فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
هنا بدت على أجمل صديقات جارنا الأوروبيات آيات الإنصات والالتفات. فقد كانت إلى هذا الموضع من الحديث تداعب صاحبها بنظرات معسولة تتجه بها إليه حينا لتلقي بها بعد ذلك على ذراعيها العاريتين وقد جعلت رسغيها على المائدة واعتمدت بخدها على ظاهر يمناها المشتبكة بالأصابع مع اليد اليسرى. ثم تعيد النظرة إلى صاحبها، وكأنما تريد أن ترى في عينيه كيف كان سحره بهذه الأذرع البديعة. واستمر الأشيب في حديثه: على أن سميراميس لم تلبث مع الملك إلا قليلا حتى استكبر الجمال على الملك، فدست على زوجها من قتله، وانفردت بالعرش بعده. فلما استتب لها الأمر شيدت على شاطئ الفرات «بابل» أبهى مدائن العالم في عصرها، وأحاطتها بأسوار وحصون ذات قوة ومنعة. وأنشأت في المدينة أجمل القصور، وغرست فيها الحدائق المعلقة. ثم اتجهت همتها من بعد ذلك للغزو والفتح فأعادت إلى ملكها بلاد ميديا والعرب وأرمينيا والعجم، وكانت كلها قد خلعت النير الذي أخضعها له نينوس، ثم ضمت مصر وليبيا من أفريقيا، وواصلت الغزو في آسيا إلى نهر السند حيث أفل نجمها ولحقتها الهزيمة. وقد خضعت هذه الشعوب جميعا لحكمها مدى اثنتين وأربعين سنة كانت كلها سني نعمة وحضارة. وعلى رأس هذه السنين نازعها ابنها الملك، فنزلت له عنه مختارة، ثم ارتفعت إلى السماء حيث تقيم حتى اليوم بين آلهة الجمال. ... ذلك عهدها. أوليس من حقها وقد سعدت مصر بحكمها أن يكون لاسمها في مصر أثر؟
فرغ الأشيب من حديثه وانقضت فترة شغل صاحب السادة والسيدات الأوروبيات خلالها بعبادة ذراعي صاحبته، وتناول كل منا قطعة من فطير أو حلوى وشرب فنجانه من الشاي. ثم قال نجي أبيس: ألا ترون عجبا أن تكون فترات حكم النساء الأمم زاهرة أبدا تينع فيها الحضارة، وتتجلى فيها أبهى ثمرات الفكر والفن. هذه أيام هاتاسو وكليوباطرة وشجرة الدر كانت في مصر أيام مجد ونعمة. ثم هذا صديقنا قد قص علينا من تاريخ سميراميس ما يجب أن يحفظه التاريخ لسلطان النساء فخر الأبد. ولو أن إنكلترا فاخرت يوما بعهد من عهودها لكان عهد الملكة فكتوريا أبهى عصر مر بها، ثم لوجدت فيمن سبقنها من الملكات أمثال اليصابات من كن للسكسون فخرا وعزا. فكيف ترى يستتب الأمر لهاتيك الملكات وكيف يخضع الرجال لحكمهن؟
قال الذي دعانا إلى الشاي: ولكن لا تنس أن حكم النساء كان ينتهي أبدا بالاضطراب والانحلال إلى أن كان نظام الحكم النيابي، الذي جعل الملك الصالح كالملكة الصالحة بعيدا عن التداخل في شئون الدولة.
قال الأشيب: وأي عجب في هذا كله. إن النساء لا يستوين على عرش أمة إلا بعد أن تبلغ من الحضارة والسؤدد أكبر مبلغ، وبعد أن يهيئ الرجال فيها من أسباب النظام والقوة ما تبعث إليه الملكة التي تخلفهم من عذب روحها وسحر جمالها ما يثير قوى النفس والفكر التي كانت كمينة في النفوس السامية تحت سلطان القسوة. ولعل أشد ما يدعو الرجال للرضا بحكم النساء أنه حكم الجمال. فقل أن كان بين الملكات من لم تكن ذات دل وسحر. وللجمال على الرجال أكبر الأثر. وهذه سميراميس الفتنة الساحرة كانت يوما في غرفة زينتها إذ بلغ سمعها هياج أهل عاصمتها وقصدهم قصرها يحاصرونه ويهاجمونه. فلم تفعل أكثر من أن خرجت إلى شرفة القصر نصف عارية، وقد انتثر شعرها الفاحم حول جسمها الناعم. فلما رآها الثائرون أكبروها وشدت إليها أعينهم وخفتت أصواتهم وأخذهم البهر من كل مكان، ونسوا ما ثاروا له، وانصرفوا وهم أشد أهل الأرض لملكتهم حبا وبها تعلقا ... وظلت صورة إلهة الجمال في شرفة القصر مرتسمة في نفوسهم. ثم فاض عنهم هيامهم، فأقاموا لسميراميس العارية يسترها شعرها تمثالا في بابل يحجون إليه ويجدون فيه ذكر ساعة من أحب ساعات حياتهم إليهم. وهذا الذي صنعوا ينبئ عن عظمة هذا الشعب ورفعة حضارته. فالرجال للجمال أعلى قدرا وأكثر خضوعا كلما كانوا أسمى نفسا وأدق حسا. أولئك يطلبون في الجمال كمال الإنسان مصورا في أحد أفراده. أما الذين تتحرك نفوسهم إلى الأنثى يدفعها بقاء النوع وحده فأولئك إلى البهائم أقرب. ودق الحس وسمو النفس يجعل من أولئك الممتازين أعوانا صادقين للملكة التي تحكمهم. لكن توحش السواد لا يسمو به لدرك هذه المعاني السامية؛ لذلك يعمل الدساسون لإثارة شهوات هذا السواد. وكلما انتطح في الإنسانية كمال الإنسان وحيوانيته كانت الغلبة الأولى للحيوان. ثم يستكن الإنسان الكامل مؤمنا بأن له الغلبة آخر الأمر. وهذا هو سر عدم تعاقب النساء على الحكم برغم ما تمتاز به عصورهن من حضارة بالغة أدواتها من العلم والفن غاية ما يرجو الإنسان من كمال.
كذلك قال الأشيب. وملأ قوله أجمل صديقات جارنا عجبا وتيها، فاعتدل رأسها وانصقلت صفحة جبينها، وأضاء وجهها نور زاد جمالها سحرا، واشتملت نظراتها البهو ومن فيه كأنما هم لسلطان جمالها تبع. على أن عيونها أخذت صديقنا الأشيب بعطف مدل شعر به جليسها، فأطرق إلى الأرض وكأنما بدأت الغيرة يدب إلى نفسه دبيبها. ولم تفت الأشيب هذه البوادر حين التفت بنظراته إلى الجميلة فنمت عيناه عن جيش من المعاني قام بنفسه. لكن صديقنا الشاب لم يمهله في متاعه بهذه العواطف العذبة السائغة، بل اعترضه بقوله: أعجب للرجال كيف يستذلهن النساء. والغريب في أمرهم أنهم يزعمون أن جمال النساء سبب سلطانهن. ولست أذكر في أي كتاب قرأت أن الجمال للرجال ولا نصيب للنساء منه. فذكور الحيوان والطير أجمل من إناثها. أليس الحصان أجمل من الفرس، والثور أجمل من البقرة، والأسد أجمل من اللبؤة، والطاووس الذكر أجمل من الأنثى. وأين لأنثى البلبل صوت البلبل الرخيم. فكيف تبدلت في الناس سنة الطبيعة فكان الجمال من حظ المرأة. ولم لا يكون جمال المرأة في نظر الرجل ضربا من السخف وضعف العقل أملت به على الرجال شهواتهم ثم تعهد النساء بقاء هذا السخف في الرجال باستفزازهن شهواتهم في كل آن.
حولت الجميلة إلى صديقنا الشاب نظرة إشفاق وازدراء. وكان الأشيب مسحورا لا يزال. وقد أراد الذي دعانا إلى الشاي أن يتولى الحديث مع الشاب. لكن الأشيب شعر بما يجب عليه من حماية الجميلة التي عطفت عليه وكل جميلة مثلها، فجمع قواه ووجه إلى الشاب في هدوء وسكينة هذا الحديث: حذار يا صاح لا تندفع. فمن أنبأك أن كل ذكر أجمل من كل أنثى؟ أليس هو نظرك وأنت وثقت به! وهو نظرك كذلك الذي أنبأك بأن الجمال للمرأة لا للرجل؛ فيجب أن تثق به، ولعل الكتاب الذي استخلصت منه حجتك هو بعض كتب شوبنهور، ذلك الفيلسوف الألماني المتطير بالمرأة وبالحياة جميعا. وإنما أملى عليه رأيه في المرأة فرط حبه لصاحبة له وإمعانها في الصد عنه وفي تعذيبه. ولو أنها مدت له حبل الأمل ولم تحرمه، نائلا منها، لكان بالمرأة أكثر رفقا وللحياة أشد حبا، ثم لعرف النعيم والسعادة، ولجعل للزهرة ولسميراميس في قلبه تمثالا يجله ويعبده على غير ما كان يعبد تمثال بوذا البطين الأبله. ولو أن رأي الفيلسوف في جمال الذكر أن من الحيوان كان صحيحا لما جنى ذلك على جمال المرأة ولا حط منه. فقد أهمل الرجل ما جملت به الطبيعة الحيوان من تناسق مظاهر القوة فيه، وعني بتجميل خير ما حبته به الطبيعة إياه من هبة الكلام. فهو بالكلام يشعر ويتغنى ويرجو ويزجر. وهو بالكلام بلبل وطاووس وفهد وأسد. والكلام عنده صورة الحقيقة والخيال جميعا. وجمال المرأة حقيقة وخيال معا. هو شعر وهو موسيقى وهو حس ملموس فيه نعمة الحياة بل الحياة كلها مجتمعة. والرجل بالكلام يتغزل هذا الجمال المشتملة أحشاؤه كمال الإنسان. أما الحيوان فلا يعرف ما الكمال وليس له به عهد؛ ولذلك كان الرجال للجمال أعلى قدرا وأكثر خضوعا كلما كانوا أسمى نفسا وأدق حسا.
فرغ الأشيب من حديثه بعدما زاد الجميلة عليه عطفا. ثم تناول الذي دعا إلى الشاي الحديث من بعده فقال: «عد بنا يا صديقي إلى حديث سميراميس إلهة الجمال عند الآشوريين. فقد ذكرت أنها هجرت نينوس لتكون زوجا للملك. وأنها دست على الملك من قتله لتنفرد بالملك بعده. وأنها برزت للشعب عارية لتبهره. وأن ابنها الذي لا يعرف أحد أباه نازعها الملك آخر أيامها. وليس في كل هذا ما يشهد بعفة الملكة الإلهة. والمستخفات بالعفة من إلهات الجمال لسن أول من عرفت الإنسانية حين أقرت عبادة المرأة. بل سبقهن أبدا من كن ذوات عفة وأمانة، ولم تنحدر الزهرة عند الإغريق إلى تعشق إلهة ورجال عدة اتخذوا من جمالها وجسمها لملذاتهم وشهواتهم متاعا إلا بعد عصر كانت فيه مثال الوفاء. فهل كان للأشوريين قبل سميراميس إلهة قرنت إلى الجمال الوفاء؟»
قال الأشيب: لا تصدق، مضيفنا الكريم، إن الوفاء على ما يفهمه الناس كان يوما بعض فضائل إلهات الجمال . ولئن كانت الأساطير لم تشر إلى صلات زهرة الإغريق بالآلهة والناس قبل خيانتها زوجها هفستوس، فهي قد أشارت إلى ولع سيد الآلهة جوبتير بالزهرة ودلها عليه وانتقامه منها بتزويجها من الإله القبيح الذي لم يكن لها من خيانته بد. وكيف تريد بإلهة الجمال أن تضن بجمالها وفي سجية كل إله أن يهب الناس من مزاياه ما يعينهم على الحياة. وكأني بالأشوريين كانوا أكثر حكمة فلم يقتضوا إلهتهم ما تأباه سجيتها، بل جعلوها ثمرة الهوى ليكون الهوى أول ما تتجمل به من الفضائل.
ازدادت الجميلة إنصاتا للحديث ونمت نظراتها عن الرضا عنه والعطف على قائله. وكأنما دفع ذلك إلى نفس صاحبها ملالا وقلقا زادهما ما كان من انصرافها عنه. فلم يجد لإرضاء غيرته سبيلا إلا أن دعا جلساءه لنزهة على ظهر الماء. وكان الجو رفيقا والنيل أمام الفندق يسيل هادئا مطمئنا. وكان من عدا الجميلة لا يظهر عليهم أنهم يفهمون حديثنا. فأسرعوا إلى تلبية الدعوة ولم تر الجميلة وجها لرفضها. فتركوا مجلسهم بجوارنا بعدما صافحنا مودعا وبعدما زودت الجميلة صديقنا الأشيب بنظرة فيها معنى الأسف، الذي لم يلبث أن تطاير قبل باب الفندق. فقد سمعناها تضحك طربة لنكتة قالها أحد السادة الذين كانوا معها. ولعل هذه النكتة كانت انتقاما منا واستخفافا بأمرنا.
وكان صديقنا الشاب لا يظهر اقتناعا بشيء من حديث الأشيب. وكأنما ذاق من تحكم الجمال فيه مما لم يزل سرا مطويا علينا، ما نقض إيمانه بالمرأة وسلطانها. وكان بالرغم من هذا أطولنا تحديقا بالجميلة إلى حين قيامها. ثم أتبعها بنظراته حتى خرجت. فلما غابت عنه زفر زفرة معناها: ويل لكن، هل إلى خلاص من حكم جمالكن سبيل! ومضت فترة، كنا فيها جميعا صموتا، استعاد الشاب خلالها حكم نفسه ثم قال: ذكرتم أن آباءنا من قدماء المصريين اتخذوا من أبيس للخير والبركة رمزا فجعلوا العجل إلها. فلم لم يتخذ الناس للجمال رمزا من حيوان أو طير يؤلهونه. ولم كانت أفروديت والزهرة وسميراميس وسائر إلهات الجمال نسوة. تالله ما كن ليرقين إلى موضع القداسة لو نظر الرجال إليهن بعين العقل وأخضعوهن لسلطانه.
نامعلوم صفحہ