فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
أريد أن أطابق بين مثل هذه الأسطر - والقارئ يقع على مثلها من حين لآخر في عرض الكتاب - وبين اعتبار اللغة ملك السامع فأعجز دون ذلك. ويزيد عجزي حين أريد أن أطبق عليها قوله (ص159): «الألفاظ في كل لغة من اللغات إنما هي أدوات الحياة الذهنية الخاصة بالنفس، كما أن مدلولاتها أدوات الحياة المادية الخاصة بالحواس.»
وإني لا أحسب المؤلف رجلا يمكنه أن يسير في كتابته على القواعد التي يضعها هو. وإنما أحسب السبب في وقوعه أحيانا في النسيان شديد إعجابه بالعرب ولغتهم وأقوالهم وأعمالهم. ومفهوم أن الإنسان يجتهد في أن يتحدى كل ما يعجب به إلا حين يرى هذا التحدي غير صالح. وفي هذه الحالة الأخيرة قد يغلب عليه النسيان. ذلك شأن الرافعي في بعض ما كتب، أي إنه نسيان منه لقواعده.
لذلك نراه في غير هذه الأسطر يكتب بلغة معتادة وبأسلوب معتاد، أي إنه لا يمتاز فيهما بشيء خاص، ولا تظهر له فيهما صفة معينة. بل ترى مادة الحياة قليلة في هذا الأسلوب المتشابه. والسبب في ذلك أن الرافعي لا يدعو لشيء معين فيكون أسلوبه خطابيا. وليست عنده روح النقد الدقيق لتظهر في كتابته، ولا هو متمسك بتقليد الأقدمين فتكون له صبغتهم.
ثم هو في الوقت عينه غير دقيق في انتقاء الألفاظ وترتيبها، بل يجيء أحيانا بجمل تكون من الغموض بحيث تستلزم وقتا طويلا لفهمها، وهي لا تحتوى ما يستدعي ذلك من خبر غريب أو معنى عميق، مثال ذلك ما جاء في صفحة 9، قال: «إن تاريخ الآداب ليس فنا من الفنون العملية التي يحذو فيها الناس بعضهم حذو بعض، ويأخذ الآخر منها مأخذ الأول، وتتساوق فيها الأمم على وضع واحد؛ لأنها لا تتغير على الجملة في تعرف مادتها وتصرف أداتها حتى يتعين علينا أن نجعل آداب لغتنا جميلة على آداب اللغات الأعجمية، يفصل على أزيائها وإن ضاقت به وخرج بارز الهيئة مجموع الأطراف متداخل الأعضاء، وكأنه مشدود الوثاق أو مأخوذ بالخناق.» ولو أنه اكتفى بقليل وقال: «إن تاريخ الآداب يختلف من لغة للغة، وليس من الضروري أن ننهج في الكتابة عن آداب لغتنا منهج الإفرنج (أو الأعاجم إن شاء) حين يكتبون عن آداب لغتهم.» لكان أظهر في المعنى وأقصر في اللفظ، ولوفر على القارئ وقته، وعلى نفسه البحث عن تشبيهات هي على خلوها من الجمال لا تؤدي معنى في هذا المكان.
أمثال هذه الجملة التي نقلنا كثير في الكتاب. ولا ندري لعل اعتبارنا للبلاغة يختلف اختلافا كليا عن اعتبار المؤلف، فإنا نراه يجيء أحيانا بسجعات أو تشبيهات يخيل إلينا أنها لا تتفق والبلاغة بحال. فقوله مثلا في (ص18): «ثم إن موارد هذا التاريخ لم يتولها الكاتب بالذهن الشفاف. ولم يعتبرها بالفطنة النفاذة حتى يكون نبيها كالعراف.» قول قاصر جد القصور من جهة الفصاحة في انتقاء اللفظ، ومن جهة البلاغة في حسن سبك التعبير. كذلك قوله في (صفحة 13): «إنا استفدنا تحقيق معنى اللغات بما يقطع الريب ويمتلخ عرق الشبهة فيما أيقنا به.» أفلا كان الأجمل به أن يتنازل عن «يمتلخ عرق الشبهة»، ولا جمال فيه ولا ضرورة له. ومثل هذا يجده الإنسان في مواضع متعددة من الكتاب.
وهناك كلمة جميلة المعنى لا تسمح لي نفسي أن أغتفر للكاتب إلباسها ثوبا غير جميل من اللفظ. تلك قوله (ص10): «من ذلك تجد الأمة التي لا حوادث لها ليس لها تاريخ.» ولو أنه قال: (لا تاريخ لها) لأعطى الجملة رونقا يزينها.
على أن أسلوب الكتاب وإن لم يكن أسلوبا مثلا في مجموعه وتنقصه غالبا طلاوة اللفظ ودقة التعبير، فإنه يصعد أحيانا حتى يكاد يكون بليغا. انظر إلى قوله (ص165): «فهي (اللغة) في الكفاية سواء يوم كانت لغة الطبيعة البدوية الخشنة لا تلقيها إلا على ألسنة البدو الذين هم الجزء المتكلم من هذه الطبيعة الصامتة، ويوم صارت لغة الحياة المنبسطة تصرفها الألسنة والأقلام في مناحي العلوم والآداب والصناعات التي قام بها التمدن الإسلامي.» وأنت تجد قطعا جميلة كذلك في الفصل الذي كتبه عن أصل اللغات.
وأظن أن السبب في اختيار المؤلف أحيانا لألفاظ غليظة لا جمال فيها ما عنده من الاعتقاد بأن اللغة العربية والخشونة صنوان، وأن الرجل متى سكن المدن ذهبت فصاحته «وبدأت سليقته تتحضر، فكأنما انصدع مفصل العربية من لسانه.» (ص251). وهذه الفكرة الغريبة إن صحت عند العرب فلا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن تصح بين المصريين الذين هم متحضرون بطبيعة بلادهم. أم أن الرافعي يجاهد لينسلخ عن طبيعة مصر؛ ليبقى بذلك عربيا فصيحا. أخشى إن صح هذا أن يقصر دون الأعراب ودون الحضر.
أسلوب البادية تتفق معه الخشونة أحيانا. هذا صحيح. ولكن ليس معنى هذا أن العربي يتكلف الخشونة ليكون فصيحا، وإنما معناه أنها تجيئه بطبيعة الوسط الذي يعيش فيه. أما أسلوب أهل الحضر فإن الخشونة لا تلائمه وهو ينبو بطبيعته عنها؛ لذلك كان الكاتب من أهل الحضر الذي يكلف نفسه الخروج على طبع بلاده يجد نفسه منظورا من قومه وكأنه غريب عنهم وإن أخطأ بعضهم أحيانا في فهم هذه النظرة فظنها نظرة الإعجاب. ولا شيء أدل على ذلك من أن ما يكتب يبقى قراؤه قليلين محصورين في دائرة ضيقة. ويكون شأن المعجبين به شأن ريفي يرى البالون لأول مرة.
ثم إن بعض الكتاب يحب أن يواري عجزه عن بلوغ درجة البلاغة، فيتوارى وراء الألفاظ الغليظة السميكة، ويتخذ لنفسه منها ستارا. وما أظن رجلا تسمو به ملكة القول أو توحي إليه الموجودات بروح الشعر أو تجعله الأفكار يسير بخطى متتالية الأسباب المنطقية واحدا بعد الآخر في حاجة أن يثقل نفسه بكلمات تحتاج إلى الشرح والتفسير؛ مما يدل على عدم دقتها وصلاحها للمعنى المراد منها.
نامعلوم صفحہ