هو تدبير علمه الإسلام للناس، ودعاهم إليه، وعمل لتحقيقه، لكنه ليس إلا أملا مثاليا دفع إليه الحياة، وهذا الأمل المثالي مهما يكن له من قوة الدعوة وصحة النظرة، ولطف التدبير، وحسن التناول، فلن يأتي على الواقع الطبعي نسخا وتبديلا، ولا إعداما وتبديدا، وإنما يحاول أن يوفق ما استطاع بين غايته وبين هذا الواقع، أو إن شئت الدقة في الملاحظة، فقل إن نواميس الحياة تعمل لهذا التوفيق عملا يحقق المستطاع من تلك المثالية، بقدر ما تستعد الواقعية لتقبلها ومجاراتها، وقد يكون هذا الاستعداد قليلا وضئيلا فتكون النتيجة المتحققة من التوفيق بين المثالية المرجاة والواقعية المحتكمة، نتيجة يسيرة هينة، وبطيئة متأخرة. خذ لذلك مثلا قريبا، لك بالحديث عنه عهد قديم، هو العصبية العربية، فقد أنكرها الإسلام وحاربها، وقاوم مثيراتها، فهل ترى الحياة منذ قال الإسلام ذلك ودبر له، قد غيرت طبيعة العرب واستلت العصبية من نفوسهم استلالا ردهم أبرارا غير متدابرين ولا متناحرين؟! لعل الحياة إنما جرت في مجراها الواقعي، متأثرة في ذلك بالممكن من مقاومة العصبية، وكان ذلك الممكن قليلا يسيرا، ففتكت العصبية العربية بالشخصية العربية نفسها، والنفوذ العربي ذاته، على ما هو معروف مقرر، وكان ذلك قريبا بعد يسير من ظهور الدعوة الإسلامية. •••
فوجه الرأي في هذه المسألة أن دعوة الإسلام كانت عاملا مقاوما، أو ظرفا غير ملائم لشيوع الوطنية واحتكام الإقليمية؛ فأخر ذلك ظهور الوطنيات، واستقلال الدولات حينا ما - ربما لا يكون طويلا في عمر الأمم - ولكنه لم يوقف ذلك أبدا، ولم يعدمه أبدا. ثم أثر ذلك في صرف بعض قوى الأمة إلى نواحي الإخاء الشامل خارج حدود البيئة والإقليم، فأخفى بعض الخصائص الإقليمية مؤقتا، أو غطاها إلى حين ما، ولو تركت تعمل عملها دون مقاوم معوق، وفي ظرف ملائم مناسب؛ لسخرت كل قواها لإظهار نفسها، وتثبيت شخصيتها، فكانت تظهر الوطنية مبكرة، وتبدو الشخصية الإقليمية بطابعها الواضح في كل شيء لا يزاحمه ظل من نسيان، ولا جنوح إلى تأخير أو تنحية، في سبيل إرضاء عواطف دينية أو اجتماعية، تؤيدها عقيدة أو فكرة مسيطرة يدعى لها.
ومن ذلك مثلا أنك ترى الحجاز بمدنه ومعالمه، يحتل مكانة واضحة في الآداب الإقليمية المختلفة شرقا وغربا، بفضل العقيدة الدينية، وأنه مركز الحرمين المكي والمدني، وموضع شعائر فريضة الحج، فترى شعر التوسل، والمدح النبوي، يظهر في الأقاليم المختلفة كذلك، ويتردد في آدابها ذكر الأماكن الحجازية كثيرا، مهما تكن ظواهر الإقليمية في أدبها واضحة قوية، ومهما يكن لها من شخصية جلية واضحة المعالم؛ لأن هذه الاعتبارات الدينية خليقة بأن تداخل ذلك كله، وتخالط ملامحه ومعالمه. أما أن ذلك أو أكثر منه من الاعتبارات، يدعونا إلى اطراح مشخصات البيئة وخصائصها، فننكر أثر الحدود الجغرافية القوية الفاصلة، ونهمل مقومات الشخصية؛ لأن البيئة قد امتد أثر أهلها إلى خارج حدودها الأرضية، أو ظهرت آثارهم فيمن حولهم من مناطق أو أناسي، فذلك ما لاحظ له من الصواب. وليس من الحق في شيء أن يمضي قائل بالمصرية على غير هدى، فلا هو قال بفكرة المتساهلين المتوسعين بين المفترقات والمختلفات، ولا هو حافظ على دقة المدققين الذين يريدون أن يثبتوا الفواصل والفروق، ولو دقت واستبهمت! ذلك ما لا نحبه لأصحاب المصرية، وإن كان لهم عذر ما في فترة الانتقال الحاضرة.
والآن وقد وضحت فكرة المصرية، وجادلت الإقليمية عن نفسها نريد لننتقل إلى وصف المنهج الذي تحب أن تخضع له دراسة هذا الأدب.
كيف ندرس الأدب المصري؟
(1) أدب وتاريخ أدب
كان القدماء يدرسون المتن الأدبي من النثر والشعر على النحو الذي نعرفه، فيخدمونه لغويا، ونحويا، وبلاغيا ، وبعد تفهمه باستخدام هذه المواد وما إليها؛ يتذوقونه، وينقدونه على هدى هذا التذوق الفني، وكذلك فعلوا في كتب الأمالي والمجالس، أو في كتب الموازنة والنقد. وأثناء هذا الدرس كانوا يوردون ما لا بد منه لفهم النص من خبر أو قصة، يتم بها فهم ملابسات المتن. وجوه الزمني أو المكاني أو النفسي، الذي يزيد فهمه وضوحا وبيانا، فكانوا يدرسون مع المتن «ما حول المتن» من هذه المبينات، كما نراهم في جمع دواوين الشعراء، يوردون في ثنايا القصائد ما لا بد منه من ذلك، فيذكرون زمن القصيدة وسببها ومن قيلت فيه، وما قيلت فيه، ويستوفي شراح الدواوين ما وراء هذا من بيان ذلك الجانب الذي سميناه «ما حول النص».
تلك هي دراسة الأدب، أما ما بعد ذلك من تاريخ الحياة الأدبية جملة، والنظر فيها من هذا الجانب نظرا مفردا، وتبين خطى سيرها ونظام تنقلها، فذلك ما لا نعرف لهم فيه البحث المفرد ولا العناية الواضحة. ولعل ذلك لما كان يطمئن إليه العقل إذ ذاك في فهم التاريخ وتصوره مقصورا على التاريخ السياسي، بأخص معناه، وإدارة الحياة على الحكام وعهودهم وولاياتهم ووفياتهم، وما يتصل بهذا.
ولما تقدمت الفكرة في درس التاريخ، وبدا للمفكرين أن جوانب الحياة المختلفة تستحق من الدرس المفرد ما تستحقه الحياة السياسية أو أكثر منه، كانت ظواهر الحياة الأخرى موضع التاريخ المبين لأدوارها وخطاها في نظام لا تضبطه سنون الحكام، ولا أسماء الدول، وألقاب الأسر. فالحياة الاقتصادية مثلا لها سيرها الذي يؤرخ في جوه ومؤثراته دون وقوف عند السياسة، ولا ضبط لمعالم مسير هاتيك الحياة الاقتصادية بعصر فلان أو حكم فلان. وكذلك الحياة الدينية مثلا، ومن تلك الجوانب في حياة الجماعات، حياة الفنون بعامة، وحياة الأدب بخاصة. وهكذا ظهر تاريخ الأدب وقسم، وتقدم به الزمن فارتقى، وخدم بما لا بد منه من النظر في المؤثرات على تلك الحياة الأدبية والفنية، وانتقل ذلك فيما انتقل إلى الشرق المتأثر بنهضة الغرب، فكان لنا تاريخ للأدب العربي، يتقسم عصورا وعهودا لا يعنينا هنا أن تكون قد ضبطت بما يصح ضبطها به، أو بما لا يصح به ذلك، كالسياسة في معناها الساذج مثلا.
1
نامعلوم صفحہ