فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
صلى الله عليه وسلم
داعيا لعقيدة جديدة ومصلحا كبيرا.
كان من أثر قيام النبي بالدعوة وإجابة الناس إياه أن اجتمعت كلمة القبائل، ثم جعلوا يسيرون في الأرض ينشرون الدين ويغزون ويفتحون البلاد. وكان من أثر ذلك على الأدب أن راجت سوق الخطابة، وسبقت الشعر الذي كان الكل إلا قليلا في آداب العرب الجاهليين. والسبب في أن سبقت الخطابة الشعر هو كما يقول جرجي أفندي زيدان: «حاجة المسلمين إليها في الفتوح والغزوات والعرب لا يزالون على بداوتهم تتأثر نفوسهم من التصورات الشعرية، سواء سبكت في قالب الخطابة أو في الشعر ... فكما كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر في تقييد مآثرهم وتفخيم شأنهم، والتهويل على عدوهم، والتهيب من فرسانهم، أصبح الخطيب في الإسلام مقدما على الشاعر لفرط حاجتهم إلى الخطابة في استنهاض الهمم، وجمع الأحزاب، وإرهاب الأعداء.» (ص193 ج1).
وهناك لذلك سبب آخر مرجعه الفرق بين الحياتين: حياة الارتحال التي كان عليها الجاهليون، وحياة الغزو الذي شغل به المسلمون. فإن في حياة البدوي الساري على ناقته تهزه بلطف فوق ظهرها ويبعث النسيم والفضاء بخيالاته إلى أقصى غايات التصور، وتعرض عليه صور الأشياء وذكرى من تركهم وهو يهتز في سكينة فوق مركبه ما يدفعه للتغني والحداء والتوقيع، أو بكلمة أخرى ما يدفعه لقول الشعر يذكر فيه كل ما مر بخياله. في حين أن حياة الحرب حين تقف الجموع متأهبة للقتال، ويتوقع الناس الموت لحظة والنصر أخرى، وتتدافع في نفوسهم الإحساسات، أو حين يكونون في مأزق حرج يريدون الخروج منه. هذه الحياة تخلق من طبعها رئيسا يصيح في مرؤسيه بالأمر أحيانا وبالاستفزاز أخرى، أي إنها تخلق الخطابة.
لا شك أيضا في أن ورود القرآن بالنثر وقوله:
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون . لا شك في أن ذلك ليس من شأنه أن يحرض على قول الشعر. والناس في تلك الفترة الأولى من الإسلام كانوا يحرصون كل الحرص على اتباع الكتاب شأن كل أمة عند ظهور مذهب جديد. كما أن الخلفاء كانوا يصرفونهم عن قول الشعر.
هذه النقطة كلها استظهرها جرجي أفندي زيدان في كتابه، واستظهرها في بعض الأحيان بالدقة وضرب الأمثال. ثم ذكر السبب الذي من أجله لم يترجم شعراء هذا العصر في هذا الباب من الكتاب، وذلك أنه ترجمهم (مع شعراء الجاهلية؛ لأنهم نشأوا وتطبعوا بطباع أهلها).
لكنه لم يترجم الخطباء، ولم يذكر السبب في سكوته على ذلك؛ إذ كل ما ذكره لنا عن علي بن أبي طالب - وهو بلا شك من الأدباء الخطباء ذوي القيمة - كلمة بسيطة على الهامش إن صح هذا التعبير، حين تكلم عن الخطابة والخطباء، هي أن خطبه تعد بالمئات، وأنها مجموعة في كتاب (نهج البلاغة). لكنه لم يذكر لنا شيئا عن الصفة المميزة للخطيب في خطبه ولا عن الروح السارية فيها.
وأهم من ذلك سكوته المطلق عن القرآن والحديث كأنهما لا يدخلان في تاريخ أدب اللغة العربية، بينما يدخل الطب والكهانة. وأحسب أن لنا من الحق أن نسأل عن سبب هذا السكوت. لم لم يذكر المؤلف شيئا عن التاريخ الأدبي للقرآن وصلته بالأدب الجاهلي والفرق بينهما؟ القرآن كتاب كريم ذو شأن عظيم، لا في أمر الدين الإسلامي فقط، بل كذلك في أمر آداب الأمة العربية وسياستها وكل جهات حياتها؛ لذلك كنا نود أن يوقفنا كاتب (تاريخ آداب اللغة العربية) على الأصول الأدبية التي استمد منها هذا الكتاب وجوده.
ولقد وضعت نفسي موضع المؤلف، وسألتها عن سبب هذا السكوت فلم أجد جوابا صريحا أقتنع به ... وأخيرا قلت: لعله رأى أن في كلامه عن القرآن والحديث وأصولهما وقيمتهما الأدبية ما يمس بعض العقائد. فليس مما يتصور أن المؤلف لم يجد في ذلك ما يستحق الكلام عنه. أم لعله اعتبر هذه الفترة القصيرة التي جاء فيها النبي والخلفاء الراشدون فترة عرضية في حياة الأمة العربية، ثم كان ما أشار إليه من رجوع العرب في عهد الأمويين إلى الروح الجاهلية. يجعل النظر إلى هذه الفترة كالنظر إلى حادثة طارئة في حياة أمة من الأمم. وليس من الضروري عند تدوين التاريخ التطويل في ذكر الحوادث الطارئة؟ أم ماذا؟
نامعلوم صفحہ