فی اوقات فراغ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
اصناف
أناتول فرانس (3)
أشهر مؤلفاته
قل بين القراء من لا يعرف تاييس، فكثيرون من رأوها في الأوبرا تمثلها السيدة منيرة المهدية، أو على الشريط السينمائي، وكان أولاء قد أحبوها، لكن الذين عرفوا تايييس في قصة أناتول فرانس أكثر لصاحبتهم حبا، وإن كانوا أقل من السابقين عددا.
وهؤلاء دفعهم حبهم فرأوا تاييس الأوبرا وتاييس السينما، وعشقوا موسيقى الرواية وصورة بطلة الشريط، لكن هذا العشق لم يزدهم غراما بالراقصة القديسة؛ لأن قصة أناتول فرانس تشمل الموسيقى وتشمل الصورة جميعا، فليست نبرة من النبرات ولا جواب ولا قرار يهز نفسك عند سماع أوركسترا تاييس إلا كان له مقابله من هزات النفس أثناء قراءة القصة. فأما صورة الشريط فلا تعدو أن تكون خيالا للحقيقة التي يصورها فرانس. وأنت إلى جانب الموسيقى والصورة مغمور خلال القصة بعالم بديع تخلقه ريشة الكاتب العظيم، فلا تلبث في انتقالك من صفحة إلى صفحة ومن حديث إلى حديث أن تشعر بلذائذ مختلفة تتمتع بها مشاعرك جميعا: يتغذى بها عقلك، وتسر لها نفسك، ويطرب لها فؤادك، ويبتهج بها قلبك، وتنتعش بها عواطفك، ولا يبقى عصب من أعصاب الحس إلا ينال من الاستمتاع نصيبا يذره مطمئنا في نشوته ناعما رضيا.
مع ذلك فتاييس قصة ليس أبسط منها، هي خلو من الوقائع ومن المفاجآت ومن الاضطراب، وهي قد تبدو للنظرة العجلى لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، لكنها لدى إنعام النظر قصة صادقة قوية فيها كل ما في العالم من سخر الحب والألم بالناس. •••
فقد ولد بفنوس بالإسكندرية من أسرة ذات نبل، لكن أهله لم يكونوا يمدونه من المال بما يسد مطامع لذائذ الحياة عنده، فلما كان في العشرين من سنه لقيه راهب دله على طريق الهدى الذي يؤدي إلى لذة الخلد من غير حاجة إلى المال، فنسك وانقطع إلى العبادة في الصحراء بين المتقشفة والمعتزلة، ولم يطل به الزمن حتى صار قديسا بين الرهبان، وصار له تلاميذ وأتباع يأخذون عنه قواعد التقى والإيمان.
وقضى نسكه أن يذكر ماضي شبابه ليقدر شوهه وقبحه، فذكر يوما أنه رأى في ذلك الحين على مسارح الإسكندرية ممثلة تدعى تاييس بارعة الجمال، يثير رقصها البديع شهوات النفوس، وتدفع حركاتها الموسيقية الأرواح إلى الضياع في حمأة الملذات، وذكر أنه اندفع يوما إلى دارها فلم يرده إلا حياء الشباب وضيق ذات اليد، وأثارت هذه الذكرى في نفسه صورة الراقصة ودقائق جمالها الباهر، فاستغفر ربه من نزغ الشيطان واعتزم خلاص هذه الروح من الخطايا لتخلص معها أرواح كثيرة؛ وليكون هذا الجسم الذي أبدعه الله مثلا للجمال دار روح لا يقل عنه جمالا.
ولم يثنه عن عزمه نصح أخ له ذي فضل وتقى، بل ودع تلاميذه وأتباعه وهجر الصحراء، وسار في طريقه إلى الإسكندرية يدعو كل من لقيه إلى حمى الله، ويدعو الله غير وان أن ينزل على تاييس هداه، ولما بلغ المدينة استعار من صديقه القديم نسياس ثوبا ستر به ملابس الراهب، وذهب إلى المسرح فرأى تاييس اكتملت فيها روح المرأة فازدادت بهاء وسحرا، ثم دلف إلى دارها يدعوها إلى حمى الغفور الرحيم.
ولم يجد الراهب عنتا في بلوغ غايته؛ فقد ولدت تاييس في عائلة فقيرة، ونشأت نشأة دينية، وأحبت في طفولتها ألوانا من التقى، وحين ألقى بها الشباب في يم الحياة أحبت فتى عريض الجاه عظيم الثروة أذاقها لذائذ العصر طرا، فلما أترعت كرهته فهجرته فذهبت إلى المسارح راقصة بين الراقصات، فبرزت عليهن بفتنة جمالها ورشيق قدها ولين حركاتها، فسحرت الناس وصارت تاييس الإسكندرية يرتمي عند أقدامها كل عظيم، وينثر تحت نعالها الذهب والجوهر. ثم سئمت هذه اللذائذ المضنية حين خشيت أن ترتسم تجاعيد الزمن على جبينها النقي، فلما ناداها الراهب إلى حمى ربه عاودها رجع من تقى الشباب، فلم يطل ترددها وتبعته حتى بلغ بها دير الأم «البين»، فأسلمها إليها وسجنها في غرفة ضيقة لتطهر نفسها من رجس العالم، ولينسي جسمها لمس الأيدي ومس الشفاه وحرارة الأنفاس ورعشة القبلات.
وعاد بفنوس إلى تلاميذه في الصحراء؛ لكنه عاد عامر النفس بتاييس، فكان لا يذكر غيرها ولا يقترن بعبادته إلا كمال جمالها. فاستغفر ربه واستعان على الشياطين بكل ما في الدين من عون ومدد، ولم ينجه الدين من نزغ الشياطين فترك صومعته وهام، فوجد في الصحراء عمادا رفيعا منفردا، اعتلاه كي يتعرض جسمه للتلف بنار الشمس وزمهرير الشتاء ومياه الأمطار، لعل نفسه تصلح بتلف جسمه. لكن خيال تاييس لم يفارقه، فتولاه اليأس ونزل من عليائه وعاد لهيامه فصادف قبرا خربا فاتخذه ملجأ وسكنا، لكن خيال تاييس لم يفارقه داخل القبر أيضا. وإنه لكذلك إذ مر به رهبان عرف منهم أن آية من السماء دلت كل ناسك على أن أنطوان رئيس متدينة الصحراء قد آن له أن يلقى ربه، وأن النساك جميعا قد هرعوا إليه كي يباركهم قبل موته. فسار بفنوس معهم وقد ملأ الهم نفسه أن تجافت آية السماء عنه، فلما كان عند أنطوان تضرع إليه أن يباركه وأن يستغفر الله له، فاستدنى أنطوان بولس الساذج ليتكلم، وانفتحت السماء أمام الساذج فرأى من أمر ربه أن تاييس توشك أن تموت يحفها الإيمان والخوف والحب، وأن بفنوس سيبقى يعذبه الغرور واللذة والشك، وأعلن ما رأى، فانطلق بفنوس وقد انقلب شكه يقينا وإيمانه كفرا، وجعل يلعن السماء والآلهة، وأسرع يطلب تاييس في بيت «البين» يريد أن يضمها إلى صدره، ويستمتع وإياها بالحب ولذته، ويدفع إليها من حياته حياة تمد في أجلها وتغفر له ما أذنب في هدايتها. وألفاها في النزع تستقبل فجر صباح الأبد وترى الملائكة والقديسين، فناداها ألا تذعن للمنون وأن تبقى لتحب، فلا حق في الحياة إلا الحب. لكن تاييس ارتضت الموت بعدما استنفدت الحياة، وتركت هذا البائس المسكين يلقى من «البين» ومن عذاراها لعنة لم تزعجه بعدما كفر.
نامعلوم صفحہ