وفي هذه المناسبة تعن لي ملاحظة جديرة بالذكر ونحن بصدد النقد الفني، وهي أن هنالك بين العلامات الجسدية الدالة على الحالات النفسية فرقا جوهريا؛ فمنها ما يستحيل على الإنسان أن يفتعله متعمدا، كحمرة الخجل، ومنها ما يستطيع الإنسان أن يفتعله مزورا، كتقطيبة الجبين الدالة على الغضب. وكذلك الحال بالنسبة لإخراج الحالات النفسية في رموز فنية كالألوان؛ فقد يستخدم الفنان لونا ما ليدل به - صادقا - على حالته الشعورية الملائمة له، وقد يستخدمه مقلدا لغيره؛ فهو مزور في فنه، وعلى الناقد الفني أن يميز بين هاتين الحالتين في عالم الفن، كما يميز بينهما الإنسان المجرب في دنيا الحياة العملية.
هكذا قد يبحث الناقد في القطعة الفنية المنقودة عن العلامات التي تدله على ما قد كان في دخيلة نفس الفنان من مشاعر، كأنما هو يسير طريقه بادئا من الخارج إلى الداخل، أو بتعبير أصح، كأنما هو يستدل النصف المغموس المختفي، من النصف الظاهر البادي للعين.
لكن الناقد قد يبحث عن شيء آخر؛ ولذلك فقد يغير مجرى سيره؛ إذ قد يبحث عن شيء خارج العمل الفني نفسه، وخارج ذات الفنان، يبحث عنه في حوادث الماضي - مثلا - أو فيما ورد في الكتب (مقدسة أو غير مقدسة) من أساطير وقصص، أو في مظاهر الطبيعة من جبال وأنهار وما إلى ذلك، أو في أشخاص بأعينهم، وهكذا. وكلما كان الأثر الفني أنصع دلالة على ذلك الشيء الخارجي، كان أجود. وقد يدخل في هذا القبيل أن يبحث الناقد في الأثر الأدبي عن عناصر تدل على المبادئ الخلقية المعترف بها في المجتمع، كالعفة والعدل والطهر وما إليها.
هذان اتجاهان في النقد الفني متضادان؛ أحدهما يتسلل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في نفس خالقه، والثاني يتسلل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في العالم الخارجي - ماضيه أو حاضره - وبالطبع قد يلتقي هذان الاتجاهان في ناقد واحد وإزاء عمل فني واحد، وعندئذ ترى النقد يعنى بالاتجاه النفسي إلى جانب عنايته بدلالة القطعة الفنية على أمور الواقع. وتستطيع أن تجمع هذين الاتجاهين تحت نظرية نقدية واحدة تشملهما معا، هي نظرية المحاكاة، التي تقول إن العمل الفني يحاكي شيئا سواه، وهذا الشيء المحاكى إما أن يكون في داخل الفنان أو أن يكون في خارجه، ولو أن بعض رجال النقد يقصرون نظرية المحاكاة على محاكاة الفن للخارج فقط، ثم يطلقون على محاكاة الفن للداخل اسم «النظرية النفسية» آنا، و«النظرية التعبيرية» آنا آخر.
لكن هنالك مذهبا ثالثا في النقد، يتشيع له كاتب هذه الأسطر، وهو مذهب في حركة النقد الفني جديد في أوروبا وأمريكا، وقديم معروف في حركة النقد الفني عند العرب الأقدمين، ومؤداه أن ينصب تحليل الناقد على العمل الفني نفسه، لا لننفذ خلاله إلى نفس الفنان، ولا إلى العالم الخارجي بماضيه وحاضره، بل لنقف عنده هو ذاته، فنرى كيف تأتلف عناصره؛ مما قد أدى إلى حسن وقعه على «ذوق» المتذوق. نعم، نحصر أنفسنا في العمل الفني نفسه، فلا نسمح لأي عامل خارجي أن يتدخل في حكمنا، كنفس الفنان ومشاعره، أو حوادث التاريخ، أو الأساطير الدينية وغير الدينية، أو المبادئ الخلقية، أو الأفكار الفلسفية، أو المذاهب السياسية؛ فلا يجوز للناقد - بناء على هذه المدرسة الجديدة - أن يسأل عن لوحة - مثلا - قائلا: ما مغزاها؟ أو ما معناها؟ لأنه لا مغزى ولا معنى في الفنون؛ إذ الفن «خلق» لكائن جديد. هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شروق أو غروب قائلين: ما مغزى؟ وما معنى؟ أو هل ترانا ننظر إلى التكوين وحده معجبين أو نافرين؟ وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء العمل الفني؛ لأنه خلق وإنشاء، وليس كشفا عن أي شيء كان موجودا بالفعل ثم جاء الفن ليصوره. العمل الفني - بناء على هذه المدرسة النقدية - معياره هو الفن نفسه؛ فمعيار الشعر هو الشعر، ومعيار الموسيقى هو الموسيقى، ومعيار التصوير هو التصوير، وهكذا؛ أعني أن تقاليد كل نوع من أنواع الفنون، وقواعده الخاصة به، هي السند في أحكامنا النقدية، ولا يجوز لناقد اللوحة التصويرية - مثلا - أن يقومها على أساس ما فيها من حادثة تاريخية، أو من موقعة حربية، أو من أسطورة أو قصة، أو من حكمة فلسفية، أو من مبدأ خلقي، كل هذه أشياء لها قيمتها في مضمارها، لكنها ليست من فن التصوير ذاته؛ فمادة التصوير لون؛ أعني أن مادته هي الضوء، كما أن مادة الموسيقى هي الصوت، ولا بد لنا أن نحاسب الفنان على الطريقة التي وزع بها هذا اللون أو هذا الضوء على لوحته، بغض النظر عن الشيء المرسوم؛ لأن هذا الشيء لا يزيد على كونه تكئة اتخذها الفنان اتفاقا ليرتكز عليها في تكوين الكتل الضوئية على اللوحة.
3
وأيا ما كان الأمر بالنسبة إلى النقد الفني وقواعده وأهدافه، فموضوعنا هو الذوق الفني، وقد أسلفنا القول بأنه شيء يختلف عن النقد الفني؛ إذ هو المرحلة الأولى الضرورية التي لا بد أن يجتازها الرائي - أو السامع - قبل أن يقف حيالها ليسأل نفسه عن العناصر التي كانت مبعث نشوته الفنية، وسؤالنا الرئيسي هو: ما هي الخيوط الأولية التي منها ينشأ النسيج الذي ندعوه ب «الذوق الفني»؟ ماذا عند صاحب الذوق الفني مما يعوزه من ليس عنده مثل هذا الذوق؟ هذا هو السؤال.
والرأي الذي انتهيت إليه في هذا، والذي أعرضه الآن، هو أن اكتساب القدرة الذوقية في مجال الفنون معتمد على نفس الأساس الذي تتعلم عليه ألفاظ اللغة. ولشرح هذه الفكرة أقول:
إن متعلم اللغة إنما يتعلم ألفاظها وتراكيبها أول الأمر بعملية الترابط بين الوحدة اللغوية من جهة وبين الشيء المسمى بتلك الوحدة من جهة أخرى؛ فإذا أشير أمام الطفل إلى برتقالة ثم نطق له في نفس اللحظة بكلمة «برتقالة»، ربط بين الشيء والكلمة ربطا يجعله بعد ذلك يستغني بالواحدة عن الأخرى؛ أي إن الكلمة وحدها تكفي للتفاهم بعد ذلك، ولا داعي بعدئذ إلى أن يجيء المتفاهم ببرتقالة حقيقية كلما أراد أن يتفاهم على شيء يتصل بها، وتلك هي المهمة العظمى والأهمية الكبرى للرمز في حياة الإنسان العقلية.
لكن الرمز اللفظي قد يكون أحيانا غير محدد الإشارة، وذلك حين يستخدم لينطبق على أسرة كبيرة من الأشياء والمواقف، بينها شبه ظاهر أو شبه خفي، وعندئذ لا يكون سبيل إلى تحديد مثل هذا الرمز إلا ضرب الأمثلة من أفراد تلك الأسرة التي ينطبق عليها؛ فلو سألتني مثلا: ما معنى كلمة «مربع»؟ لما وجدت حيرة في أن أشير لك إلى شكل مرسوم على صورة معينة قائلا: هذا هو مربع. ثم لما وجدت حيرة في أن أصف لك على وجه الدقة مجموعة الخصائص التي تجعل من المربع مربعا، لكنك لو سألتني: ما معنى «الحب»؟ أو ما معنى «الغيرة»، مثلا؟ لأخذتني الحيرة في طريقة تحديد المسمى؛ ولذلك فقد تراني أذكر لك الأمثلة الموضحة، قائلا: أما الحب فهو الذي يتمثل في حالات كالتي وقعت بين قيس وليلى، وبين روميو وجولييت، وأما الغيرة فهي التي تتمثل في حالات كالتي نعرفها في عطيل. وإذن فمعاني ألفاظ كهذه تزداد تحديدا كلما ازدادت خبراتنا بمواقف متشابهة من أسرة واحدة.
نامعلوم صفحہ