ولكن علينا أن نسأل أولا: ماذا نريد بقولنا عن ثقافة أمة إنها تطورت على مر فترة معينة من الزمن، إلى أعلى وإلى أمام؟ أما التطور الثقافي إلى أعلى، فمعناه أن يرتفع الهرم الثقافي على قاعدة أعرض وإلى قمة أعلى، والقاعدة الأعرض هي التي تمحي فيها الأمية عن أكبر عدد ممكن من المواطنين، والقمة الأعلى أن تبلغ رسالتنا الثقافية إلى ما وراء حدودنا بحيث يسمعها العالم كله إذا أمكن؛ فبمقدار ما تزول الأمية في الداخل، وما يصل صوتنا إلى الناس جميعا في الخارج، يكون مقدار العلو الثقافي بالمعنى الذي نريده.
ذلك هو التطور إلى «أعلى»، وأما التطور إلى «أمام» فمقياسه أسهل؛ لأنه إنما يقاس بمقدار لحاقنا بركب الحضارة العصرية في علومها وفنونها، ولا يجوز لنا أن نقول: ولماذا نلحق بالحضارة العصرية مع أننا معارضون لها وثائرون عليها؟ أقول إنه لا يجوز ذلك؛ لأن تلك المعارضة معناها أننا - إذن - واقفون حيث نحن، لا نتقدم خطوة إلى الأمام. نعم، إن لنا كل الحرية في أن نقف أو نسير إلى الأمام، بل لنا كل الحرية في أن نختار الرجوع إلى وراء، «ومنا من يدعو إلى ذلك»، لكننا حين نسأل هل نتقدم، يكون الجواب «نعم» في حالة واحدة فقط، وهي أن تكون خطواتنا سائرة نحو اللحاق بتصورات العصر في شتى نواحي الحياة.
وبعد هذا التحديد لمعنى «الأعلى» و«الأمام» في تطور الحركة الثقافية، نعود إلى سؤالنا: ماذا صنعت لنا خمسون عاما، امتدت من عشرينيات هذا القرن إلى سبعينياته؟ هل تطورت حياتنا الثقافية إلى أعلى؟ وهل تطورت إلى الأمام؟
أما التطور إلى أعلى، فله - كما رأينا - جانبان؛ الأول: هو أن تتسع قاعدة الهرم الثقافي؛ بمعنى أن تشمل القاعدة أكبر عدد ممكن من الناس. والجانب الثاني: هو أن تكون لنا رسالة ثقافية نؤديها فينصت لها سائر الأمم. أما الجانب الأول، فيقال لنا إن نسبة الأمية تكاد تكون ثابتة خلال نصف القرن الذي انقضى، منذ شرعنا في حركة التعليم الإلزامي في أواسط العشرينيات حتى اليوم، وإذا كان هذا الزعم صحيحا فإنه لا تطور في هذا الجانب من حياتنا.
وأما القمة التي يناط بها أن تكون مسموعة الصوت، بما تنتجه من فكر وفن جديد، فالأمر يحتاج إلى شيء من الرؤية قبل إصدار الحكم، ولكي تسهل الرؤية، فلنأخذ بضع السنوات الأولى من العشرينيات، وهذه السنوات الأولى من السبعينيات - وبينهما خمسون عاما - ثم لنفرض أن زائرا جاءنا من الخارج ليلم بحياتنا الثقافية، فماذا يصنع إلا أن يسأل عن أعلام الفكر والفن والأدب من هم؟ ثم أن يسأل بعد ذلك عن إنتاجهم الذي يمكن أن يجد فيه ما يثير اهتمامه عن جديد لم يألف مثله في بلاده؟ إن مثل هذا الزائر في أوائل العشرينيات يجد من هؤلاء الأعلام الذين يبحث عنهم رجالا من أمثال لطفي السيد والعقاد وطه حسين وهيكل ومصطفى وعلي عبد الرازق وشوقي وحافظ إلخ ... إلخ، ويجد من إنتاجهم معالم تغير الطريق، يجد إعلانا بطريق جديد في نقد الشعر على يدي العقاد من جهة، وطه حسين من جهة، ويجد إعلانا آخر بطريق جديد في النظر الفلسفي، على يدي لطفي السيد من جهة، ومصطفى عبد الرازق من ناحية، ويجد شعرا فيه قوة الشكل الموروث وغزارة المضمون الجديد، على يدي شوقي هنا وحافظ هناك. إن ذلك الزائر الذي نتصوره آتيا من الخارج ليرى إنما يلفت نظره في أوائل العشرينيات أن الأمر لم يقتصر على كتب تؤلف ومقالات تكتب وشعر يقال، بل يلفت نظره أن طرقا جديدة تشق أمام الناس، من شأنها أن يديروا ظهورهم لهذا، وأن يستقبلوا بوجوههم ذلك، فإذا الناس أمام ثورة ثقافية تغير وجهات النظر إلى الفكر والأدب والفن، فلم تعد الفكرة فكرة بالمقاييس القديمة، ولا الأدب أدبا بتلك المقاييس، ولا الفن فنا، هي ثورة شاملة جاءت قسيما للثورة السياسية، ولولا تلك الثورة الثقافية الشاملة في وجهة النظر وفي المقاييس، لجاز ألا يظهر بعد ذلك بقليل الأدب المسرحي في ذروته العالية على يدي توفيق الحكيم، والأدب القصصي في مثل تلك الذروة عند نجيب محفوظ، ولجاز كذلك ألا ينشأ الفن التشكيلي من نحت وتصوير في صورة جديدة لم يألفها الناس قبل ذلك، وألا تنشأ الموسيقى الجديدة كذلك.
ذلك هو زائر الأمس وما جاء ليراه، فلننظر إلى زائر اليوم الذي جاءنا في هذه السنوات الأولى من السبعينيات، إنه سيسألنا - كما فعل زميله من قبل - عن أعلام الفكر والفن والأدب؛ ليعقب على هذا السؤال بسؤال آخر عن الجديد في إنتاج هؤلاء، ولأن زائرنا حريص على أن يخرج بفكرة صحيحة عما جاء ليسأل عنه، فإنه سيطلب منا ألا ندخل في الحساب رجالا هم امتداد للجيل الماضي؛ لأنه يريد أن يرى النبات الجديد، فمن هم الأعلام الذين نذكرهم له، وما هي المعالم الرئيسية في إنتاجهم لنوصيه بها؟ إنني أترك الإجابة لسواي ممن لهم القدرة على الرؤية في الضوء الباهر؛ إذ إن في عيني كلالة فتعمى عن الأبصار إذا واجهت ضوءا قويا على الطريق.
هنالك وجهة من النظر يجب أن يكون لها احترامها، وهي أن المقارنة على هذه الصورة الضيقة مقارنة باطلة، فلا ينبغي أن نقيس مفكرا بمفكر، وأديبا بأديب؛ لأن فكر العشرينيات وأدبها ربما يكون قد تحول إلى حياة عملية يعيشها الناس في أيامنا؛ فلقد كانت «الثقافة» مكومة في أفراد، فأصبحت تلك الثقافة نفسها موزعة على شعب بأسره، أقول إن تلك وجهة من النظر واجبة الاحترام، فإذا سألنا أنفسنا: ماذا صنعت لنا خمسون عاما؟ كان جوابنا هو: أنها نشرت في حياة الشعب ما كان متجمعا عند طائفة قليلة، وأعني بها طائفة المفكرين ورجال الأدب والفن؛ أعني أنها ترجمت الموقف النظري إلى حياة عملية.
لكن هذه الإجابة تزيد أعلام العشرينيات و«الثلاثينيات» قدرا على قدر؛ لأنها تعني أن أولئك الأعلام بقوة فعاليتهم قد خلقوا للناس حياة جديدة، تقاس بالمعايير الجديدة التي دعوا إليها، ولو قلنا للزائر الذي جاءنا من الخارج يسأل، إجابة كهذه، فإنني أتصوره يعاود السؤال في صورة أخرى، فيقول: لا بأس، وأريد أن أرى إنتاج هذه السنوات الراهنة؛ مما عساه أن يخلق تجديدا آخر في حياة الناس بعد أن يمضي جيل ويأتي جيل. ومرة أخرى أترك الإجابة لسواي من أصحاب البصر السليم الذي لا تعميه الأنوار الباهرة.
فليس مما يحتمل الشك أنه - بفضل الفاعلية الثقافية التي شهدها الجيل الماضي - قد ازداد الناس وعيا بحقوقهم، فلا فلاح اليوم كفلاح الأمس، ولا العامل كالعامل، ولا المرأة كالمرأة، وهذه الزيادة الملحوظة في وعي الناس بإنسانيتهم هي بالدرجة الأولى ما قد صنعته لنا الخمسون عاما الماضية، ولكن تيار الحياة إذا أريد له أن يتدفق في اتصال لا ينقطع، وجب أن تنشأ فاعلية جديدة لوثبة جديدة.
إلى هنا وحديثنا منصب على ما تطورت به ثقافتنا إلى أعلى، وكانت خلاصة الرأي في ذلك هي أن القاعدة الشعبية ما زالت على أميتها، وأن القمة ذات الصوت المسموع - ولو إلى حد محدود - هي من أبناء الجيل الماضي، وندير الحديث الآن إلى الوجه الآخر من السؤال، وهو: إلى أي حد تطورت حياتنا الثقافية إلى الأمام؟ ولقد حددنا معنى «الأمام» بأنه اللحاق بتصورات عصرنا الحاضر.
نامعلوم صفحہ