فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
والحقيقة أن طرق باب الإصلاح يستلزم قبل كل شيء الإحاطة بحال الأمة، والأمة لا تتكون من اللحظة الحاضرة، بل إن للماضي في شركة حياتنا قسما أكبر مما للحاضر. الماضي هو حياتنا كلها، هو الأب الذي أنشأ اللحظة الحاضرة، وسلطان أبوته سلطان فعال قاس شديد المحال. وإنما يكون الإصلاح بالاستعانة بما في هذا الماضي من حسنات، ومساعدة هذه الحسنات لتسري إلى المستقبل وتنمو فيه، وبمحاربة ما فيه من مفاسد محاربة استئصال وإبادة ... أما مجرد إرسال الرغبات تلو الرغبات، والتعلق بحبال الوهم، فحلم ينقضي مع صاحبه ولا يترك أثرا بعده. والتألم على فوات أمل لم يتبعه عمل تألم الطفل على ما خيل له في حلمه أنه حصله، فلما استيقظ لم يفد شيئا. وحاشا أمة تريد البقاء أن تتعلق بوهم هذا مآله. وإنما عليها أن تعمل للوقوف على ماضيها لتستطيع إصلاح مستقبلها.
وربما كان أحق الناس بالتغلغل في خبايا الزمن واستطلاع حقائق التاريخ جماعة الأدباء والعلماء، ولكن والحال أن أدباءنا ناسون هذا الواجب تائهون في خيالهم وشعرهم وعلماءنا واقفون عند ما خطت أقلام السلف وما ينقل إليهم من أوروبا، فليس من سبيل إلا أن يتولى ما أهملوا قوم قد تساعدهم إرادتهم على التقدم بما يستطيعون من فائدة لسواهم. ولا يكلف إنسان في الحياة إلا وسعه.
لهذا رأيت أن أبحث من جوانب حياة قاسم أمين حياته ككاتب ومفكر اجتماعي بحثا تحليليا أظهر فيه صلة رجل قام بحركة فكرية كبيرة في مصر بمجموع حياة الأمة، ومقدار تأثره بهذا المجموع وتأثيره فيه، وأبين الأصول التي يمكن أن ترجع إليها الأفكار التي قام بها قاسم أمين، والتي كانت من الظواهر الاجتماعية المحسوسة التي ظهرت في العصر الأخير في مصر.
قاسم أمين (2)
من أجل درس رجل من الرجال؛ فيلسوفا كان أو كاتبا أو شاعرا، يجب قبل كل شيء تعرف الوسط الذي عاش فيه والحال النفسية الخاصة به؛ حتى يعلم تأثير هذه البيئة المعينة على هاته النفس المعينة، فإذا تم ذلك تفسر الفيلسوف أو الكاتب أو الشاعر إلى حد كبير.
لهذا نرى للوصول إلى تفهم أسلوب قاسم أمين وأفكاره أن نحلل حال الوسط الذي عاش فيه، والأوساط الأخرى التي قد تكون أثرت عليه في حياته، ثم نبحث من بعد ذلك حاله النفسية الخاصة به، فإذا تهيأ لنا من ذلك ما أردنا كان لنا أن نحلله ككاتب، وأن ننظر في كتبه من جهة أسلوبها، ومن جهة الأفكار التي وضعت فيها. حينذاك يكون قاسم قد ظهر لنا ككاتب ومفكر ظهورا تاما، ونكون في حل من الحكم على قيمة كتبه وما لها في الوجود من حق البقاء. (1) الأوساط التي أحاطت بقاسم
ولد قاسم أمين في مصر، وأقام بها كل حياته إلا سنين قلائل قضاها في فرنسا، على أن هذه السنين القلائل كانت ذات أثر كبير عليه؛ ولذلك يجدر بنا أن نحلل الوسط المصري وأن لا نغفل الوسط الفرنسي. أما سياحاته الأخرى في بلاد الترك والشام، فلم تترك عنده أثرا خاصا، ولم تكن أكثر من موضع ملاحظة السائح المار في ربوع تلك البلاد. ويجدر بنا للوصول إلى نتيجة ما من بحثنا الوسط المصري أن نعنى به من جهتين، وبتعبير آخر: أن ندرس منه نوعين: أولهما الوسط الطبيعي، والثاني الوسط الاجتماعي للعصر الذي عاش فيه قاسم. ذلك بأن الوسط الطبيعي ذو أثر كبير في الناس الذين يعيشون فيه، وبالأخص فيما يتعلق بخلقهم. والوسط الاجتماعي هو صاحب الأثر الأكبر في تشكيل أفكارهم. (1-1) الوسط الطبيعي
بينا ترى مصر البرزخ الذي يصل بين الغرب والشرق إذا طبيعتها الجغرافية تضعها في عزلة عن العالم بشكل غريب؛ فالصحاري تحيط بها شرقا وغربا وجنوبا، والبحر المتوسط يحجبها عن بلاد الشمال. ووسط هذه العزلة المنقطعة ينساب نهرها المبارك الغدوات الميمون الروحات، يظل واديه طقس متشابه دائم الابتسام، وسماء صافية لا تتلبد بجهام، وجو معتدل وشمس دائمة وصفو وسكينة. تجوب الوادي من أقصاه إلى أقصاه فلا تقابلك عقبة تحتاج مجهودا لإزالتها، ولا تثور عليك من ثائرات الطبيعة ريح أو زوبعة أو مطر، بل تراك تسير بين جبلين يقتربان حينا فيحدان الأفق دون مرمى نظرك، ويبتعدان أحيانا فلا ترى دون الأفق مما يجلل أرض الوادي إلا النبت النامي والأشجار اليانعة وأسراب الطير السانحة والبارحة.
وسط هذه المزارع الواسعة ترى الدواب في سكينة أشبه شيء بسكينة الخلد، وأكثرها من تلك الدواب الهادئة المطمئنة إلى عيش السكون. فالثيران واقفة وسط مزارع البرسيم أيام الشتاء لا تتحرك من مكانها، والحمر مدلاة رءوسها الفارغة لا تهتم بأكثر من أن تنال علفها القريب منها. وقل أن تجد سوى هذين النوعين من أنواع الحيوان إلا ما قام الزينة أصحابه.
بل إن الحيوانات المستوحشة مما يوجد في البلاد هي على قلتها حيوانات ضعيفة مستسلمة؛ فتلك الذئاب الضئيلة الضعيفة لا ترى إلا نادرا، ولا يسمع أحد أنها شنت الغارة يوما على مخلوق مما يعيش قريبا منها. وهاتيك الثعالب المستميتة لا يعلم عنها إلا اعتداؤها أحيانا على بعض منازل الدجاج. وهذا أشد الحيوانات مما يوجد في مصر حركة وافتراسا. وليس هناك سواهما إلا ما هو دونهما بمراحل في الضآلة والضعف والاستسلام؛ حيوانات كلها لا تهيج طائرا ولا تبعث إلى موجود هزة الخوف.
نامعلوم صفحہ