وقد روى الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه «آثار المدينة المنورة» حوادث من ذلك جديرة بأن تسترعي نظر العلماء، فبينما كان العمال يحفرون الأساس بالقسم الشمالي من مدرسة العلوم الشرعية الواقعة قرب باب النساء عثروا بمصباح زيت قديم على عمق أربعة أمتار من سطح الأرض، كما عثروا ببركة صغيرة ومجاري مياه وقطع من فخار، وفي عام 1335 كان العمال يحفرون موضع الأساس لنصب تذكاري أمر حاكم المدينة التركي فخري باشا بإقامته تذكارا لتولية الشريف على حيدر على إمارة مكة، إذا هوة انفتحت وكشفت عن بيوت سقفها تحت طبقة هذه الأرض، وقد نزل العمال إليها ووجدوا بها ثيابا معلقة على حبال محتفظة بهندامها، فلما مسوها بعد دخول الهواء إليها تناثرت، وكان العمال يحفرون في بستان لآل السيد محيي الدين بالطرناوية إذ انفتحت أمامهم هوة واسعة عميقة متصلة بنفق واسع، وقد هبط إليه بعضهم وسار فيه ثم ارتد فزعا لظلمته، وعثروا في هذا البستان كذلك بآثار لبناء قديم من الآجر المربع الكبير، فإذا صح أن كانت لهذه الحفريات دلالة على أن المدينة قائمة فوق أطلال مدينة سبقتها كان ذلك جديرا بمباحث الأثريين والجيولوجيين لمعرفة التاريخ الذي ترجع إليه هذه الآثار والسبب الذي أدى إلى طمرها.
وأكبر الظن عندي، وإن لم أكن من رجال الآثار أو طبقات الأرض، أن السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة هذه الأرض التي تقوم المدينة عليها، فكل ما حولها يشهد أنها طبيعة بركانية سكنت منذ أزمان بعيدة، وهذه الحرار السوداء التي حولها إنما هي حمم اختلط بتراب الأرض ورمالها وارتفع إلى بعض الهضاب فيما يخيل إلي، فإن لم يكن ذلك حقا، والحكم به يحتاج إلى مباحث علمية دقيقة، فلا بد أن تكون البراكين قد ثارت بهذه البقعة فطمرت الرمال والأتربة والحمم مساكنها في عصر سبق، وذلك عندي تفسير ما يقصه صاحب «آثار المدينة المنورة» من الأنباء.
ولكن متى حدث هذا؟ أفحدث بعد عهد الرسول أم حدث قبله؟ وهل كان وحده السبب في أن طمرت بالمدينة دور وآثار شتى؟ يتعذر القول برأي حاسم في هذا الأمر، فقد رأيت على مقربة من ذي الحليفة آثار مسجد ذكر لي الأستاذ عبد القدوس أنه كان مطمورا، وأنه كشف عنه من عهد غير بعيد، أما والمساجد لم تعرف إلا بعد الإسلام فقد طمر هذا المسجد إذن في عصور متأخرة، لكن مؤرخي المدينة لم يذكروا لنا شيئا عن البراكين والثورات البركانية، وإن ذكروا هذه الصاعقة التي أحرقت المسجد النبوي وامتد لهبها إلى بعض نواحي المدينة، فما اكتشف إذن فيما حول المسجد وعلى مقربة منه لا بد أن يكون قد طمر قبل عهد الرسول، وهذا احتمال ليس بمستحيل حدوثه، وليس بمستحيل أن تكون الثورات البركانية سببه، وقد يؤيد هذا القول بقاء الآبار المأثورة منذ عهد الرسول - كبئر السقيا وبئر بضاعة اللتين أشرنا إليهما، وكبئر حاء وكبئر أبي أيوب وبئر ذروان وغيرها من الآبار التي سردت أسماءها في فصل المدينة الحديثة - لكن هذا التأييد لا يعدو أن يكون ظنيا أقرب إلى الحدس المنطقي، فأما السبيل إلى الإجابة عما سألنا عنه وإثباته العلمي، فالحفريات الأثرية والجيولوجية دون سواها.
وأكرر أنني أرجئ الحديث فيما تدل عليه هذه الآثار من حياة المسلمين بالمدينة في عهد النبي إلى فصل «ظاهر المدينة»؛ فظاهر المدينة قد كان ميدانا لنشاط الرسول وأصحابه كالمدينة سواء، ولا سبيل لذلك إلى حديث مستقل عن حياتهم في ناحية دون الأخرى من هاتين الناحيتين المتصلتين، ونحن إنما جعلنا الخندق فاصلا بينهما لنيسر تقسيم البحث، ونهيئ للقارئ تكوين صورة من المدينة أبعد ما تكون عن الاختلاط والاضطراب، أما الواقع من الأمر اليوم، كالواقع من الأمر في أعقاب الهجرة وإلى وفاة الرسول، فالمدينة وظاهرها كل متصل ليس من الميسور تجزئته.
جنة البقيع
إن تعجب فقد عجبت قبلك من عنوان هذا الفصل، عجبت حين قرأت الكلمتين اللتين تؤلفانه على صورة شمسية للقباب التي كانت قائمة بالبقيع ثم هدمها الوهابيون، وإنما هون من عجبي أن الذي أطلق على المكان جنة البقيع ووضعه على الصورة رجل من الأتراك في عهد بني عثمان، فلما انقضى العجب وعدت أتدبر الكلمتين رأيتهما تعبران عن معنى دقيق، فاخترتهما عنوانا لهذا الفصل من الكتاب.
فالبقيع، أو بقيع الغرقد كما تسميه كتب السيرة، هو مقبرة المدينة، كان مقبرتها في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وما يزال مقبرتها إلى اليوم، ولم يعن التركي صاحب الصورة الشمسية هذا البقيع كله في جاهليته وإسلامه، وإنما عنى جزءا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به وزيارتهم إياه، وهو موضع حديثي الآن، ففي هذا الجزء من البقيع مقابر أزواج النبي وقبر ابنه إبراهيم وقبور بناته، وقبر عثمان بن عفان، وقبر جعفر الصادق، وقبر مالك بن أنس، وقبور شهداء واقعة الحرة التي هاجمت فيها جيوش يزيد بن معاوية المدينة سنة ثلاث وستين من الهجرة، هذا إلى كثير من صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذكرت المؤلفات القديمة عددا كبيرا من أسمائهم، وأغفلت مع ذلك ذكر أسماء أكثرهم.
المسلمون جميعا على اتفاق أن أصحاب هذه الأسماء التي أسلفناها من أهل الجنة، وأن كثيرين غيرهم، لم أذكر أسماءهم، من أهل الجنة كذلك، فمنهم جماعة من أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله
نامعلوم صفحہ