الكاتب الحق مواطن ناقد، كما أن الطبيب مواطن طبيب، والمهندس مواطن مهندس، وكذلك المواطن الحداد والمواطن النجار والمواطن الزارع. فإذا نحن محونا جانب النقد من وجود الكاتب بقي منه المواطن الذي لا عمل له. الأدب هو - كما قيل - نقد الحياة بكل جوانبها، تمحيصا ومراجعة وتعديلا وتقويما. على ألا يجيء شيء من ذلك بالطريق الوعظي المباشر كما هو معلوم عند من صناعتهم نقد الأدب.
الكاتب الأديب مصباح يضيء معالم الطريق، وليس هو رجعا للصدى. وقد تكون هداية المصباح كشفا لما هو جديد، أو تحليلا للقديم من شأنه أن يعري الأسس المخبوءة لتنكشف فيها مواضع التعفن والتآكل. أما كيف تكون هذه الهداية أو هذا التحليل، فأمر متروك لقواعد الفن الأدبي التي لا نعتزم أن يكون لنا بها شأن في هذه الكلمة.
ها هو ذا تاريخنا الأدبي قديمه وحديثه، اختر منه ما شئت ومن شئت، محاولا أن تجد لنفسك المعيار الذي يخلد به من يخلد من الكاتبين. لماذا ارتفع ذكر الطهطاوي - في تاريخنا الأدبي الحديث - والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وقاسم أمين ولطفي السيد؟ ماذا في هؤلاء قد ضمن لهم البقاء النسبي في تيار الحوادث المتدفق المتغير؟ أليست الصفة المشتركة بين هؤلاء جميعا هي أنهم حملوا المصابيح الهادية، ولم يرضوا لأنفسهم أن يجيئوا ترديدا لشيء أريد لهم أن يرددوه؟ وذلك هو الشأن دائما في كل أصالة أدبية، وحتى إذا لم يكن الكاتب أصيلا بمعنى إبداع الجديد وخلقه، فلا أقل من أن يكون أصلا فيما يختاره بهدي طبيعته الحساسة الناقدة، ثم ينقله للآخرين.
قد تتنوع المجالات التي تصب عليها الأضواء عند مختلف الكاتبين، لكن الجانب المشترك بينهم جميعا هو أن تكون لهم المبادأة بالفكر الجديد، وبالذوق الجديد، وبالنظرة الجديدة. الكاتبون هم الذين يشيعون الحساسية الجديدة في كل شعاب الحياة، ويأتي بعد ذلك من أشبعوا بهذه الحساسية من أصحاب الإرادة الفاعلة فينتقلون بالأمر إلى مجال التنفيذ، فإذا رأينا اتجاه السير معكوسا رجحنا أن يكون في الأمر عوج يتطلب المعالجة والتقويم.
قضاة الحكم الأدبي
كان توما الأكويني - فيلسوف المسيحية في أوروبا، إبان عصورها الدينية الوسطى - كان في الدير راهبا مع سائر زملائه الرهبان، ولقد بدا توما لهؤلاء الزملاء وكأنه - لبساطته - الأبله الساذج، فوقف بعضهم إلى جوار النافذة ثم نادوه بعد أن تصنعوا الدهشة على وجوههم: تعال يا توما وانظر إلى السماء لترى هذه الأبقار الطائرة في الجو! فأسرع نحوهم توما لينظر، فضحك منه الزملاء ساخرين؟ وهنا التفت إليهم توما الأكويني وقد اعتراه الجد، وقال: ممن تسخرون؟ لقد كان الأهون عندي أن أتصور أبقارا تطير في جو السماء، من أن أتصور رهبانا يكذبون.
إذن فلم تكن سذاجة تلك التي بدت لزملاء الأكويني وكأنها كذلك، وإنما كانت في حقيقة أمرها اختلافا بينه وبينهم في القيم وترتيبها، فما القيمة التي نضعها في المنزلة الأعلى، وما القيمة التي نضعها في المنزلة الأدنى، وإذا اختلفت وجهة النظر بين شخصين في مثل هذا الترتيب، تعذر بينهما التفاهم؛ لأن كلا منهما في هذه الحالة سيتكلم لغة ليست هي اللغة التي يتكلمها زميله.
إننا إذا اتحدنا في الهدف ثم اختلفنا اختلافا بعيدا في الوسيلة، فقد يحدث أن يظن أحدنا الغفلة بزميله، وفي مثل هذه الحالة ربما وقع بيننا شيء شبيه بما حدث بين توما الأكويني وزملائه، هم يرونه ساذجا في تزمته، وهو يراهم مستهترين بالوسيلة الخلقية.
أقول ذلك تمهيدا لما سوف أجيب به عن سؤال كان قد وجهه إلي سائل عن نزاهة التحكيم الأدبي - عندنا وعند غيرنا، في زماننا وفي غير زماننا - ما شروطها، من هم القضاة؟ وعلى أي شريعة من شرائع العدل يحكمون؟ إنه ما لم يكن بين جمهور الأدباء وقضاتهم اتفاق على الأهداف والوسائل معا، استحالت تلك النزاهة المنشودة، بل لم يعد للنزاهة معنى مفهوم.
وسأضرب لك مثلا أو أمثلة توضح ما أريد: سنة 1957م - على ما أذكر - أرادت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب أن تكافئ أحسن الشعراء الذين قالوا شعرا في مناسبة العدوان الثلاثي على بورسعيد، وجمعت القصائد التي قيلت، وأعطيت نسخة منها لكل لجنة ثنائية من اللجان التي شكلت للتحكيم - وأظنها كانت ثلاث لجان ثنائية - وكان كاتب هذه السطور مع المرحوم علي أحمد باكثير يكونان لجنة من اللجان الثلاث. لم تكن مشكلة الشعر الجديد قد أثيرث قبل ذلك، وكانت تلك هي المناسبة الأولى التي فجرت المشكلة.
نامعلوم صفحہ