وبداخل المدينة خلا مسجد المصلى: مسجد السقيا، ومسجد الفتح، ومسجد ذباب، ومسجد الإجابة، هذا إلى مساجد أخرى ليس يذكرها أكثر المؤرخين، فأما المساجد القائمة بظاهر المدينة فسنتحدث عنها من بعد.
ومسجد السقيا أقرب المساجد التي ذكرنا إلى المناخة وإلى مسجد الغمامة، وهو لا يزيد اليوم عن قبة يسمونها قبة الروس قائمة عند باب العنبرية في جوار بئر السقيا، وإنما يفصل بينهما طريق مكة، ويذكرون أن النبي صلى بهذا المسجد ودعا فيه بالبركة لأهل المدينة وذكر أن بلدهم حرام كمكة، وهذا الذي يروونه من حرمة المدينة موضع جدل طويل أسهب السمهودي في بيانه في أول كتابه «وفاء الوفا»، والسمهودي هو الذي اكتشف هذا المسجد في القرن التاسع وكان دارسا، ولما اكتشف أعيد بناؤه ثم تهدم كرة أخرى وأقيمت قبة الروس موضعه.
أما مسجد الفتح فيقع في شمال المدينة على قطعة من جبل سلع، فهو بذلك أدنى إلى ظاهرها، وهو يقع حيث كان الخندق، وهو من المساجد التي بنيت في عهد الرسول، ويروى أنه
صلى الله عليه وسلم
دعا الله فيه ثلاث مرات استجاب له ربه في الثالثة منها، فعرف البشر في وجهه، وكان دعاؤه أن يصرف الله الأحزاب، فلما استجاب الله له وصرف الأحزاب عاد النبي بالمسلمين إلى المدينة وكلهم حمد لله وثناء عليه، وقد جدد الحسين بن أبي الهيجاء بناء هذا المسجد سنة 575 للهجرة، ثم جددته الدولة العثمانية بعد ذلك، ولقد كان في عد رسول الله مبنيا بالحجارة واللبن والجريد، أما اليوم فهو مبني كله بالحجارة، وقاصده يرتقي إليه على سفح سلع.
وعلى مقربة من مسجد الفتح يقع مسجد ذباب على سفح جبل ذباب فيما بين سلع وأحد، وكل ما يؤثر عن هذا المسجد أن رسول الله صلى في موضعه، وأنه ضرب قبة له على جبل ذباب في غزوة الخندق.
ويقع مسجد الإجابة شمال البقيع بضاحية المدينة الشرقية، وسمي هذا المسجد مسجد الإجابة فيما يذكر السمهودي؛ لأن رسول الله دعا ربه فيه وطلب إليه ألا يهلك أمته بالغرق، ولا بالجدب، وألا يجعل بأسهم بينهم، فأجاب الدعوتين الأولى والثانية ومنعه الثالثة.
هذه هي المساجد المأثورة بداخل المدينة، أويستطيع المؤرخ أن يقطع بأنها تؤرخ الحوادث التي أقيمت شاهدا عليها؟ لعله يستطيع ذلك فيما له اتصال بحوادث معينة كغزوة الخندق، وإني لأؤثر أن أرجئ الحديث في هذا الأمر إلى أن أستكمل هذه الآثار حين الحديث عما يوجد منها بظاهر المدينة، فما بالمدينة وما بظاهرها يتصلان من حيث دلالتهما على حياة الرسول وأصحابه بالمدينة وما يرسمانه لهذه الحياة من صور.
تناولت من آثار المدينة دورها المحيطة بالمسجد النبوي ومساجدها التي تذكر حادثا بذاته، وتناولت من الأمكنة سقيفة بني ساعدة والمناخة والخندق وسور المدينة، وثم من الأمكنة كذلك ثنية الوداع التي دخل النبي منها المدينة، وهي ثنية في الجبل كالثنية التي تقابل الشرائع في طريق الذاهب من مكة إلى الطائف، والنقا وحاجر كانا من متنزهات المدينة فيما مضى وهما اليوم عامران بالدور الأنيقة، والمنحنى الذي يجري اليوم طريقا أمام التكية المصرية وتقوم على جانبيه دور الحكومة.
ولست أستطيع أن أختم هذا الفصل دون الإشارة إلى أمر لعل له من الخطر عند علماء الحفريات والتنقيب عن آثار المدينة أكثر مما يدور بخلد من لا عهد لهم بهذه الشئون، ذلك أن المدينة الحالية تقوم فوق أطلال قديمة لمدينة سبقتها، صحيح أنه لم تجر حفريات علمية لإثبات هذا الأمر، لكن حفريات قصد بها إلى تهيئة أسس المنازل أو الأنصاب شهدت به ودلت عليه، أو شهدت على الأقل بأن الشبهة عليه بالغة غاية القوة.
نامعلوم صفحہ