كل هذا الذي أسلفناه إنما هو تحليل لوقفة واحدة من الوقفات الثلاث التي ذكرناها في مستهل هذا البحث، وأعني بها وقفة الفنان حين يريد أن يشير بفنه إلى الطبيعة، في ظاهرها حينا، وفي صميم حقيقتها حينا آخر. وهو إذ يشير إلى الطبيعة في صميم حقيقتها، فهو إما أن يجعل تلك الحقيقة أشكالا هندسية، أو تجريدا للجوهر، أو إبرازا لوظائف الكائنات في فاعليتها ونشاطها.
على أن الفنان قد يقف وقفة أخرى بأن يجعل عمله الفني إخراجا لطبيعته هو الداخلية، وهنا تأتي المدارس التعبيرية والسريالية وما يدور مدارها.
وإني لأخشى طول الاستطراد في الحديث، فأترك هذه الناحية من الفن لأنتقل مسرعا إلى كلمة موجزة أقولها في الوقفة الثالثة.
3
ثالث الوقفات التي يمكن للفنان أن يقفها إزاء عمله الفني، وقفة يريد بها ألا يجيء إنتاجه صورة لشيء كائنا ما كان خارج حدود ذلك الإنتاج نفسه، وها هنا نجد «الفورمالزم » بأكمل معانيه؛ إذ الصورة هنا لا سند لها إلا نفسها، وبديهي أن يلجأ الفنان هنا كذلك إلى التجريد، لكنه لا يجرد من الشيء جوهره كما فعل زميله في الحالة التي أسلفنا ذكرها، بل يجرد تجريدات هندسية أو لونية كل عمادها وقعها في الإدراك الحسي، وإما أن يقبلها هذا الإدراك الحسي أو يرفضها. إن اللوحة في هذه الحالة لا تعبر عن أي شعور أو عاطفة أو انفعال؛ لأنها لو فعلت كانت ناقلة عن نفسية الفنان؛ فلست ترى على اللوحة إلا أشكالا هندسية مجردة، كأن ترى مربعات أو دوائر سوداء على أرضية بيضاء، أو ترى تشكيلات من مربعات ودوائر ومستطيلات. ولعل في هذا ما يذكرنا بقول أفلاطون:
إن جمال الأشكال ليس - كما يظن معظم الناس - جمال الجسوم الحية أو جمال الصور، لكنه جمال الخطوط المستقيمة والدوائر وسائر الأشكال - ذوات السطح أو ذوات الحجم على السواء - المكونة من الخطوط والدوائر تكوينا نصوغه بالمخرطة والمسطرة؛ فعندئذ لا يكون الجمال - كما هي الحال في بقية الأشياء - جمالا نسبيا، بل هو جمال ثابت مطلق.
ومن زعماء هذه الحركة الفنية في عصرنا مالفتش الروسي
Malevich ، وموندريان الهولندي
Mondrian .
ولا حاجة بي إلى القول بأن الفن العربي قائم معظمه على هذا التجريد الهندسي، كما نراه في زخرفة العمارة وفي السجاد والأثاث، بل في الكتابة وغيرها. •••
نامعلوم صفحہ