وليست فكرة التغير هذه بالأمر الجديد، الذي أدركه إنسان هذا العصر وغفل عنه أهل القرون الماضية، بل هو مما أدركه الإنسان منذ كان إنسانا يفكر، وإن يكن إنسان هذا العصر يمتاز على أسلافه بأن بين يديه علما للطبيعة يبين له أن قوام المادة ذرات دائمة الحركة، فلا صلابة فيها ولا سكون بين أجزائها؛ ومن ثم سهل عليه أن يدرك فكرة التغير إلى أعماقها، ويبني عليها تصوره عن العالم، أما أسلافه فكانوا يرون الحركة والتغير في الأشياء الظاهرة أمام حواسهم، فيحاولون أن يجدوا وراء هذا الظاهر المتحرك المتغير جوهرا ثابتا؛ إذ لم يتصوروا أن تكون هذه الحركة الدائبة والتغير المستمر هما حقيقة الوجود، فراحوا يبحثون عن تلك «الحقيقة» التي لا يطرأ عليها التبدل والتحول، والتي إن خفيت عن البصر فقد تكشف عنها البصيرة.
والماركسية - شأنها شأن سائر المذاهب الفلسفية التي تصور عصرنا من مختلف جوانبه - هي فلسفة تغير وتطور، وهي بهذا تعبر عن روح عصرنا، مع سائر المذاهب التي تجعل التغير والتطور محورا وأساسا، وإنها لتحلل الطريقة التي يتم بها التغير من حال إلى حال، ولا تترك الأمر على إجماله وإبهامه، وتلك الطريقة عندها هي ما يسمى بالمادية الجدلية عندما يكون التغير في الطبيعة وكائناتها، وبالمادية التاريخية عندما يكون التغير في المجتمع البشري ونظمه وأوضاعه.
على أن التغير هنا لا يقصد به مجرد التبدل حالا بعد حال، بل لا بد فيه من التطور النامي الذي يجعل الخطوة اللاحقة «أعلى» من الخطوة السابقة؛ إذ لا يكون الفرق بين الخطوتين فرقا في الكم وحده، بحيث يصبح الصغير كبيرا والقليل كثيرا وكفى، بل يكون انتقالا من الأدنى إلى الأعلى انتقالا إلى ما هو جديد مختلف في النوع عن المرحلة التي تمخضت عنه وأنتجته.
ولهذا التغير الذي يسير بالطبيعة نحو الأعلى، قوانينه التي تضبط سيره، ومن أولى مهام الفلسفة الجدلية أن تستخرج هذه القوانين، ليمسك الإنسان بالزمام، ويتجه بالحركة فيما قدر لها أن تسير فيه، حتى يجنبها المعوقات، ويهيئ لها سبل الإسراع نحو هدفها المقصود، وإن هذه المهمة لتصبح أشد إلحاحا، حين يكون الأمر أمر الحياة الاجتماعية بكل ما فيها من تفصيل وتعقيد، فهي تتطلب عناية الطرائق العلمية ودقتها حتى لا تترك في تخبطها الذي كانت تتلكأ به في حنايا الطريق، ولا يضير الطريقة العلمية حين نطبقها على مشكلات المجتمع أن تخطئ أحيانا خلال المحاولة، فيكفي الإنسانية ما قد عانته في القرون الطوال الماضية من كثرة اللغو اللفظي الذي لا يشفع ولا ينفع، فالمجتمع لا يشفى من علله بالمواعظ، وإنما يشفى بالعلم نظرية وتطبيقا.
ولعل ماركس أن يكون من بناة علم الاجتماع على الأسس المنهجية الصحيحة؛ لأنه أراد أن يستخلص القانون الذي بمقتضاه يسير المجتمع في حركة التقدم، دون أن يلجأ في ذلك إلى الميل والهوى، ولا إلى العاطفة والرغبة؛ لأن هذه كلها عوامل نفسية باطنية لا ينبغي أن يكون لها شأن بقانون علمي يصاغ لحركة موضوعية خارجية، قانون يبنى على العلة والمعلول، وعلى إمكان التنبؤ بما عساه أن يحدث في الواقع مستقبلا إذا توافرت ظروف بعينها.
هذا كله مقبول منه محمود له، لكننا نقف منه موقف الحيران المتسائل، حين نراه يقرن شيئين متناقضين أحدهما بالآخر، فلا ندري كيف ينزع نتائجه من مقدماته، وذلك حين يضم هاتين الفكرتين إحداهما إلى الأخرى في سياق واحد، وهما: فكرة التغير الذي لا بد للمجتمع أن يتطور به صاعدا من أدنى إلى أعلى، في مراحل تجيء كل مرحلة منها بجديد لا يكرر ما قد كان قائما في المرحلة السابقة؛ وفكرة الجبرية التي لا بد من افتراضها لو قبلنا مبدأ السببية الصارمة في سير التاريخ، بحيث يتحتم للسبب أن ينتج نتيجته الضرورية التي تلزم عنه؛ لأن جبرية التاريخ معناها أن الماضي كان يحمل الحاضر في جوفه، وأن الحاضر يحمل المستقبل، بحيث لو حللنا أية لحظة من لحظات التاريخ، استطعنا أن نقرأ فيها كل ما هو آت على مراحل الزمن، تماما كما يستطيع الفلكي أن ينظر إلى أجرام السماء في لحظة ما، فيقرأ فيها أن كسوفا للشمس أو أن خسوفا للقمر أو غير ذلك من الظواهر الفلكية سيحدث حتما في الوقت الفلاني من مقبل الأيام، ولو كان الأمر كذلك في سير التاريخ، لما كان هناك «جديد» ينبثق في مراحل التطور الصاعد، فإحدى اثنتين: إما أن يكون التاريخ محتوم المسار، وبذلك لا يكون في خطواته «جديد» يبديه ، وإما أن يكون فيه «الجديد» يظهره مرحلة بعد مرحلة، وبذلك لا يكون محتوم المسار.
إن «الحتمية» لا تتفق مع «إرادة التغيير»؛ لأنه مع الحتمية لا تكون إرادة من جانب الإنسان؛ إذ لا يبقى لهذا الإنسان إزاء تطور التاريخ إلا أن «يتفرج» على ما يحدث له وللمجتمع وللطبيعة على حد سواء، مع أننا نرى ماركس حريصا على ألا يقف الناس - والفلاسفة منهم بوجه خاص - موقف المتفرج المتأمل، بل لا بد لهم أن يغيروا العالم، يقول: «لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بطرق مختلفة، مع أن المهم هو أن نغيره.» فكيف أغيره إذا لم يكن هنالك احتمال آخر، وهو أن أتركه على حاله بغير تغيير؟ مع أن هذا الفرض الثاني ممتنع إذا كان التاريخ محتوم الوسيلة محتوم الأهداف.
وهنا قد يقال إن تدخل الإنسان بإرادته في مجرى الأحداث مطلوب، لا ليحدث ما لم يكن ليحدث من تلقاء نفسه، بل ليسرع في حدوثه، بأن يزيل من طريقه المعوقات ويضيف عوامل الإسراع؛ لكي تصل إلى الأهداف المرجوة قبل أوانها الطبيعي، ولكنه قول يناقض بدوره زعما آخر زعمه ماركس، وهو أن الأفكار والقيم ليست سببا يسبق وقوع الأحداث، بل هي نتيجة تتفرع عن ذلك الوقوع، فإذا كان هذا هكذا، فبأي شيء تريدني أن أتدخل في سير التاريخ لأسرع من مجرى أحداثه، إلا أن يكون ذلك بما أحمله في رأسي من أفكار وقيم؟ لكن الترتيب بين الفكر والواقع وأيهما يكون أسبق من أخيه، يريد شيئا من التفصيل؛ لأنه نقطة أخرى نجد فيها شيئا من الخلط يدعونا إلى الحيرة والتساؤل.
لكننا قبل أن ننتقل إلى هذه النقطة لمناقشتها نريد أن نعقد مقارنة بين «الحتمية التاريخية» بمعناها الماركسي الذي أسلفناه، والذي أشرنا إلى التعارض بينه وبين أن يكون للإنسان إرادة للتغيير يتدخل بها في مجرى الأحداث بأية صورة من الصور، أقول إننا نريد أن نعقد مقارنة بين هذا المعنى الماركسي للحتمية التاريخية، وبين معناها في السياق الذي وردت فيه في ميثاقنا، حين وردت في الباب السادس «في حتمية الحل الاشتراكي» عبارة تقول: «إن الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر - وصولا ثوريا إلى التقدم - لم يكن افتراضا قائما على الانتقاء الاختياري، وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير، كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين» - ومضى حديث الميثاق بعد ذلك يفصل الظروف التي سادت، والتي حتمت أن تكون الاشتراكية هي سبيلنا الوحيدة إلى هدفنا الجديد، وهو تحقيق الحرية الاجتماعية.
فالحتمية هنا هي حتمية وسيلة لا بد منها لتصل بنا إلى هدف مقصود، وليست هي حتمية ممتدة على مراحل التاريخ، ففي الحالة الأولى يكون العائق الذي يحول دون وصولنا إلى هدفنا عرضيا، كان يمكن ألا يكون، وأما في الحالة الثانية فإن العائق الذي يحول دون وصولنا إلى هدفنا ضرورة مكتوبة علينا منذ الأزل، لم يكن منها بد، في الحالة الأولى نشأت حتمية الوسيلة من مصادفة حرمتنا الحرية الاجتماعية، فكان لزاما علينا أن نتصدى لها، وكان من الجائز ألا يتسلل إلى حياتنا المستبدون والمستغلون والمستعمرون فلا ينشأ في حياتنا الحرمان الذي سلبنا حريتنا الاجتماعية، وعندئذ كانت تختفي ضرورة الوسيلة نظرا لتحقق الهدف، وأما في الحالة الثانية فالمزعوم هو أن تسلل المستبدين والمستغلين والمستعمرين إلى حياتنا أمر كان لا بد من وقوعه بحكم حتمية التاريخ، وبالتالي كانت الوسيلة التي يلزم اتخاذها للوصول إلى الحرية الاجتماعية المفقودة، لتكون هي الأخرى حتمية من حتميات التاريخ.
نامعلوم صفحہ