إن كلمة «فرد» نفسها - إذا ما أردنا تعريفا دقيقا لها، بناء على النظرة السابقة - تتضمن الاكتفاء الذاتي، وعدم الانقسام؛ لأن ما يعتمد على سواه إنما تنقص فرديته بمقدار ما فيه من ذلك الاعتماد، ولم تكن كلمة «فرد» لتقتصر على أفراد الناس، بل إن كل ما يتألف منه «نسق» مكتمل الأجزاء مكتمل البناء، فهو «فرد» بمعنى الاكتفاء الذاتي الذي أشرنا إليه، ومن أجل هذا ظهر من الفلاسفة المثاليين - ومنهم هيجل - من يقول إنه ما دام الاكتفاء الذاتي لا يتوافر إلا للكون في مجموعه، فليس ثمة إلا فرد كامل واحد، هو الكون، وما عداه من أفراد - هذا الرجل أو تلك الشجرة - ناقص الفردية بمقدار اعتماده على بقية الأجزاء.
لكن الموقف يتغير تغيرا عميقا شاملا، إذا تغيرت نظرتنا الفلسفية بحيث نرى في الأشياء جانب التغير والتبدل والتطور، دون جانب الثبات والدوام، فعندئذ يمتنع البحث عن «جوهر» وراء الظواهر، وتصبح حقيقة الشيء هي مجموعة ظواهره - لكن هذه الظواهر متشابكة، إلى الحد الذي يستحيل علينا أن نفرد كائنا واحدا بمعزل عن سواه ونقول عنه إنه كيان واحد قائم بذاته، فوجودك الجسدي نفسه متوقف على تفاعلك مع ما يحيط بك، تأخذ منه الهواء شهيقا وتخرجه إليه زفيرا، تأخذ منه الماء لتشرب والطعام لتأكل، تأخذ من سواك اللغة التي تتحدث بها، فتجيئك هذه اللغة مثقلة بحضارة وثقافة وفكر وشعور، إذا تكلمت فلسامع، وإذا كتبت فلقارئ، إذا طغيت فعلى إنسان آخر ينصب عليه طغيانك، وإذا خضعت فلكائن آخر تخضع، وإذا تساويت فمع آخر تتعادل كفتك وكفته، إنك لا ترى بالعين إلا إذا كان ثمة شيء يرى وكان ثمة ضوء يقع عليه بأشعته، ولا تسمع بالأذن إلا إذا كان ثمة هواء يتموج، محال أن يكون لك فعل إلا إذا وجدته تفاعلا مع شيء أو شخص سواك، هذه الفردية المزعومة التي توصف وكأنها حصن منيع مصمت الجدران، ينطوي على لب في جوفه يستطيع أن ينعزل أو يستقل، هي وهم لا يمكن تصوره إلا على أساس فلسفة تفترض وجود «الثابت» من خلف المتغير - وهي فلسفة سادت ذات حين، ولم تعد لها سيادة ولا شبه سيادة في عصرنا الراهن.
إن لغة عصرنا في مجال التعبير العلمي، قد أضافت إلى نفسها ألفاظا تقابل بها هذا التصور الجديد، الذي يتعذر عليه أن يتخيل «فردا» إلا وهو في «مجال»، إن علم النفس اليوم قد أصبح «علما» بغير نفس؛ لأنه علم السلوك، والسلوك تفاعل بين السالك من جهة وما ينصب عليه السلوك من جهة أخرى، إن نظرية الجشطلت في علم النفس الحديث تنفي أن يكون هنالك إدراك حسي إلا «لتكوين» من أجزاء، وأما الجزء أو الجزيء فهو مطروح من حساب الإدراك، إن علماء الاجتماع في عصرنا يتحدثون عن «الثقافة» التي تظلل بجوها مجموعة بأسرها من الأفراد، ولما كان الفرد الواحد لا ثقافة له، فليس هو إذن بموضوع يطرح للبحث، الثقافة بحكم تعريفها نفسه حياة مشتركة بين أكثر من فرد واحد، من عرف وتقاليد وأوضاع للعيش، ومن عقائد ومشاعر وأفكار: إنه لا «عرف» بينك وبين نفسك، إنما العرف يكون بينك وبين الناس، ولا «تقليد» منك لنفسك؛ لأن التقليد يكون منك تقليدا لسواك - ممن يعيشون معك أو ممن عاشوا قبلك - ومواضعات العيش تشترط عدة أطراف يتم بينها الاتفاق على صور بعينها من الحياة، ما الذي يثير فيك شعور المرح حينا وشعور الكآبة حينا، إلا أن يكون ذلك على صلة وثيقة بما نشأت عليه من روابط تربطك بالأشياء والأشخاص؟ لا، إن الفردية كما تصورها فلاسفة الماضي، قد ذهبت حين ذهبت نظرة إلى الكائنات تؤمن بالثبات دون التغير، وبالسكون دون الحركة، وبالسرمدية دون السير الانتقالي طورا بعد طور وحالا بعد حال.
لكننا نضل سواء السبيل، إذا محونا فردية الماضي لنترك مكانها خلاء فارغا، فما يزال «الفرد» مسئولا أمام القانون الوضعي وأمام قانون الأخلاق، فمن ذا تسأل إذا لم يكن هنالك فرد معين توجه إليه السؤال؟ إذن لا بد من تصور جديد «للفردية» يحل محل تصور قديم، فإذا كان التصور القديم قد جعل الفرد جبهة وحده تجابه من عداه، فإن التصور الجديد يجعله جزءا مما عداه، فبدل أن نقول (مثلا) الفرد حيال المجتمع، نقول: الفرد في المجتمع، وبدل أن نقول: الفرد بإزاء الطبيعة والبيئة، نقول: الفرد وهو جزء من الطبيعة ومن البيئة، لقد كان المفكرون القدامى يتحدثون عن «الأضداد» وكأن كل «ضد» كيان قائم بذاته يواجه «الضد» الآخر فيقولون: الحار والبارد، والرطب واليابس، والمرتفع والمنخفض، ومن هذا القبيل نفسه أن يقال الفرد والمجتمع، لكن هذه الأضداد قد تحولت عند المفكرين المحدثين إلى حالات من حقيقة واحدة، فالحار والبارد كلاهما «حرارة» ترتفع درجتها حينا وتنخفض حينا، والارتفاع والانخفاض ليسا «شيئين» يواجه أحدهما الآخر ويضاده، بل هما درجتان من مقياس معين واحد نختاره، وكذلك قل في الفرد والمجتمع، فليس هناك الفرد الذي يقف هنا، والمجتمع الذي يقف هناك، يواجه أحدهما الآخر مواجهة الأضداد، بل هنالك جزء في كل، هل يجوز لك أن تقول عن أحد أضلاع المثلث إنه يواجه ويضاد المثلث؟ لا؛ لأنه لا مثلث بغير ذلك الضلع الذي نتحدث عنه، وكذلك لا يكون الضلع ضلعا إلا وهو منسوب إلى مثلث، ومضموم فيه إلى ضلعين آخرين، بحيث يكون من الأضلاع الثلاثة كيان واحد.
ولئن صدق هذا القول عن الأفراد في أي عصر مضى، فهو أصدق ألف مرة بالنسبة إلى عصرنا الراهن؛ لأنه عصر التجمع والتكتل بصفة خاصة، هو عصر «الشركات» في عالم التجارة، وعصر «المصارف» في عالم المال، وهذه وتلك يملكها الشعب كله أو جزء كبير منه، وعصر «جمعية الأمم» و«الاتحادات» في عالم السياسة، إنه لا يكاد يمضي يوم من عصرنا إلا وقد انعقد «مؤتمر» هنا أو هناك من أنحاء الأرض، لا، بل إن عصر الفردية التي تحتكر لنفسها كل شيء قد انقضى حتى في عالم الفكر والفن، فالبحث العلمي لا يقوم به «فرد»، بل تقوم به جماعة في معمل أو في معامل متعاونة، والصحيفة اليومية أو الدورية لا يحررها «فرد» والإذاعة لا ينفرد بها متحدث واحد، كان يمكن في عصر الزراعة اليدوية أن نتصور الزارع وحيدا في مزرعته يحرثها ويرويها ويبذر فيها البذور ويتعهد نباتها ثم يحصد ثمارها، أما في عصر الصناعة - والزراعة تتحول إلى زراعة بالصناعة - فلا يتم مصنع بعامل واحد، كان الفنان فيما مضى لا يبيع فنه في السوق، وإنما ينتج الفن لشخص معين يرعاه، فكان يمكن عندئذ تصوره في حياة فردية إلى حد ما، أما اليوم فهو بحاجة إلى جمهور ينفعل بفنه ليشتري ثمرات فنه، بل ماذا أقول في هذا العصر الذي ازداد فيه التجمع والتكتل؟ أأقول ما قد قاله سواي من أنه حتى الجريمة في عصرنا هذا لم تعد فردية، وإنما أصبحت نشاطا يتفق على القيام به «عصابة» بأسرها، لقد انهارت خصوصية الحياة الفردية، لا لأن شيئا جميلا قد ذهب ليحل محله شيء قبيح، بل لأن ضربا من الحياة قد انقضى ليحل محله ضرب آخر، ونظرة فلسفية معينة قد اختفت لتظهر مكانها نظرة فلسفية أخرى، كان السكن في عهد الزراعة خاصا للأسرة الواحدة، فجاء عهد الصناعة وحياة المدن ليقيم العمارة الواحدة تسع عشرات الأسر، كان الانتقال يتم للفرد الواحد بأن يمتطي ظهر دابة لا يشاركه فيه شريك، ثم جاءت السيارة الخاصة لتحل محل الدابة، لكن روح العصر تحملنا بخطوات سريعة إلى أن تحل وسائل الانتقال الجماعية، محل الوسائل الخاصة، فيكون القطار لمئات الركاب، والسيارة العامة لعدد كبير من الناس دفعة واحدة، ولم يعد الفرد الواحد يلهو في ساعات فراغه بما يعجبه وهو منعزل عما يشاركه الناس فيه؛ لأن وسائل اللهو من سينما وراديو وتلفزيون قد حتمت على الفرد أن يشترك مع مئات أو مع ألوف في الطريقة التي يقضي بها وقت الفراغ ... أصبح هناك «الرأي العام» الذي تكونه وسائل النشر المشتركة والأحداث المشتركة، مع أن «الرأي» كان لا ينسب إلا لفرد واحد هو صاحبه.
كانت البناءات الفكرية فيما مضى بناءات فردية، بمعنى الفردية الذي كان يتسق مع روح ذلك الماضي؛ ولهذا تستعرض تاريخ الفكر فتجدك أمام قمم، تقف القمة منها إلى جوار القمة الأخرى: أفلاطون، أرسطو، كانت ... إلخ، وحتى إن سارت طائفة من المفكرين مع علم من هؤلاء الأعلام، فهو سير التابعين لشيخ الطريق، لا سير المتعاونين على حل قضية واحدة كما يتعاون علماء التجارب المعملية اليوم على مشكلة واحدة حتى يفض إشكالها، وكانت حركات الإصلاح الاجتماعي في أيدي رواد أفراد، كما كانت الفتوحات العسكرية تدور حول مطامع هذا القائد العسكري أو ذاك: جنكيز خان، هانيبال، الإسكندر، نابليون ... وكانت الكشوف والرحلات يجوبها أفراد، وهكذا في كل منحى من مناشط الحياة، تجد «الفرد» ذا «الجوهر» الفريد الذي كانوا يعرفونه بعدم التعدد والانقسام.
وتغير العلم، فتغيرت الفلسفة، فتغيرت نظرات الناس إلى العالم بما فيه من كائنات حية وجامدة، فتغيرت معاني فكرات رئيسية أساسية، كان من بينها فكرة «الفردية»، فأصبح الفرد مجموعة علاقات، بعد أن كان عنصرا فريدا كافيا لذاته بذاته، ومستقلا بنفسه عما عداه، ولن يزول عن إنسان العصر ما يعانيه من قلق واغتراب وضياع، إلا إذا زالت مفاهيم الحياة الماضية من محيط الحياة الراهنة، إنني أكرر - ولا أمل من التكرار - بأننا جميعا نعيش في القرن العشرين بكثير جدا من مفاهيم القرن العاشر نعيش في عصر الصناعة والعلم، بمفاهيم ما قبل الصناعة والعلم، ومن هنا يأتي التمزق والتفسخ والحيرة: نعيش في عالم ونفكر في عالم آخر.
إنك ما تزال تسمع قائلا يقول عن الدافع الفردي وما أنتجه من ثراء للأفراد وللأمم وللعالم أجمع، ووجه المغالطة الكبرى في مثل هذا القول، هو أن غزارة الإنتاج الصناعي وازدياد التقدم الحضاري إنما يرجعان أساسا إلى الكشوف العلمية، التي خلقت تقنيات (تكنولوجيا) الآلات، وهذه بدورها فعلت ما فعلت في تغيير وجه الحياة، فإذا جاء رجل الأعمال «الفرد» يقيم الصناعة ويجمع من ورائها المال، فحقيقة الموقف عندئذ لا تكون أن ذلك الفرد قد صنع بدوافعه الفردية ما صنع ، بل الذي صنع هو البخار والكهرباء والقوة الذرية، والذي عرف كيف تستخدم هذه الأشياء هو عالم الطبيعة، والعلم جماعي دائما - كما ذكرنا - يتعاون على حل مشكلاته جماعات متعاونة من الباحثين، إن كل ما فعله رجل الأعمال في هذه الحالة هو تغيير في توزيع الثروة التي تنتجها الآلة، فبدل أن تكون تلك الثروة في عدد من الأكوام، تتجمع عنده في كومة واحدة، فالثروة «القومية» لا تزيد على يديه، بل الذي يزيد على يديه هو ثروته، وهنا كثيرا ما يقع الكتاب والشعراء في خطأ، فيظنون أنه ما دامت الآلات في عصر الصناعة قد أدت ما أدت إليه من تفاوت بشع في التوزيع، فسحقا لهذه الآلات وعصرها، وما كان أجمل الزراعة في ريف هادئ، ربما تفاوتت فيه الدخول، لكن حسب الناس عندئذ صلتهم بالطبيعة، وهي الأم الرءوم، هكذا قد يكتب الكتاب وقد يتغنى الشعراء، في سبيل مقاومة الآلات والمصانع، لكن الذي يفوتهم في هذا كله، أن الآلات ما هي إلا بمثابة القوة المخزونة، تطلقها من عقالها فتفعل لك الأعاجيب، كما أردت لها أنت، لا كما أرادت لك هي، وليس الذنب ذنبها إذا اخترت لها أن تكدس المال في فرد واحد دون سائر الأفراد.
أما بعد، فهل بعدنا عن موضوعنا الذي أردنا أن ندير حوله الحديث، وهو طراز الفردية الذي يتفق وظروف عصرنا، التي من أهمها العلم والصناعة؟ فربما سبق إلى ظن القارئ أنني بما قدمته أقول إن لا فردية بعد اليوم، وليس ذلك هو مبدئي، بل ولست أتصور كيف يكون ذلك؛ لأنني «فرد» وأنا أكتب هذه الصفحات نفسها، لم أشرك معي أحدا في كتابتها، وأنا «فرد» حين أختار من الكتب ما أقرأ، ومن المسارح ما أرتاد، ومن مطارح الطبيعة، أو من ندوات المدينة ما أقضي فيه وقت الفراغ، فليس إذن سؤالي هو: هل تكون فردية أو لا تكون؟ إنما السؤال هو: بأي معنى نفهم الفردية؟
ولكي أجيب عن السؤال، رأيت ألا مناص من عرض فكرة الفردية كما كانت، حين كان ينظر إلى الإنسان - وإلى غيره من الكائنات - من باطن لا من ظاهر، فيرى وكأنه «جوهر» ثابت يدوم ما دامت الحياة، بل وإلى ما بعد الحياة، وأما ما يبدو لأعين الناظرين من سلوكه الظاهر المتغير لحظة بعد لحظة، فكان يغض عنه النظر، باعتباره عرضا زائلا؛ ولذلك لم يكن ثمة تناقض بين أن يكون الإنسان فردا، وأن ينعزل راهبا في صومعة، لا بل إن الفردية بمعناها ذاك، لم يكن يؤكدها شيء بمقدار ما يؤكدها مثل ذلك الاعتزال الزاهد.
نامعلوم صفحہ