أجل يجب أن يراقب كل منا حكومة البلاد التي يعيش فيها، ويجب أن نستعد لأن نسأل نواب البلاد، كما يسأل الملك وزراءه في نهاية العام ما هو الإصلاح الذي تم على يدكم للبلاد؟ فإذا لم يكن ثم إصلاح قد تم فإن العالم قد ذهب سدى وضاعت فرصة ثمينة لتقدم الأمة ونجاحها.
وكذلك يجب أن نغضب عند ما نرى موظفا يهين أحد الناس، أو يؤدي عمله بالارتشاء، أو يستعمل سلطته في الأذى والضرر، ويجب ألا يقف غضبنا عند حد السخط السلبي، بل ينبغي أن نعبر عن سخطنا تعبيرا إيجابيا ونعمل عملا يقتضي تأديب هذا الموظف حتى يعتبر به غيره.
وثم مملكة أخرى، بل ملكوت آخر، يجب أن نمارس فيه سلطاننا، وهذه المملكة أو هذا الملكوت هو هذا العالم، من حيث حدوده الجغرافية والتاريخية أو من حيث حدود الزمان والمكان، فيجب أن ندرسه ونعرفه لأنه لا يليق بملك أن يعيش جاهلا ولا براع أن يحكم بين الناس وهو يجهلهم ويجهل تاريخهم. «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته»،أجل، ولكن كيف ترعى رعيتك إذا لم تنصب نفسك لدرس شئون هذه الرعية وتفهم موارد كسبها وأبواب نفقاتها وظلم الظالمين فيها وعدل العادلين بها؟ فشرط هذه الرعاية، بل الشرط اللازم لأن تكون ملكا، هو أن تدرس، ثم تراقب حكومتك وأمتك، وأن تعمل للخير في وطنك، وأن تبذل مالك ونفسك بهمة ملوكية عندما تقتضي الظروف ذلك منك، كما يبذل الملك الشجاع نفسه في الدفاع عن أمته.
الفصل السادس
الاعتدال
كان أحد المتهكمين يقول إن الاعتدال دليل الضعف، وقد يكون كذلك في بعض الحالات، فمن الناس من يتورع عن الخمر أو يعتدل في تناولها لما يرى من أثرها السيئ في صحته، ومنهم من يعتدل في الطعام لأن معدته ضعيفة وإن كانت نفسه نهمة.
ولكن هناك اعتدالا يجب أن نصطنعه للقوة لا للضعف، فيجب مثلا أن نعتدل في الرياضة البدنية حتى نجد وقتا للرياضة الذهنية، ويجب أن نعتدل في درس العلوم حتى نتمكن من درس الآداب، ويجب أن نتوسط ولا نغلو في جمع المال كي نتمتع بالأصدقاء والكتب وهناء العائلة والنزه.
فالحياة الكاملة أو التي تنشد الكمال يحتاج صاحبها إلى الاعتدال والتوسط؛ لأن هذه الحياة لا تبلغ القوة والسلطان على الوسط الذي تعيش فيه حتى يأخذ صاحبها بطرف من جميع مهام هذا العالم، فحياة الأديب الذي يدمن النظر في الأدب قد تنتهي به إلى أن يصير دودة من ديدان الكتب يؤثر الجملة المزخرفة والعبارة المبهرجة على متع الحياة الحقيقية، والكتاب مهما قيل في مدحه هو نسخة مترجمة عن الحياة وليس هو الحياة بالذات، وحياة العالم الذي يكتب عن العلم ولا ينظر في الأدب هي أيضا حياة ناقصة تدعو إلى قصر النظر وضيق الذهن، وإنما الحياة المثلى هي حياة الاعتدال بين شهوة العلم وشهوة الأدب، وكذلك يمكن القول عن رجل الأعمال المكب على جمع المال، المنغمس في شهوة الحصول على أعراض العالم، يكد طول يومه وبعض ليله في اقتناء الدور والمصانع والأراضي كأنه أحد الفعلة الذين يعملون عنده. بل قد يكون الفاعل أكثر تمليا للحياة وتمتعا بمسراتها منه.
وقل مثل ذلك في سائر الناس، فالواجب أن نعتدل ونقنع من الحصول على بعض أشياء كي نجد من الوقت والقدرة ما نتمكن بهما من التمتع بأشياء أخرى؛ لأن الحياة أوسع وأعظم من أن يسعها الإكباب على عمل واحد وإدمان النظر والاجتهاد فيه.
ولقد كان المسيح يتكلم عن «الحياة الوفيرة» المليئة بالتجارب والمتع، وكان يتخيل هذه الحياة كمثل أعلى إزاء ما كان يرى من حياة ضنية يعيشها الناس، وكم من الناس الآن يعيش حياة ضنينة لا يعرف من الدنيا سوى عمله الذي يربح منه قوته، يكب عليه بكل قوته ويتعامى عن كل ما حوله كأنه لم يخلق إلا ليأكل.
نامعلوم صفحہ