فی عالم رؤیا
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
اصناف
فوقف القوم وشخصوا بالقمر، فإذا به قد عاد ساطعا منيرا، فتحول خوفهم إلى طمأنينة واضطرابهم إلى مسرة، وأخذوا يقفزون راقصين، ويصرخون مهللين، ويضربون بنبابيتهم صفائح الحديد والنحاس، مفعمين خلايا ذلك الوادي بعويلهم، وضجيج لهجتهم.
في تلك الليلة استدعى زعيم القبيلة لاويص وقال له: «لقد أتيت في هذه الليلة بما لم يأته بشري قبلك، وعلمت من أسرار الحياة ما لا يعلمه بيننا سواك، فافرح وابتهج؛ لأنك ستكون من الآن وصاعدا صاحب المقام الأول من بعدي في هذه القبيلة، فأنا أشد الرجال بطشا وأقواهم ساعدا، وأنت أكثر الرجال معرفة وأكثرهم حكمة، بل أنت الوسيط بيني وبين الآلهة، تبلغني مشيئتهم، وتبين لي أعمالهم وأسرارهم، وتعلمني ما يجب أن أفعله لأكون حاصلا على رضائهم ومحبتهم.»
فأجاب لاويص: «كل ما يقوله لي الآلهة في الحلم أقوله لك في اليقظة، وما أراه من مآتيهم أظهره لك، فأنا الوسيط بينك وبين الآلهة.»
فسر الزعيم، ووهب لاويص فرسين، وسبعة عجول، وسبعين كبشا، وسبعين شاة، وقال له: «سوف يبني لك رجال القبيلة بيتا يماثل بيتي، وسيهدونك في نهاية كل موسم قسما من غلة الأرض وأثمارها، فتعيش سيدا مطاعا، مكرما.»
وانتصب إذ ذاك لاويص للانصراف، فأوقفه الزعيم وسأله قائلا: «ولكن من هو هذا الإله الذي تدعوه بإله الشر؟ من هو هذا الإله الذي يجسر أن يصارع إله الليل البهي؟ إننا لم نسمع به قط ولا علمنا بوجوده.»
ففرك لاويص جبهته وأجاب قائلا: «اعلم يا سيدي أنه كان في قديم الزمان - وذلك قبل ظهور الإنسان - كان جميع الآلهة يعيشون بسلام ومودة في مكان قصي وراء المجرة، وكان إله الآلهة - وهو والدهم - يعلم ما لا يعلمونه، ويفعل ما لا يستطيع أحدهم أن يفعله، ويحفظ لنفسه بعض الأسرار الربانية الكائنة وراء النواميس الأزلية. ففي العصر السابع من الدهر الثاني عشر تمردت روح «بعطار»، وهو يكره الإله الأعظم، فوقف أمام أبيه وقال: «لماذا تحفظ لنفسك السلطة المطلقة على جميع المخلوقات، حاجبا عنا أسرار الأكوان والنواميس والدهور؟ أولسنا أبناءك وبناتك ومشاركين لك بقوتك وخلودك؟» فغضب إله الآلهة وأجاب: «سوف أحفظ لنفسي القوة الأزلية، والسلطة المطلقة، والأسرار الأساسية إلى أبد الدهر. فأنا البدء وأنا النهاية.» فقال بعطار: «إن لم تقاسمني قوتك وجبروتك تمردت أنا وأبنائي وأحفادي على قوتك وجبروتك.» فانتصب إذ ذاك إله الآلهة فوق عرشه، وقد امتشق المجرة سيفا، وقبض على الشمس ترسا، وبصوت ارتعشت له جوانب العالم صرخ قائلا: «ألا فاهبط أيها المتمرد الشرير إلى العالم الأدنى حيث الظلمة والشقاء، وابق هناك منفيا شريدا تائها حتى تنقلب الشمس رمادا، وتتحول الكواكب إلى هباء منثور.» في تلك الساعة هبط بعطار من مقر الآلهة إلى العالم الأدنى حيث تقيم الأرواح الخبيثة، وقد أقسم بسر خلوده أنه سيصرف الدهور محاربا والده وإخواته، واضعا الأشراك لكل محب لوالده أو مريد لإخوانه.»
فقال الزعيم وقد تقلصت جبهته واصفر وجهه: «إذن فاسم إله الشر بعطار؟»
فأجاب لاويص: «كان اسمه بعطار إذ كان في مقر الآلهة، ولكنه قد اتخذ له بعد هبوطه إلى العالم الأدنى أسماء أخرى، منها: بعلزبول، وإبليس، وسنطائيل، وبليال، وزميال، وأهريمان، وماره، وأبدون، والشيطان. وأشهرها الشيطان.»
فردد الزعيم لفظة الشيطان مرات بصوت مرتعش يشابه حفيف الأغصان اليابسة لمرور الهواء، ثم قال: «ولماذا يا ترى يكره الشيطان البشر بكرهه الآلهة؟»
فأجاب لاويص: «إن الشيطان يكره البشر ويعمل على إبادتهم؛ لأنهم من نسل إخوانه وأخواته.»
نامعلوم صفحہ