وشمشون عصرنا لن يبالي أسدا في الفلاة يصارعه ويصرعه، ولن يدهش لحلاوة تخرج من جيفة، إنه يتصدى لأهوال أعظم خطرا؛ إنه لم يعد يرهب المسافة، فهو يطوي أبعادها بمثل ما طوى شمشون شبله الصغير، لم تعد تهوله أفلاك السماء، ولا أغوار الماء. إنه يدك الجبال دكا، ويخرج من أجاج البحر ماء عذبا، ومن يباب الصحراء زرعا. إن علاء الدين بمعجزات مصباحه، وسليمان بأعاجيب خاتمه، لعبتان أمام عقول الإلكترون. وإنك لتلهث لهاثا إذا أردت أن تجاري ما يتصدى له شمشون عصرنا من أعاجيب ومعجزات.
كان شمشون العهد القديم يباهي بقتله ثلاثين رجلا من أهل المدينة؛ لينزع عنهم قمصانهم وثيابهم، يعطيها وفاء لرهان أوقعته فيه امرأة غادرة؛ وذلك أنه في ليلة عرسه بها، أقام ذووها وليمة حضرها ثلاثون رجلا من عشيرتها، فتحداهم أن يفسروا له أحجية وقعت له في تجربته فأربكته، وهي: كيف يخرج أكل من آكل؟ وكيف تخرج حلاوة العسل من جيفة؟ وراهنهم أن يجدوا لهذه الأحجية حلا في سبعة أيام، فإذا وجدوا حلها قدم إليهم ثلاثين قميصا وثلاثين حلة ثياب، وأما إذا عجزوا، فعليهم أن يعطوه مثل هذا العدد من القمصان والثياب؛ وأوشكت السبعة الأيام أن تنقضي وهم عاجزون، لولا أن غدرت العروس برجلها من أجل أهلها، فراحت تبكي بين يديه ضارعة أن يسر إليها بحل الأحجية، ففعل، فنقلته إلى ذويها، فكان على شمشون أن يوفي بالرهان، ويقدم الثياب والقمصان؛ فما كان إلا أن انطلق إلى المدينة، فقتل ثلاثين من أهلها، ونزع من أجسادهم ما يقدمه وفاء بالرهان.
فأين رجال ثلاثون يقتلهم شمشون العهد القديم، من مئات الألوف يقتلهم شمشون العصر الحديث بقنبلة يلقيها فوق هيروشيما أو ناجازاكي؟ وكانت غاوية شمشون القديم امرأة غادرة، وكانت غاوية شمشون الجديد سياسة فاجرة.
كان شمشون العهد القديم إذا ما نقم وأراد الانتقام، أمسك بعدد من أبناء آوى، يربطها ذيلا بذيل، ويشعل في الأذناب المعقودة نارا، وأما شمشون العصر الجديد إذا ما نقم وأراد الانتقام، أمسك بالصواريخ يطلقها، وبالقنابل الجهنمية يلقيها، فيهلك حرث وزرع ونسل، وتمحي مدن كما تمحو بالممحاة خطوطا رسمت على الورق بقلم رصاص.
ثم جاءت دليلة وغوايتها في حياة شمشون، صادفها ولم تكن من أهله. لقد خلقه الله لشيء، وخلقها لشيء آخر؛ هو القوة وهي الضعف، هو يسكن أعلى الجبل وهي تسكن أسفله؛ تزوج منها شمشون، فرسمت لنفسها أن تتسلل إلى قلبه بالغواية لتستخرج منه سر قوته، وما انفكت حتى وقعت على السر. إن شعره المنذور لله، هو الذي إذا أزيل عنه بالموسى زالت معه قوة جسده؛ فما عتمت أن أنامته على حجرها، وأزالت شعر الرأس، وصاحت بقومها أن اهجموا، فإذا بالجبار يهوي في أيديهم ضعيفا خائرا، فيوثقونه بالقيد، ويودعونه السجن، ويربطونه إلى رحى الطاحون يديرها، مفقوء العينين.
لقد ضعف القوي وعمي البصير؛ لأن الله قد أراده لشيء، فأنصت هو لشيطان يريده لشيء آخر. كانت وصية السماء ألا تشرب أمه - وهو بعد جنين في جوفها - شرابا مسكرا، وألا تأكل طعاما نجسا، حتى لا يفسد الولد، فجاء الولد قويا فتيا إلى أن تسللت إليه عوامل الإفساد، فوقع صيدا لمن لا يرحمه. وإذا ترجمنا هذا إلى لغة العصر عن شمشون الحديث، قلنا إن وصية السماء لمن وهبته قوة الذكاء وقدرة العلم، ألا يذعن لأهواء الساسة، ذلك إذا كان الساسة من مستعمري الشعوب؛ لأنهم من فريق وهو من فريق؛ هم إرادة راغبة وهو عقل مدرك، هم دهاء وحيلة وهو ذكاء ومنهج؛ ولا ينبغي له الخلط بين أن يكون علمه للمجتمع وأن يكون علمه للساسة؛ فالعلم حين يكون للمجتمع يبحث عن الطعام للجائع، وعن الكساء للعاري، وعن العلاج للمريض، إنه حين يكون للمجتمع يزرع الأرض، ويصنع خامات الأرض آلات للعيش وأدوات للفراغ، وأما حين يكون للساسة فهو يفتك ويقتل ويدمر ويهدم. إن السفينة حين تشق الماء براكبيها هي علم للمجتمع، وأما السفينة حين تكون من طراز لبرتي وبويبلو، تختلس السمع والبصر، فهي علم للساسة.
وقع شمشون العهد القديم فريسة لامرأة خادعة هي دليلة، فذهبت قوته وكف عنه البصر، وأما شمشون العصر الحديث إذا وقع فريسة لهذه العابثة التي تسمى سياسة، فإن الجزاء لا يكون رجلا واحدا أعمى يدير رحى الطاحون، بل يكون الجزاء مصرع ملايين البشر، تذهب القوة عن شعوب بأسرها، ويقضي على شعوب بأسرها - بل على قارات - أن تدير أرجاء الطواحين للأعداء ليأكل الأعداء وبطون الشعوب خاوية.
إن السياسة إذا أضلت العلم فأخرجته عن سبيله - وسبيله كشف الحق - أصابه ما أصاب شمشون، فيبطل أن يكون كاشفا وهاديا، يعمى فلا يبصر، ويدير الطواحين على غير هواه. لقد كانت العدالة هي التي يرمز لها بعينين معصوبتين، حتى تنزل بسيفها على رأس المعتدي، لا تفرق بين إنسان وإنسان، وكان العلم مبصرا يتبين مواضع خطوه، ويتثبت من مواقع قدميه؛ فجاءت الغواية، فتبدل الأمر؛ أبصرت العدالة، فأصبحت تفرق بين الناس فيما تنزله بهم من الأذى؛ فهي تهوي على سود هنا، وعلى صفر هنا، وتحمي بيضا هناك. أبصرت العدالة، فعرفت أين تسقط قنابلها الذرية وأين لا تسقطها، فإذا كانت الشعوب صفراء أو سوداء أو سمراء، فلا بأس في القذف بقذائف الموت، وأما إذا كانت ذات جلدة بيضاء، فهنا تكون الاتفاقات الدولية، وهنا يكون التحريم، وهنا يكون الهول وتكون البشاعة. أبصرت العدالة؛ لتضع العصابة التي كانت على عينها موضعها من العلم، فتعميه بعد أن كان مبصرا، فبات المسكين أعمى يعتلي كتفيه مقعد، يسيره كيف شاء. أصبح على العلم أن يسير، ولكن ليس له أن يعرف إلى أين؛ عليه أن يفتت الذرة ليخرج طاقاتها، وعليه أن يصنع القنابل، ولكن ليس له أن يعرف أين تلقى هذه، ولا كيف تستخدم تلك؛ عليه أن يدير أحجار الرحى، ولكن ليس له أن يعلم أي الناس يصيبه الطحين؛ على العلم أن ينقل الصوت والصورة، ولكن ليس له أن يحدد بأي المعاني ينتقل الصوت في المذياع، ولا بأي المشاهد تنتقل الصورة إلى الشاشة. إن مهمته هي أن يشحذ السكين، ولكنه لا ينبغي أن يسأل من ذا يكون الذبيح.
أين ما أصاب شمشون العهد القديم من غدر غانيته دليلة، أين هذا مما أصاب شمشون هذا العصر من عبث السياسية السارقة الناهبة وأربابها؟ لقد فقئت عينا شمشون العهد القديم، وأما شمشون هذا العصر فقد فقئت عيناه وأخرس لسانه، فهو يرى بعيني المقعد الرابض على كتفيه، وهو ينطق بإذن منه. إنه لا يفصح عن الحق إلا إذا كان في ذلك قوة لراكبه، وإن هذا المقعد الراكب ليسمي قوته عندئذ مصلحة المجتمع، فيقتنع الذليل الأعمى بهذه الخدعة، ويخلط بين راكبه الذي يجثم على عاتقه وبين المجتمع الذي هو فرد منه، وإلا فهل يصنع علماء أمريكا اليوم ما يزيدون به قوة الفتك لرئيسهم، أم يصنعون ما يزيدون به لرجل الشارع مصادر الحياة؟
العلم موهبة من الله، منذورة لله، لا ينبغي أن يشرب حاملها شرابا مسكرا، ولا أن يأكل طعاما نجسا؛ حتى لا تفسد. هكذا قال ملاك السماء لامرأة «منوح» حين بشرها بصبي يوهب القوة من السماء.
نامعلوم صفحہ