فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
وهذه الفكرة البسيطة العظيمة، وهذه الطبيعة المترامية الأطراف التي يظل يجوبها من طرف إلى طرف طول شبابه، وهذا الاستسلام للطبيعة وللفكرة التي ألهمتها الطبيعة إياه - ذلك كله هو ما تراه واضحا جليا في كتبه، ظاهر الأثر في أسلوبه. •••
كان لوتي يجوب البحار مستسلما لهواجسه، رازحا تحت حمل فكرة العدم، «يدس الموت بسمه في حياته فيفسد عليه لذتها وينغص عليه شهوتها.» ولذلك كان إذا رسا به السفين عند الشاطئ يندفع مع زملائه يريد أن ينسى نفسه في لذائذ الحياة وشهواتها تخلصا من عبء فكرة العدم والموت. وكان بطبعه سريعا إلى الانخراط في البيئة التي يحل بينها وإلى تقمص روح الطبيعة، والناس الذين يحيطون به، وإلى العيش كما يعيشون، وإلى المتاع بما به يمتعون؛ فكان تركيا في تركيا، مصريا في مصر، يابانيا في اليابان، مستوحشا في تايتي. وكان يرى في الحب خير متاع ينسى به ألم الحياة، كما كان يرى فيه خير مطية تنقله فوق لجة الحياة إلى ساحة العدم؛ وأنت لذلك لا ترى في كتبه إلا وصفا للطبيعة المحيطة به يشعرك بمبلغ حبه لها، وبأنه فني فيها فانطبعت بكلها في خياله؛ وتحدثا بعيشه بين أهل البلاد التي نزل فيها على صورة حياة أهلها؛ وقصصا لحكايات حبه للفتاة التي تمثل في هذا الوسط مجموع جمال الوسط مجسدا في المرأة. ثم تبدو من خلال ذلك الوصف وهذا الحديث والقصص فكرة العدم والموت من حين إلى حين، وتبدو في صورة محزونة تدلك على مبلغ ما وخز الألم لوتي حين مرت هذه الفكرة المخيفة بخياله المستسلم لملذات الحياة.
وأنت ترى كذلك في كتب لوتي ما يجعلها أشبه بالذكريات كتبها صاحبها لنفسه، فوصف فيها ما رأى وما سمع، وما أحسه وما اندفع نحوه، وكأنه يريد بهذه الذكريات أن يزيد في متاعه بالحياة، وأن يجمع حوله في كل لحظة من لحظات الحاضر صورة ذلك الماضي المتعاقب بملاذه وشهواته وآلامه ومخاوفه، حتى يكون متاعه بالحياة مضاعفا، وحتى ينسى مع هذه الذكريات شبح المستقبل الذي لا يحوي عنه لوتي إلا صورة الفناء الأليمة المحزنة ... على أن هذه الذكريات لم تكن لتكفي كاتبها أداة لنسيان فكرته؛ لذلك جمع حوله حين عاد إلى مسقط رأسه تذكارات شتى من البلاد التي مر بها، فكان منزله مجموعة عجيبة مما في الأرض من عجائب. وكان لوتي، وهو في وكره فوق ثرى فرنسا، يشعر وسط هذه المجموعة بالأرض مجتمعة حوله، وبصور صديقه تحيط به، وبالزمن مجتمعة سنوه تحت نظره.
كان لوتي إذن يحب الحياة ويخشى الموت، وكان حبه شديدا وخشيته شديدة؛ فكان يجمع حوله كل أدوات الحياة يتلهى بها عن شبح الموت، وكان دائم الاشتغال بما يحب وما يخشى، فلم يتسن له أن يبتسم للحياة، ولا أن يسخر من الموت؛ ذلك بأن المحب والخائف لا يعرفان الابتسام، إنما يبتسم من يقف موقف المتفرج. من أجل ذلك كان أسلوبه بين الاستسلام والتهجم، وكان تصويره للأشياء تصوير المعجب بها أو الحذر منها. وكان حبه للمرأة حب امتلاك ليفنى فيها ولتفنى فيه أكثر مما كان حب غزل ليلهو بها وتلهو به، وأكثر مما كان حبا نفسانيا يتشارك المحبان بسببه في المتاع بدقائق الكون وبدائع الخليقة. كان لوتي لا يتخير لحبه إلا فتاة فجة الذهن والنفس، تفتحت عيونها للحياة كما تتفتح عيون الزهر إن حان موعد إزهاره، وبقي قلبها غضا يدفع إلى وجودها شبابا عذبا لا يفتر يبتسم؛ لأنه الشباب ولأنه عذب، كما لا تفتر الزهرة تبعث من أريجها ما دامت في شباب أزهارها لم يجئ عليها ذبول ولا أفول. «فأزياديه» «وفاتوجيه» «وجنان» ومدام «كريزنتم»، وغيرهن كن في عذوبة الشباب جمالا ورقة، وكن في طفولة الإنسانية استسلاما وطفولة. وهن قد بلغن من ذلك أن كن لا يرين في اتصالهن بلوتي خطيئة ولا إثما.
وكان لوتي يعرف كيف يصف هذا الحب المتنقل وهاتيك الطفلات المحبوبات وتلك الطبيعة المترامية الأطراف المتنوعة الأرجاء، كان يعرف كيف يصف، وكان يعرف كيف يرى، وكان يرى كل ركن من أركان الأرض بالعين التي يراه بها أهله، وكان قلما يلجأ إلى الكلمات المبهمة المعنى إلا إذا كان المعنى الذي يريد أن يصيغه مبهما لذاته. مع ذلك كان عدد كلماته محصورا حتى لا تكاد تجد كلمة وحشية أو معقدة أو مهجورة. وما للوصف والكلمات المهجورة أو المعقدة أو الوحشية، إنما يصف الكاتب ليرى القارئ من غير حاجة لمنظار معظم، وليس منظار يحتاج إليه القارئ أتعس من القاموس يلتجئ إليه.
على أن لوتي كان كثير التكرار في وصفه، ليس ما يمنعه من أن يصف مغرب شمس اليوم ليعود بعد قليل فيصف لك مشرق شمس غد ثم مغربها، وليس ما يمنعه من أن يصف سفحا من سفوح الجبل ينتقل منه إلى وصف السفح المجاور له. وقد يجد الناس مثل هذا التكرار مملا، لكن للكاتب الوصاف عذره؛ فالشمس تشرق كل يوم وتغرب كل يوم وليس يضعف ذلك من أن كل مشرق شمس جميل. وأنت تتمتع كل يوم بصور متاع متشابهة، فلا يصدك عن المتاع بشيء غدا أنك متعت بمثله اليوم، بل لقد يكون في التكرار لذة لذاته، وقد يكون التكرار مضاعفا للذة؛ لأنه يضاعف قوة الإحساس بها. والصحيفة التي يكتبها الكاتب المجيد كمشرق الشمس أو كسفح الجبل أو كساعة الحب، تود لو تعود إليها، فما بالك لو أنك رأيت مشرق الغد فكان أكثر من مشرق اليوم بهجة، وإن كان أقصر منه حينا، أو لو أنك رأيت سفح الجبل غدا فإذا أزهار جديدة تفتح عنها أكمامها فتزداد بشذاها متاعا والتذاذا.
فالتكرار لا يمل لذاته، وإنما يمل منه ما زاد عن الحاجة، وليس كاتب مجيد إلا يعرف مقدار هذه الحاجة وإلا تداعت إجادته. وقد ظل لوتي وصافا مجيدا حتى أتى عليه الموت.
وقد لا يعنيك وأنت بين جنات لوتي أن ترى عقلا كبيرا وحكمة كثيرة، إنه ينقلك من وحدة التفكير إلى ساحات العالم الواسع، وهو ينتقل بك من متجمد الشمال حيث تكون بين الصيادين في إسلاندة إلى المحيط الهادي وإلى خط الاستواء، فليس لديك وقت للتفكير. وهو لا يعنى بأن يحبس عنك صور الوجود المترامي لتحبس نفسك على التفكير في ذرة من ذراته، ولو أيقن أن هذه الذرة أصل الحياة ومصدر الوجود. •••
تلك بعض خواطر عن لوتي الذي نعاه لنا البرق أخيرا، وليس يسيرا أن نكتب عن لوتي فنوفيه حقه، وإنما أردنا أن نقف برهة عنده في ساعة ارتحاله إلى العالم الآخر، أو إن شئت فقل في ساعة دخوله من باب الموت إلى ساحة العدم التي كان يفزع من هولها. وحق علينا أن نقف عنده؛ فقد كان شاعر فرنسا، ولكنه كان نابغة من نوابغ العصر، وكان محبا للإنسانية كلها، وكان كلفا بالشرق معجبا به.
قاسم أمين (1)
نامعلوم صفحہ