في المسجد النبوي
تخطيت باب السلام أتبع مضيفي وفي ذهني من هذا المسجد النبوي صورة خيلها فيه ما اطلعت عليه من كتب الرحلات إلى الحجاز، وما في هذه الكتب من أوصاف وصور شمسية، وتخطيت باب السلام وكلي التوق للوقوف أمام الحجرة النبوية والسلام على صاحبها - عليه أفضل الصلاة والسلام، وكنت أحسب بعد الذي رأيته بمكة والطائف وطريق المدينة من آثار أنني ألفت هذه الآثار، فلم يبق منها ما أخشى النظر إليه بعين الباحث، لا أستثني من ذلك إلا قبره الكريم حين أقف أمامه؛ لذلك أقمت داخل الباب أنتظر «المزور» الذي أومأ مضيفي إلي بانتظاره، وأكاد أحسب أني لن أرى في طريقي إلى الحجرة النبوية إلا ما أعرف، لكنني ما لبثت حين تقدمت في المسجد خطوات فاشتملني شفقه الرهيب أن نسيت ما كان ماثلا في ذهني من صور المسجد والحجرة مما اطلعت عليه في الكتب أو سمعته من حديث من سبقوني إلى هذا المكان، فما كان من ذلك في نفسي، إنما كان صورة وعاها خيالي، وها أنا ذا الآن أواجه الحقيقة ذاتها، أشهدها بعيني وألمسها بجوارحي، وما عسى أن تغني الصورة عن الحقيقة أو يغني الخيال عن الحس؟!
انجابت الصورة وانجاب الخيال وسرت أتبع مزوري نحو الحجرة، مأخوذا بما حولي، منصرفا مع ذلك عن كل ما حولي، امتدت عن يساري غابة من العمد الضخمة البديعة الصقل، وهبط من نوافذ المسجد الرفيعة في جداره القائم عن يميني ضوء مبهم لم يحجب الأشعة المنبعثة من مصابيح الكهرباء منبسطة على السجاجيد الثمينة التي نسير عليها، مع ذلك لم يشخص بصري إلى العمد ولا ارتفع إلى النوافذ ولا استقر على السجاجيد، بل سرت مندفعا أمامي كاسر الطرف خشوعا ورهبة، ممتلئ القلب من سيرة الرسول الكريم، تتواتر في نفسي دراكا مواقف العظمة والجلال مذ بعثه الله نبيا حتى اختار الرفيق الأعلى، ثم تقف النفس عند هذا المكان الذي أخطو فيه والذي خطا
صلى الله عليه وسلم
فيه سني مقامه بالمدينة، والذي شهد من أمر الله ووحيه إلى نبيه ورسوله، ومن وقوف المسلمين الأولين حافين من حوله، ما جعلني أنسى كل شيء إلا هذه المواقف التي غيرت وجه العالم بعظمتها وجلالها، وبفضل الله ومشيئته، وبإيمان المسلمين الأولين بالله وبرسول الله.
وبلغنا الحجرة النبوية، ووقف مزوري واستوقفني قبالة قبر الرسول الشريف، فلما اطمأننت مكاني إزاء المقصورة الجميلة أشار إلى فتحة فيها هي شباكها، ثم تلا وتلوت من بعده: «السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وفى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.» ثم تحركنا خطوة صغيرة وقفنا بها من المقصورة إزاء قبر الصديق أبي بكر وسلمنا عليه، وتحركنا خطوة صغيرة أخرى وقفنا بها إزاء قبر الفاروق عمر بن الخطاب وسلمنا عليه، ثم تلونا الفاتحة.
أقمت مكاني هنيهة شاخصا إلى هذه الحجرة، مأخوذ الذهن عن التفكير، متجها بقلبي إلى هذا الدليل الذي يتلو أمام ما يقتضي الموقف تلاوته، حذرا أن يفوتني منه شيء، وكأنني في حضرة ملك أؤدي مراسم الإجلال والإكبار، كلا، بل كان الموقف أكبر من حضرة ملك، فقد لقيت ملوكا وتحدثت إليهم، ولقيت بعضهم وما أزال في صدر الشباب، فلم أجد للقياهم مثل هذه المهابة، ولا امتلأت نفسي أمامهم بشيء من هذا الإكبار، ووقفت أمام قبور لملوك وفراعين وأباطرة وعظماء فلم أشعر بشيء من الجلال الروحي الذي أخذ على تفكيري المسالك وأنا في هذا الموقف، وأشهد لقد كنت في حيرة ما أصنع، وإنما أنقذني من هذه الحيرة أن دعاني المزور لأذهب إلى الروضة النبوية فأؤدي بالصلاة فيها تحية الحرم وأصلي فيها وراء الإمام فريضة المغرب، وتقدمني مضيفي عائدا نحو باب السلام، فكان جدار المسجد الذي به محراب القبلة إلى يساري، وكان إلى يميني حاجز يرتفع إلى ما فوق قامة الرجل صنع من أعواد صفر لعلها من النحاس أو من حديد طلي بلون النحاس، واتصل بينها شبك من لونها، وهذا الحاجز يقوم على حدود الرواق الجنوبي الذي نسير فيه فيفصله عن الروضة النبوية، ويمتد على طول الطريق من الحجرة إلى مقربة من باب السلام، على أنا لم نكد نتوسط هذا الطريق حتى دخلنا الروضة من باب في الحاجز لم تعني الفرصة على الوقوف عنده وإنعام النظر في صنعه، فقد ألفيتني وسط جمع زاخر جلس في صفوف متراصة ليس بينها مكان لواقف.
أأتخطى هذه الصفوف لعلي أجد لي فيما وراءها مكانا؟ وهممت أن أفعل لولا أن أومأ إلي مضيفي فوقفت، وأسر حديثا إلى رجل من خدم المسجد فأرشدني الرجل إلى مكان أقف به في الصف الأول من الروضة إلى جوار منبر لم أشك أنه منبر الرسول ، وهم يناولني كتابا في يده، فألفاني أسرعت إلى إقامة الصلاة تحية للحرم وللروضة وسلاما على صاحبها - عليه السلام، فلما فرغت من الصلاة مد إلي يده بالكتاب، وفتحته فإذا هو مصحف مخطوط مذهب جميل، والتفت فرأيت في يد جاري اليمين كتابا صغير الحجم أدركت أنه دلائل الخيرات؛ لأنني عرفت من قبل أن بعضهم يتلوها حينا ويتلو في المصحف حينا آخر كلما جاء إلى الروضة، ومددت البصر إلى اليمين فوقع على مقعد فوقه عدد عظيم من المصاحف والدلائل، وإلى جانبه كراسي من الخشب يستعين بها بعضهم فيجعل عليها المصاحف أو الدلائل أثناء التلاوة فيها، وتستند المصاحف والدلائل الموضوعة فوق المقعد إلى المنبر النبوي الذي تنتهي الروضة بعده، ولم أحاول التحديق في المنبر تحديق الفاحص؛ لأن حالي النفسية في هذه اللحظة لم تكن حال فحص أو تحقيق، بل كانت حال عبادة وتهجد وتوجه خالص إلى الله.
ونادى المؤذن لصلاة المغرب، فانتظم الناس صفوفا في الروضة وفيما أمام الروضة من الرواق الذي به المحراب العثماني وفيما وراء الروضة لا ريب، وصلينا مع الإمام ركعات المغرب ثم صلى السنة من شاء، وأقمت بعد ذلك وبي إلى أن أطيل المقام بالروضة هوى ألح بي أن أبقى إلى صلاة العشاء لعلي أجد في هذه الفترة فرصة التأمل فيما حولي وتدبره، لكن مضيفي أقبل نحوي ودعاني، فتبعته خلال الروضة نحو باب السلام، على أنه انفتل قبيله متجها إلى داخل المسجد مجاورا الجدار الغربي، فلم تخامرني الريبة في حرصه على المرور بي في أنحاء المسجد كله لأحيط به في نظرة إحاطة عامة، ووقف عند مكان من الجدار كأنه الباب عليه إطار وكتابة، وقال: «هذه خوخة أبي بكر.» وذكر معي ونحن نتلو الكتابة ونعجب بخطها الجميل ما كان لدور الصحابة على عهد النبي من أبواب تفتح على المسجد حتى أمر رسول الله بسدها وقال: «لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر.» فسدت وبقيت هذه الخوخة التي وقف مضيفي أمامها وقرأ معي هذا الحديث الذي كتب على بابها، على أنه لم يلبث أن قال: «إن هذه الخوخة لا تقع حيث كانت خوخة أبي بكر على عهد الرسول - عليه السلام - فقد وسع المسجد مرات بعد ذلك، ورد هذا الجدار الغربي إلى حيث هو الآن بعد أن كان هناك عند ذلك العمود الذي يحدد مسجد النبي.» وبعد أن أشار إلى عمود عليه إطار مذكور فيه أنه حد المسجد النبوي أضاف: «والخوخة الآن تقابل موضعها الأول تماما.»
وعدنا نسير بعد الخوخة حتى بلغنا باب الرحمة الواقع في الجدار الغربي كباب السلام، فلما رأيت مضيفي اتجه إليه لنغادر المسجد رميت ببصري لعلي أحيط بالمسجد في نظرة، فإذا الناس حولي في زحمة الخروج يدفعونني نحو الباب ولا يجعلون لي إلى الإحاطة بالمسجد سبيلا ولا من الخروج بدا.
نامعلوم صفحہ