمين وحمزة من بينهم ضرب الباب عليهم يوما رجل يبتغي الدخول، وقام أحد المسلمين ونظر من خلل الباب ثم عاد فزعا يقول: هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، ولم يكن يود أن يأذن النبي له، أما حمزة بن عبد المطلب فقال: بل ائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، وأذن النبي لعمر فدخل وأسلم.
نامعلوم صفحہ