فمن هذه التضحية ندرك أننا أشرف مما نظن، وأننا نضع مصلحة الناس والعالم فوق مصلحتنا الشخصية، وأن لنا بصيرة سامية تدرك مصلحة الكون وتتغلب في الأزمات على صوت العقل فتكشف لنا بذلك عن هذا السر الذي أودعته الآلهة قلوبنا خفية كما تقول الأسطورة، أو عن ذلك القبس الذي يشع في قلوبنا من ذلك العنصر الذي يبعث الحياة في الأجسام كما يقول برغسون.
وليست التضحية بالبرهان الوحيد على أننا نسمو فوق عقولنا ونؤثر مصلحة الكل على مصلحتنا التي هي الجزء، بل هناك مثلا ذلك النوع من البر الذي نقهر عليه قهرا ونعرف أن فيه تلفنا ولكننا مع ذلك نتشبث به، كما يحدث عندما ندعو إلى مذهب نبغي تحقيقه أو مثل أعلى ننشده، فنشعر عندئذ أن بصيرتنا بالحياة تتغلب على عقولنا وتسوقنا بل تسخرنا لأغراضها السامية ونحن راضون بما نلقاه من خسف ومشقة في سبيل هذه الأغراض، وربما كانت ميزة الأديب على العالم أن بصيرته تملك عليه عقله.
وخلاصة القول أن في نفوسنا شعاعة صغيرة من النور أخفتها الآلهة، فعلينا أن نلتمسها لأنها هي الصلة التي تربطنا بالكون وتصلنا بعنصر الحياة الشاملة لجميع الأحياء، وهي البصيرة التي ترفعنا فوق العقل والأنانية والمادية.
الفصل التاسع والأربعون
أجمل الأشياء
الجمال كالسعادة، إذا تحراه الإنسان ألفاه في كل مكان؛ لأنه حالة في النفس التي تنشده، وكما أن كل إنسان ليس قادرا على السعادة إلا بمقدار ما عنده من الاستعداد الذاتي لها، كذلك ليس كل إنسان قادرا على فهم الجمال وإدراك معانيه إلا بمقدار ما في نفسه هو من عناصر الجمال؛ وذلك لأننا لا نقر بأن هذا المخلوف الحي أو الجامد، النبات أو الحيوان، جميلا ما لم تكن العناصر التي يتألف منها جماله مغروسة في أنفسنا قبل أن نراه.
وبعبارة فلسفية نقول إن الجمال ذاتي وليس شيئا موضوعيا، ولكن هذا تقعر يبعدنا عن السهولة التي نتوخاها في هذه المقالة، فالجمال مع أنه أغلى الأشياء وأثمنها فإنه أيضا أشيع الأشياء وأقلها كلفة للاستمتاع به، ففي أنفاس الصباح العطرة جمال يدركه أولئك الذين ما تزال فطرتهم سليمة فلا يفسدونها بالسجاير يدخنونها؛ لأن في نسيم الصباح عبقا أعطر من عبق الدخان، ولقد كان الأديب الإنجليزي «رسكين» يعجب من المدخنين كيف يدخنون ويحرمون أنفسهم من نسيم الصبح.
وهذا يذكرنا بما يقوله غاندي ذلك الهندي العظيم الذي يدعو إلى الفطرة ويخفف عنا بذلك شيئا من تكاليف الحضارة وإلحاحها علينا في أن نعيش عيشة صناعية حافلة بالمنبهات القوية والطعام الدسم والسهر المتوالي، فهو ينصح لنا أيضا مثل رسكين بأن نتوخى الجمال في رؤية الطبيعة وهي تستيقظ من رقدة الليل، ونمشي حفاة الأقدام على التراب الندي في وسط الحقول، وبين العشب والزهر، حين ننفرد بالجسم ولكننا في انفرادنا لا نشعر فيه بالوحشة لأننا نستأنس بالطبيعة التي تقربنا من الكون وخلائقه فتزيد الوشائج، ويتأكد الاجتماع الروحي بيننا وبينها، فيفعم الحب قلوبنا ونحس في لحظات بذلك الطرب الذي يكشف لنا عن مصالح روحية أسمى وأبقى من هذه المصالح الصغيرة التي تستهلك وقتنا في الحضارة.
إن الإحساس بالجمال يسري في النفس بمقدار استعدادها للحب؛ ولذلك فإن رجل الفن العظيم، الذي ينشد الجمال في قصيدة أو تمثال أو مقال أو قصة، هو أيضا رجل الحب العظيم، ولهذا السبب تجد للحب تلك المكانة العليا في الأدب، ومحال أن تجد رجلا يثقل صدره الحقد والأنانية يمكن أن يكون أديبا ساميا.
وأسمى الأدباء وأخلدهم ذكرا هو «دستؤفسكي» رجل الحب والجمال، فقد كان يرى الجمال في كل شيء ويحب كل شيء وينصح لنا بأن نحب العالم كله ونقبل التراب الذي ندوس عليه؛ ولذلك فإن القارئ يقرأ قصصه وكأنه يقرأ صلاة سامية يخشع فيها له خشوع المحب لحبيبته الذي يجثو أمامها ويطرب للدموع تتساقط من عينيه والقبلات الحارة تنطبع على قدمي حبيبته.
نامعلوم صفحہ