ومهما يكن من شيء فالقصر والمساجد ودار العلم كانت أبرز مراكز الدعوة في العصر الفاطمي، ولما كانت هذه المراكز في القاهرة كان في كل بلد من البلدان مركز للدعوة هو المسجد أو منزل الداعي في هذا البلد. يحدثنا المؤيد في الدين وكان داعيا في أول الأمر بشيراز: «فلما كان يوم عيد الفطر من سنة تسع وعشرين وأربعمائة كنت بيوم قبله مستعدا له في تحصيل فرش وآلة وسجادات يصلي عليها المصلون، ولا يستغنى عنها المتعبدون. فرفع الخبر بأنني أستجمع الجموع للصلاة والخطبة في غد، وأضرب في ساحة داري المضارب والفازات، ولما كان في غد، وهو العيد، اجتمع الخلق الكثير من الديلم للصلاة فصليت بهم، فلما أتممت عكفت عليهم بالوعظ والإنذار ... إلخ.»
44
فالداعي هنا كان يتخذ منزله مركزا للدعوة، ولكنه كان في بلد يخضع لحكم العباسيين، أما في مصر فقد كانت الدعوة ظاهرة مكشوفة تؤيدها الدولة بمالها وسلاحها، فكان الدعاة يتخذون المنازل والمساجد للدعوة دون خشية، وفي المساجد كانوا يلقون مجالسهم التأويلية.
الفصل الثالث
مجالس الحكمة التأويلية
من أجل أعمال داعي الدعاة ونوابه في الجزائر: عقد مجالس الحكمة التأويلية، أو بعبارة أخرى إلقاء محاضرات على جمهور المؤمنين بدعوتهم، يبثهم فيها الداعي عقائد مذهبهم والتأويل الباطن للدين، وهي العلوم التي عرفت بعلوم أهل البيت، والتي هي السر الذي يجب أن يظل مدفونا في صدور الأولياء لا يبوحون به لأحد، فكل المجالس التي عقدها الدعاة هي مجالس تعليمية، ولكن لهذه المجالس درجات، ولكل طبقة من المؤمنين مجلس خاص كما ذكرنا من قبل؛ فللعامة مجلس، وللنساء مجلس، وللخاصة مجلس، وهكذا. ولم تقسم هذه المجالس على حسب الطبقات الاجتماعية لجمهور المؤمنين، إنما قسمت على حسب مرتبة الحاضرين في مدارج الدعوة، فلا يلقي داعي الدعاة على دعاته ما يلقيه على المبتدئين في دخول الدعوة، ولا يلقي على العامة من أهل البلد ما يلقيه على الغرباء، فلكل طبقة من هذه الطبقات أسلوب خاص، وعلوم خاصة، بحيث ينتهي إلى أسرار الدعوة التي يجب ألا يقربها إلا كل ذي قدم راسخة في الدعوة، ومن بلغ فيها مرتبة رفيعة كأن يكون داعيا مثلا.
وداعي الدعاة - ويعرف بباب الأبواب، وباب حطة، وبالحجة - هو الذي يعد هذه المحاضرات، ويرفعها إلى الإمام، فيوقعها هذا بعلامته، ويعيدها إلى كبير دعاته، فيلقيها على المستجيبين في المحول أو غيره، فإذا انتهى من قراءتها مسح على رءوس الناس بعلامة الإمام تبركا بها، وتكتب هذه المجالس عادة على أنها صادرة من الإمام فتظهر للجمهور وكأن الإمام هو الذي كتبها، وأن داعي الدعاة هو قارئ لما كتب الإمام؛ ولذلك يختفي اسم الداعي ولا يظهر في كتب المجالس، مع أن المعروف أن حجة الإمام هو صاحب التأويل في عصره.
تبدأ هذه المجالس عادة بحمد الله، والصلاة على نبيه، والأئمة من نسل علي، ويردفها الداعي بشيء من الوعظ والإرشاد، ثم يبدأ في تأويل آية من آيات القرآن، أو حديث نبوي، أو أثر عن الأئمة، أو يئول شيئا من فرائض الدين العملية، ويختم مجلسه بالدعاء والصلاة والحمد. وتلقى هذه المجالس مرتين في الأسبوع: يوم الإثنين ويوم الخميس، ويخيل إلي أن مجالس يوم الخميس كانت للخاصة، وفيها يقول المؤيد:
يا صباح الخميس أهلا وسهلا
زادك الواحد المهيمن فضلا
نامعلوم صفحہ