فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
وكأن عناية المؤلف بالتاريخ القديم مقصورة على الفلسفة اليونانية. وهي في هذه أيضا ليست عناية علمية بحال. فأما تاريخ أشور وبابل وقرطاجة فما ذكر عنه قليل إلى حد لا يفيد القارئ منه شيئا. وقد حاولت أن أعثر على شيء خاص بسميراميس الملكة الإلهة ذات التاريخ المجيد في حكم آشور، فلم أجد شيئا خاصا بها، ولم يكن لها ذكر إلا ورود اسمها في كلمة موجزة إيجازا غريبا عن مملكة آشور برغم ما كان لهذه الملكة من تاريخ مجيد وحضارة كبيرة.
لكن هذا الإهمال للتاريخ القديم والآلهة مصر والإغريق وآشور لم يمتد إلى أرباب الأديان الباقية إلى اليوم. فقد تكلم المؤلف عن بوذا. ولعله تكلم عن كونفشيوس. ومع ما أظهره من العناية في هذا الباب الذي يهتم هو له بنوع خاص، فقد كان حديث بوذا قصيرا وكان ينقصه شيء غير قليل من التحقيق، وهو بعد موجز إيجازا لا يروي غلة الباحث العالم، ولا يفيد المتعلم الفائدة العلمية التي يجب أن يجدها. •••
مثل هذا الإيجاز المخل والإسهاب الممل وعدم الأخذ بنهج معين وعدم الاعتماد على قواعد علمية وعلى معلومات ثابتة شائع في أكثر أجزاء «دائرة معارف القرن العشرين». فمع ما يبدي المؤلف من عناية خاصة بالفلسفة لم يذكر شيئا عن جماعة كبيرة من أعاظم الفلاسفة ذوي المبادئ التي قامت ولا تزال قائمة، ولا تزال مرجع الفلسفة. فقد أردنا الوقوف على ما كتبه الفيلسوف الألماني الكبير «كانت» فلم نجد لاسمه ذكرا. ورجعنا نبحث عن الفيلسوف الفرنسي «كومت» صاحب الفلسفة الواقعية، فلم يكن أحسن من زميله حظا. وفيما نقرأ ما كتبه عن كلمة «فلسفة» عثرنا على اسمي هذين الفيلسوفين وعلى ذكرهما عرضا في تاريخ الفلسفة الحديثة، مع الاعتراف بجلالهما وعظيم قدرهما.
والعجب أن أسماء الفلاسفة التي نزلت إلى إدراك الجمهور العادي أن كان أصحابها بين الفلسفة والأدب لم تلق من المؤلف ما يجب لها من عناية ولا من تحقيق. فجان جاك روسو معروف في دائرة معارف السيد فريد وجدي بما هو معروف به عند السواد. هو معروف بكتاب العقد الاجتماعي وبما كان لهذا الكتاب من أثر في الثورة الفرنسية. أما آراؤه في الرجعة إلى الطبيعة وفي الديانة الطبيعية، فقد تجد عنها شيئا فيما ترجمه المؤلف تحت لفظ «تربية» مثلا. لكنك لا تجده واردا عند الكلام على روسو كأن روسو لم تكن له به صلة.
ولعل الأدب الغربي أقل الأشياء ذكرا في دائرة معارف القرن العشرين. فأكابر شعراء الإنكليز: شكسبير وملتن وبيرون لا يهتدى لأسمائهم في ألوف صحفها. وشعراء الفرنسيين وكتابهم ممن طبقت شهرتهم الآفاق أمثال هوجو وشاتو بريان لم يحظوا إلا بأسطر معدودات.
يجب أن نعترف إلى جانب ذلك بأن شعراء العرب وأدباءهم يشغلون مئات الصحف من الدائرة؛ ويكفيك مثلا أن تذكر أن عبد الغني النابلسي قد استغرق شعره ثلاثين صفحة؛ لكنك مع ذلك لا ترى عن عبد الغني النابلسي هذا ما يدلك على شيء من أمره. فمن هو؟ وما مقامه بين شعراء أهل زمانه؟ وما خلاصة رأيه الشعري، هذا ما يجب أن تلتمسه بين السطور التماسا. وهذا الإبهام تجده في كثير من أبحاث المؤلف.
هذا قليل من كثير مما عثرنا عليه أثناء مراجعتنا القصيرة من ملاحظات. •••
الاضطراب بين الإهمال والإسهاب والإيجاز يرجع إلى أسباب ليس انفراد السيد فريد وجدي بالبحث أهمها، إنما أهمها أن ليس للمؤلف نهج ولا خطة؛ ولو كانت ثمة خطة واتبعت لما كانت هذه العيوب واضحة إلى الحد الذي أشرنا إليه؛ ونحسب أن هذا يرجع إلى نوع تربية السيد فريد وجدي العلمية. فهو كثير الاطلاع والمراجعة، لكنه في اطلاعه ومراجعته لا يصدر عن أساس ذاتي خاص؛ لذلك ترى تأليفه متميزا بجمع المعلومات من غير اختيار ومن غير ترتيب. فهو حيث عثر على مقال أو فصل في صحيفة أو في مجلة أو في كتاب استعان - فيما يظهر لنا - بالمقص وأخذ هذا المقال أو الفصل فوضعه في حرف الهجاء الذي يتبعه وفي اللفظ الذي يخصه، وهذا ما يتضح لك حين تراه نقل مقال محمد أفندي كمال عن بناء البيوت من جريدة العلم. وحين تراه نقل مقالا مطولا من مجلة المقتطف عن افتتاح خزان أسوان، مع أن افتتاح خزان أسوان وما ألقي فيه من خطب وما كان فيه من مدعوين لا يجوز بحال أن يدخل في نطاق دائرة معارف. وحين تراه نقل المغناطيس عن مادة الرشيدي الطبية. فإذا هو لم يعثر في مطالعاته العادية على شيء لم يكلف نفسه مؤنة البحث وأهمل الموضوع الإهمال كله، أو اكتفى بالإشارة إليه في عبارة موجزة كقوله تعريفا وشرحا وتفسيرا للرياضيات: العلوم الرياضية هي الحساب والهندسة والجبر وما يتفرع منها. ولو أن للسيد فريد وجدي أساسا ذاتيا من التربية العلمية لما رضي لنفسه هذا النحو من التأليف، بل لو أن له أساسا ذاتيا من التربية العلمية لتردد كثيرا قبل أن يضع دائرة معارف. وربما أدى به التردد إلى الإحجام عن عمل لا يستطيعه إلا عدد عظيم من العلماء.
ولئن كان قد جمع في الصحف العشرة الآلاف كثيرا من المعلومات التي قد تفيد من يرجع إليها إذا هو أخذها على أنها مراجع يجب تحقيقها قبل الاعتماد عليها، وكان له بذلك فضل يشكر عليه، فإن كثيرين ممن لا يعينهم وقتهم أو علمهم على هذا التحقيق قد يضلون في هذه المعلومات، وقد يتخذونها عمدة وحجة ويبنون عليها آراء ونتائج لا يسهل أن تتفق والعلم.
لذلك نود لو أن الأستاذ فريد وجدي كان قد وجه همه إلى ترجمة دائرة معارف كدائرة معارف الإسلام مثلا، ولو أنه فعل ذلك لكان قد حصر موضوعه وأفاد كثيرا من فضل العلماء الذين وضعوا هذا المؤلف النفيس، ويسر لمن يريد الاطلاع سبيل العلم الناضج الصحيح الذي هضمه أصحابه وتمثلوه وجعلوا منه نتائج مبنية على أسباب ومقدمات، لا مجموعة معلومات لم تهضم فقاءها من اطلع عليها، فخرجت مضطربة لا يطمئن إليها إلا من لا وسيلة له إلى غيرها.
نامعلوم صفحہ