فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
وكان «ست» إله الشر أخا لأوزوريس. ولما رأى من آيات حكمته أدركته الغيرة فدعاه إلى وليمة أعد فيها صندوقا فاخر الصنع ووعد أضيافه بأنه مهديه لأي منهم طابق الصندوق حجمه. فدخل إليه الأضياف واحدا بعد الآخر حتى إذا كان دور أوزوريس واستوى فيه - وكان قد صنع على حجمه - أسرع شركاء إله الشر فأقفلوا الصندوق وألقوا به في النيل، فدفعه التيار إلى البحر وقذفته الأمواج إلى شاطئ الشام، وبقي عنده إلى جانب شجرة أنماها القدر لتحميه من الأعين إلى أن جاءت به إيزيس إلى مصر بعد حزن وبحث. لكن «ست» عثر به ثانية في إحدى جولاته جوف الليل فمزق جسد أخيه أربعة عشر جزءا ألقى بكل منها في مكان. فعادت إيزيس إلى بحثها واستعادت أجزاء الجسم، واستعانت بأختها وبابنها الإله هورس وبطقوس الدين فردوا إليه حياة شابة خالدة لا يحياها على الأرض، بل في السماء. وكذلك بعث الإله الملك ووعد بالبعث كل من يفعل الخير حين حياته. ... وهذه قصة المعركة بين الآلهة وأوزوريس إله الخير قد وجد من العجل أبيس ممثلا له ولباسا. أو قل: إنهما صورتا روح واحد ورمز لمعنى الخير. فما السخف في أن يعبد الناس هذا الرمز ويقدسوه.
بلغنا من سيرنا ثكنات قصر النيل. فملنا إلى يميننا في طريق الجسر، وهبت علينا نسمات الأصيل المنعشة في هذه الأيام الصحو الجميلة التي تفصل الخريف من الشتاء. ولحق بنا أثناء الطريق شيخ من ظرفاء أصدقائنا قال: إنه يقصد أن يعبر النيل على جسر إسماعيل لرياضة نفسه في حدائق الجزيرة، ولملاقاة أصحاب على موعد معه بجوار الكوبري الأعمى. وكان قد أنصت إلى طرف من الحديث لم يشغل عنه إلا بمنظر شبان من جنود الإنجليز يلعبون كرة القدم في فناء الثكنات، وقد كشف رداء اللعب عن أذرعهم وسيقانهم، وبدت على بعضهم مظاهر جمال القوة والنعمة. ولما ملأ أعينه من هذا المنظر كان أخونا الأشيب قد أتم حديثه. فقال الشيخ: ما لكم تدهشون أن عبد قدماء المصريين عجلا، وقد عبد العرب الأصنام وآمنوا بالهبل الأكبر وبمن دونه حتى بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. وهل أرسل نبي إلا لقوم أولعوا بالحياة حبا، فجعلوا من كل مظهر فيها قدسا، وزين لهم الشيطان عملهم فصدهم عن عبادة الله، فقام النبي بينهم ليهديهم السبيل؛ فمنهم من آمن ومنهم من كفر. ولقد كان فراعنة مصر أشد الناس إلحاحا في الكفر. جاءهم موسى بالهدى والبينات وخر سحرتهم أمامه سجدا فأبى فرعون واستكبر وهم بقتل الرسول، فخرج موسى وقومه من ديارهم وأنجاهم الله بآية منه أن أمر موسى فضرب بعصاه البحر فانفتح أمامه في البحر سرب، وتبعه فرعون وجيشه فابتلعه اليم فكان من المغرقين. ... وهل تظنون أن هؤلاء السكونيين - وألقى من جديد نظرة على اللاعبين - لم يكن يعبد آباؤهم أصناما شرا من أبيس ومن الهبل الأكبر. تلك سنة خلت حين كان العالم في جهله وعمايته.
قال صديقنا الأشيب مبتسما: وهل أتاك يا سيدنا الشيخ نبأ السكسونيين؟ لقد كانوا أيام ربوبية أبيس في الكهوف بين الوحوش. وأيام أبيس كان الكهنة ورجال الدين في مصر يؤمنون بوحدانية الله. فأما آلهة الخير والشر والحرب والسلم، فكانوا رموزا لمعان سامية لا يدركها السواد ما لم يكن لها جسم وكيان. وأظنك ترى مصر الحديثة كمصر القديمة. يوحد رجال الدين ويقدس السواد رموزا لأمانيهم كالعجل القديم.
لكن الشيخ كان قد بلغ جسر إسماعيل، وآن له أن يعبر إلى الكبري الأعمى؛ فألقى علينا السلام مودعا، ورددنا تحيته بأحسن منها.
وكان الذي دعانا إلى الشاي قد لزم الصمت إلى هذه اللحظة. فقال له صديقنا الشاب وكان بآرائه مغرما: ما لك لا تتحفنا برأيك؟
قال الذي دعانا إلى الشاي: علمنا أساتذتنا أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فالحكم على أبيس وعبادته وطقوس تلك العبادة يجب له أن نحيط بكيفية إدراك المصريين لهذا العجل إحاطة تامة. وما أحسب واحدا منا هنا يدعي هذه الإحاطة. بل ما أحسب علماء العاديات المصرية أنفسهم - مع كثرة ما بحثوا ونقبوا - على ثقة من أنهم عثروا من النصوص والآثار على ما يكفي ليرسم أمامهم في صورة ناطقة حياة هذه الجمعية التي يعترف الكل اليوم لها بأعظم حظ من الرقي في درجات الحضارة. ولقد قال هؤلاء العلماء أنفسهم بعد الكشف عن قبر توت-عنخ-آمون: إنه واجب تحوير ما كتب حتى اليوم عن العاديات المصرية تحويرا جوهريا وتصحيحه ليقرب من مطابقة الواقع. هذا ولما يعرف كل ما في قبر الملك الشاب من أسرار. ولا يمكن لأحد بعد أن يقطع بأن هذا القبر آخر ما يمكن الكشف عنه من آثار المدنية القديمة العظيمة. ... ولو أنا أتانا اليقين بكشف العلم عن جميع العاديات والآثار المصرية القديمة، وبوقوف العلماء على جميع مخطوطات تلك العصور لما قطع ذلك بأنهم بلغوا غور النفس المصرية من ستة آلاف سنة، ففتحت لهم أبوابها، وساغ لهم تتبع دبيب إحساساتها ومشاعرها، وتقدير أثر الظواهر العالمية على تلك الإحساسات والمشاعر. فإنما يترجم العلماء نصوصا مصرية من اللغة الهيروغليفية القديمة إلى اللغات الحديثة، ويقربون بينها ويستنبطون منها. والمترجم من لغة إلى لغة لا يعكس صورة الأصل، وإنما يعكس صورته هو من خلال هذا الأصل، كما تحيل المرآة اللون إلى الصفرة أو الحمرة على قدر صفاء مائها، وكما تطيل الشخص وتقصره وتعظم بطنه وتعرج سيقانه على قدر استواء سطحها أو تعرجه. هذا ولو كان المكتوب الذي ينقله المترجم معاصرا له. ثم هو بعد تمام الترجمة غير مطمئن إلى أنه أبرز كل ما فهمه في الأصل من معان وصور ومشاعر. ذلك بأن لكل لغة سرا وروحا. فالكلمة الواحدة تصقلها البيئة والعصر فتبعث فيها حياة ذات صور وحدود قد تختلف جد الاختلاف عن مقابلتها في اللغة الأخرى. وقد تختلف جد الاختلاف عن حياتها نفسها في بيئة أخرى أو في عصر آخر. ما بالك والنقل من لغة بائدة من آلاف السنين، والعلماء الناقلون غير واثقين بكم حياة كل لفظ ينقلونه ولا بكيف هذه الحياة. وأهل هذه العصور البائدة يتصورون العوالم والأفلاك غير تصورنا نحن إياها ... وإذا كان المسيحيون قد اختلفوا في تفسير كتب المسيحية فنتج من خلافهم الكثلكة والأرثوذكسية والبروتستانتية وسائر المذاهب؛ وإذا كان المسلمون قد انقسموا فرقا من سنية وشيعة ودروز ومتاولة وغيرهم؛ وإذا كان الفلاسفة الذين يزعمون الأخذ بالواقع تحت الحس والملاحظة قد تشعبت فرقهم، وإذا كان هذا الخلاف كله حاصلا وليس ثمة نقل من لغة إلى لغة، فكيف تستطيع أن تطمئن إلى ما يقال لك: إنه طقوس عبادة أبيس وغيره من آلهة المصريين. وكيف تسلم بأن ربوبية آلهة تلك العصور كانت تزيد على إيمان سواد المسيحيين بالقديسين والقديسات، وسواد المسلمين بالأولياء والصالحين.
وفيما كان صاحب الدعوة إلى الشاي يتم حديثه كانت الشمس قد بدأت تهبط إلى مغيبها. فاقتعد القرص هام أشجار الجزيرة، وألقى على لجة النهر نظرة خطت فيه سطرا من لجين معسجد. وألهب نوافذ المنازل المقابلة بنور انقلب مع انحدار الشمس نارا تشب في مثل هذا الموعد من كل مغرب لتخبو ساعة المغيب. وسرت في الجو طلائع المساء ونذر الليل المخوف الظريف. وسار من سار إلى جانبنا أكثر سكونا ومهابة.
ثم مر أحد باعة اللبن يقود أمامه بقرة صفراء فاقعا لونها تسر الناظرين، ويتبعها عجل أسود تبدو عليه أمارات الحضارة التي يعانيها في أنحاء العاصمة الكبيرة كل يوم لأخذه بالنظام في سيره تجنبا للعجلات المتباينة الأنواع. فلما رآه صديقنا الأشيب استوقف بائع اللبن وسأله عن عمر العجل، فإذا هو خمسة أشهر؛ واستدنى البائع العجل من أمه ليدر ضرعها، وأخذنا العجب لفعلة صديقنا . فنادانا لنحيط بالعجل وأمه ثم قال: لم يولد هذا العجل من ستة آلاف سنة؛ وهو لذلك يجوب طرقات القاهرة التي لم تشهد الفراعنة ولم تنل شرف حكمهم. وأشهد لو أنه ولد من ستة آلاف سنة لكان أبيسا مقدسا. فهذه غرته، وهذا الهلال في جنبه الأيمن، وهذا ذنبه ذو لونين، وله كل مظاهر الجلال؛ فما كان لأحد من رجال الدين أن ينكر قداسته. ولو أنه أوتي من الحظ أن يولد في ذلك العصر القديم أو أن مصر بقيت إلى اليوم في سلطان حضارة الفراعنة وإيمانهم لكان له شأن غير شأنه الذي نرى، ولكان اليوم في مدينة نيوبوليس لا تقع نظراته الساذجة المملوءة حكمة وحذرا على غير العذارى والنسوة المتجردات، ثم لكان له من احترامهن وعبادتهن غير تلك النظرات الشزر التي تناله من مفتونات اليوم فتيات وعجائز. وليدون له في صور وأوضاع تكفل لهن الخصب الذي يرتجين؛ ولتنافسن في ذلك خاضعات لطبعهن البشري. فأبدت كل من محاسنها ما يأخذ بنظر الإله الشاب وينال رعايته، واتجهت إليه نظرات معسولة من صور وأوضاع تكفل لهن الخصب الذي يرتجين، ولتنافس في شفاه شهية عن لؤلؤ رطب يتألف نوره بين حمرتها الملتهبة. ومالت أعناق عالية تبدو من خلال الشعر الأسود المرسل على الأكتاف كما تبدو تباشير الفجر من خلال ظلمة الليل، وامتدت أذرع ناعمة تشتبك أطرافها داعية مستجيبة. وبدت نهود، وماست قدود، وتثنت خصور، وارتجت أرداف، وتحرقت للحركة سيقان، وماج هذا الجمال الثائر في طلب الحياة يحملها على أضلعه. ثم لوقف العجل بذلك في معرض حي لأكمل ما أبدع مصور المرأة مجلوا في أجمل مظهر وأسناه. وما بالك بمعرض متجردات خلعن عذار الحياء وتيارين في أوضاع الخصب الذي تتباهى به الأمم يوم القيامة. ... لكن هذا العجل العزيز لم يؤت حظ القداسة، فلم يولد من ستة آلاف سنة، ولم تبق ربوبية أجداده آية إيمان لهذا الجيل الذي نعيش فيه. وهو بذلك ليس أسوأ من أي مخلوق حظا، فقد يكون من بيننا من آباؤه ملوك ومن لو رأى الحياة من بضع مئات من السنين لكان ملكا. على أن عجلنا أسعد من غيره من العجول. فهو قد حرم القداسة ومعرض المتجردات الحي، لكنه لم يحرم حضارة المدنية وما فيها من لهو أليم وشقاء مستطاب. ثم لعله في شأنه الحاضر أنعم بالا. فهو ينعم بمعاشرة الناس والدواب نهاره، ويتمتع بالوحدة وبمناجاة الطبيعة ليله، وله من حرية الجري والرتع ما لم يكن لجده الأعلى؛ وربما كان له من ذلك ما يعوضه عن مقام أبيس في قصر زريبته، وعن طعامه الفاخر من نظيف البرسيم ونقي التبن والفول، وعن الاحترامات القدسية التي تقيده ولا تفيده. بل لو أن عجلنا هذا كان عجلا فلاحا لما أعوزنا المنطق عن أن نجد له من المزايا على أبيس ما ينفي حقارته إلى جانبه، وما يصدق معه أن كل فرد من المخلوقات أسعد ما يكون ما وجد في نفسه سعادته، وهو أشقى ما يكون ما فاضل بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين النعماء والبأساء ...
فيما كان صديقنا الأشيب يتحدث كان صاحبنا نجي أبيس يمسح العجل ويملقه والسرور يلمع في عينيه. فلما فاض عنه سروره قطع حديث الأشيب وقال لبائع اللبن: بكم تبيعني عجلك هذا؟
وتمت الصفقة ودفع العربون، وكفل بواب سميراميس بائع اللبن الذي رأى الاحتفاظ بالعجل أياما حتى يحل محله «بو» يدر لبن أمه.
نامعلوم صفحہ