فی عالم رؤیا
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
اصناف
وقال آخر: «تعالوا نودعه لحف هذا الجبل، فيكون له صدى الكهوف نديما وخرير السواقي مؤنسا، فترتاح عظامه في برية يكون فيها وطء أقدام الليالي خفيف الوقع.»
وقال آخر: «لا تغادروه ها هنا، ففي البرية وحشة مملة ووحدة قاسية، بل تعالوا ننقله إلى جبانة القرية فيكون له من أرواح جنودنا رفاقا يناجونه في سكينة الليل، ويقصون عليه أخبار حروبهم وأحاديث أمجادهم.»
فتقدم الزعيم إذ ذاك إلى وسط رجاله وأسكتهم بإشارة ، ثم قال متنهدا: «لا تزعجوه بذكرى الحروب، ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة فوق رءوسنا أخبار السيوف والرماح، بل هلموا نحمله ببطء وهدوء إلى مسقط رأسه، ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقب قدومه، نفس حبيبة تنتظر رجوعه من بين الأسنة، فلنعده إليها كي لا تحرم نظرة من وجهه وقبلة من جبينه.»
حملوه على المناكب مطأطئي الرءوس خاشعي العيون، ومشوا ببطء محزن يتبعهم فرسه الكئيب يجر مقوده على الأرض ويصهل من وقت إلى آخر، فتجيبه الكهوف بصداها كأن للكهوف أفئدة تشعر مع البهيم بشدة الضيم والأسى.
بين أضلع ذلك الوادي حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشى أمامهما طيف الحب جارا أجنحته المكسورة.
مرتا البانية1
1
مات والدها وهي في المهد، وماتت أمها قبل بلوغها العاشرة، فتركت يتيمة في بيت جار فقير يعيش مع رفيقته وصغاره من بذور الأرض وثمارها، في تلك المزرعة المنفردة بين أودية لبنان الجميلة.
مات والدها ولم يورثها غير اسمه وكوخ حقير قائم بين أشجار الجوز والحور، وماتت أمها ولم تترك لها سوى دموع الأسى وذل التيتم، فباتت غريبة في أرض مولدها، وحيدة بين تلك الصخور العالية والأشجار المحتبكة. وكانت تسير في كل صباح عارية الأقدام رثة الثوب وراء بقرة حلوب إلى طرف الوادي حيث المرعى الخصيب، وتجلس بظل الأغصان مترنمة مع العصافير باكية مع الجدول، حاسدة البقرة على وفرة المأكل، متأملة بنمو الزهور ورفرفة الفراش. وعندما تغيب الشمس ويضنيها الجوع ترجع نحو ذلك الكوخ وتجلس مع صبية وليها ملتهمة خبز الذرة مع قليل من الثمار المجففة والبقول المغموسة بالخل والزيت، ثم تفترش القش اليابس مسندة رأسها بساعديها، وتنام متنهدة متمنية لو كانت الحياة كلها نوما عميقا لا تقطعه الأحلام ولا تليه اليقظة، وعند مجيء الفجر ينتهرها وليها لقضاء حاجة، فتهب من رقادها مرتعدة خائفة من سخطه وتعنيفه.
كذا مرت الأعوام على مرتا المسكينة بين تلك الروابي والأودية البعيدة، فكانت تنمو بنمو الأنصاب، وتتولد في قلبها العواطف على غير معرفة منها، مثلما يتولد العطر في أعماق الزهرة، وتنتابها الأحلام والهواجس مثلما تتناول القطعان مجاري المياه، فصارت صبية ذات فكرة تشابه تربة جيدة عذراء لم تلق بها المعرفة بذورا ولا مشت عليها أقدام الاختبار، وذات نفس كبيرة طاهرة منفية بحكم القدر إلى تلك المزرعة حيث تنقلب الحياة مع فصول السنة كأنها إله غير معروف جالس بين الأرض والشمس.
نامعلوم صفحہ