أين الشبه بين هذا المسجد القائم اليوم وتلك الدار التي أوى إليها رسول الله؟ لا شيء من الشبه البتة بينهما، ومع ذلك يثير هذا المكان في النفس صورة ما حدث في اليوم الأول لنزول الرسول دار أبي أيوب، وما حدث في الأشهر التي عقبت ذلك اليوم، قف بنا أمام هذا المسجد الذي كان دارا لأبي أيوب وانظر، لقد كان ما حول هذه الدار خاليا من الجهات الأربع، وكان يجاورها إلى الغرب مربد سهل وسهيل ابني عمرو يجفف فيه التمر، وليس به إلا القليل من النخيل والغرقد وقبور جاهلية تركد أثناءها مياه لا يعنى أحد بتصريفها، وكان هذا المكان مقصودا من مسلمي المدينة الذين اتخذوه مصلى منذ جعل ابن عفراء فيه عريشا للصلاة، وكان هؤلاء المسلمون ما يزالون في عدد قليل، لا يتجاوزون بضع المئات عدا، وهم على ذلك موضع إجلال أهل المدينة واحترامهم، إلا من أقفل التعصب قلبه من اليهود أو المشركين، وها نحن أولاء اليوم يوم الجمعة الذي أقبل الرسول فيه من قباء ومعه أبو بكر وحولهما جماعة من مسلمي المدينة رجالا وفرسانا في جنوبهم السيوف، وها هم أولاء أهل المدينة جميعا قد خفوا إلى طرقاتها يريدون أن يروا هذا الرجل الذي يتحدث أهلهم المسلمون عنه في إكبار وإعظام ليس مثلهما إكبار أو إعظام.
انظر إلى هذه اليهودية الواقفة هناك فوق ربوة بين صاحبات لها تسأل: «أي الرجلين محمد؟» واسمع إلى جارتها الخزرجية تجيبها: «كيف لا تحزرينه؟! أوتحسبينه هذا الأبيض النحيف الخفيف العارضين الناتئ الجبهة؟ كلا! فهذا أبو بكر.» وتردف اليهودية في إعجاب: «هو الآخر؟ إذن ما أبهى طلعته وما أعظم وقاره! إن له لعينين نافذتي النظرة من حدقهما الأسود اللامع بين أهدابهما السود الطوال.» ورجال المدينة وفتيانها يسيرون حول النبي في مظاهرة ابتهاج كلها الجلال، وهي لا تخلو مع ذلك من حوار أيهم يكون له شرف ضيافته، وكلما مر بقوم من أنصاره استوقفوا ناقته، وعرضوا عليه أن ينزل عندهم في العدد والعدة والمنعة، فيقول لهم: «دعوها بارك الله فيكم؛ إنها مأمورة.»
لقد أدركوا الجمعة إذ هو ببطن وادي رانوناء من أودية المدينة، فنزل فصلاها بالناس بعد أن خطبهم قائلا: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام.» وها هي ذي ناقته تنطلق كرة أخرى فيندفع أتباعه حوله، وأهل المدينة أشد لأمره عجبا، وبه إعجابا، وأصحابه الأنصار ما يزالون يتحاورون أيهم يكون منزله منزلا لرسول الله، والآن بركت الناقة عند مربد سهل وسهيل، واجتمع كبار الأنصار حول الرسول يحتكمون إليه أيهم ينزل عليه، قال رسول الله حسما لنزاعهم: «إني أنزل على أخوال عبد المطلب؛ أكرمهم بذلك، فأي بيوتهم أقرب؟» هذا أبو أيوب يقبل فرحا مستبشرا يقول وهو يشير إلى داره: «أنا يا رسول الله، هذه داري وهذا بابي!» ويأخذ رحل النبي إلى داره وينطلق به ليهيئ للضيف الكريم مقيلا.
ما لهؤلاء المتظاهرين لا ينصرفون؟! إن عيونهم لا تدع النبي لحظة، كأنما يزداد شوقهم إليه وشغفهم به، والآن ها هم أولاء يتطلعون إلى ناحية الدور المجاورة، لقد طرق سمعهم صوت لفت نظرهم، ذلك صوت فتيات من ربات الخدور صعدن الشرفات يتغنين:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
نامعلوم صفحہ