فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
وكانت عائشة نعم السلوان له في منفاه. وإن الإنسان ليدرك عظيم تضحيتها لأبيها حين يرى إشراق وجهها الطفل الجميل بنور نظراتها المملوءة شبابا وعطفا، وحين ينم قميصها الأبيض الرقيق عن جسمها الخصب وقوامها الممشوق. ويزداد شعورا بعظيم التضحية إذا جلس إليها فسحره حلو حديثها عن نفسه ولعب بفؤاده وعقله. وكم تركت وراءها من ذائب حسرة يوم أعلنت عزمها على اتباع أبيها وهجر المدن ومن فيها. بل لقد تبعها بعض عبادها حتى صدتهم عنها بأن صارحتهم أنها ذاهبة إلى غير عودة، مما بعث إلى نفوسهم اليقين أنهم لن يصلوا إلى يدها. فلما نزلت الواحة ورتبت دارهم فيها اتخذت لباسا للواحة الناسكة أقمصتها البيضاء، فبدت فيها ملكا أرسلته السماء؛ ليبعث الحياة الناضرة إلى جدب الصحراء.
أما «باترا» فكانت فتاة رومية الأصل نشأت في بيت خالد، وماتت أمها في خدمته، فدخل إلى قلبها من حب خالد ومن حب عائشة ما هون على نفسها الانقطاع عن الناس لهما. وكانت في الحادية والعشرين من عمرها لدنة القد، بارزة النهد، عالية العنق ، يونانية الأنف. تنم عيناها الزرقاوان عن رقة وحنان يسبيان. وكان يعينها ويساعد عائشة خادم قديم يبلغ الخمسين؛ ولقد تبعهم لأنه كان موقنا أن لن يجد أسيادا أقل منهم كلفة، كما أنه كان من العجز والكسل على أعظم جانب.
وهؤلاء هم سكان الواحة. ولقد كانوا يحسون فيها بمضاضة العزلة، لولا تشبث خالد بالبقاء بها حتى يموت. ولو أنهم كانوا أكثر عددا لتوزيع الهم عليهم فخف حمله. لكنهم خضعوا أخيرا للقضاء، وخلقوا لأنفسهم عزاء من لا عزاء، وألهمهم حب الحياة جمال الصحراء، أما خالد فظل دائبا على التفكير يريد قبل الموت أن يطمئن إلى ما هو مصيب بعده.
ولم يكن يفاتح في أمره هذا أحدا إلا ما كانت تتبينه عائشة خلال حديثه من شديد لهفه بالإيمان وشوقه إليه. إذ ذاك كانت تجاهد للتخفيف من لوعته ولتقوية ضعفه. لكن مركز الشك عسير يحفه أغلب الأمر الخوف والهلع. والفتاة لا تفهم هذا ولا تستطيع أن تخاف موتا تعجز صورته عن أن تتسرب إلى خيالها الشاب. وما دام خيال الموت بعيدا فالناس لا يرتاعون لما بعد الموت، ولا ينصرفون لشيء انصرافهم لكسب الحاضر وما فيه. وربما أثارت خطوب الحوادث في نفوسهم بعض الضعف أحيانا، ثم سرعان ما ينسون ضعفهم، وسرعان ما تزول آثاره.
وكان من أكبرهم عائشة يومئذ أن تصل لمعرفة دخيلة قلب أبيها. وكم جاهدت تريد أن تقف على الكتب التي كانت تراه دائبا على قراءتها فيحول دون ذلك احتفاظه بها ووضعه إياها في أحرز موضع. وكانت تظن أنها إن وقفت عليها عرفت مسرح أفكاره وأسباب ألمه، فاستطاعت أن تخفف منها وأن تهون على نفسه أمرها.
وأخذها العجب؛ أي سر تحوي هذه الكتب يستطيع أن يفعل هذا الفعل في نفس العجوز الذي كان دائما صديق السرور نصير الفرح؟ أي سم انطبع على صحفها يطير إلى قلبه ويهزه هذا الهز الشنيع. لا بد أن يكون فيها من دواعي القلق شيء جسيم يكدر صفو راحته إلى الحد الذي ترى!
ودفعها عجبها للبحث عنها والحرص على معرفة ما فيها. فرأت أن تستعين في ذلك بباترا التي كانت تلزم خالدا أكثر أوقات يقظته، وتجد من عطفه ما يسمح لها بالتدلل عليه وطلب كل ما تريد من غير أن تخشى رفضا. وعجيب أن هذا المعذب النفس، التائه اللب، الباحث بكل قواه عما وراء الموت، بقي متعلقا بأشياء من اللهو الذي كان فيه من قبل، وبقي لذلك تعلوه القشعريرة حين تلامس يد باترا الناعمة يده الناشفة، ويحتل وجهه الطرب حين يملس على شعرها الذهبي الأملس. وكأنما كان في الوقت ذاته عظيم الخوف من الموت وما بعده، دائم الحيرة فيما بعد الموت. فهو يريد أن يؤمن حتى يكسب ما بعد الحياة، ويريد أن لا يفوته شيء مما في الحياة مخافة أن تكون الحياة آخر متاعه.
ولم تكن باترا تضن على العجوز بعطفها حين تراه في حاجة إليه، كما كانت تزيد في الدل والتمنع كلما رأت الشباب راجعه وملكه. وبين دل باترا وجمالها الفتان وتحت أثر حديث عائشة العذب الساحر من ناحية، وبين ما في كتبه الداعية إلى الزهد المنادية بدناوة الدنيا وباطل زخرفها من الناحية الأخرى، كان الرجل في أعظم الحيرة والوجل.
استعانت عائشة بباترا فأجابت هذه طلبتها وذهبت إلى خالد، فألفته جالسا إلى ظل نخلة يحيط بها الرمل، قد أرسل إليه ريح المساء رطوبة تزيد لذة الجلوس فوقه، مقفلا كتابه محدقا بالفضاء الهائل أمامه. ويطبق جفونه أحيانا كأنما هو في حلم بعيد عميق. فوقفت إلى جانبه من غير أن تبدي حركة تنبهه بها. وظلت محدقة به وظل محدقا بالفضاء زمنا، ثم حانت منه التفاتة فرآها فطوقت ثغره ابتسامة خفيفة وقال: هأنتذي من جديد يا باترا. هأنتذي يا ملكة الأرض. أين كنت كل هذا الزمن يا عزيزتي؟ لم تركتني هكذا منفردا أتطلب ملكا في الفضاء، فيخيل إلي أنه مملوء بالأرواح والشياطين؟ أنت وحدك الملك وأنت إله هذا المكان.
وفيما كان يتكلم جاهد حتى قام بأسرع ما تمكنه قواه الذاهبة، ووقف يملس بيده على شعرها المرسل يتلاعب به الهواء. أما هي فوقفت في قميصها الأبيض لا تبدي حركة ولا تشير بطرف كأنها تمثال مصمت بعثت به السماء؛ ليزين قطوب الواحة الحزينة. فلما رآها كذلك غير من حديثه وجعل يلاطفها ويسألها عما أصابها: ما لك يا باترا؟ ماذا يحزنك؟ ... لم لا تجيبين؟ ... ما لك يا عزيزتي؟ ... خبريني.
نامعلوم صفحہ