النسب النبوي
من الخيام إلى حومة السياسة
الأمير فيصل في الحرب
معان وعمان
مناطق الفوضى
لجنة الاستفتاء الأميركية
مرجعيون
ملك سوريا
ميسلون
المعركة الأخيرة
الجو المكفهر
الأزمة الأولى
محاولات ومراوغات
جهاد الملك فيصل
فيصل العرب
فوز الملك فيصل
شغل الملك
المناقب
نحن وهارون الرشيد1
رسالة إلى فيصل
النسر العربي1
سجل الحوادث البارزة في حياة الملك فيصل
تذييل
النسب النبوي
من الخيام إلى حومة السياسة
الأمير فيصل في الحرب
معان وعمان
مناطق الفوضى
لجنة الاستفتاء الأميركية
مرجعيون
ملك سوريا
ميسلون
المعركة الأخيرة
الجو المكفهر
الأزمة الأولى
محاولات ومراوغات
جهاد الملك فيصل
فيصل العرب
فوز الملك فيصل
شغل الملك
المناقب
نحن وهارون الرشيد1
رسالة إلى فيصل
النسر العربي1
سجل الحوادث البارزة في حياة الملك فيصل
تذييل
فيصل الأول
فيصل الأول
رحلات وتاريخ
تأليف
أمين الريحاني
جلالة الملك فيصل الثاني.
النسب النبوي
إن في سلسلة نسب الملك فيصل، التي لا يعتريها شيء من التقطع أو الخلل - بشهادة علماء الأنساب - حلقات عديدة عادية المعدن ركيكته، وحلقات ذهبية بارزة. وبكلمة أخرى، إن بين أجداده المتحدرين من بيت الرسول كثيرين من خاملي الذكر، لو دونت أسماؤهم لشغلت - دونما فائدة - صفحات من هذا الكتاب.
على أن ثمة أسماء جليلة بارزة هي من السلسلة بمنزلة القمم من الجبال، وأية سلالة يا ترى، تتساوى فيها الرفعة وتتماثل الأعمال! فقد غمرت السلالة الهاشمية أحقاب من الزمن، ذهبت فيها الصولة، وضاعت السيادة، فأمسى الاسم الشريف مرادفا للخمول والنسيان.
وكان يظهر بين كل حقب غامر وآخر، وإن طالت السنون، شريف نابع قوي، كبير الخلق، طائل الصولة؛ فيجدد في البيت عظمة إرثه، وعزة نفوذه، يعيد إليه سالف مجده، فيتصف خاصة به، ويعرف بعد ذلك باسمه؛ فنقول مثلا موسى الجون، وهو أقدم الأسماء المجيدة بعد الحسن والحسين، وذو عون أحدثها.
وقد تنازع السيادة في الحجاز ذو عون وذو زيد، البيتان الهاشميان الحديثان، في أوائل القرن الماضي، فكانت الغلبة لذي عون، وظلت ولاية مكة وسدانة الكعبة في أيديهم حتى نهاية الربع الأول من هذا القرن العشرين.
وهاك في السلسة بعض حلقاتها الذهبية البارزة:
موسى الجون من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب.
قتادة بن إدريس من سلالة موسى الجون.
محمد ابن نمي من سلالة قتادة.
محمد عبد المعين بن عون بن نمي.
الحسين بن علي ذو عون ملك الحجاز: علي ملك الحجاز سابقا − عبد الله أمير الأردن − فيصل الأول (غازي − فيصل الثاني − ملوك العراق) − زيد.
من الخيام إلى حومة السياسة
وجاءت البشائر بسلامة الأم، وبالولد الثالث للشريف حسين بن علي من زوجته عبدية ابنة عمه؛ الشريف عبد الله.
وكان ذلك في يوم من أيام الربيع من سنة 1301ه/1885م، فأسمي الطفل فيصلا، وحمل في يومه الثامن إلى عرب عتيبة خارج الطائف للرضاع؛ عملا بتقليد هاشمي قديم، يبدأ بمحمد بن عبد الله الذي أرضعته حليمة من بني سعد.
ودرج فيصل من الخيام، وترعرع في حضن البادية، فعدا حافيا مكشوف الصدر والرأس، في الشمس المحرقة، وفي الليالي المقمرة. وتبارى وصبيان العشيرة في العدو، وفي القفز، وفي ركوب الخيل ورمي السهام، وهم جميعا إخوان، أبناء الصحراء، وأبناء الحرية والمساواة.
ولكن الحرية والمساواة تختلفان وتتنازعان حتى في البادية، والصبيان صبيان في كل مكان.
وصاح صائح حول الخيام: «الغزو الغزو.» وكان أولاد العشيرة قد انقسموا قسمين ليمثلوا أهم الفصول في رواية البدو.
وأغار العربان الصغار، بعضهم على بعض، وكان فيصل ابن الشريف مقداما مغوارا، فغنم كوفية أخيه في الرضاع، وغنم قضيبه، وكان كلام وكان خصام، فتفاخرا، وتضاربا. وكادت المعركة تتحول من دور التمثيل إلى الحقيقة الدامية، لو لم يسرع الشيخ من خيمته، والخيزرانة بيده.
فتقدم الولدان واحتكما إليه، فسمع لهما ثم للشهود، وقال مخاطبا ابن الشريف: «اسمع يا فيصل، أنت ولدنا وهذا خويك، ولا مفاخرة. إن أحسنت إليه أحسن إليك، وإن أسأت أساء.»
هذه هي الأمثولة التي تعلمها الولد فيصل في البادية.
وفي تلك الأثناء كان أبوه الحسين يلعب لعبة سياسية، حول أوتاد الدولة العلية، فرأى الباديشاه أن الأفضل له وللعرب أن يكون هذا الشريف في الخيام من أن يكون خارجها، فاستدعاه إليه، فلبى الشريف حسين الدعوة، مصطحبا أهله وعياله، وأقاموا في الأستانة ضيوف السلطان - وقل أسراء الكرم السلطاني - سبع عشرة سنة.
وكان الشريف حسين، مثل كل عربي شريف، غيورا على اللغة العربية وآدابها، فاستخدم شابا سوريا من دمشق معلما خاصا لأولاده.
وجاء ذات يوم المعلم صفوت العوا يشكو فيصلا إلى أبيه: «هو كسول، يا مولاي، ومتأخر دائما في مثائله، وقد هددته بالقضيب إذا كان لا يجتهد مثل أخيه عبد الله.»
فقال الحسين: «اضربه، يابني، ولا تخف.»
ثم استدعى فيصلا إليه، وقال له: «يا فيصل، إن كنت لا تجتهد في التحصيل اليوم تندم غدا، ولا تظن أنك شريف، وأن هذا يكفي؛ الشريف يابني شريف بعلمه وعمله، شريف بأدبه وأخلاقه.» •••
وكان الشريف فيصل في النصف الأول من العقد الثالث من عمره، عندما عاد إلى الحجاز مع أبيه، الذي تقلد منصب الإمارة في مكة، وعينه مديرا لشئون البدو، فكانت وظيفته تستوجب الحملات التأديبية من حين إلى آخر، فيخرج وأخاه عبد الله بحملة على الغزاة والمتجاوزين.
وفي سنة 1902، عندما ثارت عسير على الدولة، واحتل رجال ألمع الأشداء أبها باسم الإدريسي، وهموا بالزحف على الحجاز؛ جهز الشريف حسين حملة، بلغ عددها سبعة آلاف، وسيرها على الإدريسي بقيادة الشريف فيصل. مشت الحملة في صيف ذاك العام إلى تهامة، فاستولت على القنفذة، وكان هدفها بعد ذلك أبها.
وكان في تهامة أعداء ثلاثة يحولون دونهم ودون العدو الآخر المحصن في الجبال، ثلاثة أعداء قهارون ذباحون للجيوش؛ هم الحر، والعطش، والحمى. وقد تغلبت الحملة على اثنين منهم، ووقعت في قبضة الثالث، فأجبرت على الإناخة، وأسرت في الخيام، فهل استولت الملاريا على الحملة كلها؟
أراد فيصل ذات يوم أن يتحقق مقدار النكبة، فأمر أحد رجاله أن يقف على ربوة ويصيح: «العدو، العدو! دونكم العدو!» فرددت الصيحة في الخيام، وما استطاع أن ينهض للقتال غير خمسمائة من سبعة الآلاف، فشكر الله ألا عدو هناك.
ولكنه، بعد أن زال الحر، تمكن من الزحف على أبها، فأخرج الجيش الإدريسي منها، ثم عاد الأدارسة فاستولوا عليها. ما انتصر في تلك الحملة - والحق يقال - غير الملاريا، التي كان فيصل أشد أسرائها ضنكا وأكثرهم وهنا، فعاد محمولا في كرسي إلى مكة، وقد لزمه أثر هذه الحمى طويلا، فأضعفه وهد من قواه.
ومما كان من نتائج تلك الحملة أن شؤمها سبقه إلى بيته واحتل زاوية منه، ذلك أنه شاع في الحجاز، عندما جاءت أخبار الحملة، أن الحمى أودت بحياة فيصل، وبلغت الإشاعة بيته، فذعرت ابنته الصغيرة ووقعت على رأسها، فأورثتها الصدمة شللا أقعدها، وما نجع فيه علاج الأطباء. •••
وفي السنة التالية انتخب فيصل نائبا عن جده في مجلس المبعوثان، فعاد إلى الأستانة، وكان ذلك أول عهده في السياسة، فجلس مع النواب العرب، وما قاوم رجال الحكومة. وقد تكررت سفراته بين مكة والأستانة، دون نتيجة تذكر. ما لمع فيصل في مجلس المبعوثان، ولا برز بين من كانوا يديرون يومئذ شئون الدولة ويفسدونها، بيد أنه انتمى إلى الحزب العربي، وظل من الموالين للدولة، بل كان في بداءة أمره يقول بوجوب التفاهم بين الترك والعرب، وبالحكم اللامركزي.
وقامت الحرب العظمى، ودخلت تركيا الحرب، وكان الشريف فيصل في سوريا مع جمال باشا، يواصل سعيه في سبيل قومه وسبيل دولته. وكان في الوقت نفسه رسولا بين والده وجمال، وهو الذي بلغه احتجاج الحسين على إعدام زعماء العرب.
الأمير فيصل في الحرب
عندما زار أنور باشا المدينة المنورة في طلائع سنة 1916، سافر في معيته من سوريا وفد من العلماء، بينهم شاب عربي يناهز الثالثة والثلاثين من العمر؛ خصه رئيس الوفد الشيخ أسعد الشقيري بالذكر لدى معالي الوزير، قائلا: «مما يثبت لكم تعلق الموحدين ومكانتكم في قلوبهم أنه بمناسبة هذه الزيارة وجد في معيتكم من آل الرسول
صلى الله عليه وسلم
الأمير فيصل نجل أمير مكة المكرمة.»
وكان الإنكليز قد باشروا باسم الأحلاف مفاوضة أمير مكة يومئذ، الملك حسين اليوم، لينهض بالعرب على الأتراك، فبعث جلالته يعتذر لأنور على عدم تمكنه من زيارته في المدينة المنورة، وأرسل سيفين مرصعين بالحجارة الكريمة هدية منه إليه وإلى رفيقه جمال باشا .
وبينما كانت تقام الحفلات في المدينة لدولتي «الأنور والجمال»، وكان الوزيران الورعان - وقد ظهرا في مظهر الدين وترديا برداء اليقين - يقومان بالمراسم الدينية ويرددان الصلوات، ويجلسان كالتلاميذ في حضرة العلماء ومشايخ الطرق وهو يتكلمون في علم الجهاد ويفسرون الآيات التي لها تعلق بالعلوم الحربية؛ كان الأمير فيصل بك ملازما لهما مشاركا في كل مظهر من مظاهر الحفاوة والإكرام، ولكنه لم يكن ليستوقف الأنظار؛ إذ كان ظله الصغير يومئذ يضيع بين ظلي بطلين من أبطال العثمانيين، وهادمي ملكهم.
بعد ثلاثة أشهر من هذه الزيارة المباركة كان فيصل أيضا من المشتغلين في التهديم، ولم يكن ليخطر في بال الوزيرين أو أحد من حاشيتهما أنه سيكون كذلك، وأنه سيبدأ في البلد الطيب الذي هم فيه، فيهدم الركن العربي من ملك بني عثمان. أما أن الأمر كان يجول في صدر الأمير نفسه فمما يحتمل الريب؛ لأنه لو أدرك أن أباه سينفر قريبا في النفير، لما كان رافق الوزيرين في عودتهما إلى الشام، وكاد يقع هناك في قبضة جمال لولا حيلة دبرها أبوه.
عاد الأمير فيصل من الشام في صيف تلك السنة بأربعة آلاف بندقية وعشرة آلاف ليرة ليجهز حملة من العرب تشترك في الزحف مع الترك والألمان على ترعة السويس، فلما وصل إلى المدينة سمع النفير يستنفر من ظلال الكعبة القبائل لمحاربة الأتراك، «أعداء العرب والإسلام»، فأطاع طبعا أباه الذي كان قد بدأ بتأليف جيش من القبائل تحت قيادة نجله الأمير عبد الله، فانتظم الأمير فيصل في هذا الجيش، ثم أسندت إليه قيادة جيش الشمال المشهور، فباشر عمله في حصار المدينة وتخريب قسم من سكة الحديد قرب العلا ليؤخر في الأقل وصول النجدات من الشام إلى العدو.
وصلت أخبار النهضة إلى سوريا، فرددت صداها الأستانة، ولكن أولياء الأمر هناك لم يهتموا في البدء لها،
1
فأدركوا خطأهم عندما صدرت الأوامر بالزحف ثانية على ترعة السويس؛ إذ وجدوا العرب الذين كانوا قد اتكلوا عليهم يحاربون مع الأحلاف. بيد أنهم لم يأتوا في بداءة الأمر بعمل في الشمال يذكر؛ أي إنهم لم يؤثروا، لا سلبا ولا إيجابا، في حملة السويس الثانية.
الشريف فيصل حينما كان في مجلس المبعوثان في إستانبول.
جلالة الملك فيصل الأول في بداية الثورة في العقبة من أعمال الحجاز.
إني في كتابة هذه النبذة أرجع إلى أربعة مصادر طالبا الحقيقة المجردة من الأهواء والتعصب، ومع ذلك أراني في بعض الأحايين حائرا بين الشهود الأربعة؛ هذا يبالغ، وذاك يجامل، وواحد يزيف الأعمال، وآخر يزخرفها. فقد جاء في كتاب فرنسي طبع السنة الماضية في باريس
2
أن الفضل، كل الفضل، في انتصار العرب في شرقي الأردن هو لشرذمة من الجنود الإنكليز وطابور من الفرنسيين البواسل.
وقد قال المؤرخ الإنكليزي:
3
إن العرب في الحرب خفيفو الحركة، سريعون، مرنون، لا يحملون الثقيل من العدة، وهم في القتال شجعان أشداء.
أما شهادة العرب أنفسهم فأسجل منها ما فيه الاعتراف بفضل غيرهم؛ فقد أجمع من حدثتهم ممن شاركوا في تلك الحملة، وسمو الأمير فيصل في مقدمتهم، على أن الفضل الجم في جمع شمل العربان في بداءة النهضة والتأليف بينهم، إنما هو لشاب إنكليزي يحسن العربية كأهلها، ويحسن كذلك التخلق دون تكلف بأخلاقهم، هو الكرنل لورنس. وقد أخبرني بعض من حاربوا تحت قيادة الأمير زيد أنه لم يكن ليأمر جنوده مرة بالهجوم إلا كان هو في الصف الأول. فإذا فات ذلك الكونت دي غنطو بيرون، المتحامل على العرب والإنكليز تحاملا لا يليق بفرنسي كريم، فكيف يفوته ذكر الكرنل لورنس ولو بكلمة في كتابه؟
إني أسجل الحقيقة كلها، فلا أنسى من له الفضل الأكبر في نجاح النهضة؛ وهو «الخيال» الإنكليزي، الذي لبى دعوته كثيرون من العربان، وفيهم من عشائر القصيم ونجد. قد ينكر جلالة الملك حسين أن أحدا من نجد اشترك في جهاد الأتراك، ولكني اجتمعت ببعض أولئك المتطوعين، فأخبروني بصراحة، عرف العربي بها، أنهم كانوا يحاربون أولا مع الأتراك، فزاد الملك حسين الراتب فانحازوا إليه.
وما كان أمراء العرب أنفسهم ليركنوا دائما إلى البدو؛ فقد قال الأمير علي - الذي كان في المدينة عندما وصل فيصل إليها، فاشتركا في حصارها - إنه لم يتمكن، بادئ ذي بدء، من عمل كبير؛ لأن البدو لم يلبوه دائما، ولم يثبتوا إذا كانوا ملبين. وكذلك الأمير فيصل الذي حاول متابعة الهجوم بعد تخريب سكة الحديد عند العلا، فخرج الأتراك من حصونهم في شهر آب، وحدث بينهم وبين العرب قتال خارج المدينة، خسر فيه الأمير خمسمائة من رجاله، وخسر الأتراك ضعفي هذا العدد، فعادوا إلى المدينة وطفقوا يضطهدون أشياع الشريف من أهلها وينكلون بهم، على أن الأمير لم يتمكن من متابعة ما عده نصرا في تلك الواقعة؛ لأن قواته لم تكن منظمة، وبالأحرى لأن قواته كانت لا تزال من العربان الذين لا يأتمرون بغير أوامر شيوخهم وينفرون من التنظيم.
أما اندحار الأتراك في مكة، فقد أثر تأثيرا عظيما في قوى العدو المادية والمعنوية، فتوقف جمال باشا عن شنق الأحرار في سوريا، وأمر أنور قائد الحامية في المدينة أن يدافع عنها حتى الموت، وضوعفت الحامية في معان للاحتفاظ بخط الحديد، واستؤنفت المواصلة بين دمشق والمدينة بالرغم عما خربه العرب من الخط قرب العلا.
كذلك أوقف الأتراك الأمير فيصلا، فاتخذ لنفسه مقرا حربيا بين العلا وينبع، ولبث ينتظر إنشاء جيش نظامي يدير جيوش البدو؛ إذ إن الإنكليز كانوا قد أسروا كثيرين من العرب وضباطهم الذين حاربوا في صفوف الأتراك، فجاءوا بهم إلى مصر؛ حيث بدأ التجنيد لجيش العرب الشمالي. كان أكثر الأسرى من العراق وسوريا وفلسطين، فلبوا مهللين دعوة الشريف حسين، وفيهم من الضباط الذين اشتهروا بعدئذ في ساحات القتال؛ مثل: جعفر العسكري، وجودت البغدادي، ونوري السعيد، وغيرهم. بيد أن تنظيم هذا الجيش لم يتم حتى أوائل سنة 1917، فلما ظهر في الحجاز ازداد عدد الفارين من جيوش الأتراك المنضمين إلى جيوش العرب.
من أنكر فضل الملك حسين وأنجاله في النهضة لا يستطيع، إذا كان منصفا، أن ينكر فائدتين على الأقل فيها؛ فائدة للأحلاف وخصوصا للإنكليز، وفائدة لعرب سوريا وفلسطين الذين أثارت فيهم مظالم جمال كوامن الضغينة والغضب، فوجدوا في صاحب النهضة الأكبر زعيما يتبعون، وقطب ثأر فيثأرون، ومحط آمال يحققون.
جاءوا - كما تقدم - من مصر، يقود قسما منهم الأمير لواء السيد علي باشا، فانضموا إلى جيش الأمير فيصل الذي شرع يزحف شمالا في شتاء تلك السنة حتى وصل إلى حدود بادية التيه. وكان الأمير علي مشتغلا في ضرب مراكز الأتراك العديدة على جانبي سكة الحديد، فحمى بذلك مؤخر جيش أخيه الذي استولى في زحفه على خط مسافته ستون ميلا يمتد من البحر إلى معان. أما إكليل انتصارات العرب في هذه السنة، فهو سقوط العقبة ودخول الأمير فيصل إليها في 6 تموز، ولم يكن ذلك ليذكر لولا تأثيره الحسن في حركة الجنود البريطانيين في هجومهم على غزة وبير السبع.
كان الجنرال آلنبي قد استلم آنئذ قيادة الجيش، فاعترف بفضل العرب في ردهم سريات الأتراك التي كانت تجيء من معان إلى بادية سينا، فتضرب الإنكليز في مؤخرهم. ولو لم يكن للعرب غير هذا الفضل - أي تأمين مؤخر جيش الجنرال آلنبي - لكفى به فضلا؛ فلولا تقدم فيصل إلى حدود سينا لما ضرب آلنبي غزة وبير السبع، ولولا سقوط العقبة لما سقطت تلك البلدة على البحر التي دافع عنها الترك والألمان دفاعا يستحق الذكر والإعجاب، ولما أعاد الإنكليز الكرة على بغداد لولا ثقتهم بالنهضة العربية ورجالها وجنودها.
جاء في نشرة من نشرات الوزارة الحربية في آب 1917: إن خطة العرب في بداءة نهضتهم لخطة وجيهة فيها حذق وحزم ودهاء؛ فقد خربوا أقساما من سكة حديد الحجاز، واستولوا على مراكز الأتراك إلى جانبي السكة، وكانوا في أعمالهم على جانب عظيم من الجرأة والبسالة، فيتغلبون غالبا على جيش أكثر منهم عددا وأوفر منهم عدة.
وجاء في كتاب الكونت دي غنطو بيرون: «لا قيمة حربية لجموع العرب، فهم يظهرون ويختفون كيفما يشاءون وساعة يشاءون، ولا يستطيعون رد الصدمات الشديدة، بل يتفرقون ويهربون أول مرة تطلق عليهم النار.»
وجاء في الأعمال وهي أصدق الشهود: عندما سقطت غزة في منتصف تشرين الثاني، كانت قد وصلت سريات الأمير فيصل إلى ما بين عمان ودرعا، فهدموا جسرا هناك، وغلبوا الأتراك في واقعة صغيرة قتل فيها خمسة من العرب ومائة وعشرون من الترك، ونسفوا القطار الذي كان مقلا جمال باشا وهو عائد من القدس إلى الشام، وقد كتبت له السلامة.
4
في الشهر الأول من سنة 1918 استأنف الأمير القتال والهجوم، فاتصل جيشه بطرف من جيش الجنرال آلنبي في ناحية البحر الميت قرب رجم البحر، وتجددت الهجمات على معان التي كانت لا تزال في حوزة الأتراك، ثم أمعن العرب في الغزوات شرقا، فوصلوا إلى ناحية الجوف؛ حيث كان الترك يحاولون مفاوضة ابن الرشيد في حايل ليغروه بالشريف. استولى العرب على تيماء، وقطع العرب الخط على العدو، فاستحال عليه بعدئذ إرسال النجدات من معان إلى المدنية. نسف العرب قطارا قرب تبوك مشحونا بالجنود، فقتلوا كل من فيه، وغنموا كل ما فيه مع أربعة وعشرين ألف ليرة.
قد كانت خطة الأمير فيصل في بداءة هذه السنة تنحصر ظاهرا في الاستيلاء على معان، ولكنه أراد في إشغال الترك هناك أن يستولي على بقعة مهمة في شرق الأردن؛ هي الكرك. فأرسل شراذم من جنوده على معان يداومون الهجوم والمفاجآت، وساعده الجنرال آلنبي بما ساق من الطائرات على البلد. قد غنم العرب في هجماتهم مدفعين جبليين، وثمانية عشر مدفعا رشاشا، وثمانمائة بندقية، ومائتي رأس من الخيل، واستولوا على جوف الدرويش؛ فأحاطوا بالعدو ومنعوه من إرسال نجدات إلى المرابطين من الأتراك في الكرك.
كذلك تقدم الأمير - وهو أمين من الغدر - إلى محجته، فقسم جنده قسمين؛ قسما مشى من العقبة فاجتاز خط الحديد شمالا ورد العدو إلى مركز يبعد خمسة أميال من معان، وقسما مشى من وادي موسى فأخرج العدو من مراكزه في الطريق حتى الطفيلة، التي هي على مسافة ثمانية عشر ميلا من البحر الميت. فلما سلمت حامية الطفيلة، اضطرب الأتراك في الكرك وخرجوا بأحد عشر طابورا وبعض الخيالة والمدافع يستعيدونها، فالتقى الفريقان في 26 كانون الثاني على شاطئ سيل الحسا، وهي على مسافة أحد عشر ميلا شمال الطفيلة، فانهزم الأتراك، وكانت خسائرهم أربعمائة من القتلى وثلاثمائة أسير.
لم يقف الأمير فيصل عند هذا الفوز، بل استمر زاحفا حتى وصل بعد يومين إلى البحر الميت، فضرب جيشه مركزا للترك هناك، فأغرق مركبا حربيا صغيرا وعدة سنابك، وغنم كثيرا من الحبوب، وأسر عددا من الجنود. ثم أعاد الأمير تنظيم جنوده، بعد أن ثبت قدمه على شاطئ البحر شرقا، ليواصل الزحف على الكرك. وكان الجنرال آلنبي قد استولى على أريحا وعبر بجنوده الأردن فتقدم نحو عمان. لا شك أن الهجوم البريطاني شرقي الأردن كان عونا للأمير فيما سعى إليه، وكان من حظه أيضا أن الطائرات التي جاءت تساعد الجنرال في زحفه إلى عمان ساعدت كذلك العرب في زحفهم على الكرك التي استولوا عليها في 7 نيسان، فقطعوا عن الأتراك في معان مورد تموين مهم.
معان وعمان
عندما كانت المفاوضات جارية بين الإنكليز والشريف أو بعدها، بعثت الحكومة الفرنسية وفدا من مسلمي الجزائر إلى الحجاز، يحمل إلى أميره تلك الهدية المشهورة؛ تلك الساعة التي رمزت إلى هدية مثلها من خليفة العرب إلى ملك الفرنجة في سالف الزمان. ثم أرسلت بعض المواد والمعدات الحربية، وبعض الضباط إلى جدة ليشارفوا تنظيم الجيش الحجازي، ويظهر أن ثلاثة منهم رافقوا بعدئذ جيش الشمال إلى دمشق.
غني عن البيان أن فرنسا في تلك الأيام كانت تحتاج في بلادها إلى كل جندي تستطيع تجنيده، ولم تكن مشاركتها في الحملة على الأتراك في فلسطين إلا اسمية في البداءة. فشاءت أن تتجاوز هذه الحال ليحق لها كلمة سياسية بعدئذ فيما يختص بمصير البلاد، فأرسلت ثلاثة طوابير من جنود الجزائر وتونس والمستعمرات لتشترك في الدفاع عن ترعة السويس وفي الهجوم على فلسطين، وكانت قد باشرت في أوائل عام 1917 إنشاء الفرقة الشرقية من متطوعي الأرمن والسوريين، فنقلت إلى ساحة القتال بعد فتح القدس من كانوا منهم يتمرنون في قبرص وبورسعيد.
بيد أن هذه العساكر التونسية والجزائرية والسورية، التي رافقت الجيش البريطاني، لم تشارك العرب في شرق الأردن بشيء يذكر. أما الضباط البريطانيون والفرنسيون فليس من ينكر أن بعضهم رافقوا الجيش النظامي وساعدوه في تنظيم العربان وتحريضهم على القتال.
كان عدد من انضم من البدو إلى الجيش العربي يناهز المائة ألف، أما العسكر النظامي فلم يتجاوز الخمسة آلاف، وكان ضباطه كثيرين، ولا غرو بالنسبة إلى عدده، غير أنهم لم يبلغوا عشر ما ادعاه ساسة الفرنسيين المتحاملون على العرب، المشنعون بهم في الصحافة وفي مجلس الأمة.
أعود إلى الحوادث؛ بعد شهر من سقوط الكرك في حوزة الأمير، أي في 8 أيار، ضرب العرب محطة القطرانة وأسروا عددا من الترك، ثم بعد أسبوع هجموا على الحسا، فأخذوا قطارا كان هناك ودمروا قسما من العدة والذخيرة، ولكن العدو أخرجهم بعدئذ من الحسا، فتقهقروا جنوبا وهم يخربون في الجسور والخط.
وكانت قوات الترك تزداد بعد هجوم الإنكليز على السلط وعمان، فالقيادة العامة في الناصرة، عندما وصلت إليها تلك الأخبار - وصلت متأخرة لأن العرب كانوا عاملين بتقطيع أسلاك البرق والتلفون - أصدرت الأوامر بإنجاد الحامية في عمان وبنقل الجنود من الشام وحلب إلى درعا ووادي اليرموك. يصح أن يقال إن أشد أيام القتال على العرب كانت في صيف هذه السنة 1918، وقد ظهرت نتيجة النجدات في تقهقر الإنكليز من عمان والسلط إلى غربي نهر الشريعة بعد واقعة الأردن الثانية.
على أن هذه الهزيمة لم تثبط من عزم العرب، بل حملتهم على استئناف الهجوم والقتال، وكانوا في شهري أيار وحزيران يزدادون قوة بما جاءهم من العساكر النظامية الجديدة من عراقيين وسوريين وفلسطينيين، حتى إنه بينما كان شبه هدنة في ساحات الحرب غربي الأردن في شهر حزيران، كان العرب بقيادة الأمير فيصل وقواده يواصلون الهجوم والقتال، ولكنهم ردوا عن معان خاسرين مرارا، وخصوصا في 22 تموز عندما هجموا على محطة قربها، فكانت خسائرهم عشرين ضابطا ومائتين من الجنود. كان نوري السعيد في تلك الناحية عين الحركة ويدها، فحمل في أواخر آب بألفين من الجنود النظاميين وخمسمائة من البدو وعشرة مدافع حملة على معان أسقطتها بعد قتال عنيف في حوزة العرب.
وصلت هذه الأخبار إلى الشام، فاستيقظت فيها الروح العربية الراقدة ، وطفق الناس يتهامسون مستبشرين بالنصر القريب، بل حام بعض العرب حول المدينة وفيها، مبشرين بفيصل، رافعين علم الحجاز الرباعي الألوان، وشرعت تتحرك وراء الستر وتحت الحجب تلك السياسة التي كادت تقضي عليها مظالم جمال وفظائعه، فاتصل بالأستانة خبرها، فسارع أولياء الأمر هناك إلى إصلاح الأمر. أرسلوا يعرضون على القائد الألماني الجنرال فن سندرس الحكم في سوريا؛ علهم يقاومون بذلك تلك الروح النافرة منهم ويسترضونها، ولكنهم تأخروا فيما اهتدوا إليه من الحكمة الموهومة، وغدا الجنرال في ذاك الحين أشد اهتماما بالهرب منه بالحكم.
صدرت الأوامر بالهجوم العام في 19 أيلول، فتحرك الجنود البريطانيون في خط طوله ثمانون كيلومترا، يمتد من الساحل حتى نهر الشريعة، ولم يقفوا إلا بعد أن أخرجوا الألمان والأتراك من فلسطين والجليل، وجاء العرب من شرقي الأردن يسوقون أمامهم ما تبقى من الجيش الرابع حتى قربوا من درعا، وكانت مفرزة النصر بقيادة جودت بك البغدادي
1
في طليعة الجيش، فضربت الأتراك في درعا في 28 أيلول فهزمتهم، وأسرت منهم عددا كبيرا من الضباط والجنود.
وبعد يومين، في 1 تشرين الأول سنة 1918، دخل الأمير فيصل على رأس الجيش العربي إلى الشام، ودخلت سريات من الجيش البريطاني إلى بيروت.
مناطق الفوضى
عند انتهاء الشهر الأول، أي تشرين الأول، من سنة النصر كانت البلاد السورية قد خلت من جيوش الترك والألمان، فزالت عوامل الحرب الظاهرة، ودخلت الأمة في طور من أطوار السياسة لا يقل بشدائده عن الحرب. أجل، ما كادت تخرج البلاد من مظالم الترك حتى دخلت في ظلمات الفوضى. ولا أظن أن عوامل السياسة - وسمومها - تعددت في بلد من البلدان الصغيرة التي اشتركت في الحرب تعددها وتزاحمها في هذه البلاد السورية، وعلى الأخص في دمشق.
وكانت البلية الكبرى في عوامل السياسة الخفية، جاء الجيش العربي وجاءت معه السياستان العربية والحجازية، وجاء الجيش البريطاني يعضد العرب ظاهرا ويناهض الفرنسيين سرا، فتشعبت سياسة حكومته إلى ثلاث شعب؛ أولها وأهمها وأثبتها المصلحة البريطانية. وجاء الفرنسيون هائجين ناقمين، وفي مقدمة قافلتهم سياسة لبنان، وفي مؤخرها سياسة الموارنة، وفي أولها ووسطها وآخرها سياسة فرنسا في البحر المتوسط.
وكان في البلاد ولا يزال سبع طوائف رئيسية، هي سبع ضربات مذهبية، وفي كل ضربة سبع ضربات وطنية. ثم جاءت اللجنة الأميركية تستفتي هذه الأمة المنكوبة، فزادت بنكبتها بسموم سياستها. أضف إلى ذلك كله وعود الأحلاف والعهود السرية وما فيها من إخلاص كنهه الأخطار، فإذا ما زالت الأخطار زال، ثم حقوق العرب والوحدة العربية وما فيها من أحلام تجلت ساعة العاصفة كقوس قزح في سماء الحرب العظمى، فغدت بعدها كالحباحب في مساء الآمال.
إنك إذا تصورت هذه الحالة العجيبة في شكل دائرة نقطتها البلاد السورية وروح النقطة وحياتها الأمير فيصل، ثم تمثلت السياسات التي ذكرت تحوم حولها وحوله تارة، وطورا تجري كالضباب المكهرب تحتها وفوقها، دون محجة تعرف، ودون قصد ظاهر يدرك، وأضفت إلى ذلك فقدان ركنين من أركان العظمة السياسية، وهما الأمة المتحدة القوية والتقليد الوطني الحي؛ تجلت لك الصعوبات التي واجهت الرجل.
دخل الأمير الشام دخول البطل الظافر، والمنقذ المحبوب، فاحتلت جيوشه العربية ومعهم بعض الجنود البريطانيين البلدان التي فتحت لهم أبوابها وقلوبها مهللة مرحبة، ورفع العلم العربي الرباعي الألوان فوق دور الحكومة من السويداء إلى حلب، ومن دمشق إلى بيروت، فاضطربت على السواحل وفي لبنان أقوام، وطربت أقوام.
على أن العرب في بداءة أمرهم أخطئوا مرتين حربيا وسياسيا؛ فقد أخطئوا في قتلهم الأمير عبد القادر الجزائري، وأخطئوا في إنفاذ شكري الأيوبي إلى بيروت ليحكمها باسم الملك حسين، فما عتمت أن ظهرت في المدينة العقدة السياسية التي حجبتها عن عيون الناس زين الترحيب وأزهار الفوز والتمجيد. أجل، قد امتعض المسلمون أنفسهم من هذا العمل؛ لأنهم كانوا يفضلون أن يقام الحاكم من المدينة نفسها، كذلك يفعل الفاتح الحصيف الحكيم. ولكن الحكم العربي لم يدم أكثر من أسبوع، أمر الأيوبي برفع العلم العربي فوق السراي في اليوم الثاني من تشرين الأول، ثم أمر في اليوم التاسع بإنزاله.
1
وكان القائد الفرنسي الكولونل بياباب
2
قد وصل بجنوده إلى المدينة، فخرجت إذ ذاك السياسة من طورها العربي إلى أطوارها الدولية والمذهبية المتعددة.
إن التبعة في ذلك لعلى الأحلاف أصحاب العهود السرية، والمطامع الأشعبية، والوعود العرقوبية، إليك من فعلاتهم اثنتين ليس بينهما غير شهر واحد من الزمان؛ الأولى منشورهم الذي نشر في أيلول قبل احتلال البلاد السورية، والثانية بلاغهم في الشهر التالي، أي بعد الاحتلال، ذاك البلاغ الذي ينقض كل ما في المنشور.
إني ألخص ما أعلن قبل الاحتلال فيما يلي: إن الغاية التي من أجلها تحارب بريطانيا وفرنسا في الشرق هي تحرير الشعوب الرازحة منذ زمن طويل تحت ظلم الأتراك تحريرا تاما ناجزا، وإنشاء حكومات وطنية تستمد قوتها من أهالي البلاد عملا بإرادتهم، ووفقا لاختيارهم الحر.
أما البلاغ الذي أصدره الجنرال بلس
3
المتعلق ب «إدارة أراضي العدو المحتلة» المؤرخ 22 تشرين الأول؛ فهو يقسم البلاد السورية فيما يشبه الطريقة التي قسمت بها سابقا في معاهدة «سيكس- بيكو» وهي: المنطقة الجنوبية أي فلسطين إدارتها بريطانية؛ والمنطقة الغربية أي السواحل حتى الإسكندرونة إدارتها فرنسية، والمنطقة الشرقية من حلب إلى دمشق إدارتها عربية.
لم يكن في هذا البلاغ ما يرضي أحدا من أصحاب السيادة والمصالح في هذه البلاد؛ لم يرض الإنكليز وهم يصدرونه مكرهين لأنهم لا يرغبون بالفرنسيين في سوريا؛ ولم يرض الفرنسيين لأنهم طامعون بالغنيمة كلها، وكانوا يفضلون الرجوع إلى معاهدة «سيكس- بيكو» التي تضمن لهم أضعاف هذه المنطقة مساحة وأهمية؛ ولم يرض العرب لأن البلاغ سلبهم مناطق هي جزء حي من بلادهم.
بعد إعلان هذه الخطة الإدارية، اضطربت دوائر السياسة في الشام، وكان قد اتفق الأمير فيصل وأولياء الأمر من البريطانيين أن يسافر إلى باريس ليمثل العرب في مؤتمر فرساي، فنزل إلى بيروت في معيته الكرنل لورنس، فدخلها مثلما دخل دمشق زعيما محبوبا، وكان له فيها استقبال فاق استقبال الدمشقيين رونقا وبهاء. نزل الأمير ضيفا على الجنرال بلفين
4
قائد الفرقة البريطانية الحادية والعشرين، وأقام في المدينة ثلاثة أيام، وصرح قبل سفره أنه يطالب باستقلال المناطق المحررة بمساعدة الأحلاف من حكم الأتراك ، وأنه ذاهب إلى باريس لهذه الغاية .
وفي 22 تشرين الثاني سنة 1918 أبحر من بيروت، فاستقبل في مرسيليا استقبالا رسميا، وما كاد يصل إلى باريس حتى استحالت شهرته العربية إلى شهرة أوروبية، بل إلى شهرة حملها البرق على أجنحة الصحافة إلى أقطار العالم المتمدن كافة.
كان الأمير في باريس قطب دائرة باهرة من دوائر السياسة. ولا غرو؛ فهو لطيف في مقابلته، مؤنس في مجلسه، مقنع في حديثه، فأدهش حتى الصحفيين. لا أظن أن الصحافة إجمالا عطفت على قضية من قضايا الحرب عطفها على القضية العربية وحامل لوائها.
وقد أعجب بالأمير كثيرون من السوريين اللبنانيين الذين كانوا يقاومون سياسته العربية بسياسة لبنانية فرنسية. وجاء باريس وفود من سوريي أميركا ليعلنوا رسميا أنهم من أنصاره، فكان - والحق يقال - موفقا في أنصاره ومريديه أكثر من كبار ساسة ذاك الزمان.
ثم جاءه فاضل أميركي يفتح باب الأمل الأكبر؛ الأمل الجديد الأبهر، فتمثل الأمير الفوز على يد أميركا إذا خذلته إنكلترا، ورحب بمساعي رئيس الجامعة الأميركية السابق الدكتور هاورد بليس، الذي كان يعتقد أن الحكومة الأميركية تقبل الانتداب في سوريا إذا طلب ذلك السوريون.
هو ذا الأمير فيصل تتجاذبه العوامل السياسية العديدة، يحوم حوله الزعماء وتتزلف إليه الآمال المائعة، وتشع أمامه مصابيح الصحافة، وتجلس لديه عرائس الشهرة والإعجاب، وتهمس في أذنه المقاصد الدولية كلمات لها كل يوم معنى جديد. ولكنه في باريس، تحت عين الحكومة الفرنسية، وفي ظل ابتسامة أمة نبوغها في تهكمها، بيد أن هذا النبوغ لا يشمل دائما حكومتها؛ فقد أحدث وجود الأمير في باريس ضجة أزعجت تلك الحكومة، فصرح في 29 ك1 المسيو بيشون وزير الخارجية يومئذ بأن لفرنسا حقوقا تاريخية وشرعية وثقافية في سوريا لا تتنازل قطعا عنها.
وكان الأمير لا يزال ينتظر الإذن بالدخول إلى مؤتمر السلم، فرفع إليه بعد يومين عريضة فيها الجواب بما يلي من المطالب على تصريح وزير الخارجية.
طلب الأمير:
استقلال سوريا الداخلي التام مع مساعدة أخصائيين من الأجانب تختارهم وتستخدمهم الحكومة السورية. أما الأمور الخارجية فتكون متصلة بأمور الحجاز؛ أي أن تكون حكومة الحجاز والحكومة السورية حكومة واحدة في الأمور الأجنبية.
تشارف على العراق والجزيرة دولة من الدول العظمى.
استقلال الحجاز مقرر ومعترف به.
أما اليمن ونجد فتدير شئون كل منهما حكومة مستقلة يكون لها اتصال مباشر مع الحجاز.
5
فلسطين مثل العراق تقبل بوصاية أجنبية.
قد حاول الأمير في هذه العريضة أن يوفق بين سياسة بريطانيا وسياسة جلالة أبيه، ولم يغفل فرنسا تماما؛ فهو لم يذكر لبنان اعتبارا لما تدعيه فيه واحتراما لأماني أهاليه، ولكنه عندما طلب أن يدخل المؤتمر ممثلا لجلالة أبيه، أبت الحكومة الفرنسية ولم تقبل أن يحضر الجلسات إلا بكونه قائدا من قواد جيوش الأحلاف، فدخل بهذه الصفة وارتقى في مطالبه إلى الوحدة العربية التي تشمل الأقطار العربية كلها من جبال طوروس إلى اليمن، ومن الموصل إلى حضرموت.
أما في سوريا، فبالرغم عن بلاغ الجنرال بلس، ويصح أن أقول بسبب ذاك البلاغ كانت الأحوال تزداد خللا واضطرابا. وما عسى أن يرجى من العوامل المثلثة في الجيوش الثلاثة، والإدارات الثلاث؟ فقد كانت السياسات الرئيسية تتجاوز الحدود الجديدة؛ إما جهلا من أولياء الأمر، وإما عمدا، فتصدم في كل حال الإرادات والمصالح، وهي في حال الالتهاب، بل كانت البلاد كلها في تلك الأيام مليئة بالمواد المتفجرة، وكان كل من تحرك فيها ممن له شيء من السلطة يحمل على لسانه وبيده النار والكبريت، فلا عجب إذا تعددت فيها حوادث الانفجار.
الملك فيصل الأول في بداية الثورة العربية في سوريا يحيط به رجاله مع لورنس (لورنس الثاني في الجالسين إلى اليسار).
احتل العرب أنطاكية، فجاء الفرنسيون يخرجونهم منها، فرفع فيها العلمان الفرنسي والعربي، وكانت فيها ضجة من جراء ذلك ما بين أحمد والمسيح. احتل جيش بريطاني الإسكندرونة، فجاء الفرنسيون من البحر يحتجون عليهم، فرفع فيها العلمان، وتخاصم تحتهما الفريقان. جاء المندوب السامي جورج بيكو
6
إلى الجنرال آلنبي
7
ذات يوم يحتج باسم الحكومة الفرنسية في أمر من الأمور، فقال الجنرال: أنا لا أعرف لا حكومتك ولا حكومتي، أنا لا أعرف غير الوزارة الحربية. وتسربت الأحقاد من الكبار إلى من دونهم، فكانت المنافسات بين وكلاء الإنكليز والفرنسيين تقلل من قيمة الأوروبيين في عين الأهالي، مسيحيين كانوا أو مسلمين.
أضف إليها تلك الضغائن التي ولدتها الحرب ونشأت بين جنود الأمتين في الخنادق، فانتقلت إلى ساحة السياسة في الشرق الأدنى، وكان أهل سوريا فريسة شرورها؛ ثم الدسائس العربية على الفرنسيين والتجسس لهم أيضا بوساطة أناس من السوريين عدوا يوما من كبار الوطنيين؛ ثم دسائس المسيحيين على العرب وكانت مصادرها تلك المقامات العالية المحترمة؛ مقامات الورع والتقوى؛ ثم صيحات الفرنسيين أنفسهم واحتجاجاتهم المتواصلة المتعددة على الإنكليز، وعلى العرب، وعلى الجيش الشريفي، وعلى القيادة العامة، وعلى الأميركيين والجامعة الأميركية، وعلى كل من قاومهم سرا أو علنا أو رفض أن يعترف بحقوقهم «الثقافية والتاريخية والشرعية» في البلاد.
إنها لحالة عجيبة محزنة يندر نظيرها في العالم، وأدعى منها إلى الحزن أنهم جاءوا إلى سوريا فارغي الوفاض يطالبون بهذه الحقوق، جاءوا يبسطون سيادتهم في البلاد دون أن يبذلوا شيئا في سبيلها، أو يستطيعوا في الأقل أن يحفظوا النظام فيها، فلم يكن لديهم في السنة الأولى من المال والرجال والجنود والأعتدة ما يكفي لحكم مدينة صغيرة، فحاولوا الاستيلاء على المنطقة الغربية، منطقتهم، بما تبقى من الفرقة الشرقية وببضع مئات غيرها من الجنود، فأسقط في أيديهم، وسقطوا في عيون مريديهم.
إن ضعف الفرنسيين، والحق يقال، وقصر ذات يدهم بالنسبة إلى ما كانوا يدعون ويطلبون، لمن الأسباب الأولى في تلك الاضطرابات، ومن تلك الأسباب أيضا جهل أولياء الأمر من العرب؛ جهلهم السياسة الدولية، جهلهم طباع الأوروبيين، جهلهم حتى خطة البريطانيين في أطماعهم، تلك الأطماع التي قيدتها وعودهم في الحرب، فاضطرتهم إلى السياسة السرية في تنشيط العرب تارة، وطورا في تثبيطهم. ومن أسباب الاضطرابات أيضا تعدد الحكومات في البلاد؛ فكان فيها أولا القيادة البريطانية العامة، ثم الانتداب الفرنسي مدعوما بشرذمة من الجنود البحريين، ثم مجلس إدارة لبنان، ثم الحكومة العربية، ثم رجال الدين والأعيان.
والكل سارعوا كالأولاد إلى احتلال كراسي السيادة والمجد؛ فقد تسرع الفرنسيون في تعيين وكلاء لهم في الشام وحلب، كما تسرع العرب في تعيين حاكم عربي في بيروت. وكيف لا والقيادة البريطانية العامة صاحبة الأمر رسميا في البلاد، فلم تعترف حتى بالمندوب الفرنسي السامي إلا كمستشار سياسي لديها، فماذا عسى أن تكون العلائق مع مستشارين صغيرين.
بدأ البركان يتفجر في أواسط كانون الثاني سنة 1919؛ إذ عندما علمت الشام بتصريح المسيو بيشون فيما يتعلق بفرنسا وحقوقها في سوريا، ضجت المدينة غضبا واحتجاجا، وكان النادي العربي رأسها ولسان حالها، فأضرم في الجرائد نار العداء للأجانب، وبعث الخطباء في أنحاء البلاد يحرضون الوطنيين على التظاهرات ضد الاحتلال والانتداب، وخطب خطيب في الجامع الأموي يدعو الناس للتجند دفاعا عن الوطن.
في هذا الشهر أيضا ألقى المسيو بيكو خطابا في دمشق فهم منه أن قد تم الاتفاق بين الأمير والحكومة الفرنسية بشأن سوريا، فغضب لذلك المسيحيون وهم يظنون أن فرنسا تفضل المسلمين عليهم، وقد تفادي بهم في سبيل السياسة والمصلحة. فما كانت فرنسا فيما صرح به وزيرها ومندوبها لترضي أحدا، لا الخصم ولا الصديق.
ثم خطب في سراي بعبدا رئيس الوفد اللبناني الأول داود عمون مفصحا عما كانت نتيجة مسعاهم في باريس، فقال: «إن بين لبنان وسوريا علاقات تجارية، وصلات متينة، تستوجب ألا يفصل الشقيق عن شقيقه؛ فاجتمعت كلمتنا، كلمة الوفد، على وجوب انضمام الاثنين تحت مراقبة واحدة.»
فجاء كلامه ضغثا على إبالة. قال زعماء العرب: إن الحكومة الفرنسية تروم احتلال سوريا بوساطة أصدقائها اللبنانيين. واتفق أن يوم خطب عمون خطبته عقد اجتماع في دمشق احتجاجا على تصريح بيشون، فعقبت عليه المدن السورية الأخرى، وحدثت أثناء هذه التظاهرات في 28 شباط سنة 1919 مذبحة الأرمن في حلب.
لا حاجة ولا مجال ها هنا للنظر في تلك الحادثة المحزنة، بيد أنه من المؤكد أن لو كان في المدينة حكومة متيقظة منظمة، عربية كانت أو بريطانية أو فرنسية، لما كان عتو الأرمن يحمل بعض العرب المسلمين على المفاداة بسمعتهم الطيبة، خصوصا بعدما كان من إحسان الأمير فيصل وجنوده إلى منكوبي الأرمن في الكرك.
لجنة الاستفتاء الأميركية
كان الأمير محترما مكرما في مؤتمر فرساي، وكان كذلك الرئيس ولسون، ولكن السياسة الدولية لا ترعى آداب الاجتماع ولا تهمها فروض التكريم، فلا تملك نظريات المصلحين وأماني الوطنيين من مصالح الأمم. قد سقت ولسون، تلك السياسة، الخل والمر بعد أن شاركت صامتة في إكرامه ذلك الإكرام الفريد المجيد، وكانت أرفق حالا بفيصل، وكيف لا وقد عرض أحد أساطينها في تلك الأيام على الأمير العربي بعض بنود فيها تضمن فرنسا استقلال سوريا تحت إمارته وبمشاركتها في بعض الأمور الاختصاصية والاقتصادية، وتضمن كذلك استقلالا نوعيا للبنان إلى أن يتم الاتفاق بينه وبين سوريا.
ولكن الأمير رفض ما عرضه الوزير الفرنسي المسيو كليمنصو، وعاد إلى سوريا ليستشير - كما قال - الأمة. سافر الأمير إلى فرنسا على المدرعة البريطانية «غلاستر» وفي معيته الكرنل لورنس
1
وعاد إلى بيروت على المدرعة الفرنسية «إدغار كينه» وفي معيته الكولونل تولا.
2
أمتان تتباريان في إكرامه، أمتان تتسارعان إلى خطب وداده، أمتان تسعيان في تعزيز سياستهما في سوريا والبلاد العربية عن طريقه.
إني متيقن أنه لولا أمر واحد، لكان قد اختار أحدهما في سفرته الأولى إلى باريس، بل لكان قبل كل ما عرضه عليه كليمنصو، أمر واحد تخلل معقوله وأضعف فيه القوة الحاكمة، أمر واحد هز منه القلب والمخيلة، وأشعل فيهما مصباح أمل هو أقرب إلى الأحلام منه إلى أحكام الأيام، فخدع الأمير وخدع غيره ممن هم أكبر منه، أجل قد خدع به أحد «الثلاثة الكبار»؛
3
الرئيس ولسون نفسه، وهو الذي خدع الأمير، كما خدع غيره من الناس ومن الأمم والشعوب، بما ظنه مظهرا لسياسات الدول كلها وبلسما لجروح الأمم جمعاء. «تقرير المصير»، «حق الشعوب بتقرير مصيرها»؛ إنها لكلمات فتانة! ولكنها لم تكن لتستطيع أن تخدع الأمير لولا مساعي هاورد بليس في سبيلها. ولا أظن أن ما صوره وتصوره الدكتور بليس، وما ضج به سوريو المهجر، كان يقنع الأمير كل الإقناع، ويحمله على عمل يخالف الحكومتين البريطانية والفرنسية، لولا - وها هنا رأس الخدعة وإكليلها - لولا اللجنة التي طلب تشكيلها الرئيس ولسون لتستفتي الأمة السورية. من من الناس لا تخدعه هذه المناورات السياسية، وبالأحرى هذه النظريات والأحكام من رئيس إحدى الأمم العظمى، بل أعظم في تلك الأيام.
عاد الأمير إلى سوريا وفي صدره، ولا ريب، أمل بالتخلص من الحكومتين البريطانية والفرنسية، بل في صدره أمل بتحقيق أمانيه الوطنية العربية على يد الحكومة الأميركية. وصل إلى بيروت في 30 نيسان، وكانت الأمة تنتظر قدومه وهي تائقة إلى أخباره وتصريحاته. تركها منذ خمسة أشهر وآماله راقدة، فعاد إليها وآماله تغرد في قفص الأحلام. تركها أميرا عربيا قد يفلح وقد لا يفلح في مساعيه، فعاد إليها أميرا خطيرا، أوسع شهرة، وأعظم ثقة بنفسه، وأرفع مقاما، فاستقبل في بيروت استقبالا ملكيا ترأسه القائدان الفرنسي والبريطاني فيها، وخطب في الناس فأدهش الناس. «الاستقلال يؤخذ ولا يعطى ... حرية الأمة بيدها ... لنسع متحدين فنحي حياة عزيزة ... الاستقلال التام في الاتحاد التام.» ثم قال إكراما للفرنسيين والبريطانيين: «لا أنكر أننا في حاجة إلى المساعدات المادية والاقتصادية والعلمية، ولكننا سنطلب هذه المساعدات بأجرتها، ستستخدم الحكومة الأخصائيين من الأجانب وتدفع رواتبهم من مال الأمة.»
وقد كان الأمير أشد لهجة في دمشق: «الأمة السورية تروم الاستقلال التام الناجز، ولا تقبل بغيره بديلا.» فرددت الشام ومدن سوريا كافة صدى هذه الكلمات: الاستقلال التام الناجز!
وصل الأمير قبل اللجنة الاستفتائية الأميركية فبشر بقدومها، وحث الشعب على أن يطلب الاستقلال التام بدون شرط ولا قيد: «برهنوا على أنكم لستم كأنعام تباع وتشترى ... الاستقلال بدون حدود البتة، الحرية بدون قيود أجنبية ... من يطلب فرنسا أو إنكلترا أو أميركا أو إيطاليا فهو ليس منا.»
ثم زار المجلس التشريعي في 7 أيار، فرحب به أعضاؤه ونادوا به زعيما - الزعيم الأكبر! - «لك الأمر وعليك بعد الله الاتكال.»
ووقف نوري الشعلان يعاهد بالطاعة والولاء: «حنا كلنا، عرب الرولا، أطوع لك من يمينك، ومن لا يكون مثلنا فليس من دين الإسلام.»
وفي هذا الشهر تنازل الأمير عن الخطة السياسية التي كان من شأنها أن تربط سوريا بالحجاز ، بل تجعلها تابعة لحكومة والده، فقبل جلالة الملك حسين ذلك حبا بما بدأ يتبلور من الآمال، فأرسل الأمير إلى مؤتمر الصلح يقول: «إن الحجاز لا تعترض أن تكون تابعة سياسيا لسوريا. وقد قال لي جلالة الحسين هذا القول مرارا.»
أما فيما يختص بسوريا نفسها، فقد كان لفيصل رأي في تقسيم البلاد إلى مقاطعات، وفقا لحالاتها الطبيعية والاجتماعية، صرح به خصوصا للوفد اللبناني الذي جاء إلى دمشق ليهنئه بعودته سالما من باريس، وليؤكد له أن فريقا كبيرا من اللبنانيين يتمنون الانضمام إلى سوريا، فرحب الأمير بهم وخطب فيهم خطبة بليغة، فقال: «إنه يجب أن يضم إلى لبنان القسم اللازم الوافي لحياة أهاليه الزراعية، فيستفيدوا من توسيع أرضهم كما تستفيد هذه البلاد من ذكائهم ونشاطهم ... أقول بكل حرية إن لبنان مستقل داخليا وإداريا، ويلزم أن يبقى ما يلحق به مستقلا وممتازا ... مع المحافظة على الارتباط بالوحدة السورية، ولكن هذا الانضمام لا يكون إجبارا بل اختيارا ... إني مستعد أن أعطي الضمانة الخطية بكل ما أقول. وليعلم اللبنانيون - وهم إخواننا، بل قلوبنا التي بها نحس، وعقولنا التي بها نفكر - أننا نحن وإياهم واحد لا يفصلنا فاصل طبيعي أو مادي ... ما كان عندنا، ولا يكون، أدنى فرق بين لبناني ودمشقي، أو بين مسلم ودرزي.»
هو ذا مبدأ الأمير الذي أخلص له في تلك الأيام، واعتصم به، وسعى في تعزيزه. على أنه في بعض المواقف - كما سيتضح للقارئ - تغلبت الحوادث وبعض الرجال على معتقده ويقينه. قد وصل في شهر أيار سنة 1919 إلى ذروة القوة والنفوذ، فكان عاملا بمبادئه، واثقا من نفسه، ذا رأي يسمع وأمر يطاع. غير أن الفرنسيين في البلاد، خصوصا المندوب السامي وكبار الضباط، لم يثقوا كل الثقة به، ولا كانوا يرون السداد في سياسة حكومة باريس فيما يختص به وبسوريا ولبنان.
قد تقابل المسيو جورج بيكو والأمير فيصل في 17 أيار، فعرض الأمير على المندوب شروطه بصراحة لا غبار عليها، قال إنه يقبل بالانتداب الفرنسي إذا ألغيت معاهدة «سيكس-بيكو»، وإذا ألغي في المنطقتين الشرقية والغربية الحكم العسكري، وسحبت فرنسا جنودها من البلاد، وإذا انحصرت المساعدة الفرنسية بالأخصائيين الماليين المدربين العسكريين والمهندسين والمستشارين في دوائر الحكومة. وقيل إنه طلب أن تضم الموصل إلى سوريا، وأن تساعد فرنسا عرب العراق في استقلالهم، فبلغ المندوب السامي حكومته هذه الشروط وجاءه بعد شهر تفويض بأن يقبلها.
ولكن المسيحيين في المنطقة الغربية تألبوا أثناء هذا الشهر على السياسة الفرنسية السورية، وعقدوا الاجتماعات لتأييد استقلال لبنان وتوسيع حدوده، لطلب الانتداب الفرنسي. وكان الأكليروس روح هذه النهضة، فرأى المسيو بيكو أن تعزيزها يضمن لفرنسا السيادة في لبنان على الأقل، وقد كان يظن أن المسيو كليمنصو لم يهتم كما يجب لهذه المسألة الخطيرة، فأوعز إلى بعض أعيان لبنان ورؤساء طوائفه أن يبعثوا البطريرك الماروني إلى باريس ليمثل اللبنانيين لدى الحكومة الفرنسية ويطالب بحقوقهم.
انتدب أكثر الطوائف غبطة البطريرك إلياس الحويك لهذه الغاية، فسافر على مدرعة فرنسية إلى إيطاليا؛ حيث أقام شهرين وقابل قداسة البابا، ثم سافر إلى باريس فقابل هناك المسيو كليمنصو الذي أعطاه كتابا يسكن فيه روعه وروع اللبنانيين، ويعدهم بما يطلبون من الاستقلال والانتداب، فقفل غبطته راجعا يحمل هذا الكتاب إلى موكليه، فوصل إلى بيروت في 25 كانون الأول سنة 1919، وتكلم في الاحتفال الذي أقامته له حكومة لبنان، فقال: «قد كان اتحادكم من أسباب نجاحي، فأؤمل أن تثابروا على هذه الخطة، فيحيا لبنان بعد أن يكون قد نال استقلاله ... ولكم خير ضمين باستدراجه إلى الحياة في مساعدة الدولة المحبوبة التي حرمت نفسها خدمات أحد أعاظم أبنائها - الجنرال غورو - حتى تكلفه بمهمة دعوها مهمة إبداع وخلق.» ثم خاطب الجنرال غورو بالفرنسية قائلا: «إني أجهر على رءوس الملأ أن فرنسا تحب لبنان، وتساعد لبنان، وها نحن نفتخر بفرنسا ... ولا سيما بعد أن أوفدت إلينا الجنرال غورو ... إلخ.»
فبينا كان الأمير فيصل يدعو الناس إلى وحدة سورية قومية لا تفرق بين الدمشقي واللبناني، أو بين المسلم والمسيحي والدرزي؛ قام اللبنانيون، والأكليروس يستحثهم ويغريهم، يطالبون بوحدة لبنانية، فقلدوا البطريرك زمام أمرهم، فجعلوا المسألة دينية مذهبية
4
وأبوا أن يكون لهم أدنى علاقة بالمسلمين، بل أمعن رؤساء التعصب بالشقاق عندما وصلت لجنة الاستفتاء الأميركية إلى سوريا. فبما أن أساتذة الجامعة الأميركية من أنصار النهضة العربية، وأعضاء اللجنة من وطن الجامعة، ادعى غير واحد من رؤساء الدين أن للجنة مقاصد دينية بروتستانتية، وطلبوا من اللبنانيين أن يقاوموها ويتضافروا عليها.
ومما يدعو للأسف أن قد كانت اللجنة نفسها عاملا آخر من عوامل الشقاق؛ لأنها في طريقة الاستفتاء عززت، من حيث لا تدري، مبدأ العصبيات الدينية والطائفية، إلا أنها فضحت فرنسا وجردت مزاعمها من الأوهام؛ لأن أقلية لبنانية فقط طلبت الانتداب الفرنسي، ولم تشمل هذه الأقلية الطوائف المسيحية كلها، فازداد العرب تمسكا بما يطلبون، وازداد قسم منهم تعصبا أدى إلى الأعمال التي سودت صحيفتهم.
وصلت اللجنة في تموز إلى دمشق، فطلب فريق من الدمشقيين الوحدة السورية وفيها لبنان وفلسطين، والاستقلال التام الناجز، وأن تكون الحكومة ملكية دستورية لا مركزية، ويكون الأمير فيصل ملك البلاد. ثم طلبوا المساعدة الاقتصادية والفنية من أميركا، وإذا رفضت أميركا، فمن بريطانيا. وقد طلبوا أن يكون العراق مستقلا كل الاستقلال، وألا تكون حواجز اقتصادية بين البلدين.
ثم استفتت اللجنة العلماء فطلبوا ما يلي: الوحدة السورية المستقلة عن الحجاز، وحكومة دستورية لا مركزية على رأسها الأمير فيصل، ومساعدة دولة غنية قوية لا مطامع استعمارية لها.
أما المتطرفون أصحاب الوحدة العربية الحجازية الإسلامية، فظلوا متشبثين بآرائهم، عاملين سرا وجهرا في نشرها وتعزيزها. وقد كان في المجلس التشريعي، وفي النادي العربي، وفي معية الأمير أيضا من لا يسكتون ولا يعقلون من الحزبين.
جالت لجنة الاستفتاء في فلسطين وسوريا، ففضحت - كما قلت - فرنسا، وأضرت بالقضية العربية، ولم تنفع أحدا في البلاد. وكيف أضرت بالقضية العربية؟ إني أعتقد أنها كانت السبب - بعض السبب إن لم يكن كله - في البلاغ الذي قدمه اللورد آلنبي للأمير فيصل في 9 أيلول، وفيه ما يلي:
إن حكومة بريطانيا ترفض الانتداب في سوريا. إنها توافق على المبدأ الذي يضمن لليهود وطنا قوميا في فلسطين. ليس من شأنها أن توجب على السوريين قبول حكومة لا يريدها أهل البلاد. إن المارشال آلنبي، المسئول لدى مؤتمر الصلح عن الأمن في البلاد، يتخذ الوسائل اللازمة لقمع الفتن والاضطرابات.
وفي 15 من هذا الشهر تم بين الحكومتين الفرنسية البريطانية الاتفاق الذي بموجبه تكفلت بريطانيا بأن تخرج في تشرين الثاني عساكرها من سوريا، بشرط أن العساكر الفرنسية لا تدخل المدن الأربع منها؛ أي دمشق وحمص وحماة وحلب؛ لأن بريطانيا قد عاهدت العرب على تأليف حكومة عربية.
أثار الاتفاق والبلاغ خواطر المتطرفين والمعتدلين من العرب، وبلبل الناس على أن أولي الألباب الممرنين في سياسة التلون والهوادة رأوا في الوثيقتين تناقضا قد يكون تعمده الإنكليز من أجل حلفائهم العرب. فها إن إنكلترا تنفض يدها منا، ولكنها تقول إنها لا توجب علينا حكومة لا نريدها. وها إنها تسحب جنودها من البلاد، ولكنها تبقي السيادة المطلقة بيد المارشال آلنبي. فقام الناس يتظاهرون مثل تظاهرهم احتجاجا على المسيو بيشون، وتأسست لجنة الدفاع الوطني التي باشرت التجنيد.
وكان الأمير في مقدمة المحتجين، فأعاد تصريحه بالوحدة العربية، وأبرق إلى مؤتمر الصلح أن البلاد في اضطراب عظيم، وأن الشعب يقاوم أي خطة تجعله قيد المساومات، ويتنصل من التبعة في الحاضر والمستقبل تجاه الحوادث التي من شأنها هضم حقوقه.
ثم سافر في أواخر أيلول إلى لندن ليسعي شخصيا لدى الحكومة البريطانية في سبيل الوحدة العربية الملطفة التي مر ذكرها، والتي صرح بها على صفحات الجرائد، فقال لمراسل رويتر: «إن معاهدة «سيكس-بيكو» لا تعتبر ولا يعمل بها في نظر الأمة العربية.» وقال لمحرر جريدة «الأيام اليهودية» إنه يعتبر فلسطين جزءا من سوريا، وإنها في نظر العرب ولاية لا بلاد مستقلة. ثم قال إن ما يسعى إليه هو تأسيس دولة عربية تشتمل في الأقل على العراق وسوريا وفلسطين.
إنها خطة في السياسة لا تزدريها الدول العظمى، ولكن القوي إذا غير رأيه يعززه بالقوة، وهو يتغلب حتى إذا تقلب. أما الضعيف بقومه، إن لم أقل بنفسه، فالثبات خير له وأبقى. ها هنا يبدو في الأمير ضعف لا تجده في جلالة أبيه ، وقد ثبت إلى اليوم في مطالبه كلها، فلم تتغير وحدته العربية وتتلون وفقا لحوادث الأيام وسياسات الدول العظام.
أما احتجاج الفرنسيين على الحكم العربي في الشام فلا يخلو من التحامل. قالوا إن العرب لم يحكموا باسم الحلفاء كما تحتم عليهم، وإنما حكموا باسم ملك الحجاز. وهل حكم الفرنسيون في المنطقة الغربية باسم الأحلاف يا ترى؟! وهل حكم البريطانيون كذلك في المنطقة الجنوبية، في فلسطين؟! وقالوا إن الملك حسين عجل في طلب المكافأة على خدماته في الحرب، وكان ينبغي له أن يتربص إلى أن تتم المعاهدة بينهم ويصير الاتفاق بخصوص سوريا. فليت شعري ما الذي فعلوه هم أنفسهم؟ أفلم يقسموا البلاد السورية ويتسابقوا والبريطانيين في الحصول على قسمتهم منها؟!
مرجعيون
قد خابت في لندن آمال الأمير؛ لأنه وإن كان أثناء إقامته هناك موضوع إكرام الطبقة العالية من الأمة البريطانية، فقد أعلم رسميا أن الحكومة تحافظ على العهد الأخير الذي عقدته مع فرنسا، وأنها وإن كانت قد اشترطت عليها ألا تدخل بجنودها المدن السورية الأربع، فقد سلمت بأن تكون المساعدة الفنية والاقتصادية للحكومة العربية منها لا من بريطانيا؛ لذلك أشير عليه بأن يسافر إلى باريس ويتفق مع كليمنصو.
سافر الأمير إلى باريس، وقابل المسيو كليمنصو ثانية، فدار بينهما في 22 تشرين الأول حديث تناول المسألة السورية بكل فروعها، وكانت النتيجة لائحة تضمنت حل المشكل على طريقة تكفل له الحكم في سوريا، ولفرنسا حق المساعدة، وللبنان توسيع الحدود والامتيازات التي يطلبها.
تردد الأمير ثم لجأ إلى المساومة؛ فطلب أن يكون نصف المستشارين فرنسيين والنصف الآخر من سواهم. ألا يكون للمستشار الرأي الفاصل في الأمور. ألا يكون في سوريا ولبنان عسكر فرنسي. وقبل أن يكون العسكر الوطني تحت إدارة فرنسية. رفض كليمنصو الشروط الثلاثة، فجمع الأمير من كان في معيته يومئذ واستشارهم في الأمر، فارتأى فريق منهم - وفيهم اثنان من المسيحيين - أن يقبل لائحة الوزير. أما الفريق الآخر - وفيهم اثنان من المتطرفين؛ الواحد طبيبه، والآخر أديب من نابلس درس الحقوق في فرنسا - فقد قاوموا فكرة القبول وكانوا من الفائزين، فبرهنوا في فوزهم على ضعف في الأمير كان يؤلم المعتدلين المتعقلين من أنصارهم ومريديهم.
عاد الأمير في أواخر كانون الأول إلى سوريا وهو يعلم أن الحكومة البريطانية لا تخاصم فرنسا من أجله، وأن فرنسا لا تتنازل عن سوريا مهما كان من أمرها في المفاوضات، وأن الحكومة الأميركية لا تتدخل بالرغم عن لجنة الاستفتاء في أمور البلاد السياسية. فأية خطة كان ينبغي له اتخاذها؟ هل في إمكانه أن يغير سياسة بريطانيا الدولية؟ هل في إمكانه أن يحارب فرنسا إذا شاءت الاستيلاء على المنطقة الشرقية؟ إذا أجبت سلبا، وهو أقرب إلى الحقيقة، على السؤالين، أرى بحكم الحال أن أمام الأمير سبيلين، وفي كليهما شرف وحكمة ووطنية؛ فإما أن يكون قادرا على قيادة الشعب السوري، فيقوده في جادة الاعتدال إلى ما فيه المصلحة المشتركة بين الأمتين الفرنسية والسورية، وإما ألا يكون فيستعفي ويعيد مقاليد القضية إلى جلالة أبيه.
وماذا كان بعد رجوعه المرة الثانية من باريس؟ هاكم الحوادث، وهي أصدق رواة الأخبار؛ عندما وصل الأمير إلى بيروت خطب في الناس، فأشار إلى ما لا يزال بينه وبين فرنسا من الولاء، فاعترضه بعدئذ ممثل الحكومة العربية فيها، وانتقد اعتداله آخرون. وكان قد ذهب إلى استقباله واستخباره وفد من الشيعة في جبل عامل، فلم يكلمهم مليا في بيروت، بل استصحب لهذه الغاية بعض علمائهم إلى الشام. وقد عقد اجتماع في وادي الحجير، فضرب أحد المشايخ خيرة - استخار الله بالسبحة - على ذبح النصارى، وكان في الحولة حكومة يديرها زعماء العصابات، والحكومة الفرنسية عالمة بها. أما العرب، وهم أعداء فرنسا، فأصبحوا أعداء من والاها، فضلا عمن تعصب لها من المسيحيين. وقد كان من ولي الأمر منهم، في النادي العربي وفي لجنة الدفاع بالشام، أناسا لا يأمرون بالمنكر، ولكنهم في سبيل السياسة لا ينهون عنه.
فكانت النتيجة أن في 4 كانون الثاني سنة 1920؛ أي بعد وصول الأمير فيصل ببضعة أيام، أشعلت في مرجعيون - باسم الوطن والسياسة - نار الجهل والتعصب والفوضى، وكان العرب مشعليها والفرنسيون متفرجين عليها.
قد كان الأمير محمود الفاعور، أمير عرب الفضل، خارجا يومئذ على الحكومة، فضرب بعض الجنود الفرنسيين، على إثر حادث عدائي في الحولة، دار الأمير بالخصاص وهدموها، فثارت عليهم العربان، فبعثوا يطلبون النجدة، ولم يكن في تلك الناحية يومئذ - مع علم الحكومة بما يهدد الأمن وبما ينذر من العصابات بالويل - غير ألفين من الجنود في المطلة وخمسمائة في الجديدة.
طلبت المطلة النجدة من الجديدة، فأرسل القومندان أربعمائة وخمسين من رجاله، فلم يبق لديه غير خمسين، ولم يكن عند الأهالي غير مائة وعشرين بندقية واليسير من الذخيرة. أما الذين هجموا على الجديدة في ليلة ذاك اليوم فلا يقل عددهم عن الأربعة آلاف، وفيهم البدو والدروز والشيعة، فأضرموا فيها النار وأعملوا بأهلها السيف والرصاص. حرقوا أربعين بيتا، وقتلوا أربعين نفسا، ونهبوا من الأمتعة ومن الرياش ما قدرت قيمتها بمائة ألف ليرة ذهبا.
ومن المسئول؟ قد تحقق أن ثلاثة من البدو كانوا يأخذون المال من الحكومة بدمشق باسم العساكر فيتصرفون بها، ثم يأخذون من العصابات قسما مما ينهبون. وقد كان رجال العصابات العاملية يلزمون القرى في جبل عامل القيام بنفقاتهم، ويقدم رؤساؤهم التقارير إلى المؤتمر العربي بدمشق. أتبغي المزيد؟ هاكه باسم الله؛ قد أخبرني أحد أفاضل الجديدة أنهم عاينوا بعض الجنود النظاميين فيمن هجموا على المدينة.
الملك فيصل الأول يوم تتويجه ملكا على العراق في القشلة، ونقيب أشراف بغداد السيد محمود يقرأ الدعاء.
ولكني لم أطلعك على غير نصف الحقيقة فيما تقدم، وهاك النصف الآخر؛ إن الحكومة الفرنسية أو القيادة الفرنسية العامة التي كانت مسئولة عن الأمن في البلاد، كانت تستطيع - لو شاءت - أن ترد عن البلاد هذه النكبات كلها، فكان قد جاء الجنرال غورو ومعه بعض القوات العسكرية التي استمرت تزداد لتحقيق مقاصد حكومته في المدن الأربع بالرغم عن اتفاق 15 أيلول.
فإذا ألقينا بعض التبعة على الحكومة العربية وآخذنا الأمير؛ لأنه لم يسع - وإذا كان قد سعى فلم يفلح - في استيلائه على تلك الحكومة وإرشادها إلى ما فيه الحكمة والسداد، فإننا نلوم أولا الفرنسيين الذين جاءوا لحماية المسيحيين، وما كانوا في البلاد إلا بفضل المسيحيين؛ نلومهم لأنهم وقفوا متفرجين وكان في إمكانهم أن يخمدوا النار.
والذي يثبت فوق كل إثبات ما أقول هو أن تلك الفظائع تكررت بعد خمسة أشهر، في 15 حزيران، في عين أبل والقليعة والجديدة نفسها، ولم تكن الحكومة مستعدة لمقاومتها. طلب أهل الجديدة إسعافا منها فلم تمدهم بشيء. جاء أحد خوارنة عين أبل إلى المسيو شاربنتيه، المستشار الفرنسي في لواء الجنوب، يشكو العصابات، وقد كان في صيدا قوة كافية لمطاردتهم والتنكيل بهم، فكان الجواب منه أن دافعوا عن أنفسكم. وجاء أحد أهالي الجديدة إلى قومندان الموقع يطلب منه بعض الذخيرة، وكان قد نفد ما عنده وهو يدافع عن نفسه وأهله، فوجد القومندان في فناء الدار يلاعب أرنبا، فطلب منه ذخيرة فأبى. فقال الرجل: «لا تدافعون عنا، ولا تعطوننا سلاحا وذخيرة لندافع عن أنفسنا!» فلم يكترث، ظل يلاعب أرنبه، ثم نظر إليه بعين الاحتقار قائلا: «مات من الفرنسيين ألوف في الخنادق، وأنتم تشكون إذا مات منكم عشرة رجال.»
وجاء - بعد خراب البصرة - الكولونل نياجر لينكل بالعصابات، ففرض على أهل جبل عامل مائة وخمسين ألف ليرة ذهبا، وفوض حاكم صيدا العسكري ورجاله، وفيهم ثلاثة من السوريين، بجمعها. فجمعوا ضعفي المبلغ بطرائق لا حاجة الآن لذكرها - وقال العارفون المدققون إن الجباة الماهرين جمعوا أربعمائة وخمسة وثمانين ألف ليرة - فدفعوا تعويضا لأهل الجديدة خمسين ألف ليرة منها و... وأطلقت الحكومة على شارع من شوارع بيروت اسم الكولونل نياجر
Le Colonel Nieger !
ملك سوريا
كان الشهر الأول من سنة 1920 ويلا على المسيحيين وعارا على الفرنسيين، وكان الشهر الثاني من هذه السنة بداءة الويل على العرب؛ هاجت حول الأمير فيصل الأحزاب، وهدرت في الأسواق وفي المساجد شقشقة الخطباء، واستفحلت في المؤتمر السوري قرون النعرات الدينية، فاشتد تحمس بعض الأعضاء وتغيظ الآخرون، وسمو الأمير يكافح تارة ويستسلم طورا، يردد كلمة الملك الفرنسي
1
ساعة الشدة، ويعود إذا ما صفا الجو هنيهة إلى بطانته وزعمائه، حتى انتهى دور الاضطراب الأول أو علته، فأخفته أفراح اليوم الثامن من شهر آذار؛ يوم انتخب المؤتمر السوري العام بصوت حي فيصل بن الحسين ملكا دستوريا على البلاد السورية.
حملت الأنباء البرقية خبر التتويج إلى عواصم العالم، فجاء من إحداها، من باريس من مؤتمر فرساي، نبأ الغضب والغرور؛ مؤتمر يتوج ومؤتمر يعترض ويحتج، بل يصدر الأوامر وهو يتوهم أن أحكامه نافذة في كل مكان، لماذا قبلت التاج يا فيصل؟ احضر عاجلا إلى هذا المجلس الأعلى وأفصح عن شذوذك وشذوذ الأمة السورية. إنها من مضحكات السياسة الأوروبية. هو ذا أمير عربي، في بلاد عربية، وقد انتخبه مؤتمر عربي، فما دخل أوروبا أو بالحري فرنسا وبريطانيا بذلك؟! ألا يجوز لأمة شرقية عربية سورية أن تقيم ملكا عليها دون أن تستأذن اثنين أو ثلاثة من وزراء أوروبا؟! وهم يتهمون العرب بأنهم يهتمون بأمور غيرهم أكثر من اهتمامهم بأنفسهم. ولكن الملك فيصلا لم يهتم بغير أمره وأمر بلاده، فلم يلب دعوة مؤتمر الصلح المبجل.
باشر الملك والمؤتمر السوري تأسيس حكومة جديدة وتنظيم الجيش، وكان من أعمال هذه الحكومة السورية عمل لم يسر بريطانيا، وآخر زاد بغيظ الفرنسيين؛ الأول هو إعلانها استقلال العراق مع استقلال سوريا، والثاني هو منعها الفرنسيين من استخدام سكة الحديد إلى حلب، ورفضها التعامل بورق البنك السوري الذي أجازته حكومتهم في المنطقة الغربية.
أما الفكرة اللبنانية في الانضمام إلى سوريا، فقد كانت الأحوال في المنطقة الغربية تزيدها قوة وانتشارا، ونفر بعض عقلاء اللبنانيين وولوا وجوههم شطر الشام، فاعترى الجزع الحزب الأكليريكي الفرنسي، فراح كباره يسألون البطريرك الماروني أن يسافر ثانية إلى باريس ليطالب المسيو كليمنصو بما وعده به لجبل لبنان، واستمرت حكومة الجنرال غورو تقاوم كل من قال بالوحدة السورية، فوصلت في منهجها إلى ما كان من أمرها وأعضاء مجلس إدارة جبل لبنان. جاء في البلاغ النهائي من الجنرال غورو إلى الملك فيصل ما يلي: «وآخر ما لجأت إليه حكومة دمشق من المآتي هو أنها اشترت بمبلغ قدره اثنان وأربعون ألف ليرة القسم الأكبر من أعضاء مجلس إدارة لبنان، فأوقفتهم مخافرنا بتاريخ 10 تموز وهم على أهبة السفر إلى دمشق ليبيعوا أوطانهم بيع السلع، عابثين بالأماني التي أعرب عنها أهل وطنهم منذ زمن طويل باتفاق يقرب من الإجماع.»
لست ممن استحسنوا الطريقة التي سلكها الأعضاء إلى غايتهم الحميدة، وكنت ولا أزال أظن أن ممثل الأمة الشرعي لا يخرج من بلاده كالمجرم سرا، ولا يجبن فيموه رأيه إذا كان يعتقد الصحة فيه. ولكن هذه التهمة من أجنبي تنزع من الوطني، مهما كانت عقيدته السياسية، سلاح النقد والتثريب. مثل لنفسك بريطانيا في باريس يتهم أعضاء الندوة الفرنسية بالخيانة؛ أيغار الأجنبي على لبنان أكثر من غيرة أبنائه عليه؟ عد إلى القرار الذي أصدره مجلس الإدارة تر الحقيقة التي يسمونها خيانة، وتر العجب فيمن يطالع القرار كله ثم يقول إن أصحابه مسافرون إلى دمشق «ليبيعوا أوطانهم بيع السلع.»
إن أصدق وأبلغ جواب إنما هو فيما أنقله لك من ذاك القرار: «قد بذل هذا المجلس مزيد الاهتمام توصلا لوفاق يضمن حقوق البلدين المتجاورين، لبنان وسوريا، ومصالحهما ودوام حسن الصلات بينهما في المستقبل، وبعد البحث في هذا الشأن، وجد أنه من الممكن الوصول إلى ذلك بمقتضى البنود التالية:
استقلال لبنان التام المطلق.
حياده السياسي بحيث لا يحارب ولا يحارب، ويكون بمعزل عن كل تدخل حربي.
إعادة المسلوخ منه سابقا بموجب اتفاق يتم بينه وبين حكومة سوريا.
المسائل الاقتصادية يجري درسها وتقرر بواسطة لجنة من الطرفين، وتنفذ قراراتها بعد موافقة مجلس نواب لبنان وسوريا.
يتعاون الفريقان في السعي لدى الدول للتصديق على هذه البنود وضمانة أحكامها.»
أما سفر أعضاء المجلس «فلأجل التمكن من العمل على ذلك بحرية وبمعزل عن ضغط خارجي، ولأجل السعي الناجح في المراجع الإيجابية لتقرير أحكام البنود المتقدم بيانها.» ولم يكن قصدهم السفر إلى الشام، بل إلى أوروبا وأميركا عن طريق حيفا؛ هو ظاهر قصدهم وحقيقته، لا ريب عندي بذلك، ولكني أرى في الطريقة التي سلكوها وفي بعض المقاصد التي أخفوها أو موهوا بها ما يؤاخذون عليه.
الأسفار تقتضي النفقات، ولم يكن في الخزينة اللبنانية ما يقوم بها، فجاء الأمير أمين أرسلان، صديق العرب واللبنانيين الأحرار، ليسعى في هذا السبيل. قال سليمان كنعان، أحد أعضاء المجلس، للأمير أمين: «لا نستطيع أن نجمع مالا كافيا للسفر.» فقال الأمير: «أنا أتكفل بذلك.» وبعد قليل جاءهم بخمسة آلاف أخرى عندما يجتازون حدود لبنان، وها نحن في دور التمويه الذي أفسد على الأعضاء عملهم، المال الذي جاء به الأمير أمين بمؤازرة نوري السعيد هو من الملك فيصل لا من عارف النعماني، ولكن السند الذي كتبه سليمان كنعان بالقيمة كلها هو لأمر النعماني وبكفالة الأمير أمين. فحبذا لو كان السند صادقا فيكون المال من أحد تجار الأمة الذي يشارك الأعضاء في عقيدتهم السياسية ويود نجاح مسعاهم، ولكن المال من الملك فيصل، وهذه حجة الفرنسيين في الرشوة.
قال سليمان كنعان للأمير أمين: «بشرط ألا نمر بالشام ولا نقابل الملك فيصلا.» وكأني بالأمير اللطيف الحاذق يقول: تأخذون ماله ولا «تميلون» للسلام! فاتفقوا أن يسافروا إلى حيفا ويرسلوا من قبلهم اثنين أو ثلاثة إلى الشام للسلام والمفاوضة. ولكن الأقدار تدخلت؛ فقد أوقفتهم السلطة الفرنسية قبل أن يجتازوا الحدود، وعادت بهم مخفورين إلى بيروت؛ حيث حوكموا أمام مجلس عسكري فرنسي، فجرمتهم المحكمة ونفتهم الحكومة إلى جزيرة أرواد ثم إلى جزيرة كورسيكا.
بعد أن ألقي القبض على أعضاء مجلس الإدارة بأربعة أيام، أي في 14 تموز سنة 1920، أرسل الجنرال غورو بلاغه النهائي إلى الملك فيصل، ومطلعه هذه الكلمات: «بينما كانت السكينة سائدة في سوريا أثناء الاحتلال البريطاني، ابتدأ الفساد يوم حلت جيوشنا محل الجيوش البريطانية، ولا يزال آخذا بازدياد منذ ذاك الوقت.»
2
هي الحقيقة بعينها، ابتدأ الفساد يوم حلت جيوش الفرنسيين محل الجيوش البريطانية؛ فقد كانت الجيوش الفرنسية إما عاجزة وإما مهملة؛ أما العجز فينفيه الحزم الذي أبدته هذه الجيوش بعد البلاغ النهائي، وأما الإهمال فقد يكون ناتجا عن قصد سياسي هو رغبتهم في الاستيلاء على المدن الأربع التي تعهدت فرنسا لبريطانيا ألا تحتلها.
أما بلاغ الجنرال غورو فتقسم الاحتجاجات فيه إلى خمسة أقسام:
أولا: «الأعمال الموجهة إلى حكومة الاحتلال الفرنسية»؛ وفيه ذكر الحوادث المفجعة التي كانت العصابات سببها، وأن حكومة دمشق قد قابلت القائمين بتنظيمها بالحفاوة والإكرام، «ونخص بالذكر منهم صبحي بركات الذي أصبحت عدواته لنا أشهر من نار على علم.»
ثانيا: «سياسة حكومة دمشق العدائية»؛ وهي تنحصر، على ما يظهر، من البلاغ بتعيين رجال في الحكومة «معروفين بعدائهم لفرنسا.»
ثالثا: «التدابير الإدارية ضد فرنسا»؛ وأهمها ما يتعلق برفض التداول بعملة البنك السوري.
رابعا: «الأعمال العدائية الموجهة لفرنسا رأسا»؛ وفيه ذكر بعض الذين أهينوا في المنطقة الشرقية لأنهم أصدقاء فرنسا، والذين احترموا لأنهم أعداؤها؛ ومنهم الدنادشة وكامل الأسعد ثم أعضاء مجلس إدارة لبنان.
خامسا: «التعديات على الحقوق الدولية»؛ وفيه احتجاج على التجنيد الإجباري وعلى ملكية الأمير «المغتصبة غير الناتجة عن إرادة الشعب الحرة»، وعلى المؤتمر السوري الذي تألف وشكل بصورة غير مشروعة. «إن هذه الأسباب تثبت جليا أنه أصبح من المستحيل الاعتماد على حكومة جاهرت بصراحة تامة بعدائها لفرنسا ... وعليه فإن فرنسا ترى نفسها مضطرة أن تحتاط بالوسائل اللازمة لتؤمن راحة جيوشها وراحة أهالي البلاد.» ... ولذلك هي تطلب الضمانات التي يلي ذكرها:
أولا:
حق التصرف بسكة الحديد بين رياق وحلب.
ثانيا:
إلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية.
ثالثا:
قبول الانتداب الفرنسي.
رابعا:
التداول بالعملة السورية.
خامسا:
معاقبة المجرمين الذين تثبت عليهم أكثر من غيرهم مناجزة العداء للجنود الفرنسيين.
وقد طلب الجنرال قبول هذه الشروط «بوجه إجمالي دون استثناء البتة في مهلة أربعة أيام تبتدئ في الساعة الأولى ليلا من 15 تموز وتنتهي في الساعة الثانية عشرة ليلا في 18 منه.»
وصل البلاغ إلى الشام في مساء اليوم التالي، فاستدعى الملك للمشاورة عددا من وجهاء المدينة من جميع الطوائف، ففوضوا الأمر إليه ليعمل بما فيه خير البلاد. ولكن المؤتمر السوري أصدر في جلسة قانونية القرار التالي: «إن المؤتمر السوري الممثل للأمة السورية في مناطقها الثلاث يعتبر قراره التاريخي بمواده الثلاث التي هي:
أولا:
الاستقلال التام والوحدة ورفض الهجرة الصهيونية.
ثانيا :
ملكية جلالة الملك فيصل على الأساس النيابي الدستوري.
ثالثا:
بقاء المؤتمر منعقدا يراقب أعمال الحكومة المسئولة أمامه إلى أن يجتمع مجلس النواب بموجب القانون الأساسي، قرارا واحدا لا يقبل التجزئة، وأن نقض جزء منه يعتبره المؤتمر نقضا للقرار بحذافيره، وأن المؤتمر السوري لا يعترف باسم الأمة السورية بأية معاهدة واتفاقية أو بروتوكول يتعلق بمصير البلاد ما لم يصادق المؤتمر نفسه عليها.»
في هذا القرار وطنية شماء لا يزدريها من كان له وطن في العالم.
ميسلون
كان يوسف العظمة، وهو صنو أنور ومصطفى كمال في المدارس الحربية الألمانية، شديد البأس، شجاعا باسلا، صريح الكلمة، صادق اللهجة، ذا وطنية أجيجها من نار الشهداء. ولكنه في حماسته واندفاعه، وهو وزير الحربية في الحكومة السورية، أساء إلى معقوله ونسي حقيقة الحال التي توجب الحكمة والاعتدال.
أما الملك فيصل فهو في سياسته، وخصوصا في المواقف الحرجة، ينسى أن الحماسة روح الحقيقة، وأن الضحية نورها. فلو رأى الواحد منهما ما في الآخر وتنزل إلى قبول شيء منه في الساعة الخطيرة، ساعة الجزم واليقين، لما كانت تلك الثلمة التي انقضت منها روح الفوضى فساعدت الصائل على الأمة وذبحت فيها الحرية والأمل.
كانت الثلمة، مهما قيل في حسن الصلات بين الملك والمؤتمر السوري، وكانت الفوضى، وكان الاستيلاء الأجنبي. ثبت المؤتمر في قراره الأخير فأعلن الحرب، على أثر وصول البلاغ النهائي، دفاعا عن الوطن، وصدر الأمر من وزارة الحربية بإرسال الفرقة الأولى إلى مجدل عنجر في منطقة ميسلون لتكون هناك مستعدة للحرب.
ولكن أعيان الأمة ورؤساءها الروحيين كانوا يميلون مثل الملك إلى قبول الشروط، فوكلوا الأمر إليه، فأرسل جلالته في 16 تموز برقية إلى الجنرال غورو يقبل الشروط كلها، وأصدر أمرا في تسريح الجيش وآخر إلى الجنود في منطقة ميسلون ليرجعوا إلى دمشق، إلا اللواء الرابع فيبقى محافظا على الحدود. على أن البرقية لم تصل إلى الجنرال إلا بعد انتهاء المدة المعينة في البلاغ؛ لأن العصاة، كما ادعت الحكومة، كانوا قد قطعوا الأسلاك البرقية في جهات الزبداني.
هب أنها الحقيقة ، فإن القيادة الفرنسية كانت عالمة بما كان يجري في تلك الأيام في دمشق، وقد حلقت طائرة في 18 تموز فوق المدينة، فألقت منشورا من الجنرال غورو مطلعه ما يلي: «في هذه الساعة التي تقذفكم فيها حكومتكم إلى القتال وتستهدف بلادكم لأخطار الحرب وويلاتها أوجه إليكم الخطاب لأقول لكم السبب الذي من أجله تقاتلون.»
فإذا كان عالما بما أقره المؤتمر السوري، أفلا يكون عالما كذلك بما أقره الملك بالاتفاق مع وزرائه وفريق من أعيان المدينة؟ أوما كان جديرا به أن يسأل في الأقل ضابط الارتباط الفرنسي في دمشق ليبحث عن السبب في تأخير الجواب، وهو القائل في منشوره: «على أني ما زلت آملا بأن السوريين الأذكياء المتنورين لن يرضوا بأن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة دفاعا عن الأقلية الأثيمة»؟
إذن هو عالم أن الأقلية ترفض شروطه والأكثرية تقبل بها، وقد أرسلت الجواب الذي فيه فصل الخطاب، فلماذا فضل الجنرال العمل بظنه على العمل بيقينه؟ فبعد أن أرسل البلاغ النهائي زحف جيشه، وهو زهاء ستة آلاف من الجنود السنغاليين والمراكشيين والجزائريين، على دمشق متخذا غير الطريق المعروفة، طريق وادي الحرير، فقطع سهل البقاع من جب جنين إلى وادي القلوح، فمر بقرية بكا، ثم بدير العشائر، فاستصحب أحد الرجال هناك دليلا، ودار إلى الديماس، فقطع خط الرجعة على السوريين المعسكرين في منطقة ميسلون، ووقف هناك ليؤمن مؤخرته قبل أن يستأنف الزحف على دمشق.
وقد دل المسلك في زحف الجيش على استعداده للقتال ورغبته فيه، فشاء عند وصوله إلى الديماس أن يخرج الجنود العرب من مراكزهم المحصنة ليضربهم في الفلاة ويحتل تلك الأماكن؛ لذلك بادر إلى احتلال مجدل عنجر عندما انسحب الجنود العرب منها، وأخذوا يتراجعون بدون نظام إلى دمشق، بيد أن اللواء الرابع ظل محافظا هناك بموجب الأمر الذي أصدره الملك، فتصدى للدفاع عندما تقدم الجنود الفرنسيون، فأسقط في يده وأسر برمته.
أما وزير الحربية يوسف العظمة، فكان قد أصدر أمرا إلى الجنود المسرحيين يناقض أمر جلالة الملك، فأوقف قائد اللواء الأول حسن الجندي، عددا من جنوده يراوح بين الثلاثمائة والأربعمائة وعاد بهم إلى ساحة القتال. فئة صغيرة وقفت وقوف الأبطال في وجه الفئة الكبيرة، فخشيت القيادة الفرنسية أن تكون القوات العربية التي انسحبت من مجدل عنجر متحصنة في جهات خان ميسلون، وأن تكون هذه الشرذمة طليعة جيش كبير، فرغبت إلى الملك فيصل بهدنة مدتها ثمان وأربعون ساعة تنتهي في الساعة الأخيرة من 23 تموز. فكانت الهدنة، وجاء مندوب الحكومة العربية مصحوبا بالمعتمد الفرنسي بالشام للمفاوضة مع الحكومة الفرنسية بعاليه.
أعود بالقارئ إلى المسرح في دمشق؛ حيث الثلمة بين الحكومة والأمة كانت تزداد خطرا واتساعا. فلما انتشر خبر الأمر بتسريح الجيش، نهض جمهور من الدمشقيين يحتجون، بل نهضوا للثورة في سبيل الاستقلال، وبادروا إلى الثكنة والقلعة يطلبون الذخيرة والسلاح، فأصدرت الحكومة أمرا بتشتيتهم. وكان قد وصل إلى دمشق بعض الجنود المسرحين العائدين من ميسلون، فازدادت نار الثورة تأججا، وكانت الفوضى تنفخ فيها على الدوام، فقام بعض الرعاع يصيحون مع الثائرين ويسلبون وينهبون. جاءت كتيبة من الجند لتشتيت هذه الجموع الهائجة، فنشب بين الفريقين القتال، ووقع مئات من القتلى تحت نيران المدافع الرشاشة.
وكان يوسف العظمة لا يزال مصرا على رأيه وعزمه، أما الملك فيصل فبعد التردد والتحير، نهض يوم الجمعة يشد حقويه ويستل السيف باسم الله، وقف يومئذ في الجامع الأموي خطيبا وطفق يدعو الناس للجهاد، ويعدهم بأنه سيكون في طليعة الجيش.
ولكن وزير الحربية الباسل سبقه إلى الجهاد، فخرج بأربعمائة جندي ومائتين من الهجانة، يصحبهم ويتبعهم جيش من الأهالي والعربان يراوح عدده بين أربعة وخمسة آلاف. جاء ينجد تلك البقية المستبسلة من اللواء الأول. ولكنه وهو وزير الحربية كان يعلم أن الذخيرة والمعدات لديه لا تكفي لمعركة واحدة خطيرة؛ ففضل الشهادة على الحكمة، والموت في سبيل الوطن على الحياة في ذله.
اتخذ العظمة عقبة الطين جبهة للدفاع، ونشبت في 25 تموز نار الحرب بين الجيشين في واقعة دامية استمرت ست ساعات، واستخدم فيها الجنود الفرنسيون الطائرات والدبابات، هي واقعة ميسلون المعروفة التي أضعفت القوات العربية، وأوقعت في صفوفها عوامل التفكك والانهيار.
ووقف يوسف العظمة في مقدمة رجاله يحثهم على القتال، فأصيب برصاصة في فخذه، وأخرى في كتفه، وظل يوجه ويقاتل حتى أصابته الثالثة في رأسه فهوى إلى الأرض شهيدا. رحم الله كل من مات بطلا في سبيل الحرية والاستقلال.
في اليوم التالي دخل الجنود الفرنسيون دمشق، وكان قد غادرها الملك فيصل ومعه بعض من لا يزالون في حاشيته من بغداد.
المعركة الأخيرة
جاء في إحدى رسائل جرترود بل
1
التي كانت ترسلها إلى أمها في لندن، إنها ذهبت بمعية الأمير فيصل عندما زار طاق كسرى عقب وصوله إلى بغداد، وبينما كانا يطوفان بذلك الصرح المتداعي، الباقي من بلاط الأكاسرة، وقفت المس بل إلى جانب الأمير، بالقرب من إحدى النوافذ، وطفقت تقص عليه باللغة العربية، وهي ترسل الطرف في السهل المنبسط أمامها، قصة الفتح العربي للعراق «كما رواها الطبري في تاريخه.»
سيدة إنكليزية، تروي بلسان عربي لا لكنة فيه، لأمير عربي من بيت الرسول، صفحة مجيدة من تاريخ العرب القديم! إنه لأمر فريد في بابه، إنه لموقف بعيد الدلالة في حقيقته وفي مغزاه، ولكن المس بل المبتهجة به ساءلت نفسها، كما تقول في الرسالة لأمها، ما إذا كان ابتهاج الأمير أشد من ابتهاجها؟!
وأنى الابتهاج لمثله؟! فإما أن المس بل أساءت التعبير، وقد كانت هذه الرسائل بعجلة محرقة، بين أشغالها الجمة، وإما أنها ما نفذت ببصيرتها إلى أعماق تلك النفس العربية الشعرية التي لا تعدم التصور في إحساسها الشديد.
وهل يدعو المجد الدارس للابتهاج، خصوصا وقد تلت ذلك الفتح العربي فتوحات آسيوية، تترية وتركية، لا تثير ذكراها في العربي سوى الشجون، ولا ينبغي أن نعود إلى ذلك المجد البعيد المضمحل، وما خلفه من طغيان الترك والتتر، لندرك ما كان يجيش في صدر الأمير فيصل من لواعج الغم والأسى، فإن في ماضي الأمير - هذا الماضي القريب - ما يكفينا مئونة التجوال في ربوع التاريخ وبواديه.
كيف لا والأمير يحمل في صدره أعباء عشر سنوات من خيبة الآمال ومن شؤم الجهاد ، ها هو ذا في مستنقعات الملاريا بعسير على رأس حملة تأديبية، وها هو ذا في مستنقعات الكلام في مجلس المبعوثان بالأستانة، وهاكه في سوريا أسير الشبهات، وسمير الجزع، وهاكه في البادية فارا من الطاغية جمال، بل من القدر والاعتقال؛ أهوال في السياسة تتلوها أهوال الحرب في شرق الأردن. هي خمس سنوات مليئة بالحوادث التي تثير في صدر صاحبها كل عاطفة غير الابتهاج.
وإن ما يتلوها لأشد وأنكى، فمن فتح الشام الذي ما عتم أن باخ مجده، إلى مؤتمر فرساي الذي كان فيه الأمير، ممثل العرب، كالحمل بين النمر والأسد،
2
إلى يوم التاج في دمشق، فالملك القصير الأجل، فالفرار الثاني، فيوم ميسلون!
سنتان اثنتان لا غير، ولكن الحوادث التي تزاحمت فيهما، وتراكمت في قلب الأمير فيصل، لا تفقد شيئا من مرارتها لو توزعت على أضعافها من السنين، فأنى لذكريات الماضي البعيد، وإن كان مجده لا يزال حيا زاهرا، وأنى لها وإن تغنت بها امرأة فاتنة، أن تمحو من قلب الأمير فواجع الأمس القريب، أو تغالبها فتنسيه إياها؟!
على أن ميسلون لم تكن المعركة الأخيرة؛ فقد خرج من دمشق يرافقه بعض صحبه الأوفياء من السوريين والعراقيين والإنكليز، فمروا بدرعا فحيفا، ومنها أبحروا إلى أوروبا. الجهاد، سيستأنف فيصل الجهاد، وسيجاهد هذه المرة بغير السلاح الذي حمله على الترك والألمان في شرق الأردن.
ولكن نار الحرب كانت قد أضرمت في جهة أخرى من الخط العربي الطويل. وإن لم تكن المعركة الجديدة، في صورتها الظاهرة معركة فيصل، فقد كان من المقدر أن تخدم أغراضه السياسية.
فقد قام العراقيون قبل التتويج ببضعة أشهر ينادون بالاستقلال ويطالبون به، وكان يحرضهم على ذلك الضباط العراقيون في الجيش العربي في سوريا، ومن عاونهم من الموظفين الإنكليز في الحكومة السورية، أولئك الذين كانوا ناقمين على إخوانهم في العراق و«خطتهم الهندية» في إدارة شئون البلاد. فالضباط العراقيون إذن، والموظفون الإنكليز في الشام، شجعوا العراقيين في نهضتهم، وبثوا تلك الدعاية التي رفعت أعلامها أولا في دير الزور، وأخذت تنتشر بسرعة في البلاد، من الشمال إلى الجنوب؛ من دير الزور إلى تل عفر، فالموصل، فبغداد، فكربلاء والنجف.
وقد كانت هذه الدعاية من الوجهة الإنكليزية جد محزنة؛ إذ إن الفريق الواحد من سياسيي الإنكليز لم يكن يعلم بما يفعل الفريق الآخر، بل كانوا في حقيقة الحال يحملون بعضهم على بعض، وكان العرب وحدهم الغانمين. ومن فواجع الإنكليز، وبعضها يضحك، أن الحكومة السورية، التي كانت تستمد يومئذ قوتها المالية من لندن، أمدت الوطنيين العراقيين بالمال؛ أجل! قد استخدم «الخيال الإنكليزي» لطرد الإنكليز من العراق!
هذه النهضة بلغت أوجها في شهر آذار سنة 1920، أي شهر التتويج في دمشق، وما كان فيها سر أو غموض. هي نهضة وطنية ذات خطة محدودة، وهدف معلوم، وكان الهدف سوري الشعار - هاكم سوريا مستقلة، فليكن العراق مستقلا مثلها، وكانت الخطة سورية عراقية - ليكن للعراق كما لسوريا ملك هاشمي، وخير من ذلك، ملك هاشمي للقطرين.
وبعد شهرين، أي في رمضان، حدث في العراق حادث خطير لم يسبق له مثيل هناك؛ فقد قام الشيعيون والسنيون بمظاهرة وطنية ولائية كبرى، وهم يدعون للاتحاد في سبيل الوطن. ومن مظاهر هذا الاتحاد حفلات المولد المشتركة التي كانت تقام في الجوامع والمساجد، فيحضرها السنيون والشيعيون، ويحولون الحفلة، بعد الصلاة، إلى اجتماع سياسي تلقى فيه الخطب المشعلة لنار الثورة، وتتلى القصائد المثيرة كالرياح لهيبها.
وعند انقضاء شهر رمضان خرج من سوريا السيد جميل المدفعي بحملة مجهزة، ينصر إخوانه الهاشميين في العراق، فاجتاز ورجاله نهر الخابور، وغزوا تل عفر، ثم غنموا من سيارات الإنكليز المصفحة اثنتين، بعد أن ذبحوا اثني عشر من رجالهم، وفيهم الوكيل السياسي وقائد جيش «الليفي» في الموصل.
هذه هي جذوة الثورة الأولى، التي أشعلت في الشمال، في الأسبوع الأول من شهر تموز، وبعد أسبوعين اعتقلت السلطة الإنكليزية في كربلاء وفي الحلة عددا يذكر من الوطنيين، وفيهم ابن أحد المجتهدين، ثم اعتقلت الشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم لدين عليه أبى أن يدفعه كما قيل؛ فهاج عرب الظوالم نافرين له، وجاءوا السراي صاخبين، فهجموا على السجن ودخلوه قهرا، ثم خرجوا بشيخهم يحدون ويهللون للثورة.
وعلى أثر ذلك أفتى مجتهد كربلاء بالجهاد، فاندلعت من كل جانب ألسنة النار ونفرت العشائر للقتال، أما الإنكليز فقد كانوا في سياستهم منقسمين، وكان أولو الأمر في السلطتين المدنية والعسكرية في نزاع شديد مستمر. زد على ذلك أن عدد الجيش يومئذ، نحو أربعين ألفا، لم يكن كافيا للدفاع؛ وأن قائد الجيش السر إلمر هلدين، فرارا من حر الصيف في العراق، نقل المركز العام إلى كرند في جبال العجم؛ مما حمل أحد شعراء الإنكليز في بغداد على هجوه بقصيدة.
3 •••
ليس من موضوع هذا الكتاب سرد حوادث الثورة مفصلا، لكن لا بد من القول إنها كانت ثورة ولا كالثورات. وأغرب ما فيها أنها اشتعلت اشتعال النار في الهشيم، دون زعامة تعرف أو ترى، إلا إذا حصرت في مجتهدي النجف الذين أضرموا نارها وتواروا، فسكتوا بعد ذلك أو أسكتوا.
ومع ذلك فقد انتشرت بسرعة البرق، من الديوانية إلى بعقوبة، ومن النجف إلى تل عفر. وكان رجال العشائر أول من سارعوا للحرب، فحاصروا السماوة والكوفة - الأولى أسبوعين والثانية ثلاثة أشهر - وخربوا سكة الحديد في أماكن متعددة، وهاجموا المعسكر في الحلة مرارا، وكانت خسارة الإنكليز في فرقة «منشستر»، التي خرجت لمحاربة الثائرين، 180 قتيلا و60 جريحا. بعد هذه الفاجعة أخلى الإنكليز الديوانية.
وكان الثوار على الفرات كذلك موفقين، إلا أنهم في بعض الحوادث نكلوا بالأسرى؛ فقد غنموا قافلة من قوافل التموين، وهاجموا مركبا في النهر، فساقوه إلى البر، فلاذ الإنكليز بالفرار، وأطلقوا بنادقهم على الباخرة «فايرفلاي» فدمروها، وأوقفوا الباخرة الأخرى «غرينفلاي» فأسروا رجالها، وجوعوهم، ثم ذبحوهم جميعا، وقد كانوا في أكثر مواقف الدفاع الشاقة ثابتين غير منهزمين، فغنموا السيارات المصفحة، وأسقطوا برصاصهم الطائرات، ولكنهم كانوا يقتلون من ينجو من رجالها، ويجهزون على الجرحى.
وكانت خسارة العرب مثل خسارة الإنكليز جسيمة؛ من أهمها - بعد الرجال - المفاتيل التي هدمها الإنكليز، تلك البروج الصغيرة التي كانت تعد بالمئات في سهول العراق، وهي حصن العشائر الحصين،
4
ومع هذه الخسارة كانت الغلبة في الشهرين الأولين للعراقيين، فامتدت الثورة إلى كفري التي غزاها الثائرون ونهبوها، ووصلت إلى بعقوبة فجلا الإنكليز عنها، وإلى راوندز في بلاد الأكراد، وإلى البادية الشمالية التي ينزلها عرب شمر، وقد وقت واقعة بينهم وبين الجيش الذي أرسل عليهم من الموصل، كانوا فيها المنتصرين. على أن الإنكليز، بعد أن وصلت إليهم النجدات، شرعوا في أواخر أيلول يعممون هجماتهم الناجحة، وكانت نار العرب في تشرين الثاني على وشك الانطفاء.
هذه هي خلاصة تلك الثورة المرتجلة، ومن رغب بالتفصيل لحوادثها، يجده في كتاب السر آرنلد ولسون،
5
فهو من التدقيق بمكان، وعلى جانب من الإنصاف يشكر، إذا ما ذكرنا أن سياسة مؤلفه هي من أسباب الثورة. وإنك لتجد المؤلف وافر الأدب، طويل الباع في العلوم السياسية والتاريخية.
أجل، إن السر آرنلد لمن الأدباء العلماء، ومهما تكن آراؤه مخالفة لآرائك، ومثله العليا بعيدة عن مثلك، ومهما يكن من التناقض بين ديمقراطية يجهر بها وسياسة استعمارية يؤيدها، ومهما يكن من تحامله على الرجل الذي يظل محمود الذكر،
6
مهما تكن شواذات السر آرنلد؛ فإنه خير مثال للرجل الإنكليزي الكريم من رجال الماضي، فهو يصارح دون أن يسيء، ويتفلسف دون أن يزعج، ويتهكم دون أن يتعامى عن الفضل، ويروي فوق ذلك - في كتابه هذا - من أقوال الفلاسفة والمؤرخين، ومن حكم الحكماء والسياسيين، ما يخفف على نفسه - في الأقل - وطأة النزعات السياسية، ويبرر في نظره فلسفته الاستعمارية.
ولكنه لم يكن في العراق من الموفقين، وماذا في طاقة امرئ مثله، وقد كان في صيف 1920 وحده يدير شئون البلاد، فلا المس بل بعلومها واختباراتها العربية وبصداقتها لرؤساء العشائر استطاعت أن تساعده، ولا الوكلاء السياسيون المحددة أعمالهم، وقد قتل الثائرون عددا منهم، وبات الآخرون في مراكزهم مهددين على الدوام بالهلاك.
لقد طلب السر آرنلد من حكومته بلندن سلطة مطلقة، فجاءه بدلها الجنرال هالدين، طلب التصريح بسياسة مقررة ثابتة، فجاءته بدلها «مبادئ» ولسون الأربعة عشر، حاول أن يؤسس في العراق حكومة هندية وحماية بريطانية، فجاءه من «ويتهال»
7
عن طريق «سملا»
8
البرقية تلو الأخرى؛ المقيدة، المبلبلة، المكربة: «أعلمنا ما هو الرأي العام - تحقق رغبات الأهالي - انتظر إلى أن يتم السلم بيننا وبين الأتراك - انتظر إلى أن يصدر صك الانتداب - كن حازما وبصيرا في مهمتك التي هي - لا شيء.» فلا عجب إذا تبرم وتغيظ، ولجأ إلى كتب الأدب والتاريخ.
وهاكه في طائرة يحلق، وفي حقيبته كتاب من الكتب الخالدة، إنها لطيرة مدهشة؛ طيرة هذا الجندي السياسي والعالم الأديب، وهو يحمل دررا من الحكمة وكنوزا من التعاليم السامية، أولا ترى جميل التناسب بين من يحلق عاليا حقيقة ومعنى؟ قال الفيلسوف إمرسون: «اقطر مركبتك بأحد النجوم.»
وقد قطرها السر آرنلد، فراحت تشق بخشمها الفضاء، وتستشم أريج الكون الأعلى. هي الحقيقة، ولا أثر فيها للخيال؛ فعندما امتدت نيران الثورة إلى جنوب بلاد الأكراد، ركب الطائرة إلى أربيل، وفي جيبه كتاب لبيكون هو «المقالات»،
9
وكانت مهمته سياسية كردية؛ أما الوسطاء فرؤساء الأكراد، وأما الهدف فقلوبهم؛ أجل، يجب أن يستولي على قلوبهم، ليظلوا موالين في هذه الثورة للحكومة. وها هو ذا يستعين بالفيلسوف بيكون، فيفتح الكتاب ويقرأ ما يقوله في الجسارة والإقدام، في مجالس الشورى، وفي ساحات العمل.
وكان يومه يوم الاثنين، يوم الشورى ويوم العمل، فطار على جناحي الجسارة والإقدام توا إلى قلوب الأغوات. جادل، وجامل، وأقنع الأغوات، وعندما كان يخامره شيء من الريب بنفوذ كلماته كان يلجأ إلى كتاب آخر صغير، يحمله دائما، وقد دون فيه لبعض الوزراء المشهورين كلمات حكيمة بليغة في العراق وشئونه.
من هذا الكتيب كان يتلو الآيات على مسامع أغوات الأكراد؛ هذه العبارة الساحرة هي من كلمات لويد جورج، وهذه العبارة الذهبية هي من كلام تشرشل، وهذه الآية الرائعة ... وما كان يغمس في الماء الورقة التي كتبت فيها الآية، ويعطي حضرة الأغا الماء ليشربه، لا، لم يكن السر آرنلد من أولي الكرامات، ولكنه كان يؤكد للأغوات في أربيل أن هؤلاء السياسيين العظام «يصدقون فيما يقولون، ويبرون بما يعدون.»
على أن هنالك من كانوا يعلمون بما يعلم، ويستشعرون الصبر عليه، وهل كان يا ترى يجرؤ السر آرنلد ولسون أن يفتح كتيبه في حضرة الأمير فيصل؟! دع عنك هذا، وعد معي إلى الموضوع الذي أوجب هذا البحث. ليس في سياسة السر آرنلد - على صواب كان فيها أو على خطأ - ولا في نزاعه والسلطة العسكرية، إن بررت الحوادث موقفه أو لم تبرره؛ ليس فيها ما يهمنا غير ما يتعلق بناحية من الثورة؛ فقد خدمت الثورة أغراض الأمير فيصل خصوصا، والقضية العربية عموما، وكانت الأيام تعجل بساعة الحكم النهائي؛ لأن وزارة المستعمرات كانت حائرة في حل لمعضلة العراق يرضيها، ويرضي الحلفاء، ويرضي كذلك العراقيين.
كان الأمير في تلك الأيام بلندن، وهو يحمل كتاب قضيته وقضية العرب، ليتلو منه الآية بعد الآية على مسامع السياسيين العظام، أولئك الذين دون السر آرنلد ولسون كلماتهم الساحرة في كتيبه، وهو يقاسي، في غير مواقفه السياسية العراقية، شيئا من ألم النفس - من الحيرة والتردد - في إخلاصه لأصحابها، وإعجابه بهم.
وقد كان أولئك السياسيون يفكرون بملك للعراق، وبالبيت الهاشمي قبل وصول الأمير فيصل إلى لندن، فيعيدون النظر من حين إلى آخر في صور أنجال الحسين. وها هي لديهم كلها: علي، عبد الله، فيصل، زيد. الرجل الصالح، والرجل الجامح، والشاب الذي لا يزال في المدرسة بأكسفورد، والرجل الذي خبرناه في ساحات الحرب، وفي دوائر السياسة، الرجل الأقرب بعقليته إلى العقل الأوروبي وإلى القلب الإنكليزي؛ فيصل.
على أن الجهر باسمه، بعيد فاجعة دمشق، لم يكن مناسبا، خصوصا وأن الجارة عبر بحر المانش تستاء، وقد تحسب الاختيار امتهانا لكرامتها العزيزة، وإنه في نظرها، لكذلك؛ فقد جاء الاعتراض على فيصل من ال «كاي دورساي». وكيف لا تعترض والكرامة الفرنسية لا تزال طرية العود. لننتظر قليلا إذن ريثما تسمك قشرتها، ويكثف حسها فنعمل إذ ذاك ما نشاء.
وإن هي إلا برهة من الدهر، أخمدت خلالها نار الثورة في أهم نواحيها فأقيل السر آرنلد ولسون من منصبه، وتعين السر برسي كوكس (في تشرين الأول سنة 1920) مندوبا ساميا في العراق. وقد كانت مهمته الأولى أن يؤسس حكومة عربية طبقا للانتداب الذي وكلت عصبة الأمم أمره إلى الحكومة البريطانية. وقد أدرك أرباب هذه الحكومة أن أسلوب الاستيلاء القديم أصبح مستنكرا، فصار ينبغي - حتى لأشدهم تمسكا به - أن يغلفوه بشيء عصري مستحب، فعقدوا النية على أن تكون للحكومة الجديدة، صورة عربية الوجه فحسب، ولا يغيبن ذلك عن بالك، أيها المندوب، «البناء إنكليزي والوجه عربي، هذا كل المستطاع.»
قد كان السر برسي كوكس عالما بذلك كل العلم، ولكنه ما نسي أن جنود بريطانيا، منذ وطئت أقدامهم البصرة إلى يوم دخولهم بغداد، كانوا متيقنين أنهم فتحوا العراق، لا للعراقيين ولا للعرب، بل لإنكلترا وشفيعها القديس جرجس. وهل الذنب ذنبه إذا عبثت السياسة بآمالهم وقضت على ذلك اليقين؟ فقد كان يومئذ عميد الحملة العسكرية في العراق، وهو اليوم عميد الحكومة البريطانية، وعصبة الأمم - والرئيس ولسون!
إن مهمته هذه لأصعب جدا من تلك، ولا سيما ومسئوليته الآن عجيبة، منقطعة النظير. هي مسئولية مثلثة الزوايا، وعليه أن يحشر في المثلث أمة فتية جديدة، ويضمن لها الخير والسلامة.
عندما باشر السر برسي العمل، كان من أعوانه الأولين المستر فلبي - الحاج عبد الله اليوم، «المستوهب» - والمس بل المستعربة، وكانت وظيفتهما ذات متن واحد كثير الحواشي؛ فمن ترجمة الرسائل والبلاغات، إلى استقبال الزائرين، إلى مجاملة طلاب الوظائف، إلى مقابلة ذوي النفوذ والجاه في بيوتهم، إلى ... وكل ذلك تمهيدا لتأسيس المجلس الوطني لحكومة الانتداب، أو بالحري لتشييد الوجه العربي للبناء الإنكليزي.
وقد تم بعد قليل ما ابتغوه، وكان النقيب المستسن المبشر بالخير على الدوام، السيد عبد الرحمن الكيلاني، الركن الأول في البناء. وهناك نقيب آخر بارز بين الأركان، هو السيد طالب الكيلاني، سيستوقفنا بعد حين.
تأسس المجلس الوطني وباشر أعماله، ثم دعي السر برسي كوكس وغيره من الحكام الإنكليز في البلدان العربية لحضور المؤتمر الذي عقده في القاهرة (في آذار 1921) المستر ونستون تشرشل، وزير المستعمرات يومئذ، للبحث في تأسيس دائرة خاصة في وزارة المستعمرات، تتوحد فيها المصالح والمسئوليات البريطانية في الشرق الأدنى، «رغبة في تخفيف عبء الضرائب على المكلف البريطاني بأسرع ما يمكن.» كما جاء في التقرير الرسمي .
وما جاء شيء، صراحة أو تلميحا، في التقرير عن الأمير فيصل، الذي أم كذلك القاهرة في ذلك الشتاء، وكانت أغراضه تتصل، مباشرة وضمنا، بالمكلف البريطاني المذكور. وكيف لا وفي العراق حمله الأثقل. وها هو ذا الأمير، وقد تسلح بالاقتصاد، يحارب الآن بنفسه، لا لنفسه والعراق فقط، بل للمستر تشرشل كذلك، فالسبيل القويم إلى تخفيض الضرائب في بلادكم، يا حضرة الوزير، هو أن تؤسسوا في العراق حكومة عربية وطيدة الأركان.
وكان السر برسي كوكس موافقا، بل كان يحمل في جيبه لائحة لتخفيض خمسة عشر مليون ليرة إنكليزية من ميزانية بلغت خمسة وثلاثين مليونا. ويستمر في التخفيض كل سنة عملا بما يبرره تقدم الحكومة الوطنية، وخصوصا في تأليف جيش وطني يغنينا عن قوات الدفاع البريطانية، ومن رأي الأمير والعميد أن على الحكومة البريطانية أن تدعم هذه الحكومة العربية دعما أكيدا، دون أن يكون ظاهرا، أما شكل الدعمة ومداها فلا العميد يدري، ولا الأمير. لتترك للأيام تكيفها وتقرر شأنها. فأطرق المستر تشرشل هنيهة ولسان حاله يقول: في المسألة غموض مفيد. ثم فاه بكلمة الاستحسان، بيد أنه ظل يقلب في فكره «البناء الإنكليزي ذا الوجه العربي».
عاد السر برسي كوكس في الشهر التالي إلى بغداد، وسافر الأمير فيصل إلى مكة يستمد بركة أبيه. وقبل أن أعلن رسميا ما تقرر في مؤتمر القاهرة، كانت أسلاك البرق بين العراق والحجاز تنبض بأنباء التهنئة والمسرة.
على أن الجو ما خلا من الغيوم؛ فقد اعترت الحكومة الموقتة نزعات سياسية عجيبة، تمثلت في السيد طالب النقيب وزير الداخلية والمستر فلبي مستشاره، وما اتفق الاثنان إلا ليقتلا الأمير، على أنهما اختلفا في الوسيلة إلى الغرض المنشود؛ فقد كان فلبي يدعو للجمهورية، والسيد طالب لملكية غير هاشمية. فطاف السيد في البلاد، خلال تغيب المندوب السامي، يخطب ويبشر بملك عراقي قح، وبتاج لا يصلح لغير النقيب، وهو كذلك نقيب ابن نقيب، وكان الله محب النقباء.
وأين المس بل تنصح للسيد طالب وتهديه؟ إنها كانت في مؤتمر القاهرة تساعد في إنارة ذهن المستر تشرشل وهديه، وعندما عادت ورفاقها إلى العراق استقبلهم روح الشغب والشقاق، وقد سادت تلك الروح العشائر أكثر من سواهم، وهم موالون للسيد طالب، متشيعون له. فلا عجب إذا هدد بهم الإنكليز، فقد أدب مأدبة لبعض الصحفيين منهم، وخطب خطبة أشار فيها إلى رؤساء العشائر الذين كانوا حاضرين، وأنذر الحكومة البريطانية إذا كانت لا تقوم بتعهداتها التي عبر عنها بكلمتين: العراق للعراقيين.
أيهددنا هذا النقيب بثورة أخرى؟ لقد طفح الكيل، وانقطع حبل الصبر حتى في صدر السر برسي الرحب الهادئ، فطلب من القائد العام أن يهتم حالا في تسفير السيد طالب. فصدر الأمر وأزفت الساعة، ولكن الرواية في طريقة الاعتقال روايتان، صدقت منهما غير الرسمية؛ فقد جاء في تقرير المندوب السامي أنه «ألقي القبض على السيد طالب في الشارع العام.» والحقيقة هي خلاف ذلك، إلا إذا حسبنا الجنينة أمام دار الانتداب شارعا عاما.
وما شأن السيد بتلك الجنينة، ومن ذا الذي اصطاده هناك؟ لا تعجب إذا قلت لك إن المس بل نفسها هي الصائدة؛ فقد أطلقت صقرها على طير البصرة وكانت ظافرة، وكان ذلك منها في سبيل التكريم لبطل العراق؛ أجل، قد أرسلت المس بل تدعو السيد طالب للشاي في دار الانتداب، فقبل السيد وكان في أثناء التكريم أسير لطف سيدتين؛ اللايدي كوكس وصاحبة الدعوة. وعندما خرج من الدار استقبله عند الباب في الجنينة آسرون لا آسرات؛ آسرون مسلحون، فأدخلوه السيارة، دون سلام ودون كلام، وساروا به مسرعين إلى البصرة؛ حيث كانت تنتظر الباخرة التي أقلته إلى جزيرة سيلان. «ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل.» وفي سبيل الوطن؛ فقد كان السيد طالب مغوارا في وطنيته، جبارا في أعماله، طيارا في آرائه وآماله، وكان شديد الإيمان، حتى في ساعات شرابه، بما حواه ذلك الرأس القائم بين كتفيه كبرج من العاج. إني لأذكر اجتماعنا في جدة في خريف سنة 1924، وأذكر من الأحاديث حديثا عن العراق؛ فقد قص علينا بعض وقائع أيامه تلك، ونحن نشرب الوسكي والصودا، ثم وضع الكأس على المائدة، ورفع يده إلى ذلك الرأس اللامع الشريف يمسحه ويربته قائلا: «إن ها هنا شيئا لا يغلب، لا يغلب.» وكان يفكر بالعودة إلى العراق وإلى السياسة، كان لا يزال يحلم الأحلام الذهبية، فقال يستأنف الحديث: «الأمور مرهونة بأوقاتها، وستسمعون عندما أعود ما يدهش ويسر إن شاء الله، وسأطلبك يومئذ يا أستاذ وأعينك وزير المعارف.»
هي الأحلام تهدم صروحها الأيام. عاد السيد طالب إلى البصرة، فحال - وا أسفاه! - القدر دون أمانيه؛ فلا كان ولا كنت أنا من الموفقين، ولكنه خصني بحلم من أحلامه، رحمه الله ورحم «وزير المعارف». فإني لا أزال أسير هذا اللقب الفاتن - الفاتن صاحبه، أيها القارئ العزيز - ولا يزال «صاحب المعالي» طيفا من الأطياف السابحة في سماء الخيال ...
لنعد إلى حقائق الحياة الدنيا، إلى موضوعنا، قد أشرت إلى الغيوم في سماء الأمير فيصل العراقية، وأسميت غيمتين منها، بدد الدهر إحداهما. وهناك غير الواحدة الباقية؛ أي غيمة الجمهورية في شخص فلبي؛ مما كان يقلق خصوصا دار الانتداب؛ فقد كان المحافظون - وعلى رأسهم السيد عبد الرحمن النقيب - ملكيين، شريفيين، وبإذن الله فيصليين - لا يفوتنك أن بعضهم كانوا متشيعين لأخيه الأمير عبد الله - وكان الوطنيون المتطرفون، وأكثرهم من الذين أداروا من سوريا الدعاية للثورة وعادوا إلى بغداد، من دعاة الأمير وأنصاره قلبا وقالبا، بقي أهل الشيعة وهم على الإجمال في حال غامضة كان يصعب التكهن بها، والعشائر وهم مترددون متقلقلون، والأقليات - المسيحيون واليهود - الذين كانوا يحسبون القوة المسيطرة ملجأهم الأول، وحصنهم الأدوم.
ولكن القوة المسيطرة كانت تنظر إلى الجميع في تلك الأيام نظرها إلى الأقليات، هي للكل بما ستقيمه من الحق، وتضمنه من الحقوق، وتحميه من المصالح العامة - إن شاء الله - وإنها لمستعينة على ذلك بالأمير فيصل، جهرت بهذا مرارا، وكانت فيما تجهر صادقة.
أجل، قد كان الإنكليز يعولون حقا على الأمير في سياستهم الجديدة، وكانوا ينتظرون منه، لما علموا وتحققوا من مواهبه وسجاياه، أن يكون بنفسه الدعاية الكبرى لنفسه، والبرهان الساطع على حسن اختيار البريطانيين.
وكانوا يتوقعون منه فوق ذلك أن يأتي ببعض المعجزات، هو ذا العراق وأهله، قضاتك اليوم، وشعبك غدا، فيجب عليك أن تسحر الشيعيين، وتفتن السنيين، وتقنع النصارى، وترضي اليهود، وتبعث خوف الله في قلوب العشائر. يجب عليك، وأنت الساحر، أن تستولي على العقول والقلوب في الشيوخ والشباب، في المحافظين والمتطرفين، في المعممين والمتطربشين. عليك أن تفتنهم، تسحرهم جميعا، وتسحر معهم ذلك الخليط الأثري من الشعوب؛ أي الأقليات المسيحية واليزيدية والبهائية والصابئة واليهودية.
فإذا كان ذلك كله في استطاعة الأمير، رضيت الأمة عنه (والتاج لا يزال رهن رضاها) وهانت مهمة الانتداب. على أن للمسألة وجهة أخرى؛ فإذا جاء بالمعجزات، أفلا يطمع بعد ذلك بالحكم المطلق؟ أفلا يصبح في الأقل فوق طاقتهم، هو ذا المشكل الأكبر الذي وجب حله على السر برسي والمس بل وأعوانهما، وما رأوا له غير حل واحد؛ هو في حفظ التوازن بين الفريقين، وفي مسلك الاعتدال لكليهما. فيجب على الأمير أن يذكر على الدوام أن لولا الإنكليز لما كان في العراق، ولا يغيب عن بال الإنكليز أن مصاعبه هي مصاعبهم، فيجب عليهم أن يساعدوه في مقاومتها وفي التغلب عليها.
علينا إذن أن نحمل الميزان من أجل البلاد - أية بلاد؟! - وأن نحافظ على التعادل بين كفتيه، علينا نحن المسيطرين ألا نقيد أنصار الأمير المتطرفين كل التقييد، وأن نساعد المحافظين ليزدادوا قوة ونشاطا، ولا يتم لنا ذلك بغير الكياسة والمرونة، فنرعى ذمام أهل الوجاهة في البلاد، ونعالج العداوات بالتي هي أحسن.
إني أعطيك بكلمة أوضح فكرة المسيطرين: ينبغي ألا يكون الملك بطلا، وألا يكون خيالا، ليس دور الساحر دور فيصل إذن، بل هو دور المندوب السامي، وإنك لتدرك شيئا من أسلوبه السحري في موقفه الأول، فهاك إلى يمينه المس بل، وهي تمدح في رسائلها إلى أمها «وطنيينا الأعزاء»، وإلى يساره المستر فلبي، وهو يرسل كلماته في الجمهورية ولها، فتصل حتى إلى العشائر على الفرات، أضف إلى ذلك المساعي الرسمية، وغير الرسمية، التي كانت تبذل لتأليف حزب شريفي من شتى العناصر السياسية والدينية.
وما كان المتطرفون قابعين في المقاهي يدخنون الأراكيل، بل كانوا في أعمالهم أشد تيقظا وأكثر نشاطا من الأحزاب الأخرى. وقد سافر وفد منهم إلى البصرة ليرحب بالأمير، ويعلمه بدقائق الأمور وخفاياها، نعم، أذنت المفوضية بالسفر، ولكنها ضنت بالأخبار، وما كان في البصرة أحد من الموظفين عالما بموعد وصول الأمير، ولا فرق إن جهلوا أو تجاهلوا؛ فعندما وصل الوفد إلى المرفأ كانت الباخرة راسفة بحبال من مسد مشدودة إلى أوتاد من حديد، وكان الأمير قد أصبح بعيدا، وهو أسير المرحبين به من أصدقائه «العاقلين» الإنكليز والعراقيين.
أما في بغداد فالفيصليون أعدوا مظاهرة كبرى للترحيب، وراحت الحكومة الموقتة، يحف بها الأنصار، ترحب بالأمير في المحطة، ولكن أولي الأمر ها هنا كذلك جهلوا أو تجاهلوا موعد وصول القطار، وكان بين الجموع المنتظرة عدد وافر من الإنكليز رجالا ونساء، فشكوا مثل الأهالي التأخير، وتأففوا من الظهيرة في تموز. وبينا الجموع في هذه الحال، يشكون الحر والانتظار، جاءت برقية تقول إن القطار متأخر ساعتين، فارتأى المندوب السامي - رحمة بالعباد - أن يتأخر سبع ساعات بدل الساعتين، وكان كذلك، فوصل القطار ليلا، وكان الاستقبال رسميا، باردا.
تحدث أحد الإنكليز - رفيق الأمير في رحلته هذه - إلى المس بل، فأخبرها بما كان من فتور الترحيب الأهلي، وقد كان الأمير متيقنا أن السلطة المحلية في الطريق تستطيع - إذا شاءت - أن تجمع الناس، وأن تحول دون اجتماعهم، بيد أنه أخبر وهو في القطار أن السر برسي كوكس متردد في ولائه، ومتخذ موقف الحياد، وأن المستر فلبي يبشر بالجمهورية ويدعو لها، وأن المس بل وحدها هي قلبا وقالبا من أنصاره. لله در تلك الإنكليزية الكريمة الباسلة؛ فقد طالما سمع الأمير عجيب أخبارها، وعلم شيئا من ولائها وإخلاصها له وللعرب، فعندما وصل القطار إلى المحطة في مساء ذاك اليوم، تقدم إليها مصافحا شاكرا. ومنذ تلك الساعة إلى آخر يوم من حياتها العجيبة في بغداد ظل يحترمها، ويعدها من أخلص أصدقائه الإنكليز، ومن أكثرهم فضلا.
ولكنها وهي تخدم «سيدي فيصل» بكل قواها - فيما يتفق طبعا وسياسة حكومتها - كانت تعجب كل الإعجاب بالسر برسي كوكس، وتجهر دائما بأنه رئيسها الأول. وها هي تساعد الآن، عملا بمشيئته، لإطفاء شعلة الحماسة في صدور المتطرفين الذين شاءوا أن ينادى بالأمير ملكا حين وصوله؛ ذلك لأن ساحر المفوضية الذي وصفه أحد رؤساء العشائر في قوله إنه «رجل ذو أربعين أذنا ولسان واحد.» - وما أبطأ ذلك اللسان وأحذره! - لا يريد أن تكون الكلمة الأولى في الأمر للمتطرفين، وقد ردهم ردا حسنا في قوله أن ينبغي أن يكون العمل شرعيا، وذلك لا يتم في يوم واحد.
وكان العمل شرعيا، فقد قرر مجلس الوزراء، في 11 تموز، أن يكون الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق، وأن يكون الحكم دستوريا نيابيا ديمقراطيا. فأشار المندوب أن يثبت القرار بالمبايعة أو ما نسميه اليوم بالاستفتاء، ثم شرعت الحكومة تعد العدة لهذا الاستفتاء، الذي تولى إدارته وأشرف عليه في أكثر النواحي الوكلاء السياسيون. وقد وضع المبايعون في بعض المدن، منها البصرة والرمادي، شرطا فرضته دار الانتداب رأسا؛ لأن مجلس الوزراء رفض أن يثبته في القرار؛ أما هذا الشرط فهو أن يقبل فيصل بمشورة الإنكليز.
قلت إن دار الانتداب فرضت هذا الشرط فرضا، فقبل في بعض المدن، وما كان ذلك منها إلا لأن السر برسي رأى الاستئثار في العمل خيرا من النزاع بينه وبين المجلس، ولكن هذا الأسلوب في تنفيذ الأمور لا يبشر لسوء الحظ بحسن المصير. إننا نسلم بالمستطاع من حقكم، ونتمسك بالباقي الذي هو حقنا، فننفذه بالأمر وإن تعددت أساليب التنفيذ. هو ذا موطن الضعف في سياسة السر برسي كوكس، وقد طالما زاد هذا الاستئثار - المقنع تارة، المكشوف طورا - في سوء التفاهم وسوء الظن، وبما كان ينشأ عنهما من النزاع والعداء بين الحكومة العراقية ودار الانتداب. إن الجرح يبرأ من الأسفل فصاعدا، وإذا سارع الطبيب في لأمه قبل الأوان، استحال قرحة مزمنة.
ولكن السر برسي كوكس كان يؤثر الفصل في الأمر ولو مساومة على العلاج الطويل البطيء، فيقطع العقدة في بعض الأحايين ويمشي دون أن يقف أو يتلفت ليرى ما عسى أن تكون نتيجة عمله، وهو كذلك في هذه المهمة الملكية، فقلما كان يدرك وهو يقيم ملكا ويوازن القوات السياسية حول عرشه، أو قلما كان يهمه ما قد يتبع القطع السريع أو اللأم من التقرح، بل من الانفجار.
على أنه في بداءة أمره استبشر بالأمير فيصل، الذي كان في أحاديثه، وخطبه ذلك الأمير المنتظر؛ فقد حقق آمال الإنكليز والعراقيين.
وقد حذا خصوصا في خطبه حذو جده الرسول، فجعل كلامه على قدر عقول الناس؛ فجاء عفو القريحة، خلوا من التعمل والتفوق، سهلا واضحا، صريحا فصيحا، وكان فوق ذلك يخص كل فريق من الناس وكل وفد من الوفود، بكلمة توحيها إليه تقاليدهم ونزعاتهم السياسية والدينية، فيتمثل لهم فيها معاني الثقة والكرامة والفلاح.
كأني الآن أسمعه يناشد الشيعة بوحدة الإسلام والإخاء الإسلامي: «أولا نؤمن نحن وإياكم بالله وبالرسول، ونكبر آل البيت؟! أوليس السادة والأشراف جميعا من سلالة واحدة؟!» وأسمعه يتلو على أهل السنة من صفحات العباسيين الذهبية آيات المجد والنور، فيذكرهم بالرشيد وبالمأمون، وبما كان في عهدهما المجيد من فضل العرب على الأوروبيين، ثم يحثهم على النهوض والتعاضد لتجديد ذلك المجد والزيادة فيه. وكان يصرح ويؤكد للأقليات أنه مقيم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين الرعية، على اختلاف المذاهب الدينية، فيعيد ما قاله مرارا: «كنا عربا قبل موسى وعيسى ومحمد.»
وكان يحدث المعتدلين في ثقة المرء بنفسه، وفي الشجاعة والإقدام، وفي الحماسة التي تضرم في نهضات الشعوب نار الإيمان، وتكللها بالنصر والفلاح. وكان يحذر المتطرفين من المزالق والأخاديد الظاهرة والخفية، ومن شر الردات التي تنجم غالبا عن استعجال الأمور، وعن الفوز الذي يجيء ناقصا قبل أوانه. وكان يختم كل حديث وكل خطبة بهذه الكلمات: «إني أطمئنكم وأؤكد لكم أن مساعدة الإنكليز للعراق هي كمساعدة الصديق للصديق، وإننا نقبل هذه المساعدة كأمة حرة من أمة حرة، دون أن نفادي بشيء من المصلحة أو من الكرامة.»
ومع ذلك كله فقد تخلل أصوات الاستحسان وهتاف الإعجاب، غنات من الريبة، وخنات من التردد، وقد كان في استطاعة الإنكليز، بعد أن ظهر الأمير في أصدق مظاهر التناسب والتضامن التي كانوا يحبذونها وينشدونها، بل بعد أن برهن بنفسه على أنه عونهم الأكبر في نجاح المهمة، وفي تحقيق الاستقرار، كان في استطاعتهم - أقول - أن يغنوه عن استماع شيء بنفسه من تلك الغنات والخنات بين أصوات الإعجاب والثناء.
وما كانوا في هذه الفعلة صريحين كل الصراحة، فقد سمع الأمير أن بعض القبائل مترددة في ولائها، بل معادية له، فأرادوا أن يتحقق الأمر بنفسه في زيارة دبروها، ولكنهم جهروا بشيء وكتموا أشياء.
زار الأمير عشائر العمارات والدليم في مضاربهم، وكان في معيته بعض أولئك الإنكليز أصحابه، وفي مقدمتهم جرترود بل، التي وصفت في إحدى رسائلها ما شاهدت يومئذ وسمعت.
وإني فيما أقص عليك الآن معول على روايتها؛ لأنها صادقة بتفاصيلها - كما علمت بعدئذ من الملك فيصل نفسه - بعد أن وصفت المشهد الرائع ببداوته، وباجتماع قبيلتين من أكبر قبائل العراق، قالت: «وقف الأمير يخطب فيهم بتلك اللهجة الفخمة لهجة الصحراء، وبذلك الصوت الجهوري صوت البدو، فاستحثهم على الاتحاد والتضامن، وذكرهم بما عليهم من الواجبات في رعي العهود والمحافظة على الأمن في البادية، ثم قال: ومن هذا اليوم وهذه الساعة - وقف ها هنا ليسأل تاريخ ذاك اليوم فأجابه أحد الحضور، فأعاد كلامه مؤرخا - إني ولي أمركم ومسئول عنكم، فمن تجاوز حدوده فحسابه عندي. سأقضي بينكم بالعدل في مجالس يحضرها شيوخكم، وهذا حقي عليكم أنا ولي أمركم.»
فسأله شيخ طاعن بالسن: «وحقوقنا؟ أليس لنا حقوق؟!» - «بلى، لكم حقوق، وسأقوم بواجبي في المحافظة عليها.»
وعندما فرغ من خطابه تقدم الشيخ فهد الهذال أمير العمارات، والشيخ علي سليمان أمير الدليم، فوقفا أمام فيصل وقالا: «إننا نبايعك؛ لأن الإنكليز قابلون بك.»
هذا ما أراد الإنكليز أن يسمع الأمير، لولانا ما بايعوك، هذه هي الطعنة التي دبرت من أجلها، بعلم المس بل، تلك الزيارة، فتلقاها الأمير بصدر رحب، هادئ البال، وأدار بوجهه إلى الصديقة الفاضلة وهو يبتسم ابتسامة دقيقة المغزى، ثم قال: «إن علاقتي مع الإنكليز معروفة ولا أحد يشك فيها، وموقفي العربي هو كذلك معروف، إنما يجب علينا أن نصلح شئوننا نحن العرب، ويجب علينا وحدنا أن نحسم كل ما بيننا من خلاف.»
ثم قالت المس بل: «وعندما نظر الأمير إلي النظرة الثانية، رفعت يدي مضمومتين، الواحدة على الأخرى، رمز الاتحاد بين العرب والحكومة البريطانية، إنه لمشهد رائع؛ مشهد اثنين من كبار رجالات العرب لعبا دورا خطيرا في تاريخ عهدهما
10
وفيصل بينهما، أشرف مثال حي لشعبه
11
ونحن الإنكليز حلقة الوصل!»
سألت الملك فيصل رأيه في الحادث، وأطلعته على ما جاء في رسالة المس بل التي لم يكن عالما بها، فقال: «أحسنت المس بل فيما كتبت، وأساءت فيما فعلت، رحمها الله.» وما زاد كلمة على هذا.
وسألت أديبا من أدباء إنكلترا بعد أن قصصت الخبر عليه، فقال: «لا عجب، إن ابتهاجها بكوننا نحن الإنكليز حلقة الوصل بين الملك والقبائل أنساها كل شيء آخر، ولا أظنها فكرت في تلك الساعة بالأمير فيصل كرجل يكرم أو يهان، بل كرمز لمجد الإنكليز لا غير.»
رحم الله المس بل؛ فقد كانت - على ما تزاحم في حياتها من الأضداد - أول العاملين في سبيل فيصل، المخلصين له في تلك الأيام، ولا أظن أن أحدا في دار الانتداب كان أشد منها سرورا بنجاح الاستفتاء ذلك النجاح الباهر؛ فقد حاز الأمير ستة وتسعين صوتا من كل مائة من أصوات الأمة.
وجاء يوم التتويج، وصدق المثل العربي في المستر تشرشل الذي له في كل عرس قرص؛ فقد استمر يقلب في فكره «البناء الإنكليزي ذا الوجه العربي» وهو حائر في أمره؛ فيقرر في الصباح صحته كاملا، وفي الأصيل صحة نصفه، وفي المساء فساده كله، وفقا لمهب الرياح حول الدولاب السياسي في لندن وجنيف، ولكنه أرسل في الساعة الأخيرة برقية مصعقة - هي الصاعقة بعينها - ولا يعلم غير الله ما كانت تحدث في الحفلة، بل في العراق، لو لم تسقط بموضع غير موصل في دار الانتداب.
قال المستر تشرشل في برقيته: «من الواجب على فيصل أن يعترف في خطبة التتويج أن السلطة العليا في البلاد هي دار الانتداب البريطاني.»
أقيمت الحفلة في باحة السراي (في 23 آب 1921) وكان فيصل في خطبته عراقيا وطنيا، وعربيا قحا؛ فما فاه بكلمة تشير، حتى إشارة، إلى «السلطة العليا» أو إلى الانتداب، إنما حصر كلامه بالمعاهدة التي ستعقد بين العراق وبريطانيا، وتعهد بأن يرعاها، فيدخلها في صلب الدستور الذي سيسنه المجلس.
فهتف الناس: «عاش الملك فيصل ملك العراق.»
وهمس إبليس في أذن الزمان: «عاش المستر تشرشل.»
لقد انتهت الحرب، وما انتهى القتال.
الجو المكفهر
في صباح اليوم الأول من زيارتي الأولى لبغداد، ساعة خرجت من القطار، عراني شيء من الريب بحسن نية الشمس المشرقة؛ فقد كانت تبسم بسمة صفراء، وتبص بصيصا من خلال الغيوم البيض، فتتوارى أشعتها النحيلة هنا وهناك، بين النخيل وعند الأسوار، كأنها حقا بصاصة تتجسس لمندوب الكون الأعلى.
وما كنت الوحيد يومئذ فيما أحسست به وتشاءمت، إلا أني رأيت ما لا يراه أبناء المدينة؛ شمسا تخادع الأفق العابس، وهم قلما يتوقعون من هذه الشمس التي تنير العالم أن تنير كذلك قلوب الناس؛ لذلك رأيتهم جميعا - العرب والإنكليز، من ساسة المقاهي إلى الملك، ومن الجنود السائقين السيارات المصفحة إلى المندوب السامي - في حال من الجزع والقنوط انخلعت لها القلوب كما نقول، أو بردت منها الأرجل، كما يقول الإنكليز.
وكان ذلك في مطلع السنة الثانية بعد التتويج؛ فقد ولت السنة الأولى بأشهرها الاثني عشر، وما تم شيء. ما بوشر شيء في الملك الجديد حتى من مقدمات الأعمال، بل كانت الأمور استطرادا للعهد السابق للتتويج، تنبئ بالتفكك، وتنذر بالفوضى. وليس في مراكز السيادة والحكم - لا في البلاط ولا في دار الانتداب ولا في السراي - من يحسن معالجتها؛ فقد كانوا جميعا يشعرون بجمود الدم في الأطراف، إن الأرجل الباردة لفي كل مكان.
بيد أن المدينة بغداد ملكت على ذلك نفسها، مثل سائر العواصم في الأزمات، وظلت لها جرأة الاستمتاع بشيء من اللهو والسرور، فما خفت في المقاهي صوت الأراكيل، ولا خف ازدحام الناس في أبواب دور السينما، وظلت ألعاب ال «بريدج» وال «بوكر» قائمة في المنتديات، وكانت أنوار المآدب تتألق زهوا وترحابا حسب العادة في الفنادق، كما في بيوت القناصل وكبار الموظفين، بل كان بعض أصحاب المناصب العالية يولمون الولائم، ويقيمون الحفلات، متعمدين فيها مكافحة روح الغم والقنوط؛ تلك الروح التي سادت خصوصا دوائر السياسة على ضفتي دجلة، وكادت تشل الأيدي العاملة فيها والعقول. •••
كان الملك فيصل أول القائمين بهذه الحملة التأديبية، حملة المآدب، على جيوش القنوط والجزع، فأقام مأدبة لعدد كبير من رجال الحكومة ودار الانتداب، وغيرهم من رجال المدينة، وشاء أن أكون من المدعوين.
وكان بين الوطنيين - وهم في الأثواب الفرنجية الرسمية - رجل واحد عصى الأمر المطبوع على رقعة الدعوة، فجاء في ثوب فرنجي عادي، وهو فوق ذلك رمادي بريء من لمس المكواة، ومع ذلك فما نظر أحد منهم إليه نظرة احتقار أو استعجاب، بل وقفوا حوله يستمعون إليه وهو يحدث عن غزوات الغرب لهذه البلاد العربية.
رحم الله مجيد الشاوي؛
1
ذلك العربي الحر الجريء الجامع بين محاسن البدو والحضر، ذلك الفيلسوف الذي نثر الحكم وما كتبها، كان له رأس كرأس سقراط شكلا ومعنى، ولسان كلسان صموئيل جونسون - سقراط الإنكليز - بفصاحته ولواذعه.
سمعت مجيدا تلك الليلة يقول: «وهذا الاستبداد الحديث العهد، استبداد «الموضة»، أتانا كذلك من الغرب، أما نحن العرب فلا نضيع وقتنا ومالنا في سبيل «الموضة»؛ فقد كان ولا يزال خلاصنا في بسيط عاداتنا، وسذاجة طباعنا. أنتم تبدءون حيث يمكنكم أن تنتهوا - أقول يمكنكم، ولا أقول يجب أو يجوز أن تنتهوا - بهذه الرسميات، هذه الترهات.»
فقال السيد رستم حيدر: «ولكنك أنت كذلك خاضع لسلطة «الموضة» في ثوبك الفرنجي هذا، وقابل باستبدادها.»
فأجاب على الفور: «وأنا أيضا حمار!»
فضحك الجميع ضحكة المقتنع المستهتر، وكانت منهم تلك الليلة الضحكة الأولى والأخيرة.
مشينا إلى ردهة الاستقبال؛ حيث كان الملك فيصل واقفا يرحب بضيوفه وهو في الخوذة والثوب العسكري، وقد استوقف نظري صليب على صدره معلق بسلسلة ذهبية؛ هو وسام الملكة فكتوريا، وكان إلى جانب الملك أخوه الأمير زيد في ثوب ملازم أول وعلى صدره وسام النهضة.
وهو ذا المندوب السامي السر برسي كوكس، بطوله ونحوله وتمهله، يلبس ثوبا أبيض وقبعة بحرية، وقد توشح بوشاح القديسين ميخائيل وجرجس عليهما السلام. ولكن ألوان الوشاح، وتحتها الأبيض، بدت باهرة لاذعة، ما سوى ذلك فكل ما في السر برسي كوكس الظاهر للعيان هادئ ساكن مطمئن.
وكذلك قل في القائد العام، مع أنه كان يحمل حملين، الواحد على صدره من الأوسمة المتألقة حجارتها، والآخر على عاتقه مما ترمز إليه الأوسمة من العز والعظمة.
رأيت القائد العام يحدث السيد جعفر العسكري، فما أعجبتني صورة الاثنين معا؛ كان الإنكليزي الطويل القامة ينظر من علاه وهو يحني رأسه ومنكبيه، ليكلم العربي القصير السمين، الحامل كذلك بضعة أوسمة، ولكنه لا يحمل حملها الأثقل، ذلك الحمل الرمزي المخيف.
وهو ذا السيد ياسين الهاشمي، ياسين الصامت، بثوبه الرسمي وأوسمته، وهو صنو جعفر فيما ذكرت. مساكين هؤلاء العرب؛ فهم لا يعرفون قيمة الأوسمة، فيحملونها على صدورهم خجلين، كأنها نقود مزيفة.
أما السيدات الإنكليزيات فقد كن في أثوابهن باهرات، وما كان بينهن غير واحدة جميلة، وواحدة تستلفت الأنظار وتستوقفها، دون شيء يبهر في ثوبها أو طلعتها، كانت تؤثر البساطة في الملابس، والانزواء في الحفلات، ولكنها فيما وجب مشت تتقدم أترابها، لا تصح اللفظة؛ لأن فيهن من هن أصغر منها سنا، وهل يصح أن نقول مشت تتقدم رفيقاتها، ومهنتها فريدة، لا تحسنها غيرها من جميع النساء، وقلما يباريها فيها الرجال؟ فمن هي؟ هي جرترود بل، مشت في تلك الساعة تتقدم السيدات الإنكليزيات لتسلم على الملك فيصل، فجثت أمامه وجثون بعدها كما يفعلن إذا ما مثلن بين يدي مليكهن في قصره. وكانت الجميلة منهن ترفل بثوب من الحرير الأخضر المزركش بشيء فضي اللون ... خير لي وللقارئ أن أقف ها هنا، وما شأني والفساتين، وأنا لا أعرف الفرق بين ال «تفتا» وال «كريب دي شين»؟!
إن أهم ما يسترعي النظر في هذا الجمع الباهر المتألق هو أن الإنكليز والعراقيين، الضيوف الأربعين، تخالطوا وتلاطفوا بسهولة عجيبة، لا اجتهاد فيها ولا تصنع، لا تنازل من قبل الإنكليز، ولا تزلف من قبل العرب. هي الحقيقة البليغة التي استوقفتني تلك الليلة وأدهشتني، ولا سيما وقد تجلت فيها العقلية الجديدة التي بدأت تسود رجالات الشرق والغرب، فلا تفاضل ها هنا، ولا شيء فيه تصاغر أو تكابر، ولا يخفى عليك أن قاعدة الإنكليز في الماضي هي ألا يخالطوا أبناء البلاد التي يحكمونها، ولا يخفى عليك أن العرب أنفسهم لا يزالون في حاجة إلى شيء كثير من القوى المعنوية، فضلا عن السياسية، ليطمئنوا إلى كرامتهم الشخصية والقومية، ومع ذلك فقد ظهروا تلك الليلة في مظهر حسن من الاطمئنان والكرامة.
وكان الملك فيصل الذي جمع حوله الشرق والغرب متجاملين متلائمين، المثل الأعلى لمحاسن الطرفين، على أنه كان ممسكا في كلماته وإشاراته، وما استطاع أن يخفي ما بدا على جبينه من أثر الجو المكفهر. أما أنه ملك ديمقراطي، ومن أصدق ملوك هذا الزمان في روحه الديمقراطية، فمما لا ريب به. وما أجملها ديمقراطية يزينها جلال طبيعي موروث، ويكللها النبل المتسلسل من سدة عالية طاهرة! وما كان فيصل يظهر أنه مدرك ذلك، ولا كان يحب أن يدركه الناس. وعندي أن قليلا من هذا الإدراك في الطرفين لا يضر، بل هو يمكن الثقة بالنفس، فلا يقلق الملك، ويمد بالعزة والأمل، فلا ييئس الناس.
أما في تلك الليلة فقد كان الملك كالباني الذي باشر البناء، وهو غير متيقن أن الأساس صالح متين، فقرأنا في طلعته الناعمة سطرين خطهما الغم والاضطراب. وقد كان عالما كل العلم بمجاري السياسة الظاهرة والخفية، إن كان على ضفة دجلة الغربية (الإنكليزية) أو على الضفة الشرقية (العراقية)،
2
فلا عجب إذا سرت منه تموجات نفذت إلى قلوب الضيوف فبدا تأثيرها في وجوههم، وكأنهم جميعا عالمون بما لا يجوز أن يظهر، بما لا يجوز أن يذكر، بما لا يجوز أن يفكر أحد به، فكانت الكآبة الملكة تلك الليلة، وكان الملك أول من خضع لسلطانها.
يقال إن المآدب الملكية هي دائما قاتمة جاهمة، يحف بها السكوت، ويسودها التحفظ، ولكني أؤكد لك أن المآدب الملكية العربية ليست كذلك. ومع أن هناك تقليدا يستوجب السكوت لدى الخوان، فالعرب لا يفرضونه على الضيف ولا يتقيدون به، بل تراهم على عكس ذلك محدثين، مشجعين على الحديث، وهم فوق هذا يحبون النكتة ويحسنونها، بل يحسبون المزاح ملح الطعام، والضحك خير المقبلات.
والملك فيصل - وهو من صميم العرب - كان في الساعة الصافية مثل والده الحسين عذب الحديث، مفكها، محبا للفكاهة، مقدرا لمن يجيدها. أما في مثل هذه الحال، وهذا الجو المكفهر، فصوت أفصح المحدثين يخفت، وروح الزهو والمرح تجمد، حتى في أمثال أبي نواس.
وما كانت المائدة لتنعم بما حرمته ردهة الاستقبال، نقلنا، ونقل الجو معنا، فجلست إلى يمين الملك فيصل اللادي كوكس، وإلى يساره القائد العام، وما كان الملك يحسن الإنكليزية في تلك الأيام لينجو بنفسه من عربية السيدة المكسرة، وفرنسية الجنرال المتعثرة، على أن المس بل، التي كانت جالسة أمامه إلى يسار الأمير زيد، حاولت أن تخفف من مصيبته فيما كانت تتبرع به، بلسانها العربي العراقي، من قصة أو حديث، ولكنها ما أفلحت فيما حاولت.
وكان السر برسي كوكس يراقبها، فساءه أن عييت فانبرى لنجدتها، وجاء بما كان يضحك حقا في غير تلك الساعة العاصية. سأل السر برسي، وهو يرفع بناظريه إلى السقف، سؤالا في علم الحيوان، ما هو اسم ال
badger
3
باللغة العربية؟ فجاب السؤال المائدة من شرقها إلى غربها، وما كان موفقا، ثم عاد إلى صاحبه يعزي جهله بالجهل العام.
وفي تلك الدقيقة فرغ صبر الملك فيصل فتثاءب، نعم، تثاءب مرتين، فقلت في نفسي ما أحوج الملوك إلى الندماء أمثال أبي نواس!
وما أحوجنا إليهم نحن الضيوف كذلك؛ فقد كان حالنا يزيد ولا ريب بغم الملك، وما كان هذا الملك - وهو سيد بغداد الأكبر - يملك خاتما من خواتم السحر التي كانت تصنع ها هنا عهد الجن، فيفركه ويأمر عبده بأن يحضر أبا نواس في الحال، ولكنه أمر بتلك التي كانت لأبي نواس المعشوقة الأولى، نعم، أمر بالخمرة إكراما للإنكليز، وغض الطرف عمن استسلموا إليها من العراقيين.
وما كانت حتى الخمرة مفلحة، فلا البيضاء منها ولا الذهبية، لا الهادئة في سحرها ولا المترقرقة، استطاعت أن تحل العقال، أو تزيل شيئا من سوء الحال، فقد ظل الحديث باردا جامدا يسير بحذر وبطء كمن يمشي في نومه، وكل يود أن يرسل فيه شيئا من حرارة الحياة، فيحاول ثم يحاول، ثم يسكت.
وهاك القائد العام، وقد ولى وجهه عن الملك، يحدث جارته الجميلة في موضوع إحدى الروايات التي ظهرت أخيرا في لندن، وقد انجذب جعفر العسكري إلى الحديث، فتركني أنا الجالس أمامه، تركني وحدي لأحل مشكل السيدة الحزينة إلى يساري.
وما مشكلها؟ إن حضرة الفاضلة النجيبة لفي شوق محرق إلى البيانو، وكيف تستطيع محبة الموسيقى أن تعيش - خصوصا في بغداد - بدون بيانو؟! إنها تشتهي بيانو من الطراز الأول، ولا تجد في هذه المدينة المفتقرة إلى الموسيقى بيانو واحدا للبيع أو للأجرة، حتى من الطراز العاشر. قلت: «ولم لا تطلبينه من لندن؟»
فأجابت: «لأن أجرة الشحن تبلغ ضعفي ثمنه.» وراتب زوجها المستشار لا يمكن من ذلك، إنه حقا لأمر محزن. فيم الإقامة بالزوراء ولا بيانو فيها، ولا صدى صوت للموسيقى؟!
ليت شعري بحديث المآدب الملكية ماذا يكون، لولا الطقس والرواية الأخيرة والبيانو؟ لولاها لتم فينا التقليد العربي، فنتجرع، بين الغصة والغصة، كئوسا مترعة من الصمت المهيب. •••
كنت مقيما تلك الأيام في محلة الشيخ، في جوار مولانا عبد القادر الكيلاني - قدس الله سره - وعلمت تلك الليلة، بعد رجوعي من المأدبة الملكية، أن المنزل قريب من مقام قدسي آخر للولي عيدروس الذي تعرفت به يوم كنت في عدن، فشاء الله أن أقيم في ظله كذلك في بغداد.
إنها لنعمة سابغة هذه التي تلحفك، وأنت نائم بين وليين كريمين، فأسلمت إليهما الروح المؤمنة حتى بحسن نيات من يؤدبون المآدب، فأعيدت إلي صباحا وهي لا ترى في هذا الوجود كله غير الفجر، الفجر الفضي، الدري الذهبي، وكأنها رأته لأول مرة في حياتها الدنيا، فهتفت مهللة متغزلة.
ليت الحياة كلها فجر، وليت غيومها كلها بيضاء مطرزة بخيوط ذهبية، مثل هذه الغيوم الصغيرة الوديعة، فوق قباب الجامع الكيلاني، وهي تبدو حينا كقطيع من الغنم يلكأ في كنف الشمس متدفئا، وحينا كأمواج البحر المتكسرة على الشاطئ الضاحك بين الصخور القاتمة. وما هي إلا لحظة فيستحيل القطيع مرجا زهت ألوانه، والأمواج بحرا ساجيا طفا دره ومرجانه، وهاك الشمس بجيشها غازية فاتحة، تهدم صروح الخيال، وترفع فوق معاقل الآمال أعلام النهار الجديد، وقد باركها الوليان، عبد القادر وعيدروس، فما خوفك وما همك بعد هذا؟
إن خوفي وهمي لفي ما جاءني ذاك الصباح، دعوة لمأدبة أخرى، ولكنها هذه المرة في النادي العراقي.
وكان النادي أو مكاننا منه متألقا زاهرا، كأنه شق من فجر ذاك النهار؛ فقد مدت المائدة عند حاشية بستان من الورود والرياحين، تحت مظلات النخيل، في باحة على ضفة دجلة، أنيرت بالكهرباء وازدانت بالمصابيح الملونة.
وكان المضيف الكريم، الخفيف الروح في عرضه وقصره، رءوف الجادرجي، يرحب بالضيوف مبتسما ابتسامة هي ضياء الحب بعينه، وقد سلم الآخرون علينا سلاما بابتسام، بأعذب كلام، وبعد ذلك - بعد السلام والابتسام والكلام - وإلى أن وقفنا للوداع، خيم الجو المشئوم، وساد روح الهموم.
وأين روح البستان مطاردة مبددة، وأين للمشهد الجميل يد تعين؟ هذه وردة لقلبك أيها الفاضل، ولكن القلب ما رأى أغصان الورد المنورة، هذه نسمة من هواء المساء العليل، هواء دجلة، تنعش جناح روحك، يا صاحب المعالي، ولكن دجلة لم يكن باديا، فقد كان بيننا وبين البستان حجاب أسود كثيف، وقد كان بيننا وبين دجلة جدار قاتم من الهواجس والقلق.
إني لأذكر أولئك الأفاضل جميعا، وأكثرهم اليوم في حال تضحكهم، إذا ما عادت الذكرى، من تلك الأحوال، فمضيفنا الجادرجي الذي كان يومئذ متشرعا بلا شراع، تتقاذفه رياح السياسة وتتجاذبه رياح القانون، هو اليوم ذو مركبة مقطورة إلى كوكب من النور والذهب؛ أي شركة النفط العراقية.
وهذا رستم حيدر الكاتب الأول يومئذ في البلاط، الحامل أعباءه، العامل ليل نهار في وصل الخيوط المتقطعة بينه وبين دار الانتداب، الذائق مر ساعات ولا أمر منها كانت تنذر بالخراب، قد صار بعدئذ وزيرا ثم عين في مجلس الأعيان.
ومن ضيوف تلك المأدبة ذلك الإسرائيلي الجامع بين الأدب والنسب، ساسون حزقيل، الذي كان يدير مالية العراق بما لا يرضي غير دار الانتداب وبعض البيوت التجارية، فقد اعتزل بعد ذلك السياسة، وساح في الأرض ينشد الصحة ورحمة الله، فلقيهما معا بعد عشر سنوات في باريس.
وياسين الهاشمي الرجل القاتم غير الكاتم، العنيف الصريح، الذي كان يومئذ خارج الحظيرة، يدهش حتى المس بل بتصرفه، ويروعها بتطرفه، فقد صعد بعدئذ في الجبل فأدرك القمة منه، وتنقل في الوزارة حتى صار رئيسها، وهو اليوم زعيم المعارضة في البلاد.
أما فخري آل جميل فما كان في ذاك الحين ولا بعده جاحدا نعمة ربه، أو ضانا على الوطن بحبه؛ فقد كان يومئذ وطنيا من أصحاب الأملاك الواسعة، وهو اليوم من أصحاب الأملاك الواسعة، ومن الأعيان في المجلس.
وإني لأذكر الضيفين الآخرين من العراقيين، ناجي شوكت وحكمت سليمان، وفي الاسمين تاء تركية لا تخفى على اللبيب، وفي الاثنين من العطف القومي ما لا يستغرب، ومما كان في تلك الأيام دون الريب، وقد كانا مع ذلك من الموظفين في الحكومة العراقية التي لم تكن والأتراك على ولاء، فلا عجب إذا أسدلا على نفسيهما في تلك المأدبة ستارا من الصمت الواجم، ولكن ناجي النجيب، الذي كان يومئذ متصرف الكوت، صعد بعدئذ مثل ياسين في جبل السياسة، وبعد أن جرب الوزارة حن إلى الرئاسة، وظفر بها. وأما الثاني فلعله لبطئه في التصعيد اختار المحافظة على اسمه صورة ومعنى - حكمة سليمان - وانضم إلى حزب المعارضة في الأمة.
وممن أذكرهم من الضيوف الإنكليز المستر دراور الطويل الباع، في علمي القانون والصراع. أقول الصراع؛ لأن مهنته في تلك الأيام كانت نوعا من الصراع القانوني؛ فقد كاد يسحق بين حجري الرحى - أي الأخوين السويديين؛ ناجي الكشاف وتوفيق النساف - فقد كان المستر دراور مرة رئيسا ومرة مستشارا للواحد منهما وللآخر.
وكان يرجو الله على الدوام أن يخرج من الصراع وقد سلم على الأقل كرسيه في العدلية. ومن عجائب الدهر أن يسلم هو كذلك في مصارعة الأخوين السويديين، فلا يزال المستر دراور بخير ونعمة، صاحب كرسي وصاحب صوت في البرج العالي للعدلية العراقية.
وللمستر دراور زوجة أديبة كاتبة، كانت تنشد في الأماكن القصية، وبين الأديان الأثرية، مصادر العلم والوحي. وإنها في فلسفتها السياسية دولية إنسانية، لا يعارض بها المستر دراور ما دامت خارج القانون، أما شغفها الخاص فكان ينحصر في تلك الأيام بالصابئة واليزيديين، وبالتغلغل في علومهم الغامضة، ومع ذلك فقد كتبت كتابها، ونشرته باسم مستعار؛ لتظل هي وزوجها وبيتهما في بغداد بعيدين - على ما أظن - من تعطفات أصدقائها عبدة الشيطان.
ولا يغيب عن الذهن ذلك المستشار، الغريب الأطوار، القريب من قلوب الأحرار والأبرار، الذي استسلم بعد ذاك الزمان إلى الشيطان، ما اعتنق المستر كوك
4
الإسكتلندي دين المجوس، ولا خر ساجدا للملك طاوس، ولكن للنفس زلات هي شر من عتيق الديانات، فبعد أن خدم الرجل الحكومة العراقية أربع أو خمس سنوات، وهو يدير شئون الأوقاف، ويستخرج المال حتى من حجارة الخانات وظلماتها، وبعد أن ملك قلب المؤمنين الصافي، فدعوه تحببا: الحاج كوك الدين الأوقافي، ومدحه كذلك معروف الرصافي، بعد هذه المبرات والأمجاد في عهده العراقي، خرج من بغداد خروج المذنب التاعس، بيد أن أمره لا يزال على شيء من الغموض؛ فقد قيل لي إنه نقم على الحكومة لإخلالها بالعقد الذي يتعلق بوظيفته، وبدل أن يطالبها بما تبقى له من مال، جمع الخفيف الثمين من الآثار، وحملها وطار إلى ما وراء البحار؛ إلى بيته في الجزائر البريطانية. على أن حق التملك لما جمع، وإن كان بالطرق المشروعة المحللة، هو من المسائل القانونية العويصة، وليس لي علم المستر دراور، ولا لدي ما يكفي من البينات، لأبدي رأيا فيه.
إني من الذين أحبوا كوك الدين، وأعجبوا به وبمواهبه، ولا أزال أذكر - وفي القلب للحب منزع - تلك الساعات التي قضيناها معا، وتلك الرحلات إلى الأماكن الأثرية التي كان هو فيها الرفيق الكريم، والدليل العليم، إما أن يخرج من بغداد في ليلة غاب قمرها، وتوارت في الظلام نجومها، فيحرم صحبه سرور الوداع، على الأقل، فذلك لا يليق برجل مثله وهو شرقي، شرقي أصلا، وليس اسما وفصلا، فقد أخبرنا تلك الليلة أن كاليدونيا
5
مشتقة من الكلدان، وأن الاسكتلنديين هم من بين النهرين، ومتحدرون من حمورابي.
إيه كوك الدين، سليل عظام الكلدان، ونكتة المستشارين في هذا الزمان، فمهما يكن من شذوذك في سفر خروجك، ومن عثارك في خفاء آثارك، فقد كنت في حبك للعرب من العرب، وكنت في غيرتك على الأوقاف من الأشراف، وإنهم جميعا لمحزونون؛ لأنك لم تشعرهم بيوم أو بليل السفر، ليقوموا بواجب توديعك وتشييعك، وشكر صنيعك. وإني واثق - وهم الموصوفون بالكرم - أنهم لا يرضون بما حملت، ولكانوا أهدوك، لو أدركوك، ما هو أثمن من تحف أور، وبابل وآشور، ولكان الشعراء من المودعين، وهم يذرفون الدمع السخين، وينظمون القوافي، بمديح كوك الدين الأوقافي. •••
فكرت، بعد أن عدت إلى البيت تلك الليلة، بنظرية كوك الدين الكلدانية الاسكتلندية، وعرضت في ذهني غير واحد من الأسماء التي تغري الباحث وتتقاضى يقينه الجزية، وهاك بعضها من البلدين: الكلدان - كاليدونيا، آشور - آرشير،
6
حمورابي - هورنبي، مردوخ - ماردوك،
7
ويمكنك بعد البحث والتنقيب أن تزيد عليها. قد تقول إنها، وإن كانت تدهش، لا تفيد. وقد أقول، بل أقول إنك على خطأ مبين.
إي ورب حمورابي، إي وأجنحة رب آشور، إن للنطفة جناحا، وللرياح يدا، وللآلهة كلمة خالدة. سماع، سماع. إن المؤذن في جامع عبد القادر يدعو المؤمنين للصلاة، فلو كان بإمكانه أن ينشر السنين المطوية، ويستطلع خبرها السابق للتاريخ، ولو كانت له عين ترى الأجنحة الطائرة، والأيدي الزارعة، التي تستحيل بعد عملها ترابا، ولو كانت له أذن تسمع صدى الكلمات الخالدة، لكان يدعو للصلاة غير المؤمنين كذلك، وغير المقيمين ببغداد، في محلة الشيخ. ولو كان له مقدار ذرة من الإيمان الأعلى، لنزل من مئذنته، وأذن في سره، في مخدعه، فيسمعه الذي بيده أمر هذا المخلوق ابن آدم، ويحمل الأذان إلى أربعة أقطار العالم.
إيه، أيها المؤذن التقي، قل: حيوا على الفلاح، حيوا على الصلاة حيثما أنتم، في محلة الشيخ ببغداد، أو في محلات البؤس والنعيم في لندن وباريس؛ فإننا جميعا، يابن عمي، من نطفة واحدة، وإننا جميعا مفتقرون إلى رب يرأف بحالنا، وإلى نبي في هذه الأيام يدلنا على الطريق - يهدينا الصراط المستقيم - ويبعث فينا ما ضاع من الرجاء، وما مات من الحب والإيمان.
عفوك، أيها القارئ العزيز، إذا ما وقفت هنيهة في الفجر لأنسى الجو المكفهر في النهار وفي الليل. عفوك، إذا ما لذت بالحقائق الخالدة لأستريح، ولو هنيهة، من الحقائق الزائلة في السياسة وفي الحياة، ومن مآدب اليأس والغم. حيوا على الفلاح، حيثما أنتم، حيوا على الصلاة ... •••
وهذه دعوة أخرى لمأدبة في الفلاة، بل هي نزهة مع الملك في ضواحي بعقوبة، على شواطئ ديالى، في البساتين الجميلة لفخري آل جميل، ولكنها لا تختلف كثيرا عن سواها في العراق.
هي بساتين شرقية؛ بتبسطها واكتظاظها، بغياضها وأدغالها، بخصبها وعقمها، بزواياها المهملة، وخباياها المدهشة، بمياهها الراكدة والفائضة، وبما يسود كل ذلك من الفوضى. فإنك لترى عرائش العنب مثلا وأشجار التوت والرمان بعضها في حضن بعض، ملتفة متعانقة، خانقة بعضها لبعض، ومع ذلك مثمرة، وإنك لترى الكثير من الأشجار المتكاثفة، التي يفتقر قلبها إلى نور الشمس، ولا تمسها يد التشذيب، لا باطنا ولا ظاهرا، وهي تستمر مع ذلك في الازدهار والإثمار، ليت شعري بما يمكن أن يكون خصب هذه الأشجار، وإنتاج هذه البساتين، لو ساد فيها النظام بدل الفوضى، واقترن النظام بالاعتناء الدائم، وبعلم الزراعة الحديث.
ومع كل ما هناك من دلائل الجهل والإهمال، فقد كان روح البستان حيا زاهرا، منعشا بطيب رياحينه، مبهجا بزهو زهوره، مطربا بتغريد الأطيار، مدهشا بجود ثماره المتعددة الأنواع والألوان، ولكن جونا المكفهر، جو بغداد، جو السياسة، كان لنا الرفيق الدائم، والظل الملازم، حتى في البساتين.
مشينا على الطنافس المفروشة إلى السرادق الملكي بين أشجار الليمون والرمان، وكلنا يشعر بثقل ذاك الظل، وحرارة ذلك الجو، كانت الأجساد في البستان، وكانت القلوب بعيدة منه، بعيدة من أطياره وأزهاره، ورياحينه وثماره.
وكان قلب الملك فيصل أبعد هذه القلوب كلها، لله من غم يأبى الحصر في القصور، فيرافق صاحبه إلى البساتين! لله من غم يجلس فوق العرش، ويلصق بصاحب العرش حيثما حل ورحل! لله من غم يستبد حتى بالإنكليز، وقد يكون له من الإنكليز ما يمده ويقويه! أظن أن المس بل كانت تدرك ذلك، فتحاول بما لها من لطف وبيان أن تخفف وطأته، أو تبدد على الأقل ظلاله من حول الملك، وهل تطردها من قلبه بعنقود من العنب أو بغصن مثقل بالرمان؟
كأني الآن أراها، رحمها الله، تجثو أمام فيصل وبإحدى يديها عنقودان كبيران مبهجان من العنب الذهبي والأرجواني، وبيدها الأخرى غصن صغير من الرمان تزينه ست رمانات كبيرة مدهشة، فيشكرها الملك باسما، وفي البسمة كما في كلمة الشكر ما يشير إلى شيء مفقود.
وكأني الآن أراه، رحمه الله، والسبحة بين أنامله، وهو لا يدرك أنها لا تلتئم وثوبه العسكري، والسيكارة في فمه، يدخن الواحدة تلو الأخرى، ويحاول في بعض الأحيان أن يستعيد بشر محياه، ويستنهض أنس نفسه، فيسأل سؤالا عن بعض الشئون الخاصة، أو يستخبر عن صديق له غائب، أو يفتح الباب لحديث طريف ولا يشارك بعدئذ به، فينهض عن الديوان، ويتركنا، والباب مفتوح، ساكتين واجمين. هي السياسة وهموم العرش الجديد، ومن أهمها في تلك الأيام ما جاء من الشمال؛ فقد كان لانتصارات مصطفى كمال وقع في العراق ما سره، ولا سر الحكومة، وكان بعض الموظفين في الموصل يفاوضون الترك في الأناضول.
وهؤلاء الإنكليز يلزمونه كالظل، ويزيدون بما هو فيه، رأيت أحدهم جالسا في حضرته ذاك اليوم جلسة لا أظنه يجلسها إلا في بيته إذا كان وحده، فيمد رجليه ولا يبالي، وكان فوق ذلك لابسا قبعته وهو في ثوب مدني، فهل يجلس هذه الجلسة في حضرة الملك جورج يا ترى؟ ومن يدرك أكثر من الإنكليز الحقيقة أن الملك ملك، أيا كان وأينما كان.
لم يكن الصلف ولا العنف من طباع الملك فيصل، ولكنه كان دقيقا وكيسا في حفظ حرمته، وفي فرض مشيئته، ولا أظن أن ذلك الإنكليزي أدرك أنه في إكرامه له كان يحاول تأديبه؛ فقد قدم له سيكارة، فاضطر أن يقف ليأخذها، ثم عاد إلى كرسيه، فجلس جلسة لائقة، ولكنه لم ينزع القبعة عن رأسه، فاستمر الملك في التأديب، قائلا وهو يرفع الخوذة عن رأسه: «الحر شديد.» فردد الإنكليزي: «الحر شديد.» وما كان بعد ذلك حال دون كمال الأمثولة؛ فقد جاء في تلك الدقيقة فخري آل جميل يقول للملك الطعام حاضر، فنهضنا بعده نلبي الدعوة، ومشى الإنكليزي وقبعته بيده.
مدت المائدة في ظلال النخيل ضمن ساحة رحبة، تحيط بها شجيرات من الليمون والرمان، وبينها شتى الأزهار والرياحين، وكانت الألوان كثيرة دون إكثار، شرقية الروح، أوروبية الذوق. والخدم بلباسهم الأبيض يظهرون من خلال عرائش الورد والياسمين، حاملين أطباقا تتقدمها روائحها الطيبة.
ما كان في طاقتي، ولا حاولت، أن أتخيل مطبخا بين الليمون والرمان وراء عرائش الورد والياسمين. وما سرني أني في مأدبة ملكية في بستان فخري آل جميل بالهويدر على ضفة نهر ديالى، بقدر ما سرني الخيال الذي تخيلته في تلك الساعة، فما كنت في ذلك البستان، مع ملك من ملوك هذا الزمان، ورهط من الأمراء والأعيان، بل كنت مع حسن البصري، بطل الرواية في كتابنا العربي الخالد، كتاب ألف ليلة وليلة.
نعم، كنت مع حسن في روضة ساحرة، جالسين إلى خوان ساحر، يخدمنا عبيد الخاتم العجيب، وهم يحملون إلينا، من بين عرائش الورد وأشجار الرمان، أطيب المآكل وأفخرها. وما تخيلت هذا الخيال، ورحت سابحا فيه، إلا لأنجو من الحقيقة البشرية في تلك الساعة، ومن جوها المكفهر. وعندما عدنا إلى المدينة ما كنت في السيارة مع وزير من وزراء الدولة، لا، بل كنت راكبا وأخي حسن البصري بين جناحي ذلك المارد الكريم، الذي طار بنا، راجعا من وادي الكافور في بلاد الصين، إلى مدينة بغداد.
الأزمة الأولى
في فجر السنة الثانية من عهد فيصل، كان العراق يتمخض بالفتنة . وبكلمة لا مجاز فيها كانت أحوال العراق السياسية تنذر بثورة ثانية، لا على الإنكليز وحدهم هذه المرة، بل عليهم وعلى الحكومة الموالية لهم، وقد عصفت العواصف بادئ بدء في ثلاثة أماكن رئيسية، فاشتعلت النار في بغداد، وتطايرت الحمم من بركان النجف، وتحفزت العشائر للوثوب في قلب وادي الفرات.
وما تعددت في الأحزاب الأغراض والنزعات، بل كان صوت الوطنيين - على اختلاف رناته وصيحاته - واحدا في مطالبه، واحدا في احتجاجه، واحدا في يقينه، فكنت تسمع وترى كل من يحسن الخطابة أو الكتابة مطالبا بحكومة نيابية، وبملك مستقل كل الاستقلال، وحاملا على الانتداب والمنتدبين.
وقد اختلفت هذه الحملة عن الثورة في صيف عام 1920 بأمرين؛ بشيء من النظام، وبكل شيء من العتاد المعتاد. توحدت فيها المطالب، كما قلت، فكان لها ثلاثة أهداف؛ أي الوزارة والبلاط الملكي ودار الانتداب. وتجانست فيها الأسلحة، فكانت كلها، من مصانع اللغة: المدافع الرشاشة (الخطب والمقالات)، والطائرات المدمرة (القصائد)، والمدافع الصحراوية (فتاوى المجتهدين). ومن عجائب الأمور أن يتوهم الخصوم أنها كلها من مصانع «كروب».
وكانت في البداءة تبشر بالنصر؛ فقد صوب المجاهدون مدافعهم الرشاشة على الوزارة فأسقطوها، وحلقوا بطائراتهم فوق دار الانتداب، فأزعجوا أهلها وروعوهم بالقذائف (القوافي) النارية. وأطلق المجتهدون مدفعا من مدافعهم الصحراوية، فانفجرت بعض قنابله في جوار البلاط الملكي. وما كان للحكومة ولا للبلاط ولا لدار الانتداب، من القوات البرية أو الجوية في تلك الأيام ما يكفي لمحق فتنة صغيرة فضلا عن الكبيرة، ولا كان بإمكانهم، أو أنه ما خطر في بالهم، أن يجردوا على الوطنيين السلاح نفسه الذي تسلحوا به.
بلغت هذه الحملة أشدها في عيد الجلوس الأول، يوم كان الملك يشكو ألما واحدا من آلامه المتعددة؛ ألما جسديا من التهاب في الزائدة المعوية، وكان العراق يعدد، بلسان خطبائه وشعرائه، آلامه كلها، وفي رأسها الزائدة كذلك؛ تلك الزائدة التي تدعى الانتداب. وقد أشار الأطباء على الملك بجراحة في الحال، فشاء أن تؤجل إلى اليوم التالي، ولكن الوطنيين لم يؤجلوا ، بل كانوا قد باشروها واغتنموا فرصة العيد لإعلان أمرها، فراحوا يجتمعون ويخطبون، ويصدرون المناشير.
وهاكهم في النجف وهم في تحليقهم الشعري الوطني أبعد وأسد منهم في مسالكهم السياسية، ولقد كبروا الخيال وعظموه، شكلا ولونا، فتلفتوا إلى الماضي متلهفين متحسرين، وصاحوا بالحاضر مستعيذين منه بالله، ونظروا إلى المستقبل نظرة المدنف الحزين، كنا منذ سنة نتظلل ظلال الذكريات المجيدة، ذكريات الرشيد والمأمون، ونتلمس الحقيقة في تجديد ذلك العهد العربي السعيد، ونحن اليوم نتحرق في بوادي الخيبة والهوان. كنا منذ سنة في فجر الآمال الذهبية، ونحن اليوم في ليل دامس من البلايا الانتدابية والاستعمارية، ولكن للأمة صوتا قدسيا سرمديا، يصيح اليوم وغدا، ويستمر صائحا حتى تصير صيحاته سيوفا وقنابل على المنتدبين وأشياعهم أجمعين، بريطانيين وعراقيين. الله أكبر، الله أكبر!
وهاكهم في بغداد وهم في وطنيتهم وفي منطقهم أبلغ وأسد منهم في الأسجاع والقوافي؛ فقد كان لصوت الوطنيين المعتدلين والمتطرفين معنى ومغزى ورنة بدت جميعها جلية صافية فوق الشقشقات الخطابية، وعدتم البلاد في حفلة التتويج بحكومة نيابية دستورية، وها قد مرت السنة بكاملها والحكومة لا تعرف أدستورية هي أم انتدابية أم ملكية مطلقة. إن البلاد تشكو السياسة البريطانية المسترشدة بمبدأ «فرق تسد» الهادمة لآمالنا القومية والوطنية كلها. إن البلاد مهددة بالانتداب، والانتداب خطر على الحرية والاستقلال ... لقد أسقطنا الوزارة التي عينها البريطانيون، وجئنا نطلب وزارة وطنية صادقة يعينها مليك البلاد ... إننا نؤيد العرش، ونرفض الانتداب، ونطلب أن تحدد السلطة البريطانية في الدوائر الإدارية كلها، وأن يعقد المجلس الوطني، وألا تعقد معاهدة بين العراق وبريطانيا قبل أن يتم ذلك كله.
صبر الملك فيصل على آلامه يوم العيد، عيد الجلوس الأول، واستقبل المهنئين من رجال الحكومة والأمة، وقد جاء صباح ذاك اليوم وفد يمثل الحزبين الوطنيين ليسمع الملك شكوى العراق ومطالبه. مشى الوفد في شبه مظاهرة وطنية، فانضم إليه جماعات من الناس، فوصل إلى القصر حشدا كبيرا متحمسا هائجا، وهناك في فناء القصر وقف الخطيب ينادي الملك فيصلا ويسأله مقابلة الوفد.
وكان الملك وقتئذ يستقبل المهنئين ، فبعث برئيس الأمناء ليقابل الوفد، ويجيب الخطيب بكلمة شكر واطمئنان تناسب المقام، فجاء الرئيس يقوم بهذا الواجب، ولكنه - وهو يسمع ويرى - ذهل عن نفسه الرسمية، فنفذت إليه من كلمات الخطيب شرارة أشعلت فيه الحمية والحماسة، فراح في جوابه يجاريه في مضمار السياسة الوطنية، فهتف له الجمهور أضعاف هتافهم لخطيب الوفد. وبينا هو يخطب تلك الخطبة التي «تناسب المقام»، وصل المندوب السامي السر برسي كوكس، وقد جاء يهنئ الملك، وكان من واجب رئيس الأمناء أن يستقبل العميد، فختم خطبته بكلمة من نار، فصاح إذ ذاك الناس قائلين: ليسقط الانتداب! ليسقط البريطانيون!
وهكذا، بعون رئيس الأمناء، تمت المظاهرة وكانت مفلحة، ولكنها ما أثرت ظاهرا بالسر برسي، الذي مشى إلى غرضه على عادته هادئ البال. وبعد أن أتم واجبه الرسمي في تهنئة الملك، وعاد إلى مقره، كتب إليه يعلمه بالحقيقة المؤلمة، فمهما قيل في اجتماع عام، وبشعب متهيج، لتخفيف الذنب، فلا يصح أن يقال إن المظاهرة هي غير رسمية، وقد حدثت في فناء القصر، وكان رئيس الأمناء أحد الخطباء، هذا هو الحادث الذي زاد يومئذ بآلام فيصل الروحية والجسدية، فكتب إلى العميد يفصح عن أسفه الشديد، ثم أقال رئيس الأمناء من وظيفته.
وما انتهى مع ذلك الحادث المشئوم؛ فقد كان المندوب السامي يفكر يومئذ بخطة سياسية فاصلة، ويتردد في تنفيذها، فجاء هذا الحادث يقره في رأيه، يستفزه، يشحذ منه العزيمة. وقد جاء على ذكر تلك الخطة وأسبابها في مقدمة كتبها لكتاب المس بل، وفي تقريره الرسمي للحكومة البريطانية، وفي الاثنين يقول إن الحالة كانت تنذر بثورة ثانية، وقد عدد من الأسباب استعفاء الوزارة، والاضطرابات في ولاية بغداد، والهياج المستمر في العشائر، ومرض الملك فيصل الذي حال دون التعاون، ثم قال: «لم يكن في البلاد من سلطة غير سلطة المندوب السامي التي وجب علي استخدامها حتما على الإطلاق.»
ولكنه وقد ذكر مرض الملك، لم يذكر أنه حاول أن يشرك جلالته في العمل، ليحفظ في الأقل صورته الشرعية، فأخفق وكان مدحورا. وقد حدث الحادث المؤلم بعد المظاهرة في فناء القصر، وقبل تنفيذ الخطة الحاسمة، فمثل السر برسي كوكس فيه دورا شائنا شبيها بدور البطل الشرير في الروايات. مثل الدور وسكت، وسكتت كذلك المس بل التي كانت عالمة به. يا للعجب كيف أن المس بل التي كانت تضمن رسائلها كل ما يحدث في بغداد في حومة السياسة وخارجها من صغير الأمور وكبيرها، نسيت هذا الحادث المؤلم أو تناسته، فما أشارت إليه؟!
وكان السر برسي والمس بل عالمين بحالة الملك الصحية، وعالمين كذلك بالجراحة وبموعدها في اليوم التالي، وهو والمس بل من ذوي الشعور الراقي إذا لم نقل كذلك الرقيق، فضلا عن ذلك أن الرجل الكريم لا يحرج امرأ ساعة محنته، أو يخلو الرضى، في مثل هذه الحال، من الكره والإنكار. فإذا سلم المكره بأمر ما أو رضي بعمل ما، أيعد ذلك لخصمه فوزا سياسيا؟ وهل هو شرعا من العدل بشيء؟ وهب أنه في الحالين فوز وعدل، فهل ننكر أو نتجاهل أنه خلقيا في الأقل مخجل شائن؟
قال المندوب السامي إنه لم يكن في البلاد يومئذ غير سلطة واحدة هي سلطته، فلم لم يستخدمها منفردا دون أن يزيد بألم ملك مريض، ودون أن يعرض نفسه للإهانة؟ فقد قدر، على ما يظهر، أن تشفع المظاهرة الوطنية بالتوبيخ الملكي. وكان التوبيخ، وكان أن عمل السر برسي بالكلمة العربية: الكريم من ستر إهانته. فما ذكر الحادث فيما كتب، لا في التقرير، ولا في كتاب المس بل.
وما الداعي لذكره الآن؟ ليس الأمر شخصيا ليغضى عنه؛ فهو يتعلق بالملك فيصل وبعدد من زعماء الأمة وصحفييها؛ إذن هو وطني عمومي. زد على ذلك أن فيه مأثرة من مآثر فيصل التي يجب أن يعرفها خصوصا العراقيون.
ويجب أن يعرفها الإنكليز؛ فالأمة صاحبة الانتداب تجهل غالبا ما يعمله باسمها كبار رجالها السياسيين، وعندي أن علمها بذلك كله وبالسيئ منه قبل الحسن، بما فيه تذل وبما فيه تعز، هو مفيد لها وللأمة المنتدبة عليها. وأين العدل يا ترى وأين الوطنية - إني ها هنا ناظر إلى المسألة من الناحية البريطانية - في سكوت المندوب السامي عن عمل له ليس فيه مأثرة أو محمدة؟!
قد أطلت الشرح، فهاكم الحادث؛ في صباح اليوم التالي لعيد الجلوس، عندما كان الملك فيصل محاطا بالأطباء والممرضات، وقد أعدوا المباضع والأدوات للجراحة؛ وصل المندوب السامي السر برسي كوكس، فسلم وأخرج من جيبه أمرا قدمه للملك ليوقعه، هو أمر باعتقال سبعة من الزعماء الوطنيين ونفيهم من العراق. قرأه الملك مكمودا وهز برأسه، فأفصح السر برسي عما يبرر العمل، فما أجاب الملك بكلمة، ولكن أحد الأطباء الإنكليز تقدم وخاطبه قائلا: «ليس هذا الوقت، يا حضرة المندوب، لمثل هذه المسائل.»
السر برسي: «المسألة ضرورية لحفظ الأمن، إن البلاد في خطر.»
الطبيب: «أجلها إلى أن تتم الجراحة، وهي ألزم لحياة جلالة الملك، فيجب أن نباشرها حالا.»
الملك، والأمر بيده، يخاطب السر برسي: «بعد دقائق قليلة أكون بين أيدي هؤلاء الأطباء، وقد لا أعود من غيبوبتي إلى الحياة، فهل تطلب مني، يا سر برسي، أن يكون هذا الأمر آخر أعمالي في الدنيا؟ هل تنتظر مني أن أنفي هؤلاء الناس، أهل البلاد، من بلادهم قبل موتي؟! لا والله، إنه غير ممكن، غير ممكن.»
قال هذا ودفع الأمر إلى المندوب السامي فوضعه في جيبه، وخرج من القاعة دون أن يفوه بكلمة واحدة.
ولكنه مضى في عمله منفردا؛ إذ نفذ الأمر في اليوم التالي باسم المندوب السامي للحكومة البريطانية، فنفى الزعماء السبعة إلى جزيرة هنجام في خليج البصرة، وأقفل الناديين الوطنيين، وعطل بعض الصحف، ثم طلب من اثنين من مجتهدي الشيعة أن يسفرا ولديهما - وهما من الوطنيين المتطرفين - إلى إيران، ففعلا دون احتجاج، وسكت المجتهدون الآخرون.
أما العشائر فقد استمر أكثرهم ثائرين، منادين بسقوط الانتداب، عاملين بأوامر المجتهدين، دون أن يعلموا بما تغير من حالهم، أو أنهم أبوا أن يسكتوا مثلهم، فأرسلت السلطة عليهم سربا من الطائرات، فرمتهم ببعض المناشير والقذائف، فسكتوا مثل رؤسائهم، وأخلدوا بعد ذلك للسكينة.
هذا هو العمل الذي كان يتردد السر برسي فيه، خاف أن يضرم في البلاد نار ثورة ثانية لا تستطيع السلطة إخمادها ، ولا أظن أن أحدا في موقفه كان يطمع بمثل هذا النجاح لعمل أقدم عليه مترددا. ومع ذلك فقد قال السر برسي للمؤلف في حديث عن حوادث تلك الأيام، إنه يكره استخدام القوة لحل المشاكل السياسية، وهو في ذلك فوق كل ريب، فإن من يعرفه، ويدرك شيئا من السر في قوته، يتيقن أنه يؤثر قوى العقل وأساليب الجدل والمنطق، يؤثر المفاوضة والمناورة والمساومة في حسم الأمور، على القوات المسلحة بالنار والحديد.
بيد أنه لو تحقق ما وراء تلك الحركة، لو أدرك أن وراء خط النار الأول - وراء القصائد والفتاوى والخطب والمقالات - أمة مكدودة منهكة من الثورة الأخيرة، مثل الإنكليز أنفسهم، لما خرج عن المألوف في خطته، المأثور في سياسته، من الحصافة والكياسة واللين.
أويحتاج الأمر إلى برهان؟ فقد نفى الزعماء الوطنيين، وأقفل أنديتهم، وعطل صحفهم، وأسكت المجتهدين، وأدب العشائر، وبكلمة واحدة سحق المعارضة سحقا بأمر منه جازف مجازفة فيه، ولو اضطر إلى تنفيذه بالقوة المسلحة لما استطاع؛ لأن تلك القوة كانت يومئذ مفقودة.
وقد خضعت الأمة للأمر. ولم تعلم يومئذ، ولا يعلم الآن إلا بعض السياسيين، أن الملك فيصلا رفض أن يوقعه، وأن السر برسي كوكس جازف فيه، وأن العراق أطاعه وطأطأ له الرأس لعجز في الأمة، لا لخوف من القوات البريطانية.
ومما زاد في الفتور والتخاذل تلك الإشاعات التي كانت تشاع عن الملك فيصل في أثناء مرضه، وأولها أن الجراحة لم تنجح، ثم قالوا: «الملك في حالة تنذر بالخطر - الملك مشرف على الموت - الملك مات!» وغيرها من الإشاعات السياسية.
الملك فيصل الأول بين زعيمي المعارضة الحاج جعفر أبو التمن (إلى يساره) وياسين الهاشمي (في الطرف الأيمن).
حدثني الملك فيصل قال: «في تلك الأيام العصيبة كان يجيئني الناس متحمسين قائلين: «ارفع العلم، ونحن رجالك، نفديك بأرواحنا.» وإني أذكر واحدا من أولئك الفدائيين، وهو من كبار رجالات العراق، وأشدهم تحمسا، ولكنه غاب قبل أن نفذ السر برسي كوكس أمره بنفي الزعماء الوطنيين، ثم عاد ، فجاء يهنئني بالشفاء، فسألته قائلا: «وماذا فعلتم بالإنكليز ؟ هل عدلتم عن إخراجهم من البلاد؟» فأجاب فورا دون ارتباك: «قالوا لنا إنكم أنتم أخرجتم من البلاد، فسكتنا».»
وقد كان لهذه الإشاعات ألسنة تشيعها للغرض منها ولغرابتها، وآذان تسمعها مصدقة، وتسمعها مستحبة متفائلة، وفي الأمرين ما يريك أن الجو السياسي في تلك الأيام لم يكن مكفهرا فقط، بل كان مفعما بالسموم البريطانية والوطنية أيضا، بسموم الشهوات السياسية والشبهات، والدسائس والخدعات، والمخاوف والمناورات.
يقول العرب: الحرب خدعة. ويقول الإنكليز: كل شيء يجوز في الحرب وفي الحب. وها هنا الشيء الكثير بين العراقيين والبريطانيين من أسباب الحرب، وأسباب الحب، ملتفة بعضها على بعض، مشتبكة بعضها ببعض، فلو تمكنا من الفصل بين الاثنين ومعرفة الواحد من الآخر، لو تمكنا أن نميز بين مواقف الحرب ومواقف الحب، ونتفهم الاثنين في الفريقين، لاستقامت المنازع وهان أمرها. ولكن في ذلك أغوارا من التناقض والغموض. خذ المس بل مثلا، فإنها في مواقفها تارة عربية وطورا إنكليزية، وإنها في عواطفها مثل كرمة يتخللها العليق، فتختفي عرائش الحب بين أشواك الحرب، وتلتف فسائل الشوك حول العرائش فتكاد تخنقها. وخذ السر برسي كوكس وهو في حبه الصافي للعرب عموما، وللعراق خصوصا، لا يتجاوز الحدود التي لا ينمو ضمنها غير حب المصالح البريطانية، والغيرة على الاسم البريطاني.
وما موقف أهل العراق؟! هذه الشيعة وهي حرب على الإنكليز متقطعة، حرب تتخللها هدنات يبرءون منها إلى الله ويسكتون، وهي حرب على فيصل يتخللها فترات من الحب يبرءون منها إلى الله ويسكتون. أما العشائر فهم في فيافيهم يعمهون، ولا يعرفون موقفهم الحقيقي إلا بعد أن تصدر الفتاوى بالمقاطعة، أو بالحرب، أو بالطاعة والاستكانة. وأما السياسيون والفدائيون فقد قرأت ما قاله فيهم الملك فيصل نفسه، وقد رأيت السلطة البريطانية تعتقل الزعماء الوطنيين وتنفيهم خارج بلادهم بضعة أشهر؛ وبغداد في ذلك الأثناء ساكتة ساكنة، تتحمل الألم والصبر.
إني أكتفي بذكر سبب واحد من أسباب التخاذل في تلك الأيام، فقد كانت بغداد على شيء من الغرور، تظن نفسها سياسيا العراق كل العراق، وما كانت في الحرب ولا في الحب صاحبة العلم، بل صاحبة القول والقلم، وخصوصا في تلك الأيام؛ فقد كان سلاحها كلاما على ورق، وكلاما يحمله الأثير فيذيعه دون أن يعود بشيء من صداه.
وها نحن الآن سائرون في السبيل ذاته، سبيل الحبر والورق، إلا أننا هذه المرة كاتبون بدل المقالات والقصائد معاهدة دولية؛ أجل، إن المعاهدة الآن لمحور الأعمال كلها، وسيخلد فيها غير حب المس بل وحب السر برسي للعراق والعراقيين، سيخلد فيها كذلك حب المستر تشرشل للعرب، اللهم إذا استطاع أولو الأمر وأولو الألباب أن يستخلصوا من الكلمة الإنكليزية المأثورة «كل شيء يجوز في الحرب وفي الحب.» ما فيه خير البلدين على السواء.
وهذا ما يريده السر برسي كوكس، وهذا ما ينشده الملك فيصل، أما السر برسي الذي جنح إلى العنف ليفتح الطريق ويؤمنه للمعاهدة، فإن له في المفاوضة - كما أسلفت القول - أساليب وقواعد شتى، وهو فيها كلها السياسي المحنك كما يقال، وصار في إمكانه الآن، وقد بلغ الأرب في خطة العنف، أن يبسم على عادته، ويسير متمهلا إلى غرضه، فيقاوم ما لا يزال يعترضه من الصعوبات والعقبات ويغالبها بما يستحبه ويستلذه من ثمار الفكر والتبصر، من البراعة في عقد الخيوط الدقيقة، من الكياسة في تلوين الألفاظ، من الدهاء في رمي الحبالة وشد الربق.
أما الملك فيصل فقد أساء الناس فهم موقفه في تلك الأيام، فلم ينصفه الإنكليز ولا أنصفه العراقيون. قال الإنكليز أصدقاؤه إنه انقلب عليهم بعد التتويج، وقال المتطرفون من الوطنيين إنه يخدم مصالح الإنكليز ويعمل بأوامرهم. أما الحقيقة، وإن بدا شيء منها هنا وهناك، الحين بعد الحين، فهي أصلا وأساسا واحدة، لا إنكليزية ولا وطنية؛ بل فيصلية عراقية. وبكلمة أوضح كان فيصل واقفا في تلك الأيام موقف الدفاع، وكان همه الأول أن يحفظ العرش، فيعزز مركزه كمليك العراق ليستطيع أن يعزز جانب العراق في المعاهدة، وكان همه الثاني أن يحمل المستر تشرشل على البر بوعده دون أن يعادي الإنكليز. هذي هي الحقيقة الفيصلية العراقية، وفي حديث الملك فيصل - المدون لحسن الحظ عندي - ما يثبتها ويزيدها بيانا.
أعود إذن إلى مذكراتي في تلك الأيام.
في 10 أيلول 1922، حدثني الملك بما تم بينه وبين المستر تشرشل قبل مؤتمر القاهرة، وفي ذلك الاتفاق تعترف الحكومة البريطانية باستقلال المملكة العراقية، وتتعهد أن تلغي الانتداب، وأن تساعد العراقيين في تأسيس حكومة وطنية موطدة الأركان، وستعقد لقاء ذلك معاهدة ولاء وتحالف بين بريطانيا والعراق، يضمن فيها للحكومة البريطانية بعض الحقوق في ترقية اقتصاديات البلاد واستثمارها، وفي استخدام مستشارين وإخصائيين من الإنكليز لهذه الغاية، ولمعاونة الموظفين الوطنيين كذلك في إدارات الملك الجديد.
قال الملك فيصل: «وعدني المستر تشرشل وعدين؛ أن يلغي الانتداب، وأن يعترف باستقلال العراق. وقد جاءنا الآن بمعاهدة طافحة بذكر الانتداب وعصبة الأمم. فإذا كان الانتداب، فما الفائدة من المعاهدة وما الغرض منها؟ وإذا كانت المعاهدة، فما الحاجة إلى الانتداب؟ غني عن البيان أن أحد الصكين غير لازم وغير مفيد. إننا مصرون على ما وعدنا به المستر تشرشل، وهو ما يطلبه العراقيون، المعتدلون منهم والمتطرفون، وإني لا أزال أعتقل وآمل أنه يبر بوعده، وإلا فالموقف حرج، يا أخي، حرج جدا.»
قد كانت الأمة بأجمعها، إذا استثنينا فريقا من الموظفين وقسما من أهل البصرة، ضد الانتداب قلبا وقالبا. وما كان لفيصل، حتى إذا صرفا النظر عن وعد المستر تشرشل، غير هذا السبيل يسلكه فيقودها ويهديها إلى المحجة العليا، فلو أراد يومئذ أن يغير في سيرها، أو يلطف نزعتها إلى الاستقلال، لما استطاع ذلك. هي ذي الحقيقة التي أدركها وقبلها، ومشى في نورها حتى العقبة الأولى. ولا عجب إذا فضل ملكا مستقلا على ملك مقيد بالانتداب، وبإرادة المندوب السامي.
بيد أنه كان يدرك دائما ما عليه للإنكليز، ويوازن ويقارن بين الحقيقتين؛ حقيقة الدين وحقيقة الوعد، فيحاول أن يقف بين الاثنين وقفة الصادق الكريم؛ الصادق في وطنيته العراقية، الكريم في تقديره الجميل، وكان يتحاشى ما فيه شيء من العداء أو الجفاء للإنكليز، وهم يومئذ أصدقاؤه الوحيدون. هو الذي صرح بذلك، وكانت صراحته تشف عن مراكد الغم في أعماق نفسه.
وهاك الحديث من مذكراتي: «لو رحت أبحث اليوم عن حليف للعراق فأين أجده؟ في فرنسا؟ الفرنسيس أعدائي. في تركيا؟ ما انتهت الحرب بيننا وبين الأتراك. في العجم؟ إن حكومة العجم تزيد بمتاعبنا وبمشاكلنا في تدخلها بشئون الشيعة في العراق. أين أجد الحليف؟ في نجد؟ لا تزال خطة ابن سعود حربية أكثر منها سلمية، وفيها الخطر عليه وعلينا سواء. أفلا ترى أننا محاطون بالأعداء،
1
ولا أصدقاء لنا غير الإنكليز؟ هي الحقيقة، يا أخي، وإذا اعترفت بها، وقبلتها وعالجتها بالتي هي أحسن؛ قالوا إني أمالئ الإنكليز وأخدم سياستهم ... والإنكليز، العياذ بالله.»
عاد إلى وعدي المستر تشرشل واستطرد قائلا: «وهم يطلبون مني أن أوقع معاهدة لا تمكنني من تأسيس حكومة وطنية قوية، ولا تمكننا لذلك من القيام بتعهداتنا. خذ الجيش مثلا، نحن نبغي جيشا وطنيا، ولا أحد يتطوع وفي البلاد انتداب، والبرهان بسيط، يقول العراقيون: إذا كان الإنكليز مقيمين في العراق فليدافعوا عنه بجيوشهم، هذا حق، بل هذا منطق.»
كان يحدثني بلهجة هادئة صافية، إلا أنها شديدة بليغة، وقد ظهرت شدتها حتى في همسه، وبدت بلاغتها حتى في وقفاته، وفي ملامحه وحركاته، فكان ينزع خاتما من أصبعه ويلعب به، تهدئة لأعصابه. وعندما ذكر المستر تشرشل، لاح على جبينه لهب من الغيظ، فرفع السدارة عن رأسه ووضعها إلى جانبه على الديوان.
هي أول مرة شاهدته مكشوف الرأس، وكان ذلك بعيد شفائه من الجراحة، فذكرت، وأنا أتأمل وجهه، ما قاله فيه أحد الفرنسيين، وهو أنه شبيه بوجه المسيح؛ كان الشعر فوق جبينه العالي الناصع كثيفا يومئذ وخلوا من الشيب، وكانت سيماء وجهه الشاحب المتضمر أكثر وضوحا، وأبلغ معنى، فبدت العين أكبر مما هي وأبعد غورا ونورا، وبدا الفم في نبضه وغضه أكثر انفعالا وأشد كآبة، وذكرني النتوء في عظمي الخدين بما يبرز في وجه أبراهام لنكولن، وما كانت اللحية إلا لتزيد بطابع الهزال الذي زانه النبل، وتجلت فيه الروحية السامية.
فهل يستغرب أن يكون لفيصل تلك الشخصية الساحرة ، التي قل - ممن عرفوه - من لم يعترف بها ؟ أجل، إنه لقليل في الناس من لا تستولي عليهم مثل السجايا التي زانت فيصلا وتجلت في ملامحه ومجالسه، ومن هذا القليل المندوب السامي السر برسي كوكس؛ ذلك الإنكليزي القح فيما بدا من نفسه، وفيما صفا من خلقه. لقد كان يحترم فيصلا ويجله، ولكنه كان يوصد باب قلبه ونوافذه كلها، في مجالس الملك وفي أحاديثه، فلا يدع لسحره نخروبا يدخل منه.
وقد ظل النزاع بينه وبين فيصل نزاعا سياسيا صرفا، فترك السحر والانفعالات الروحية للمس بل، تنعش بها النفس في ساعات قيظها، وترصع بها الرسائل إلى أمها، وكان السر برسي يقيم بينه وبين المس بل في الساعات الحرجة جدارا من المنطق الصافي الصلب الصقيل كالرخام، فلا يدعها تتغلب عليه بما سرى إلى قلبها دون العقل، أو بما تغلغل في القلب وما فيه من آثار العقل غير الخيال؛ فالنزاع إذن هو سياسي، ولكنه في أسبابه الشخصية يشمل الطباع والتقاليد النفسية والقومية.
وبكلمة أخرى، إن النزاع في المعاهدة بين فيصل والسر برسي كوكس هو نزاع بين روح عاقلة، وبين عقل لا روح له.
محاولات ومراوغات
إذا ما جنح المؤرخ غدا إلى درس أحوالنا السياسية الحاضرة، يكتشف الحقيقة التي تبدو لنا اليوم كبيرة. وهذه الحقيقة هي أن انحطاط الغربيين، لا ارتقاء الشرقيين ونهضاتهم، هو الذي عجل في سقوط السيادة الغربية في الشرق؛ فقد كانت العظمة البريطانية مثلا مستمدة من قوى الشعب البريطاني الخلقية والروحية؛ تلك القوى التي تزعزعت بعد الحرب العظمى، ورزحت تحت عبء ثقيل من الاصطلاحات والمغالطات الاجتماعية والسياسية، ثم تلاشت بين أيدي السياسيين والماليين العاملين ليومهم ولقومهم، بل انسحقت بين حجري الرحى للمصلحة المباشرة؛ أي بين المهاودة والمساومة، وما يصحبهما من المحاولات والمراوغات.
منذ خمسين سنة كان الإنكليزي في الهند مثلا يقول: إننا ها هنا بفضل أحسابنا السياسية والخلفية والروحية، إننا ها هنا لأننا أرفع منكم، وأقدر منكم، وأعلم منكم. موقف جدير بالاحترام.
أما اليوم فلا يستطيع الإنكليزي في العراق أن يقول ذلك القول ، لا صراحة ولا ضمنا، لا عن يقين، ولا عن مكابرة. بيد أنه يقول: إننا ها هنا لأن عصبة الأمم أرادت ذلك. وما في هذا القول الحقيقة كلها، بل ما فيه - والحق يقال - الإفكة كلها. وهاك ما تبقى منها؛ عندما وزعت عصبة الأمم الانتدابات كانت مسيرة بنفوذ الدول التي ابتغت الانتدابات وسعت لها. وعندما كانت الجيوش البريطانية تحارب الأتراك في العراق كانت تعتقد صدق ما قيل لها؛ وهو أنها جاءت تفتح العراق للملك جورج وللقديس جورج
1
لا للعراقيين.
وما كان بلاغ الجنرال مود، إذ دخل بغداد في 11 آذار سنة 1917، غير صدى البلاغات التي كانت تذيعها دول الأحلاف إبان الحرب: «ثقوا أيها العرب أننا لا نطمع ببلادكم، إنما جئنا نخلصكم من الترك، ونقدم البلاد بعد فتحها هدية لكم خالصة لوجه الله.» هذا ما قاله الجنرال مود في بلاغه. فإن صدق البلاغ فالجنود المجاهدون قد خدعوا خدعة فظيعة، وإن كان البلاغ كاذبا فأهل البلاد المخدوعون.
تعال نعود، من أجل المقارنة، إلى الماضي؛ فقد قال قائد آخر بريطاني
2
في موقف شبيه بموقف الجنرال مود: «إننا ها هنا بفضل ثلاثة؛ هي: تأثلنا الخلقي، وعوامل الأيام، والعناية الإلهية. وهذا كل حقنا، وهذه كل حجتنا في الاستيلاء والحكم، وإننا فيما سنعمل لخير الأهالي مقيدون بضميرنا لا بضميرهم.»
قد تستغرب هذا الموقف وتستنكره، ولكنك محترم - ولا شك - الروح التي كانت توحي به وتؤيده. ومن لا يحترم القوة العليا، قوة الذات والأحساب، التي هي مصدر العظمة الحقيقية، وركنها الأوطد؟ ألا، مهما يكن من تغير الأيام وتبدل السياسة والحكام، فإن السيادة التي ترتكز على القوة الخلقية والروحية - على الصدق والثقة بالنفس والإيمان، وعلى الصراحة والشجاعة والإخلاص - تظل الأزمة في العالم، وتظل محترمة معززة، ويكون النصر حليفها عاجلا أو آجلا أينما كانت.
هذه هي الحقيقة الناصعة في التباين بين أخلاق المسيطرين في هذا الزمان وأخلاقهم في الزمان الغابر، هي الحقيقة فيما يصح أن نسميه مخشلب الأخلاق ودره، أبرزتها تمهيدا لما سأطلعك عليه من مظاهرها فيما يتعلق بموضوعنا الآن؛ أي المعاهدة البريطانية العراقية.
عندما أبل الملك فيصل من مرضه استأنف المندوب السامي السر برسي كوكس المفاوضة وإياه، وكان على اتصال دائم بالنقيب السيد عبد الرحمن، فاتفق الثلاثة على تأليف وزارة جديدة يرأسها النقيب للمرة الثانية. وما كانت جديدة بغير الاسم؛ لأن أكثر وزرائها كانوا في وزارة النقيب السابقة، قال العميد: «ليس لدينا أحسن منهم.» وقال النقيب: «لا يناسبنا غيرهم.» وقال الملك: «على الله الاتكال.» بيد أنه لم يكن مسرورا بالرئاسة؛ لأن النقيب - وإن كان قد رفض التوقيع على المعاهدة الأولى - هو صديق المفوضية الوفي، ويعد بقاؤه نصرا لها.
أمن الملك متوكلا على الله، وأرسل الفرمان إلى بيت النقيب، فقرئ هناك في حفلة صغيرة عليها مسحة من أبهة الدولة الغابرة، دولة الترك. جاء السكرتير الأول يحمل حقيبة صغيرة من المخمل الأخضر، فدخل القاعة يتقدمه ياوران يناديان: الفرمان، الفرمان. وكان النقيب واقفا وسط القاعة يعتمد على عصاه، وحوله أنجاله الكبار وبعض الأعيان من المعممين وغيرهم.
أخرج السكرتير من حقيبته طلحية من ورق الدواوين طويلة، وقرأ بصوت مفخم أمر صاحب الجلالة إلى وزيره الأول بتأليف الوزارة، وما كان شيء من تلك الديباجة العثمانية الطنانة، المرصعة ب «فخر الوزراء، وقطب الحكماء، وعين مجد الأمراء، مدبر شئون الدولة بالفكر الثاقب، والرأي الصائب، وزيري ... إلخ» ما كان شيء من هذا، ما كان غير «صاحب المعالي»، ثم لأمر المشفوع بأمل العرش الموطد بعون الله، أن يسترشد معاليه في تأليف وزارته بما أعطي من العلم، وبما اتصف به من الحكمة والإخلاص.
والنقيب ابن الثمانين السيد عبد الرحمن، سيد العالمين بسخريات الزمان، ابتسم ابتسامة صغيرة خبيثة لنفسه عندما سمع الأمر بتأليف الوزارة التي كانت قد تألفت تماما بأجمعها. فقال في جوابه المختصر المفيد أنه سيتوكل على الله في اختيار زملائه. وبعد ذلك أديرت كئوس الشراب ثم القهوة، وانتهت في صباح ذاك اليوم أشغال الدولة.
عندما كان النقيب رئيسا كانت الوزارة تجتمع في بيته؛ لأنه كان مقعدا، وكانت المس بل تقول: «ليت في رجليه شيئا من النشاط الذي في عقله.» ولكن داء عصبيا أحوجه إلى العصا يستعين بها حتى في البيت. وقد تكون هذه الحالة في صاحب المعالي أحد الأسباب التي حملت الملك فيصلا على تفضيل سواه لمنصب الرئاسة، فكان يضطر في المهم من المحادثات أن يجيء بنفسه إلى بيت النقيب، وكأني بالسيد عبد الرحمن - قطب الظرفاء وينبوع الكياسة - يستعين بالتاريخ ليخفف الأمر على جلالة الملك، فيحدثه عن جده عبد القادر الكيلاني - قدس الله سره - فقد كان يزار ولا يزور، وكان الخليفة نفسه يتنازل مثلكم، يا جلالة الملك، لزيارته في بيته.
أما السر برسي كوكس والمس بل، صديقاه الوفيان، فحسبهما نور طلعته وحلاوة مبسمه. فما كان يرى من حاجة إلى الأمثال والنوادر التاريخية ليزيل من «تشريفهما» ما قد تخلله من مرارة الواجب. نعم، لقد كان من الواجب عليهما أن يزوراه، وكانت المس بل تشرف غالبا كل يوم لتنير ذهنه، أو لتبلبله بما كان يدور ويحور، ويطفو ويغور، في ذهن صاحب المعالي الأكبر، المستر تشرشل. ومما كان ينبغي أن يذكر للنقيب بالحمد والثناء أنه لم يقبل أن يرأس الوزارة الثانية إلا بعد أن تعهدت دار الانتداب بتعديل المعاهدة.
وكان الانتداب شبح المعاهدة المخيف، لا في نظر العراقيين فقط، بل في نظر الإنكليز أيضا، وكانت الحكومة البريطانية تحاول أن تصبغ الشبح بالصباغ الزاهي ليلتئم وألوان المعاهدة الجديدة. فقد صرحت بقصدها؛ وهو أن المعاهدة لا تقوم مقام صك الانتداب، بل تدخل في صلبه وقلبه فتصلحهما.
استمرت وزارة المستعمرات تعلل نفسها بالآمال، وهي واثقة أنها تستطيع أن ترضي عصبة الأمم بما تخترعه وتلونه من الألفاظ، مستعينة بأقطاب القانون فيها، فتقضي على المخاوف والأشباح كلها.
وهاكم المادة السادسة برهانا على ما يقول المستر تشرشل، إن في هذه المادة من المعاهدة «يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يستخدم نفوذه لإدخال العراق في عصبة الأمم بأسرع ما يمكن.» خلال مدة المعاهدة وهي (المادة 18) عشرون سنة. بأسرع ما يمكن خلال عشرين سنة! إن الله مع الصابرين، وعندما يصير العراق عضوا في العصبة، كما جاء كذلك في المادة السادسة، تبطل المعاهدة - الفعل لازم - تنتهي حتما وتماما.
على أن هناك شروطا أخرى:
أولا:
أن توقع المعاهدة.
ثانيا:
أن يكون للعراق دستور أساسي.
ثالثا:
أن تخطط حدوده رسميا ويعترف بها.
وبعد ذلك ثق، يا جلالة الملك، بما يقوله المستر تشرشل.
ثم تجيء المس بل مطمئنة قائلة: «سيدي فيصل، المستر تشرشل رجل حر، والمثل العربي يقول: «وعد الحر دين».» - «هذا صحيح، وسيبر المستر تشرشل بوعده إن شاء الله.»
ثم تعيد قراءة البرقية الأخيرة أو أنها تتلوها على مسمعه. عندما توقع المعاهدة يباشر المستر تشرشل العمل لتحقيق التعهد المتضمن في المادة السادسة. وتجيئه في اليوم التالي وبيدها نسخة البرقية الأخيرة: «سيدي فيصل، يؤكد المستر تشرشل للمندوب السامي ويسأله أن يؤكد لجلالتكم أن حكومة جلالة الملك ستعجل في تقرير مسألة الحدود بين تركيا والعراق.»
وكان المندوب السامي يبعث بنسخ من هذه البرقيات إلى النقيب مع ملاحظاته وإلحافه: «وأملي بسعادتكم ...» فقررت الوزارة في يومها العاشر أن تجدد ثقتها بالحكومة البريطانية - بعد التوكل على الله - وتصدق ما يقوله مندوبها ووزيرها. ثم وقعت المعاهدة (في 10 ت1 سنة 1922) وصدر بلاغ ملكي من البلاط أن تمت بعون الله المفاوضات بالرغم عما اعترضها من الصعوبات، وأن الفريقين توفقا إلى حل مرض، فالمعاهدة مبنية على المصالح المشتركة، والحقوق المتبادلة، وهي تضمن سيادة العراق الوطنية واستقلاله السياسي، كما أنها تضمن دخوله في عصبة الأمم.
ما اطمأن مع ذلك قلب الأمة، ولا خفت صوت المعارضة. والحق يقال، إن الملك فيصلا نفسه كان يومئذ يحتمي بالألفاظ، ويحاول أن يموه بألوانها الموقف المريب، ولا عجب إذ سرى إليه من النقيب، ومن المندوب، ومن وزير المستعمرات، شيء من الأمل بعلاج الزمان، بل شيء من اليقين بأن ما يفسده الناس تصلحه الأيام.
وما كان أحد من أساطين السياسة هؤلاء ليجسر على الأيام فيقوم مقامها، وما كان أحد يجرؤ أن يفكك - بعد الاتكال على الله - قيود الأحوال والمناسبات؛ فقد كان المستر تشرشل مسئولا لدى عصبة الأمم، وكان السر برسي كوكس مسئولا لدى المستر تشرشل، وكان الملك مسئولا لدى السر برسي كوكس ، وكان النقيب مسئولا لدى الملك؛ إنه لجو مفعم بعوامل الخوف والجزع، فيتذبذب فيه تيار المحاولات والمراوغات، ويلوص في كلماته وميض خفي ينعكس في قلوب المتفاوضين. إن السبيل ضيق، أيها السادة، ولا مفر فيه من المسئولية، على أنه قد ينفرج، وسينفرج إذا مضينا مستمرين في أية جادة تنفسح أمامنا، وخير الجادات أهونها.
من من السياسيين ينكر ذلك؟ من من السياسيين الممرنين على عقد المعاهدات الدولية يزدري الحكمة التي تفرضها المناسبات، ولا يختار من السبل أهونها وإن طال؟ وسنعطيك الأمثلة من المقارنة بين المعاهدتين؛ الأولى المنبوذة والثانية المنفذة.
المقدمة في نص المعاهدة الأولى سلسلة من «حيث إن» مسندة إلى معاهدة سيفر، وميثاق عصبة الأمم، وصك الانتداب.
أما في النص الثاني فقد ضرب المتعاقدان بالمقدمة عرض الحائط، وسارا توا إلى قلب الموضوع فقررا ما يلي: يرى الملك فيصل أن من مصلحة العراق أن يعقد معاهدة ولاء وتحالف مع الملك جورج، والعاهلان واثقان مطمئنان بأن الصلات بين البلدين ستقيم بما تبينه وتحدده هذه المعاهدة.
المادة الأولى في النص الأول: «يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يمد العراق بما يلزم من المشورة والمساعدة خلال مدة المعاهدة.»
ويتلو هذا في النص الثاني: «دون أن يضر بسيادته الوطنية.» ولكن المادة العاشرة تذهب بكل ما هو مقصود في هذه العبارة من الاحتياط. وهاك نص المادة العاشرة في المعاهدتين: «يتعهد الفريقان المتعاقدان أن يقررا في اتفاق خاص منفرد ما يراه صاحب الجلالة البريطانية لازما في العراق من عقود أو اتفاقات أو امتيازات، ويتعهد ملك العراق بالحصول على ما يلزم من التشريع لتنفيذ هذه الاتفاقات.»
المادة 16 في النص المنبوذ: «يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بقدر ما تسمح واجبات الملك، بألا يعارض في أي اتفاق جمركي أو سواه يعقده العراق والحكومات العربية الأخرى.»
المادة 19 في النص المنفذ: «يتعهد صاحب الجلالة البريطانية، بقدر ما يتناسب وعلاقاته الدولية بألا يعارض ... إلخ.»
أنت ترى أن في النص الأول تنحصر الجملة الاحتياطية بالدولة البريطانية، وفي النص الثاني تنبسط حتى تعم الدول كلها، فأين منها سيادة العراق الوطنية واستقلاله الاقتصادي؟! فهو في النص المنبوذ أقل تقييدا منه في النص المنفذ. والاثنان يعللانه، بدل أن يتعهدا له، بحريته في عقد الاتفاقات والمعاهدات الجمركية.
أما التعديل الذي أدخل على مادتي 11 و14، فلا تذبذب فيه ولا مراوغة، هو صريح جلي قويم، ولا عجب؛ فالحكومة التي طلبته وأصرت عليه ليست بحكومة العراق؛ بل هي حكومة الرأسمالية والديمقراطية - مهد مناقضات الزمان - هي الحكومة التي كانت تفرض مشيئتها وقتئذ على العالم الاقتصادي والمالي، هي الحكومة التي رفضت أن تنضم إلى عصبة الأمم، وما رفضت أن تشارك بالمنافع والحقوق التي لأعضائها.
نقول نحن العرب: وما ظالم إلا ويبلى بأظلم. سألت يومئذ قنصل ذاك «الأظلم» رأيه في السر برسي كوكس، فأجاب بكلمة واحدة: «فوكسي.»
3
وبعد أيام، إذ كان قد قدم مطالب حكومته إلى دار الانتداب ونالها، قال لي يصف السر برسي: «إن في سياسته كثيرا من الزيت.»
4
قلت: «وماذا في السياسة الأميركية؟» فرد حضرة القنصل سهمي قائلا: «علي أن أراقب السر برسي، فلا يهضم الولايات المتحدة حقوقها.»
وقد استمع السر برسي إلى المستر أون يومئذ بالأذن التي تسمع لممثل دولة من الدول العظمى، ونقل كلامه برقيا إلى المستر تشرشل؛ فكان التعديل بعد ذلك في مادتي 11 و14.
جاء في نص المعاهدة الأولى: «على العراق أن يعامل بالمساواة وبدون تمييز مواطني الدول المشتركة في عصبة الأمم.»
وقد أضيف إلى هذه الكلمات في النص المنفذ: «وأية دولة أخرى يتعهد صاحب الجلالة البريطانية باتفاق أو معاهدة وإياها بأن يكون لها الحقوق نفسها كما لو كانت عضوا في عصبة الأمم.» «أية دولة أخرى» هي أميركا بعينها، التي أحرزت قسمتها في نفط العراق، ومعها بضعة امتيازات في التنقيب عن الآثار القديمة. ألا يهم أميركا، بلاد الرئيس ولسون من البلدان المشمولة بالانتداب، غير ما فيه منفعتها المادية وشيء من المجد؟!
لنعد إلى العراق؛ ليس في نص المعاهدة الثانية من التغيير والتعديل غير ما ذكرت؛ فقد نزع منها اسم الانتداب، وأضيف إليها كلمة مبهمة في السيادة الوطنية، وبدلت ب «واجبات الدولة» و«الواجبات الدولية ». أما ما تبقى من المواد فهي بمعناها واحدة في النصين. وإن عددناها لندرك مقدار ما تضمنته من «المصالح المشتركة» و«الحقوق المتبادلة»، رأينا أن أربعا منها مع العراق، وتسعا هي عليه. أضف إلى هذه المواد التسع الاتفاقات الثلاثة الملحقة بالمعاهدة، أي التي تتعلق بالجندية والمالية والقضاء، تر العجب في المساواة.
يوم وقعت المعاهدة قام بعض الوطنيين يحتجون، فاجتمعوا وخطبوا، وجاء فريق منهم إلى بيت النقيب، فأذن لهم بالدخول، وسمع خطيبهم يخطب، ثم سألهم قائلا: «وباسم من تحتجون؟» فأجابوا: «باسم البلاد.»
فنهض إذ ذاك عن الديوان يهز عصاه ويقول: «ومن أنتم لتحتجوا باسم البلاد؟ أنا صاحب البلاد، وأنا أعلم منكم بحاجات البلاد وأغراضها. عودوا إلى بيوتكم وأشغالكم.»
الوفد العراقي في لندن بمناسبة ذهابه إلى جنيف ودخول العراق في عصبة الأمم. جلوس: من اليمين كاظم الدجيلي، جعفر العسكري، ناجي السويدي، مزاحم الباجه جي. وقوف: عطا أمين، رستم حيدر، ياسين الهاشمي، سندي وتحسين قدري.
خرجوا ساكتين.
الملك فيصل الأول ببزة المارشالية.
وبعد شهر سكت صاحب البلاد نفسه. بعد شهر سقطت وزارة النقيب الثانية، وسكتت دار الانتداب، ولم تكترث للأمر. فتساءل الناس قائلين: «أين وفاء الإنكليز؟» وقال البغدادي بلهجته العريضة المعروفة: «يسخرونه، ويضجرونه، ويهجرونه!»
كان السر برسي كوكس يومئذ في العقير عاملا وابن سعود في تصفية الجو المتعكر بين نجد والعراق، وتسوية العلائق النجدية البريطانية، فيبرزها كلها جلية صافية في معاهدة أو معاهدتين، ولا سيما أن مدته كمندوب سام كادت تنتهي، فكره أن يترك مسائل متوقدة، ومشاكل معقدة، إن في العراق أو في نجد؛ لذلك كان جادا في إطفاء النار، وفي حل العقد هنا وهناك، فيستطيع إذ ذاك أن يحمل إلى لندن النبأ السار أن كل شيء هادئ في الميدان العربي.
ومما هو جدير بالذكر أن مهمته كانت كثيرة العقبات، شديدة المشقات، خصوصا وقد كان عليه أن يرضي العرب والحكومة البريطانية وعصبة الأمم، وحتى الولايات المتحدة. فمهما قيل في المعاهدة والدور الذي مثله على مسرحها ووراء مشاهده، فمما لا ريب به أنه كان من المشيدين للملك الجديد، ومما هو دون كل ريب أنه وضع أسس السلم والولاء بين البلدين، نجد والعراق. لك أن تقول في سوى ذلك إنه ماهر في الترقيع، ولك أن تقول كذلك إن قطباته في الرتق غير محكمة، يبدو عليها أثر السرعة والتعب. هذا صحيح، وهو نفسه عالم به، وقد كان مدركا ما في المعاهدة من الغبن للعراق، وغير راض بأن تستمر عشرين سنة.
عاد من العقير يحمل في صدره، وفي مذكراته، من المعلومات الخاصة بنجد والعراق ما لا يستطيع أن يرسله بالبرق أو بالبريد إلى وزارة المستعمرات، فوجب عليه أن يسافر إلى لندن قبل أن تنتهي مدة وظيفته، وقد وعد الملك فيصلا أنه سيبذل كل ما في طاقته ليجعل مدة المعاهدة خمس سنوات بدل العشرين.
بيد أن الأمور في وزارة المستعمرات تجري في مجاريها الخاصة المحددة، وأن للعقل القانوني فيها قوالب لا بد منها؛ فهي إذا تكارمت مثلا تختار لكرمها القالب الذي يليق ظاهرا به، ضيقا كان أو واسعا. ومن هذه القوالب الألفاظ الشرطية والاحتياطية.
فقد قررت تلك الوزارة بعد أن سمع رئيسها المستر تشرشل إلى السر برسي أن تعدل المادتين 6 و18 في ملحق للمعاهدة، وهذا الملحق يقول: «إن المعاهدة تنتهي عندما يصير العراق عضوا في عصبة الأمم، وفي كل حال لا تتجاوز المدة أربع سنوات من تاريخ إبرام الصلح مع تركيا.»
هو العقل القانوني بتنطعه وتحوطه؛ فقد أبدل بوعد غير مقيد بشرط - وإن بعد يوم تحقيقه - وعدا محددا ومقيدا بشروط، ومن هذه الشروط أن المعاهدة لا تنتهي إلا بموافقة عصبة الأمم (المادة 18)، فإن تم الصلح وتركيا، ومرت بعد ذلك الأربع سنوات، ورفضت عصبة الأمم أن تعترف بانتهاء المعاهدة، ظل العراق مكانه، بل عاد إلى الجهاد حيثما بدأ به.
ومع ذلك كله فقد رحب الملك فيصل بهذا الملحق، وأذاع بلاغا على الأمة قال فيه إن الحكمة تمكنت «أن تخطو خطوة كبيرة أخرى في سبيل تحقيق أماني العراق؛ وذلك بعقدها الملحق الجديد للمعاهدة العراقية البريطانية، وكان من جملة الأسباب الرئيسية المبني عليها الملحق تلك الخطوة السريعة التي خطتها حكومتنا في سبيل التقدم والاستقلال .»
كلام الملوك، مثل كلام الوزراء! ولكن الأمة، وإن كانت لا تدرك ما يدركه الملوك والوزراء، تقرأ ما في قلبها، قبل أن تقرأ ما في البلاغات الرسمية.
جهاد الملك فيصل
ما قدر لملك من ملوك العرب في هذا الزمان اجتياز ما اجتازه الملك فيصل من غمرات المشاكل الوطنية والدولية، ولا قدر لسياسي من ساسة الدول الصغيرة أن يوفق مثله بين شتى العناصر المتضاربة التي اكتنفت المفاوضات لعقد معاهدة كانت تبدو دائما في طور التكوين، فلم يكن الوضع ليثبت حتى في أساسه على حال من الأحوال. هو وضع ذو أنوار وظلال مضطربة متقلقلة، وضع مقيد بعوامل من التبدل والتغير كانت تنبعث ليس من لندن فقط، بل من جنيف أيضا، ومن أنقرة وطهران والرياض؛ فأين من هذا الاضطراب، وتضارب المنافع والأغراض، طريق الثقة والاطمئنان؟! أين تلك الطريق التي كان يتلمسها الملك فيصل ويتحسسها، وقلما يجدها سليمة أمينة؟ ولا غرو، فقد كثر فيها لمع السراب، وتعددت فيها الحفر والأخاديد، فاشتد في الملك الحذر وازداد الاحتياط.
إنها لحرب سلمية، إنها لحرب في الظلام، وقد تخللت واقعاتها سحب من الغازات السامة؛ فجعلت التقنع، التستر، المخادعة، من لزوم الدفاع. وقد كانت القضية ومعضلاتها في منزلة من الأهمية تصغر عندها الشخصيات، وإن كانت ملكية، وتضؤل المطامح الخاصة، وإن كانت لأكبر السياسيين؛ فمن أهم الواجبات إذن أن تحل هذه المعضلات، وتسوى تلك القضية على مبدأ العدل الثابت، والرضى الدائم، فضلا عن التأمينات الوطنية والدولية. هذه هي الحقيقة الكبرى التي قلما غابت عن بال الملك فيصل؛ فقد كان - والحق يقال - أشد ملوك العرب شعورا باشتراك المنافع، وأكبرهم تقديرا للوضعية الأوروبية في هذا الاشتراك.
على أن همه الأول أن يصون حقوق البلاد من غوائل السياسة التي مر ذكرها؛ سياسة المخاتلة واللين، وأن يحفظ المملكة الفتية من عوادي الشقاق والفوضى، التي بدأت تفتك بها في السنة الأولى من حياتها. وقد أشفق الإنكليز أنفسهم مما كان يهدد يومئذ العراق، فكتبت المس بل إلى أمها، في شهر آب سنة 1922 تقول: «إننا نخشى انفجارا ثانيا » (وهي تشير إلى الانفجار الأول؛ «أي الثورة الأخيرة»).
ولكان الانفجار لولا صبر فيصل وتعقله، لولا حنكته وبعد نظره. وما بالى أن يتهم بالعداء للإنكليز، وما بالى أن يقال إنه يؤثر مصالحهم على مصالح البلاد؛ فقد مر بالتهم الإنكليزية والعراقية مر الكرام، ومشى إلى غرضه بقدم ثابتة، وهمة صادقة. وما كانت مهمته هذه مما يغبطه عليه أحد من السياسيين أو الحكام؛ فهناك الدسائس والمؤامرات والمخاتلات والخيانات يغالبها ويتغلب عليها، وهناك الأقليات والعشائر المتهيئون دائما لمناوأته يداريهم ويجاملهم ليستميلهم إليه. وقد كان لكل خطوة اتجاه، ولكل خطة ملابسات يختص بها، وكانت كلها بمجموعها تؤدي به من موحل إلى آخر أوحل منه. مع ذلك كله فقد كان هدفه طول ذاك الجهاد واحدا، بعيدا ثابتا ناصعا لا يتغير، ولا يثنيه عنه شيء في مغالبات الناس وحماقاتهم أو في نكد الزمان وعواديه، وهذا الهدف هو عصبة الأمم؛ سعى وجاهد فيصل ليصل بالعراق إلى عصبة الأمم، لا لفضل فيها خاص، بل للتخلص بوساطتها من هذا الشيء الذي ولدته؛ من هذا الانتداب ابنها ومن نيره.
وقد كان عليه أن يقود العراق في اجتيازه المراحل، الواحدة بعد الأخرى، إلى تلك المحجة البعيدة. بيد أنه كان مقيدا في القيادة بخطة أخرى غير خطته، بل بخطط غير تلك التي كانت توحي بها السياسة الفيصلية. وكيف لا، وللإنكليز وجهة نظر يجب أن تتقدم، وإن تغيرت كل يوم، وجهة نظره، أو تلتئم بها؟ وكيف لا وللإنكليز حق في الإرشاد، وأساليب في الإرشاد عجيبة؟ فعليه أن يسلك بموجبها، أو يتلمس سبيله بتعقل إنكليزي، كما يتلمس الجواد طريقه خلال الضباب في لندن.
بل كان عليه أن يرى وراءه كما يرى أمامه، وأن يحسن فوق ذلك شيئا من علم المناقضات! وها نحن في الفصل الأول من هذا العلم الطريف نعقد معاهدة تحالف مع حكومة دستورية نيابية، لا مجلس نيابيا لها ولا دستور! ولا بأس، فإنه من الممكن، في علم المناقضات، أن تجر العربة الحصان. وعندما تدنو ساعة الأعجوبة؛ أي عندما تشرع الأمة في سن دستورها الأساسي، ينبغي ألا يحدث ما قد يمنع الحصان من السير وراء العربة، وبكلمة عربية مجردة من المجاز الإنكليزي ينبغي ألا يكون في دستور الأمة - ذات السيادة - ما يناقض مضمون المعاهدة. حاول فيصل أن يسير بنور هذه الحكمة الإنكليزية، أن يهتدي بهذا الهدي البعيد الضياء، وأن يفوز فوق ذلك بحب شعبه.
بعد أيام من عقد المعاهدة، صدر بلاغ ملكي بوجوب انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، ليجتمع في الشهر الأول من سنة 1923، ولكن المعارضة المستمرة حالت دون مباشرة العمل، وكانت تزداد شدة في الشيعة؛ إذ أفتى المجتهدون بمقاطعة الانتخابات، وهم يموهون سياستهم الفارسية بما يظهر من عطفهم على الأتراك. وكان آية الله مهدي الخالصي أشد زملائه تطرفا وأنكرهم مكابرة حتى في مجابهة الملك، فغضب رئيس الوزارة عبد المحسن السعدون غضبته الأولى، وأمر بتسفير آية الله.
عندما أبعد مهدي الخالصي إلى بلاد فارس، صاح زملاؤه محتجين، وختموا احتجاجهم بأن حمل كل منهم عصا الترحال، ونفض عن نعله غبار العراق. راحوا يشاركون أخاهم الأكبر منفاه في طهران، فحمدل السعدون، ولكن العقبات ظلت قائمة في سبيله، بل كانت المحنة محنته تشتد بدعاء أولئك المجتهدين، على بعدهم، وبصلوات أتباعهم الحارة.
فزع الملك، وفزع العميد إلى السعدون. توحدت قوات البلاط ودار الانتداب والحكومة على المعارضة، ففتت في ساعدها، وما تمكنت من القضاء عليها. قد استمرت الحال هذه سنة كاملة، سقطت خلالها، وزارة السعدون، فجاء جعفر العسكري بأمر ملكي يستأنف الجهاد؛ جهاد المعارضين بانتخاب المجلس؛ لأنه - كما ادعوا - سيسن قانونا للاعتراف بالمعاهدة. مضت وزارة العسكري في سبيلها، وكانت يمدها البلاط ودار الانتداب بكل ما لديهما من السلطة القانونية والنفوذ المعنوي - غير القانوني - وكانت في النهاية موفقة، فجرت الانتخابات واجتمع المجلس التأسيسي، الذي فتحه الملك فيصل في 27 آذار 1924؛ أي بعد سنة وخمسة أشهر من توقيع المعاهدة.
في تلك الاثناء عقدت وثيقتان، في لندن ولوزان، هما للعراق على جانب من الأهمية؛ الأولى: الملحق الذي جعل مدة المعاهدة أربع سنوات بدل العشرين سنة، والثانية: معاهدة الصلح بين تركيا والحلفاء. فجاءت هاتان الوثيقتان مددا للحكومة في خضد شوكة المعارضة ولو خارج المجلس. أما في المجلس فقد كان الوطنيون المتطرفون الأكثرية فيه؛ فحملوا على المعاهدة، وخصوصا على ملحقاتها الثلاثة التي تتعلق بالجندية والمالية والقضاء، حملات شديدة، تخللها نوع من الجدل لا يندر في الغرب، ويستغرب في الشرق، فدارت رحى القتال، بالأيدي والكراسي، بينهم وبين أنصار الحكومة. وكان حزب العمال البريطاني قد فاز في الانتخابات، فتولى الحكم هناك، فناط المتطرفون بوزارته كبير الآمال، وأمعنوا بالعصيان. إن أحرار بغداد يحيون أحرار العمال في لندن ويستعطفونهم.
رأى المندوب السامي الجديد السر هنري دوبس شيئا من البراعة في هذه المناورة، فحاول مغالبتها بتعديل الاتفاق المالي، وهو غير متيقن ما قد يكون موقف الحكومة الجديدة فيه، وما عتم أن جاءه الخبر اليقين، فلا يزال النور في وزارة المستعمرات نور المستر تشرشل، ولا تزال السياسة في عهد العمال كما كانت في عهد السلف؛ «العربة تجر الحصان.»
أجل، يجب أن تقر المعاهدة قبل كل شيء، وبعد ذلك «تعيد الحكومة البريطانية النظر في تعهدات العراق المالية.» كان أحرار بغداد يتوقعون غير هذا من إخوانهم أحرار لندن! فازدادوا تمردا؛ إذ رأوا عكس ما أملوه، وتفانوا، لجئوا إلى الكراسي في سبيل المعارضة، فأرسلت إذ ذاك وزارة المستعمرات بلاغها المصعق: إن لم يتخذ المجلس حتى اليوم العاشر من حزيران قرارا حاسما، تحسب الحكومة البريطانية المعاهدة مرفوضة، وتسترعي نظر عصبة الأمم إلى الانتداب. وبكلمة أخرى قد أنذرت العراق بالحكم الإنكليزي التام، بالحكم المباشر.
مما شجع الحكومة البريطانية يومئذ في هذا العمل مفاوضتها والأتراك بشأن الحدود العراقية الشمالية، وقد كانت الموصل موضوع البحث والنزاع. فهل تفادون بالموصل، يا أحرار بغداد؟! نعم، الموصل، ستخسرون الموصل. وسرى التهامس في الدوائر السياسية وفي الأندية؛ سنخسر الموصل حتما إذا رفضنا المعاهدة.
بيد أن المجلس كان قد ارفض لأجل غير مسمى، فصدر الأمر باجتماعه، فأطاع الأمر ثلثان أو أقل من أعضائه. وعندما جاء اليوم العاشر من حزيران، وأدبر نهاره، وأقبل ليله، لم يكن قد توافر النصاب، فبادر بعض رجال الحكومة والبلاط لكشف المحنة، راحوا يفتشون في بغداد عن الأعضاء المتلكئين والمختبئين؛ فاهتدوا إليهم وتوسلوا - حاسنوهم بالكلام وجاملوهم ووعدوهم وأوعدوهم - وظفروا بعد ذلك بهم. فجاءوا المجلس وكمل النصاب في الساعة الأخيرة. كانت تلك الليلة من ليالي فيصل المدلهمة، ولكنه في منتصف الليل تنفس الصعداء؛ إذ جاءه الخبر أن المجلس أقر المعاهدة على أنه أضاف إلى الإقرار ملحقا يعرب فيه عن أمله بأن تعدل الحكومة البريطانية، برا بوعدها، الاتفاق المالي في القريب العاجل، وألا تتنازل لتركيا - في أي حال كان - عن ولاية الموصل. وبعد ذلك استأنف أعماله بهدوء وسكينة، فأنجز الدستور وقانون الانتخاب وأقرهما، ثم انفض عقده، وتفرق أعضاؤه.
هذه هي المرحلة الأولى التي اجتازها العراق في طريقه إلى عصبة الأمم، وقد اجتازها على ما كان من مقاومة الشيعة، ودون أن يحدث ما ينكد عيش المتشرعين والمتعاهدين. ومن الحقائق الأخرى الثابتة هو أن الحكومة البريطانية سترشح العراق لعضوية العصبة في سنة 1928؛ أي بعد أربع سنوات من تاريخ معاهدة لوزان، فماذا عسى أن يكون بعد ذلك شأن المعارضة؟ بل ماذا عسى أن تقول في الحكومة البريطانية، وقد برهنت في تلك السنة بعد شهرين من إقرار المعاهدة، عن صدق نياتها؟ فوقف اللورد بارمور في مجلس العصبة بجنيف في دورة أيلول يقدم المعاهدة العراقية وملحقاتها للموافقة، ويقول: «قد تقدم العراق في السنتين الأخيرتين تقدما سريعا؛ مما يجعل سياسة الانتداب، وفقا للمادة 22 من ميثاق العصبة، غير موافقة له بعد حين.» ثم أعرب عن يقينه أن سيصبح في سنة 1928 أهلا لعضوية العصبة، فترشحه الحكومة البريطانية لذلك. وقد نهجت هذا المنهج الحكومة البريطانية في تقريرها عن العراق لعام 1925، فتكلم مندوبها أمام لجنة الانتدابات الدائمة بلهجة أصرح من لهجة اللورد بارمور عن تقدم الحكم الوطني الدستوري. ومما لا ريب فيه أن بريطانيا كانت راغبة في إنهاء الانتداب رغبة العراق، رغبة صادقة، اللهم بعد أن تكون قد أمنت هناك بوساطة المعاهدة والمصالح البريطانية.
ها هنا حد السلامة، ها هنا تقف الحكومتان أمام العقبات التي نشأت عن مسألة الحدود التركية العراقية. ومع أن نيات الحكومة البريطانية كانت صادقة شريفة في هذا الأمر، فقد أخفقت مساعيها لحسمه مباشرة، فاضطرت إذ ذاك أن تحيله إلى عصبة الأمم، عملا بمضمون معاهدة لوزان. وقد عينت العصبة بناء على ذلك لجنة من قبلها، فزارت العراق في أوائل سنة 1925، وقضت ثلاثة أشهر تستكشف الحدود الشمالية وتحققها، وتدرس أحوال الأقليات هناك، وتسمعهم يشكون ويتدللون.
وكان الآشوريون أشد تلك الأقليات المزعجة إزعاجا، مع أنه لم يكن لهم، في ذلك الحين على الأقل، ما يبرر الشكوى، بل كانوا - عكس الأمر - مغمورين بالعطف مدللين. عطفت عليهم حكومة العسكري، ودللتهم حكومة الهاشمي، وجاءهم حتى من الملك فيصل الكلمة التي فيها كل الضمان والأمان؛ فقد تعهدت الحكومة العراقية أن تقدم الأراضي لأولئك الذين يضطرون بعامل التحديد الجديد أن يخرجوا من بلادهم، وأن تنشئ إدارات محلية تضمن لهم الحرية في مزاولة أعمالهم، وفي المحافظة على تقاليدهم وثقافتهم، وقد كان لموقف الحكومة العراقية الوقع الحسن في نفس اللجنة، فخططت مطمئنة الحدود التي ضمنت ولاية الموصل للعراق.
غضب الأتراك لذلك، وبعد أن أعلنت الحدود الجديدة التي دعيت «بخط بروسل»، اخترق جنودهم تلك الحدود، وهجموا على بعض القرى، فذبحوا أهلها الأكراد والآشوريين، وتقدموا في إغارتهم جنوبا، وهم يهددون بالاستيلاء على الموصل، فروعوا حتى عصبة الأمم التي عينت لجنة أخرى لإعادة النظر في تلك الحدود. جاءت اللجنة الثانية، وساحت، ودرست، وحققت، وقدمت تقريرها إلى العصبة في جلسة كانون الأول 1925.
بينما كانت اللجنة قائمة بعملها في الشمال، انتخب العراق مجلسه النيابي الأول، ففتحه الملك فيصل في غرة تموز، وهو مستبشر بهذه الخطوات التي تقرب منه تلك المحجة القصية بجنيف، فهاكم دستورنا، وهاكم مجلسنا النيابي، وهذه حدودنا الشمالية قد تحددت، فماذا تبتغون بعد ذلك منا؟
سافر الملك فيصل إلى أوروبا في الشهر التالي، وهو - على توعكه ووهن جسمه - فرح مبتهج؛ فقد راح في هذا الصيف مستشفيا، ومستكشفا جو السياسة، وكان أمله أن يصل بالعراق إلى العصبة قبل اليوم المنشود. وما المانع، ونحن نجتاز المرحلة بعد الأخرى بسرعة مدهشة؟ فراسل وحادث وقابل من لهم النفوذ الأكبر في السياسة الدولية وفيهم المخلصون والمحبون، وظل على اتصال بهم وهو يستشفي بأحد الينابيع المعدنية بجنوب فرنسا.
بيد أن هناك كذلك، في حومة السياسة الدولية، غير المخلصين والمحبين وغير العاملين في سبيل السلام، وغير الآمرين بالمعروف، وهم من أصحاب الأمر والسلطان. وقد كان لأصواتهم ولهمساتهم - وحتى لأنفاسهم في الجو المضطرب - مكان؛ أي مكان، فلا بد أن يكون قد سمع فيصل - كما سمع بكل الرواية مكبث - بعض أصوات الحقيقة في ذاك الصيف من فم «بنات الديجور»؛ بنات عم النفاثات في العقد. وأخلق بهن أن ينطقن، إن في هذا الشرق أو في ذاك الغرب، باسم زمان عتل زنيم.
المليح قبيح، والقبيح مليح،
هات الحطب وهات الشيح،
وانفخي، وانفخي، وانفخي يا ريح.
1
إيه أيتها السواحر الشقيقات، النافخات والنافثات، إيه بريطانيا وتركيا وجنيف، انفخن في النار السياسية، انفثن في العقد الدولية، وقلسن، قلسن في غابات الأسرار، حول النار، وتنبأن لهذا الملك العربي، المتحدر من صلب النبي.
فيصل العراق:
النجم بعيد قريب،
والعصبة أخت الحبيب،
هات الحطب وهات الشيح،
وانفخي، وانفخي، وانفخي يا ريح.
فيصل العرب
على مغزل العصبة غزل العراق، وغزل الشقاق والاشتياق
كان مجلس العصبة يدرس في ذلك الحين تقرير لجنة الحدود الثانية، فأثبت في جلسة كانون الأول ما قررته اللجنة الأولى. أيد خط بروسل على شرط - على شرط - أن تعقد إنكلترا والعراق معاهدة جديدة لمدة خمس وعشرين سنة! «المليح قبيح والقبيح مليح ...»
كان فيصل قد عاد إلى بغداد متشائما، ولكنه لم يتوقع مثل هذا الشؤم ومثل هذه الكريهة. ما عدا عما بدا؛ فقد أقرت العصبة منذ سنة (في جلسة أيلول سنة 1924) المعاهدة العراقية الإنكليزية، وأقرت الملحق الذي خفض مدتها من عشرين سنة إلى أربع سنوات. فما الذي جرى خلال السنة ليبرر هذا الانقلاب؟ وما السبب يا ترى في رفض الملحق ونبذه؟ هل وقفت العصبة هذا الموقف الجديد لخير بريطانيا أم لخير تركيا أم لخير العراق؟ أم هل كانت قد أشربت حب الآشوريين والأكراد فهامت بهم، وأغدقت عليهم خمسا وعشرين سنة من بركات الحماية البريطانية؟
لا شك أن الأقليات في ولاية الموصل كانت يومئذ في حاجة إلى الحماية، وخصوصا من غوائل الأتراك. ولكن العراق كان مستعدا وقادرا، فضلا عن حليفته العظمى، أن يقوم بهذه الحماية. أضف إلى ذلك أن دستور العراق يضمن لهذه الأقليات ما لسواهم في البلاد من الحقوق المدنية والدينية، فكيف تبرر عصبة الأمم موقفها الشاذ المحفوف بالغموض؟ إنه لمن الصعب جدا أن ندرك الحقيقة في نيتها وأغراضها، فهل هي في عملها إنسانية الشعور، تعطف على أقلية مظلومة، وتود أن تخلصها وتضمن لها أسباب العيش والاطمئنان؟ أم هي في عملها أوروبية النزعة، مسيحية الشعور، تفصل بين دولتين إسلاميتين من جهة، وبينهما وبين دولة مسيحية من الجهة الأخرى، فتسمح بالدخول على مقرراتها لأغراض أقلية مسيحية، أو بالحري لأغراض الرؤساء الدينيين لتلك الأقلية وأصحاب المصالح من أشياعهم؟
حملت بريطانيا قرار العصبة الجديد، وسارعت في تنفيذه. فوصلت المعاهدة الجديدة إلى بغداد في أواخر كانون الأول، فوقعها رئيس الوزارة السعدون بعد أن وعده المندوب السامي الوعود فيما يتعلق بالاتفاق المالي، وبدخول العراق في عصبة الأمم، ثم جاء الرئيس بالمعاهدة إلى المجلس، فتصدت لها المعارضة، يتقدمها ياسين الهاشمي، وطلب أن تحال إلى لجنة خاصة للدرس، فرفض السعدون الطلب، واقترح أن تكون المناقشة سرية، فأيد اقتراحه رجال حزب التقدم، وكانوا قد رفعوا إليه عريضة يلحون فيها بالإسراع في المناقشة. وعندما أخرج المتفرجون خرج رجال المعارضة، فلم يبال رئيس الوزارة بذلك.
أقفلت أبواب المجلس، واستؤنفت الجلسة بكلمة من رئيس الوزارة وجيزة صريحة شديدة: «أيها السادة، إذا رفضنا أن نقر هذه المعاهدة خسرنا الموصل، وما دام الأمر كذلك، فلا بأس إذا جاملنا المندوب السامي في طلبه، بل في طلب وزير المستعمرات المستر إمري، وهو أن يتم الإقرار قبل افتتاح دورة مجلس العموم البريطاني في أول شهر شباط.»
كان المجلس، أو ما تبقى فيه بعد خروج المعارضة، من حزب السعدون، فبالغ بالمجاملة، بعد الحوقلة والاتكال على الله، وأقر المعاهدة؛ إكراما للموصل لا للمستر إمري، في 18 كانون الأول ، بما يقارب الإجماع.
وفي هذه المعاهدة عاد الإنكليز إلى تعديل نص عهدهم الذي يتعلق بدخول العراق عصبة الأمم، فجاء كما يلي: «عندما تنتهي المعاهدة الأولى، عملا بالملحق المعقود في شهر نيسان سنة 1923، وبعد ذلك في كل أربع سنوات متوالية إلى أن تنتهي الخمس والعشرون سنة، أي مدة المعاهدة الجديدة، تنظر الحكومة البريطانية فيما إذا كان ممكنا أن تتوسط لإدخال العراق في عصبة الأمم.» هو المطال والتمحل، بل هو العهد المنقوض، وقد رطم العراق وتضعضع، وأمسى الملك فيصل في حال شبيه بحاله في سنة 1922، بل أشد وأنكد، واحر قلباه ممن قلبه شبم! ...
ما وهن مع ذلك العزم منه، ولا ضعفت ثقته بالله وبنفسه، بل كان دائما يقول: «سنسير بعون الله من معاهدة إلى أخرى، وسنظفر بالتي فيها حقنا بأجمعه، سنظفر بالمعاهدة التي ستدوم.» وبعد بضعة أشهر أنعشت آماله وآمال العراق المعاهدة الثلاثية - التركية العراقية البريطانية - التي عقدت في أنقرة في الخامس من شهر حزيران 1926، فاعترفت تركيا بخط «بروسل»، سلمت للعراق بولاية الموصل.
أدب الملك مأدبة رسمية؛ احتفالا بهذا الحدث وتفاؤلا به، فخطب خطبة أعرب فيها عن رغبته الشديدة بالسلم وجيرانه كلهم، وأنه سيبذل ما في طاقته في هذا السبيل. وقد أشار المندوب السامي في تقريره إلى هذه الخطبة، فقال: إنه «أعرب عن امتنانه للحكومة البريطانية، وتقديره لجهود ممثليها في سبيل العراق.»
الملك فيصل الأول في البلاط أمام العرش.
على أن الحوادث التي تتابعت بعد ذلك وتفاقمت لا تشف عن شيء من روح الامتنان والتقدير، ليصور المندوب صوره السياسية الزاهية الألوان، ليموه وينمق المحال ما شاء وشاءت السياسة، فإن الحقيقة البارزة الناصعة هي أن العراقيين فقدوا الثقة بالإنكليز، فقدوها كلها، وكان احتقارهم لممثلي الحكومة البريطانية يزداد يوما فيوما، احتقروهم ومقتوهم.
وكانت السنة التي عقبت إبرام المعاهدة الأخيرة أظلم ما كان من عهد السر هنري دوبس المظلم؛ فقد توترت العلاقات فيها بين البلاد ودار الانتداب وتكاثفت صفوف المعارضة للسياسة البريطانية، وانتشر في البلاد روح عداء للبريطانيين باصرة عاقلة، فكانت لذلك أبلغ وأسرع في تقويض سياستهم المعنوية والسياسية. لا عجب، وهم هم المخلفون بالوعود، الناقضون للعهود.
أما المعاهدة فما حلت من العقد كلها غير عقدة واحدة؛ هي الحدود التركية العراقية. وظلت الاتفاقات الإضافية، المالية منها على الأخص والعسكرية، مفتوحة للبحث، للمحادثة، للنزاع. بيد أن وزارة السعدون كانت تنتظر على الأقل تسوية المشاكل المالية وتقويمها في اتفاق جديد، فخاب أملها، واستعفى رئيسها عبد المحسن حردا ناقما.
ثابر الملك فيصل وانتدب جعفر العسكري ليؤلف وزارة جديدة، فجاء جعفر يباشر العمل باسم الله، وباسم التفاهم العراقي البريطاني: «هم بليتنا، يا أخي، ونحن بليتهم، فيجب علينا أن نتفاهم لنحدد في الأقل أجل البليتين.»
وكان المندوب السامي، السر هنري دوبس، قد بدأ يشعر هذا الشعور ويدرك هذه الحكمة، ولا سيما أن بليته الشخصية أوجبت عليه الإسراع في العمل؛ إذ كانت أسبابها تتصل بوزارة المستعمرات التي طالما أصمت أذنها لاقتراحاته وآرائه، ولكنه توفق في النهاية إلى شيء من الإقناع، فقبل رئيسه الوزير أن يعاد النظر في المعاهدة لتعديل بعض بنودها.
بدأت المفاوضات فورا في بغداد، ثم فر المتفاوضون هاربين من حر العراق، واستأنفوا العمل في لندن إبان الخريف، وكان الملك فيصل قد تقدمهم إلى أوروبا ينشد العافية، ويستوحي عن كثب مقامات السياسة الدولية. فحط رحاله على مياه «إيكس له بان» المعدنية، وكان اتصاله بوفد العراق في لندن سهلا، على أن المفاوضات كانت سريعة التطور، فرأى الوفد أن يكون الملك أقرب إليهم، فأبرقوا بذلك إليه.
غادر الملك فيصل «إيكس له بان» فعرج على باريس في طريقه إلى لندن. ويوم كان في عاصمة الفرنسيس، قرأ في الصحف، في الصفحة الأولى مطبوعا بالحرف العريض، نبأ جاء من العراق، من كركوك، عاصمة النفط، ينبئ بالحدث الخطير. إلا إن «بابا كركر» لمن المرسلين، «بابا كركر»؟ بكر الآبار، ينطق بالخير، ويبشر بالبركات، فبينما كانت الشركة التركية، التي منحت امتيازها في سنة 1925، تسبر غور «كركر»، وقبل أن بلغت المائة والثمانين قدما إلى قلبه، انفجر انفجارا هائلا، وقذف بخيره عاليا؛ مائة وستين قدما فوق الأرض! «بابا كركر»، «بابا كركر»! تبارك اسمك وتمجد! سيساعدنا نبؤك على حل المشاكل والمعضلات. عبر الملك فيصل بحر المانش، وهو سابح في سماء من أحلام النفط والاستقلال.
ولكن لندن عدوة الأحلام، ووزارة المستعمرات فيها تقرأ أنباء «بابا كركر» وتمضي في أمورها، ومن تلك ما كان مهيئا لفيصل؛ فقد صدم في وزارة المستعمرات يوم وصوله صدمة عنيفة، جاءت في مذكرة كانت تنتظره هناك. جاش في صدره الغيظ وهو يقرأ ويتأمل خط كاتبها، عرف الخط وتأكده، فازداد تغيظا. نعم، هو خط المندوب السامي السر هنري دوبس نفسه، وفي كلماته التهم والتوبيخ؛ الملك فيصل يناصب بريطانيا العداء، الملك فيصل لا يمثل العراق بما يفعل ويقول، الملك فيصل يناصر المعارضة ويشجع سرا المعارضين والمتطرفين. ينبغي أن يعلم أنه ملك دستوري لا يجوز له أن يتدخل في شئون الدولة، فيتركها لرؤساء الحكومة وللبرلمان، ويجب عليه أن يترفع عن المنازعات والسياسات الحزبية ... سأل الملك معنى ذلك وبيانه، فقيل له إنه جاءهم في التقارير الرسمية من بغداد.
ليس في تلك المذكرة، نظرا إلى الزمان والمكان، شيء من حسن الذوق، وليس فيها - نظرا إلى الأحوال - شيء من الأصالة والسداد. وهب أن ما جاء فيها صحيح، فهل تساعد يا ترى في إنجاح المفاوضات؟ وهب أن اضطراب الجو كان وقتيا، وأن حلم الملك فيصل وصبره تغلبا على شعوره؛ فكيف السبيل إلى التوفيق بين حقائق السياسة وظواهرها؟ كيف نستطيع أن نوفق بين معاهدة سنة 1922 وبين الأحوال الحاضرة؟
مما لا مراء فيه أن العراق - في الخمس السنوات الأخيرة - تقدم تقدما يذكر، سياسيا واقتصاديا، وأن النفقات البريطانية الإدارية والعسكرية هبطت هبوطا جسيما. ومما لا ريب فيه أن كفاية العراق للعضوية في عصبة الأمم هي أظهر مما كانت يوم رفع اللورد بارمور صوته في مجلس العصبة، وردد تقريره سنة 1925 صداه أمام لجنة الانتدابات الدائمة، تنويها بالعراق، وتأييدا لمطالبه.
ولكن ... ولكن، نظرا إلى حكم العصبة بالموصل للعراق، وتقييد ذلك الحكم بشرط هو أن تمدد المعاهدة عشرين سنة ، ودفعا للظنون التي قد يثيرها التعديل أو محاولته في نفوس الأتراك، فيعودون إلى المطالبة بالموصل فضلا عن أن اتهامهم بريطانيا والعراق بنقض العهود بعد بلوغ الأرب؛ نظرا إلى هذه الأمور كلها ليس من مصلحة الحكومتين أن نستعجل الانضمام إلى عصبة الأمم، بل ينبغي أن نؤجل المسألة إلى سنة 1932،
1
وستظل في هذه الأثناء العلاقات البريطانية العراقية على حالها.
أما الوفد العراقي فقد قاوم هذا التمحل وحاول التغلب عليه، مصرا على تعديل يعد تعديلا. فأخفق في محاولاته ومساعيه، ووقف المتفاوضون أمام العقدة التي لا تحل. فغضب العسكري بلندن، كما غضب قبله السعدون ببغداد، وحمل حقائبه وارتحل.
وكان الملك فيصل قد عقد النية على الرحيل، لولا فرصة سنحت لإعادة المحادثة والحكومة؛ فقد أقيمت له مأدبة وداع، حضرها بعض الوزراء، فخطب فيها خطبة بليغة بصراحتها. ومما قال إنه يؤثر العودة صفر اليدين على أن يحمل معاهدة لا تفضل التي سبقتها بشيء، بل هي دونها في بعض موادها. فهز الوزراء رءوسهم أن صحيح، وأكدوا له بعد ذلك أن الأمل لم ينقطع، وأن المأزق قد يتسع للخلاص.
توقف الملك فيصل عن السفر، وأبرق إلى وزيره جعفر، الذي كان قد بلغ مرسيليا، يأمره بالعودة. امتثل جعفر للأمر، فعاد أدراجه، ثم استؤنفت المفاوضات وقبلت المعاهدة دون تعديل فيها يستحق الذكر. فما السبب يا ترى في هذا الانقلاب الفجائي؟ ما الذي حمل الملك والعسكري على القبول، بعد أن صرح الأول ذلك التصريح، وأعرب الثاني عن رفضه بالرحيل؟ هل اعتمد الملك على وعود الوزراء أصحابه ومعها ضمانات رسمية سرية، أم هل كان الملك مكرها؟
أقف ها هنا لأقول كلمة فيها بيان شخصي؛ ليلة كان الملك فيصل يقص علي قصة هذه المعاهدة، أو ما كان قسمته فيها من المفاوضات المفرحة والمفجعة، من «بابا كركر» في صحف باريس إلى تلك المذكرة في وزارة المستعمرات بلندن، جاءه رئيس الوزارة نوري السعيد بالخبر السار من منطقة القتال ببارزان، فتحول الحديث من لندن إلى بلاد الأكراد، وما سنحت بعد ذلك الفرص. سنحت الفرص؟! إنما هي كلمة باطلة لا يجوز أن أموه بها ذنبي؛ فقد ذهلت عن الموضوع فيما كان بعد ذلك من المجالس والأحاديث، وما عاد الملك إليه. وقد يكون شريكي في الذنب - رحمه الله - فشغلني مرارا عن السياسة بتلك الأحاديث الحافلة بالعبر وباللطائف البشرية.
بيد أني أستعين، وأنا أعود الآن إلى تقصي الحوادث، ببعض الوثائق والتقارير الرسمية؛ علني أستطيع أن أجلو للقراء خبر ذلك الحدث أو أزيل شيئا من غموضه.
أعيد إذن السؤال: هل كان الملك فيصل مكرها في قبول معاهدة سنة 1927؟ يسارع بعض الكتاب والسياسيين العرب، في مثل هذه الأحوال، إلى اتهام الحكومة البريطانية بالمكر والخداع، دون أن يتحققوا الحوادث، ودون أن يثبتوا التهم. وقد قالوا في الحادث الذي نحن بصدده إنها أثارت عرب نجد على العراق في ذلك الحين لتنفذ سياستها فيه؛ لتجبر الملك فيصلا على قبول المعاهدة. وفي ظاهر الأمر ما يبرر الظن على الأقل؛ فقد أغار عرب نجد على العراق في خريف سنة 1927 ثم في شتاء السنة التالية.
ولكن ذلك لا يثبت الحقيقة كلها، فهل كان عرب نجد، أو بالحري هل كان الملك عبد العزيز بن سعود مدفوعا من الحكومة البريطانية في تلك الإغارات لإكراه العراق وإذلاله؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف اتفقت يا ترى تلك الإغارات وانقطاع تلك المفاوضات بتاريخها الواحد؟ فهل هي الصدف؟ هل هي الأقدار التي أضرمت النار على حدود العراق عندما كان العسكري يتجهز للرحيل؟ فإذا كانت الصدف أو الأقدار بريئة من هذا الاثم، فهل الإنكليز بريئون؟ وإذا لم يكونوا بريئين، فهل الإنكليز وحدهم ملومون؟ أوليس اللوم الأكبر على العرب الذين يقبلون بأن يذلوا إخوانهم العرب لإعزاز الأجنبي؟ إني أجل ابن سعود عن مثل هذه المعرات. وإن الحقائق الراهنة في هذه المسألة لا تبرر حتى الظنون؛ فقد كان لحوادث نجد وإغارات أهله أسبابها النجدية العراقية، وكان للإنكليز كذلك يد فيها، ولكن الصلة مفقودة بين سياسة الأمن وسياسة المعاهدات. وبكلمة أخرى إن للسلسلة التي تربط البادية بوزارة المستعمرات حلقة مفقودة، ولا نظنها، فيما يتعلق بموضوعنا موجودة .
أما الملك فيصل، فإني أميل إلى الاعتقاد أنه كان يجاري الوزراء أصحابه ويتبع في الوقت نفسه سياسة خاصة به، فيوصل الخيوط ويقطعها عملا بتطور الأحوال. أذكر كلمة بليغة لأحد العرب وفيها حكمة رائعة: «غلبتمونا ولكنكم جهلتم أننا شئنا هذه الغلبة لكم.» ولا عجب إذا انتهج الملك فيصل هذا المنهج، بعد تلك الوليمة، وهو متيقن أنه سيرطم الإنكليز برطمة المعاهدات التي تتابعت السنة بعد السنة، فتزداد العقد تعقيدا، ويقنطون إذ ذاك من الغلبات غير المفيدة.
وكان بعض السياسيين قد بلغوا هذه المرحلة، فقامت صحافتهم تندد بالحكومة - هذه هي الدعاية التي رحب فيصل بها - فقالت إن الحالة أمست لا تطاق، وإنها «من أنكر الحالات في العلاقات الدولية الحاضرة» وعندما يرفض المجلس النيابي العراقي المعاهدة غدا، فماذا عساها أن تقول في «الحالة المنكرة»؟ إذن سنورد هذه المعاهدة حتفها، سنشيعها إلى القبر، وسيكون في الجنازة النصر الباهر للمعارضة ... للبلاد!
أما الحكومة البريطانية فقد أعدت كذلك العدة للعمل، وكان المندوب السامي السر هنري دوبس متأهبا للسفر والجهاد. واحد يريد دفن المعاهدة وآخر يريد تتويجها. انتقل المسرح من لندن إلى بغداد، وجاء المتصارعون - الملك والعسكري والسر هنري - يستأنفون الصراع، من مدينة الضباب جاءوا إلى مدينة الغبار، وفي الحالين حال الستار، دون الأبصار.
ما كان المندوب السامي ليطمئن إلى وزارة العسكري فباشر لإسقاطها، ولو كان له أن يرى شيئا من مناورة جعفر الأولى لكفى نفسه مئونة المناصبة. جاء جعفر بالمعاهدة للدفن لا للتتويج، وأول ما كان من مناورته عند وصوله إلى بغداد أنه أذاع مضمونها، فأثار عليها الرأي العام. حملت عليها الصحافة حملات شديدة، وقامت المعارضة تندد بها وبالوزير حاملها. رمى جعفر بالمعاهدة إلى الأمة تمزقها قبل أن تصل إلى المجلس وهو يضحك في سره، ثم استقال. وقد عدت استقالته النصر الأول للسر هنري دوبس.
ثم دعي عبد المحسن السعدون لتأليف وزارة جديدة. وعبد المحسن صديق الإنكليز، وهو الذي حمل المجلس منذ سنة على إقرار المعاهدة القائمة. لبى عبد المحسن الدعوة، فعد ذلك نصرا ثانيا للسر هنري .
وهذا البرلمان لا لا يعول عليه فينبغي أن يحل، وكان عبد المحسن يرى هذا الرأي فحل البرلمان، وفاز السر هنري فوزه الثالث.
ثم جرت الانتخابات؛ وكان لحزب التقدم - حزب السعدون - الأكثرية الساحقة في المجلس، الذي اجتمع في أيار سنة 1928، فتم النصر للسر هنري دوبس.
أما الملك فيصل فقد سار في الوقت ذاته سيره، ودبر تدبيره. أليس السعدون وزيره الأول، وزيره لا وزير سواه؟ أوليس هو فضلا عن ذلك من أشراف العرب، ومن كبار الوطنيين في العراق، والزعيم الأول المهيمن على حزبه، الممتع بثقة أنصاره؟ كان السر هنري عالما بذلك، وعالما فوق ذلك بأمور كثيرة، ولكنما فاته الشيء الذي فيه العلم كل العلم؛ وهو أن صديقه السعدون قد غير خطته السياسية، فلا يرى الآن من حاجة إلى الضغط على المجلس، بل لا يرى أن يعرض المعاهدة عليه قبل أن يتم تعديل الاتفاقين المالي والعسكري. وهو إذا أصر على ذلك يكفي نفسه شر المعاهدة، فتظل مدفونة في مكتبه؛ ذلك لأن في الاتفاقين عقدا استعصى حلها على أسلافه وسلف السر هنري. وما كانت شروط الحكومة البريطانية هذه المرة أخف مما سبقها؛ فقد قيدت ملكية العراق لميناء البصرة ولسكة الحديد بقيود ثقيلة، وتمحلت على عادتها في مسألة التجنيد الإجباري.
تلبد جو دار الانتداب بالغيوم؛ فقد تمردت لجنة المجلس المعينة لدرس الاتفاقين، فضربت باقتراحات المندوب السامي عرض الحائط. وتمردت الوزارة، فأصرت على تعديل كلي جوهري، وتمرد المجلس الذي أصبح حزب التقدم - حزب السعدون - أشد تطرفا من المتطرفين أنفسهم.
صعقت دار الانتداب، تبلبل السر هنري دوبس، فالإذعان لإرادة العراقيين مستحيل، والرضوخ لمطالب العراقيين خيبة له، هو الطامع الآمل بإبرام المعاهدة، فعمل المكره عليه، قبل بالخيبة ثم استقال السعدون، وقد كان النصر الأكبر، في رفض المعاهدة والاتفاقين، للأمة وللبلاط، فهتف الملك بشكر الله وحمده.
ولكن الحساب لم ينته بينه وبين المندوب السامي، فلا يزال هناك دين صغير؛ تلك المذكرة في وزارة المستعمرات، المكتوبة بخط يده، لم ينسها الملك فيصل. وعندما سقطت وزارة السعدون (كانون الثاني سنة 1928) وأخفقت المساعي المكررة لتشكيل وزارة جديدة، وأقبل السر هنري إلى البلاط يطلب مقابلة الملك، حان وقت الحساب.
السر هنري : «البلاد بلا وزارة، يا صاحب الجلالة، وهي تنتظر أن تعينوا من يؤلفها.»
الملك فيصل : «ولكني ملك دستوري، وعلى الملك الدستوري أن يلزم الحياد.»
وعندما جاء المرة الثانية بالمهمة نفسها أبرز تلك المذكرة، وقال: «هذا ما تريده أنت يا حضرة المندوب، يجب على الملك الدستوري ألا يتدخل بشئون الدولة، أليس كذلك؟ إن شئونها الآن بيدك، ولك أن تعين من تشاء.»
مرت ثلاثة أشهر، والبلاد بلا وزارة، والملك فيصل في موقفه لا يتحول عنه، فانكسفت دار الانتداب بعد انهزامها مرتين متواليتين، واسترجعت المعاهدة التي كانت أصل الأزمة، وحانت أن تنتهي مدة السر هنري دوبس كمندوب سام في العراق، فانتهت قبل أوانها، وكان من الممكن أن تنتهي بأوانها وبسلام.
فوز الملك فيصل
يوم ألقى المؤلف محاضرة عن البلاد العربية في الجمعية الآسيوية في لندن، كان السر غلبرت كلايتون رئيس الحفلة، فتكلم في الختام، وقال: «لست من الذين يعتقدون أن في العقل الشرقي شيئا غير عادي؛ فالشرقي هو مثل غيره من الناس يجب أن يعامل بلطف وإكرام، وهو يرتاح للصدق والإخلاص.» إني أنقل هذه الكلمات لما فيها من المغزى الخاص بموضوعنا، وقد ألقيت المحاضرة في شهر تشرين الثاني سنة 1928، وكان قد تعين السر غلبرت كلايتون في الشهر السابق مندوبا ساميا في العراق ليخلف السر هنري دوبس. إني لذلك أنقل كلماته الأخرى وإن كانت شخصية؛ لأن فيها رسالة لأبناء بلاده؛ فقد قال تلك الليلة: «إن في محاضرة السيد الريحاني غذاء للفكر والتبصر في موضوع قريب من قلبه، وهو وإن لم يكن قريبا كثيرا من قلوبنا جدير بأن يدخل العقول.»
1
أما السر غلبرت فقد تغلغل الموضوع في عقله وقلبه معا. وبعبارة أدق أقول إنه تغلغل في عقله، ودخل على قصد إلى قلبه؛ فقد كان ذا علم جم بالعرب والبلاد العربية، وكان لعلمه جناحان من الحب والحماسة، فاستطاع أن يحلق والوطنيين في سماء الأماني والآمال دون أن يفادي بعقيدته ، وأن يعود بهم إلى أرض الحقائق العملية دون أن يفقد ثقتهم به . ومن جميل يقينه وبليغ حكمته، أن أقصى الأماني الوطنية تتكيف وتلتئم والمصالح البريطانية، اللهم إذا روعيت فيها كرامة الوطنيين.
عندما وصل إلى بغداد في أوائل آذار من عام 1929 كان الجو السياسي في أشد مظاهر القلق والريبة والخطر؛ فما زالت البلاد بدون وزارة، وما زالت الأزمة في اشتداد. وقد كان العراقيون، على اختلاف مطالبهم ونزعاتهم، يشكون كلهم من المستغربات والمناقضات في سياسة الإنكليز وأحوال البلاد؛ فأين السيادة الوطنية من الانتداب؟ وأين الجيش الوطني وأمره في الحقيقة بيد المندوب السامي؟ وأين الوزراء المسئولون قانونيا لدى المجلس ما دام المستشارون البريطانيون في الوجود؟ وهذا الجيش الضعيف الذي نريد أن نقويه بالتجنيد الإجباري، والتجنيد الإجباري غير ممكن بدون جيش قوي، وهذه الحكومة التي يحق لها أن تعلن الأحكام العسكرية لا يحق لها أن تنفذ تلك الأحكام، وهذه الحكومة المتولية إدارتي ميناء البصرة وسكة الحديد، ولا تملكهما، وهذه الحكومة التي تدفع نصف نفقات المندوب السامي وديوانه دون حق البحث أو السؤال، وبعد ذلك كله، هذه الحكومة العراقية التي يزدريها الإنكليز، وهذه الأمة العراقية التي يعبث الإنكليز بمقدراتها. لولا ذلك لما كان هذا التلون منهم، وهذا التقلب في وعودهم وعهودهم.
إن أول هذه الوعود وأهمها في نظر العراقيين التوسط لدخول العراق في عصبة الأمم؛ فقد قال الإنكليز في وعدهم الأخير: «إذا استمر العراق في رقيه، وجرت الأمور مجراها الحسن ...» هذا التلون الأخير في الاحتياط دخل على القلوب فأفسد ما تبقى فيها من حسن النية والأمل، بل زاد بما فيها من الغل والشنآن، فقال العراقيون: «لقد خاننا الإنكليز.» وقال بعض الإنكليز أنفسهم: «كدنا بسياستنا نقضي على ثقة العراقيين بنا.»
كان السر غلبرت كلايتون سريع الإدراك، سريع العمل. وقد أدرك أن هذه الشكوى هي مفتاح المعضلة المحيرة للألباب، انتهز الفرصة السانحة لحلها، أقدم على العمل الذي يضمد جروح الكرامة العراقية، فيعيد إلى قلوب العراقيين الثقة بالإنكليز.
ولكن الشكوك ظلت سائدة حتى في البلاط، وقبل أن أقدم الملك على تجديد المفاوضات أراد أن يسبر غور المندوب السامي؛ فما هي مثلا سياسته العربية؟ ما هي الصلة التي تجمعه بابن سعود؟ فقد أفلحت مفاوضاته في الرياض، وعقد والملك عبد العزيز باسم الحكومة البريطانية معاهدة ولاء، بل معاهدتين. لم يكن الملك فيصل ليهتم بهذا الأمر في غير تلك الأحوال، وخصوصا أن العلاقات العراقية السعودية كانت لا تزال متوترة، فقد قاسى كثيرا من حسن الظن، وكان عليه أن يرعى الحديث: إن سوء الظن من حسن الفطن.
لذلك باشر العمل متئدا، فكانت الوزارة الأولى، التي تألفت بعد وصول السر غلبرت كلايتون بشهر واحد (28 نيسان سنة 1929) نوعا من التجربة، وكان توفيق السويدي رئيس الوزارة مثل الجندي الذي يرسل إلى ما دون خطوط النار للاستكشاف.
أما السر غلبرت فما عتم أن كشف أمره؛ إذ قال في خطبة له: «قبل أن تنتهي مدة وظيفتي، آمل أن أرى العراق متبوئا الكرسي الذي هو جدير به في عصبة الأمم.» ثم مكن قوله في المذكرات مع الوزارة الجديدة، فأعرب عن رغبته الصادقة في تأييد العراق في مطالبه، وخطا الخطوة التي فيها كل اليقين وكل الاطمئنان؛ إذ أرسل إلى حكومته يقترح عليها أن «تلغي الشرط الذي يقيد وعدها بالتوسط لدخول العراق في عصبة الأمم.»
خلال ذلك كانت الأزمة السياسية في إنكلترا قد انتهت بانهزام الأحرار والمحافظين وبفوز العمال، فعاد المستر رمزي مكدونلد (في 5 حزيران 1929) إلى الوزارة؛ إذن ستنظر حكومة العمال في اقتراح السر غلبرت، ومع أن الملك فيصل ورجاله لم ينسوا ما كان من تحفظ وزارة العمال السابقة في صيف 1924 ومن تذبذبها، فقد توسموا الخير في الانقلاب السياسي الجديد، وفي رجوع العمال للحكم، وأخذ الجو السياسي في بغداد ينكشف وينجلي.
ولا عجب، إن خمس سنوات من زماننا هذا لتغير في طباع الأحزاب السياسية، إن لم يكن كذلك في مبادئها. انتفضت آمال العراقيين وحلقت عاليا، ورأى الملك أن الوقت قد حان لتغيير الوزارة السويدية التي استقالت في أواخر شهر آب. ولكن عبد المحسن السعدون، الذي دعي لتأليف وزارة وطنية قوية ، تتمكن من معالجة الأمور في تطورها الجديد، أبى أن يفعل قبل أن تقبل الحكومة البريطانية اقتراحات المندوب السامي.
نظرت تلك الحكومة في الاقتراحات نظرة جديدة، فبدت لها هذه المرة في غير وجهها السابق، أو بالحري بدأت ترى ما فيها من العدل والإنصاف، والحكمة الناضجة. وقد تيقنت أن العراق تقدم تقدما يذكر خلال السنوات الخمس، فظهر التحسن خصوصا في إدارته المالية وفي الأمن العام؛ لذلك كان جوابها صريحا جليا مقنعا؛ فقد تضمن الوعد الشافي غير المقيد بشرط ما أن ترشح العراق للعضوية في عصبة الأمم في عام 1932، وأن تعلم مجلس العصبة بذلك في جلسته المقبلة، كما أنها قررت العدول عن المعاهدة 1927.
على أن الأقدار - وا أسفاه! - قضت بألا يرى السر غلبرت كلايتون نتيجة سعيه الأول في سبيل العراق وبريطانيا، فقد صرم حبل حياته قبل أن يجتاز المرحلة الأولى من المشروع الذي تصوره لنفسه؛ مات فجأة في بغداد، وهو في الخامسة والخمسين من سنه، مات في 11 أيلول قبل أن يصل الجواب من لندن بثلاثة أيام.
قد يصح أن نقول إن السر غلبرت كلايتون لم يكن أكثر علما بالعرب والبلاد العربية من أسلافه، ولكن علمه كان مشفوعا بالعقل الفاعل. أما حبه للعرب فما كان مبنيا على مجرد العواطف، كما هو عند بعض المستعربين، ولا كان مقيدا بالمصالح الشخصية أو الوطنية أو الدينية كما عند البعض الآخر، بل كان مرتكزا على العطف الشريف، وكان فوق ذلك مشربا بروح الحكمة التي أشرت إليها فيما نقلته من كلامه، كان صادقا نزيها، كما كان حرا كريما، بعث في النفوس الثقة، وباصطلاح المقامر كان يلعب على المكشوف، له جرأة في الثبات على يقينه والإفصاح عنه، وله مع اليقين مثل أعلى ما خشي أن يستهدف من أجله. قال المؤرخ طونبي:
2 «لقد كان فوزه باهرا في المدة القصيرة، في الستة أشهر، التي تولى فيها أعمال الانتداب، فطبع تاريخ العلاقات البريطانية العراقية بطابعه، وأدخل العراق في طور التحسن الدائم.»
لا نكران أن تطور الأحوال أسعف مسعاه، ولا يفوتنا أن نذكر أن سلفه السر هنري دوبس اقترح على وزارة المستعمرات اقتراحا شبيها باقتراحه، بيد أن مرجع الأول كان وزارة عمال تجنح ضمن دائرة معلومة إلى البدع السياسية، ومرجع الثاني وزارة محافظة، رأسها يابس وقلبها متحجر.
وهناك فرق آخر، كان السر هنري دوبس في جرأته السياسية والأدبية يسير إلى حد ولا يتعداه، فيعرب عن آرائه بصفته الرسمية لحكومته ولا يجهر بها في البلاد التي اضطربت شئونها في عهده. وإني على يقين أن مجمل أمره كان بيده لا بيد الوزارة في لندن، ولكنه تغلب على كثير من الصعوبات، وذلل الكئود من العقبات، لو أنه صارح العراقيين، ورعى لهم الكرامة القومية. إن المقارنة تسيء في بعض الأحيان وتجرح، ولكني حبا بإظهار ما حسن من نياته أنقل ما يلي من كلامه:
3 «رفعت مطالبهم (الضمير يرجع إلى العراقيين) بكاملها إلى الحكومة البريطانية، وقد كنت أميل إلى الاعتقاد أن لا ضرر للمصالح البريطانية ولا للمصالح العراقية، إذا عقدت معاهدة معدلة تبطل أنواع الاستيلاء البريطاني الرسمي كلها، وقد أدركت منذ البدء أن الحكومة العراقية هي مخلصة في ولائها، ومقدرة للمشورة حق قدرها، اللهم إذا لم تجئها بصورة التحكم، وما شككت قط أنها تعمل بالمشورة راضية شاكرة، إذا ما جردت من الواجبات التي تفرضها المعاهدة، فإن خففت القيود الظاهرة، تمكنت القيود الحقيقية.»
الملك فيصل الأول وقد خط بيده كلمة الإهداء إلى المؤلف.
لو صرح السر هنري بهذه الآراء على صفحات الجرائد في بغداد بدل أن يبعث بها إلى وزارة المستعمرات لتخزن هناك، لسهل لنفسه سبيل العمل النافع لبلاده وللعراق؛ فقد كان - ولا مراء - إداريا قديرا حازما، بيد أنه زاد بمصاعبه وبنفور الناس منه، فيما كان من تدخله الجائز وغير الجائز، بأعمال الحكومة. وقد كان في بعض الأحايين، مستأثرا مستبدا، فيقف موقف الحاكم بأمره ليوطد «الاستيلاء الرسمي»، ليفرض «المشورة» فرضا، ليعطي «صورة التحكم» رهبتها، ليمكن «القيود الظاهرة» مهما كانت عرضية. أسموه في بغداد «الجبار» وهو عكس ما كان عليه السر غلبرت كلايتون قولا وعملا، فلا عجب إذا شكرت بغداد الله على رحيل الأول، واسترحمته تعالى للثاني.
حزن الملك فيصل لما نعي له السر غلبرت، وحزن لما جاء الجواب المرضي من حكومة لندن، ولا يستغرب إذا ما سبق الحزن الفرح إلى قلبه وهو كريم الشيم، رقيق الشعور، فعندما جاءه الجواب قال متأسفا: «لو أن الله أمد بأجل المندوب ليرى بعينه، قبل أن يغمضها الموت، قبول حكومته بما اقترحه من أجل العراق.»
عندما أعلن جواب الحكومة البريطانية اهتزت له البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وذلك الجو السياسي الخبيث، المفعم بالريبة المثقل بالغل، غدا رائقا نقيا مشرقا بالآمال، متموجا بالثقة متألقا بالسرور والارتياح. لله هؤلاء الشرقيون ما أسرعهم لتقدير الحسنى! وما أكرمهم فيه! وإن هذا الكرم وذاك التقدير لمن تراثهم القومي والخلقي. فإذا ما رقص القلب طربا، واهتزت العواطف عرفانا بالجميل، أذاعت الأقلام آيات الحمد، ونثرت الألسن درر الثناء.
كان رئيس الوزارة عبد المحسن السعدون في طليعة المبتهجين؛ فقد جعل بيانه الوزاري (19 أيلول) خطبة رائعة مجنحة، وهو فخور أن وزارته هذه تمثل البلاد كل التمثيل، ومتيقن أن ستكلل أعمالها بالفوز الباهر. صدقت كلمته الأولى؛ لأن الوزارة تألفت من الأحزاب السياسية كلها، ولكن رحى الحرب إنما هي في البلاط، يديرها الملك ويشرف عليها؛ فقد شاء أن تكون هذه الوزارة أقوى ما تقدمها، أعمها نفوذا وصولة، فكان من أعضائها ياسين الهاشمي زعيم المعارضة، وناجي السويدي ونوري السعيد، وكلهم قلب واحد وفكر واحد في الرغبة بالتعاون والحكومة البريطانية، كلهم متيقنون أن ستتوفق المفاوضات هذه المرة، وسيفوز العراق سنة 1932 بما يبتغيه.
بيد أن الأقدار استمرت في تمردها، وما لبث المتفاوضون أن علموا أن قلب المسألة لم يتغير تغيرا يذكر؛ فقد كانت الحكومة البريطانية تظن أن وعدها المطلق بالتوسط لدخول العراق في عصبة الأمم يحمل العراقيين على قبول المعاهدة الجديدة، وإن كانت بمضمونها لا تختلف كثيرا عما تقدمها. فضلا عن ذلك قد اختلف المتفاوضون مقاما ومزاجا؛ فالذي مثل دار الانتداب - أي المندوب السامي بالنيابة - لم يكن بإمكانه أن يحل أو يربط، بل كان عليه أن يبلغ الحكومة العراقية مشيئة حكومته المتعسفة، كان «جبارا» بالنيابة، يثير الأحلام ولا يسودها، وكانت الوزارة فيما سوى فكرة التعاون التي مر ذكرها على تباين في العقليات والنزعات، رئيسها عصبي المزاج؛ تارة تخمد ناره، وطورا تحتدم. وياسين الهاشمي جندي المنهاج، يضرب عندما تسنح الفرص ضربته القاضية، وناجي السويدي فقهي الروح غزير المادة، كثير البوادر القانونية.
أضف إلى هذا أن العقبات الكأداء كانت لا تزال قائمة في طريق المفاوضات. وهذه العقبات هي الاتفاق المالي، والاتفاق العسكري، وقوة الطيران البريطانية في العراق؛ فالوطنيون المتطرفون، يتقدمهم ياسين، استمروا يحاجون بخصوص ملكية مرفأ البصرة وسكة الحديد العراقية وثمنها، وأصروا على التجنيد الإجباري بمساعدة القوات البريطانية إذا اقتضى الأمر، وظلوا يعترضون على إنشاء قوة بريطانية للطيران في العراق؛ لأن ذلك ينافي السيادة الوطنية والاستقلال.
أما الرئيس عبد المحسن فقد كان يرى، في ساعاته الهادئة، رأيه السديد في التطرف وأضراره، ويحاول أن يبني جسرا للعبور بين وزارته ودار الانتداب، وكان في بعض الأحايين يرى عجز دار الانتداب أو ترددها في التعاون، فيخرج عما ملك من نفسه، محتدم الغيظ، منددا مهددا؛ فأثار عليه المتطرفين والإنكليز معا.
وقد فاته وفات زملاءه أن عصبة الأمم نفسها تحسن التذبذب؛ فقد ترفض قبول العراق عضوا فيها بالرغم من توسط بريطانيا. هذا الوجه الجديد من وجوه التمحل عرضه المندوب السامي بالنيابة - «الجبار» بالنيابة - فزاد في الطين بلة. فغمز السعدون قناته في إحدى المحادثات، وقد ذكره في جلسة أخرى بأن عبد المحسن السعدون هو الوحيد من وزراء العراق كلهم الذي وقف في أحرج المواقف دفاعا عن الإنكليز، وما كان «الجبار» بالنيابة ليرعوي، فازداد سخط عبد المحسن. وفي مجلس الملك فيصل، ذات ليلة، ضرب المائدة بيده، وهو يقول للمندوب السامي بالنيابة: «لا أقبل هذا منك، وإني أذكرك بأنك تخاطب رئيس الوزارة العراقية.»
إلا أنه استمر في سعيه لإقناع المتطرفين، وإلانة جانبهم. فكان يجادل ويجامل فيحسن الحجة ويحسن النصح. وكان عند تشبثهم بغير المعقول يعصف ويزمجر ويرتعد. تنازعت في صدره الوطنية والحقيقة، بل تنازعته حقيقة الوطنية نظرا وعملا. وكفى بالمرء هذا الاضطراب وهذا الشقاق الداخلي، خصوصا إذا كان حاد الطبع، عصبي المزاج . أضف إلى ذلك ما جاءه من الخارج مما زاد في محنته؛ فقد حملت عليه صحافة بغداد حملات منكرة، وتكاثفت حوله غيوم دار الانتداب وهي مثقلة بالغل والشنآن.
أجل، كان السبيل سبيله يزداد، كلما تقدم فيه، وعورة وشدة وظلاما، فصار يسمع أصواتا تناجيه ولا تؤاسيه. سمع همس الباطل، وسمع همس القدر، بل رأى نفسه بين حجري الرحى؛ أي الواجب والشرف، ولم يكن في إمكانه أن يرجع ولا أن يتقدم. تقطعت في صدره أوصال العزم والإيمان. أوقفه العجز واستولى عليه القنوط. فإذا كان لا يستطيع أن يسكت المنددين به من أبناء وطنه، والمتحاملين عليه من الإنكليز، أفلا يستطيع أن يسكت قلبه، أن ينزع منه عنصر الحياة؟ لقد سأل نفسه غير مرة هذا السؤال، وفي 13 تشرين الثاني سنة 1929 أجاب عليه جوابا فاصلا نهائيا.
4
حدثني الأديب أحمد حامد الصراف الذي كان يومئذ مدير المطبوعات، قال: «كنت أطالع الجرائد كل صباح، وألخص ما يتعلق به وبالحكومة من الأخبار والمقالات، وكان يسألني عندما ألفت نظره إلى مقال فيه طعن أو تحامل عليه أن أراجع القانون المختص بالذم والقذف، فأطلعه عليه. ولكنه في الأيام الثلاثة التي تقدمت الفاجعة، كان يقول عندما يسمعني أقرأ من الطعن المقذع عليه: «سامحهم يا ولدي.» ثم يعظني بالحلم والتؤدة وكرم الأخلاق، ويقول: «إنهم إما جهلاء - يا ولدي - وإما فقراء، فهم إذن في حاجة إلى التهذيب أو إلى المال، في كلا الحالين هم جديرون بالرثاء. ارث لحالهم - يا ولدي - واستغفر الله لهم.» وفي اليوم السابق ليوم الفاجعة رحت أنا إليه شاكيا. كنت قد سئمت العمل في دائرة المطبوعات، وأخذت أعلل النفس بوظيفة أخرى، قلت له: «عيني سكرتيرا أو كاتبا في دائرة من دوائر الحكومة، أو أرسلني إلى إحدى القنصليات العراقية في الخارج.» كان ساعتئذ مضطرب النفس كثير الهواجس، فقال لي وهو يبتسم بسمة رقيقة ناعمة: «وأنا - يا ولدي - سئمت الوزارة، أرسلني إلى الجنة، أرسلني إلى الجحيم».»
وقد كتب عبد المحسن، قبيل انتحاره، كتابا إلى ابنه علي جاء فيه: «الأمة تنتظر الخدمة. الإنكليز لا يوافقون. ليس لي ظهير. العراقيون الذين يطلبون الاستقلال ضعفاء وعاجزون وبعيدون كثيرا عن الاستقلال. هم عاجزون عن تقدير أمثالي من أصحاب الشرف، يظنوني خائنا للوطن وعبدا للإنكليز. ما أعظم هذه المصيبة! أنا الفدائي لوطني الأكثر إخلاصا قد صبرت على أنواع الإهانات، وتحملت أنواع المذلات، وما ذلك إلا من أجل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي.»
ثم نصحه أن يخلص لوطنه وللملك فيصل وذريته إخلاصا مطلقا.
كان السعدون، مثل السر غلبرت كلايتون، في العقد الخامس من عمره يوم حمه القدر. ولقد فقد العراق في عبد المحسن كبيرا من السياسيين الوطنيين، وفقد الإنكليز كبيرا من أصدقائهم المخلصين. وقد خسر العراق، بل العرب، في السر غلبرت كلايتون صديقا كريما، وخسرت إنكلترا سياسيا حكيما مرنا نزيها. فلو أمد الله بأجله لما كانت على ما أظن الفاجعة، ولو أتيح للاثنين العمل معا لجرت السياسة في هذه السنة المشئومة، سنة 1929، في المجاري السهلة الصافية جريا حثيثا إلى المقر المنشود، إلى الحل المحمود.
قد قدر لها أن تجري في كل حال جريا مضطربا بطيئا مفجعا وتتجه ذلك الاتجاه، وكان الملك فيصل، والقلب منه مفعم بالغم، يدير من مركزه العالي التيار ويشرف عليه. إن لكل عاطفة سكينة تتقدمها وأخرى تلحق بها، ولكان الملك انتدب ياسين الهاشمي ليخلف السعدون لو لم ير الحكمة الراجحة في تعيين السويدي الأكبر ناجي، خلال المرحلة الجديدة، فجاءت الوزارة السويدية الثانية بعد العاطفة - مثل شقيقتها قبلها - رمز السكينة والسلامة.
رأى ناجي أن يتجنب المشاكل الكبرى ويحصر اهتمامه في تمهيد السبيل للعراق المتشوف إلى سنة 1932، للعراق المستقل المعتق من الانتداب، فشرع يشذب شجرة الموظفين البريطانيين، ليخفض ما استطاع عددهم في الوزارات وفي دوائر الحكومة الأخرى، وليفسح المجال للوطنيين فيحرزوا الخبر والعلم في إدارة شئون البلاد.
أما المندوب السامي الجديد السر فرنسيس همفريس، الذي جاء يتمم عمل السر غلبرت كلايتون، فقد باشر اهتمامه (ك1 1929) بالمعاهدة التي ستتقدم دخول العراق إلى عصبة الأمم . إن للسر فرنسيس شخصية مشرقة مقنعة غلابة، فيمكنه أن يكون صريحا دون إساءة ، قويما دون تهجم، منفذا لأمر حكومته دون شيء من التحكم، وهو يجمع بين الفكر الثاقب، الذي كان لسلفه السر غلبرت كلايتون، والعطف المتبصر الموصوف به سلفه الآخر السر برسي كوكس؛ فيرى ما دون الحقائق الواقعة، ولا يذهل عنها، ويتقدم واثبا إذا شاء، دون أن يستسلم للأهواء السياسية، بل هو الجندي السياسي الطيار الذي يجمع في شخصه مزايا الثلاثة؛ أي الشجاعة والمرونة والنظر العالي البعيد.
يعتقد المندوب السامي الجديد لزوم سياسة بريطانية جديدة في الشرق الأدنى، وهو مدرك في الوقت نفسه أن النهضات الوطنية في البلدان المختلفة تختلف في أساليبها كما تختلف في نظرها إلى الحقيقة والإصلاح. إنه لمن الحكمة إذن أن تكون السياسة البريطانية مرنة مطاطة، وهي كذلك. أما الخطة اليابسة المطردة فهي نقيض الحقيقة التي ينبغي أن تكون، في السياسة على الأقل، مرآة لوقائع الأيام.
إنها كذلك لمسألة نسبية، فقد فاز مثلا مصطفى كمال فوزا مبينا، وانهزم في مثل جهاده أمان الله. كان السر فرنسيس همفريس في كابل أثناء النهضة الأمانية والثورة عليها، وقد قال لي في حديثه عنها: «كان الوزراء ورؤساء الدين يشجعون أمان الله في عمله، ويجيئونني طالبين أن أنصح له بالاعتدال، وأنبهه إلى الأخطار المحدقة به.» إن هذا التلون من أصحاب السعادة والفضيلة لا يستغرب، وهم المشفقون على مراكزهم، المتوهمون الخسارة، إذا هم نصحوا للملك وأنذروه.
على أن السر فرنسيس لا يتسرع في الاستقراء والمقارنة، فقد تكون بغداد شقيقة لكابل، وقد يكون الأئمة والسياسيون إخوانا في كل مكان، ولكن التقاليد والبيئة وسنة الوراثة تختلف كلها في الأمم، ويختلف لذلك مفعولها في التطور الاجتماعي، وفي الانقلابات السياسية.
جاء السر فرنسيس بغداد ليكمل كما قلت عمل السر غلبرت كلايتون، ولكنه في بداءة أمره ارتطم بأمهر عقلية قانونية في العراق، وما كان مسرورا؛ فهو لا يزدري الدقائق القانونية ولا يكبرها، ما هو في القانون من أقطابه ولا من أذنابه، إنما هو رجل مفكر متعقل على طريقته التي هي طريقة الإداريين المؤسسين للأعمال والمشاريع، فهو يرى الأمور في أشكالها الجامعة ، دون أن تفوته الجزئيات المهمة فيها. وقد كان قويما صريحا بقدر ما تسمح المحادثات الأولى. أما ناجي فلم يكن على ما يظهر كذلك، فقد قال السر فرنسيس للملك فيصل مرة إن رئيس الوزارة يدور الدورات، وإنه - أي المندوب - لا يفهم غالبا ما يرمي إليه.
وقد قال ناجي للمؤلف: «كنا نتحدث ذات يوم في المعاهدة، فسألت المندوب السامي إذا كان قد تم نصها، فأجاب: قد تقررت المواد المهمة كلها، ولكن ينبغي أن ترسل إلى لندن ليحررها الثقات والإخصائيون في الوزارة. فقلت: وهذا ما نخشاه؛ فقد نتفق وإياكم في هذا البند أو في تلك المادة، ولكن أوضاعها تقلب علينا إذا اختلفنا بعدئذ في تفسيرها ... ويظهر أن عندهم دائرة مخصوصة لتحرير المعاهدات، سمها إذا شئت دائرة المط، أما نحن فليس عندنا غير عقولنا على فقرها، وقد طالما قلت لجلالة الملك إن المعاهدة، قبل أن يقرها المجلس، بل قبل أن توقع، ينبغي أن يطلع عليها أحد الإخصائيين المتضلعين خصوصا بالشرائع الدولية.»
لم تكن المعاهدة الحاضرة قد بلغت تلك المرحلة التي تستوجب عناية الإخصائيين، بل كانت لا تزال في طور النشوء البطيء، فلزمها لتخرج منه مساعدة وزير قوي جريء حكيم؛ قوي يغالب المتطرفين ويتغلب عليهم، وجريء يجابه الحقائق ويهتدي بها، وحكيم يدرك أن المساعدة البريطانية لا تقدم للعراق مجانا لوجه الله.
كان الملك فيصل أكثر علما بذلك من المندوب السامي، ولكنه مشى متمهلا على عادته، وإن قيل إنه متباطئ متردد، فكان يتحين الفرص لتغيير الوزارة، فلا يفاجئ صديقا له، ولا يتنقص حقه. وفي أواسط آذار من هذه السنة أفسحت وزارة السويدي الكبير، كما أفسحت وزارة السويدي الصغير قبله، للعمل الذي كان الملك يتجهز له؛ للوزارة التي علق عليها آماله الكبرى. والأمل بالله إننا سنجتاز الأزمة هذه المرة بخير وسلام، فإن في وجه المندوب المشرق وفي خطواته الوطيدة، كما في عافية رئيس الوزارة نشاطه، ما يضمن سلامة الاثنين، فلا يتعثر الواحد بالقدر، ولا يتأثر الموت الآخر إبان العمل، إن شاء الله.
إن لنوري السعيد من المزايا العقلية والنفسية ما يجيز المقارنة بينه وبين السر فرنسيس همفريس؛ فهو جندي سياسي طيار، له شجاعة الأول، ومرونة الثاني، ونظر الثالث البعيد، يرى وهو على الأرض ما دون الأفق الذي لا يتسع إلا لمن كان في الفضاء عاليا، ولا يزال ممتعا بحسنات الشباب، بريعانه وإقدامه ونزاهته، أضف إلى ذلك ما جناه من الخبر والعلم كوزير في أكثر الوزارات السابقة، فصار سريع الإدراك للفرصة السانحة، فينتهزها ويثب خلالها إلى فصل الأمور.
تولى نوري رئاسة الوزارة في 19 آذار سنة 1930، وفي الشهر التالي أقدم والسر فرنسيس همفريس على العمل الخطير؛ وثبا الوثبة الأخيرة إلى المحجة العليا، ثم في الشهر الثالث من عهده السعيد تمت المفاوضات ووقعت المعاهدة الجديدة؛ معاهدة التحالف البريطاني العراقي، التي يحق أن تدعى باكورة العهد الجديد في العراق.
كان الملك فيصل يومئذ في أوروبا ينشد العافية، وهو متيقن نتيجة ما دبر قبل سفره، مطمئن إليها. وقد خطب خطبة هناك، شكر فيها الحكومة البريطانية على ما بذلته نهائيا في سبيل العراق، وأعرب عن أمله أن تحظى بلاده بمساعدات أخرى منها، بعد أن تسوى المسائل السياسية كلها. إلى أن قال: «إن في العراق مجالا متسعا للمشاريع البريطانية، وعندما يجيئنا البريطانيون مرشدين معاونين، نافعين منتفعين، نرحب بهم كل الترحيب، ونتعاون وإياهم فرحين شاكرين.»
بقي أن تجتاز المعاهدة المرحلة الأخيرة؛ أي المجلس النيابي. ولا بد ها هنا من كلمة في الأسلوب الذي تتخذه في مثل هذه المواقف حكومة العراق، عندما يكون لدى رئيس الوزارة معاهدة للإقرار مثلا، فهو يزن مجلسه، إذا صح التعبير، أو يسبر غوره إذا آثرنا هذا المجاز، فإن كان غير موافق يحله في الحال. ثم تجرى بعد ذلك الانتخابات، فيجيء المجلس - سقيا للأساليب الانتخابية ورعيا - وفق الطلب. كذلك عمل السعدون في سنة 1928، وكذلك عمل نوري في صيف هذا العام.
إني أرجوك ألا تصدق التقرير الرسمي في الموضوع؛ فقد وقع نائب الملك الأمر بحل المجلس، وبعد ذلك؟ جاء في التقرير: «وقد جرت بعد ذلك الانتخابات العامة لتتمكن الأمة من الإعراب عن رأيها بالمعاهدة.» هو اللغو بعينه. إن مثل هذه السذاجة، ومثل هذا التمويه ليندر في من يكتبون التقارير الرسمية، فإذا كان الكاتب لا يستطيع أن يذكر الحقيقة، فلم لا يختار - هداه الله - نوع الشجاعة الآخر؛ أي السكوت؟
اجتمع البرلمان الجديد - الثالث - في أول تشرين الثاني، وقد فاق في وطنيته تصور نوري وآماله؛ إذ إنه أقر المعاهدة بما يقرب من الإجماع.
وكان في ذلك للملك فيصل الفوز المبين، كيف لا وفي هذه المعاهدة الحكم المبرم على الانتداب؟! فقد أبرمت الحكم بعدئذ عصبة الأمم.
5
أما وقد مات الانتداب، فيليق بنا أن نقول كلمة فيه، نعم إنه لجدير مثل عظام الأموات بالرثاء، وقد يكون أكثر من أكثرهم أهلا له. ليس الانتداب بذاته شرا صافيا، ولا هو في وضعه على شيء من الشر، قبل أن نذكر الغرض الأول منه ينبغي أن نقول إن مقاصد الأحلاف، فيما يتعلق بالأراضي المنسلخة عن الدولة العثمانية والمستعمرات المسلوبة من ألمانيا، لم تكن على شيء كبير من الطهارة والنبل، بل كان قصد الأحلاف في مؤتمر فرساي أن يتمتعوا بتلك الأراضي والمستعمرات على الطريقة التاريخية، بحسب التقاليد المرعية؛ الغنيمة للغالبين، الأرض للفاتحين.
بيد أن الرئيس ولسون والجنرال سمطس، المجندين بالمثل الديمقراطي الأعلى، وإن ازدراه أقطاب السياسة القديمة، تغلبا على مطامع الدول الاستعمارية فيما ابتدعاه وأسمياه الانتداب. وفي هذه البدعة السياسية تمثلا خلاص الشعوب التي كانت رازحة تحت نير الأتراك، وتيقنا - يومئذ - فوز أولئك الشعوب عاجلا أو آجلا بالحرية والاستقلال.
ضحك أساطين السياسة القديمة في سرهم من هذه السذاجة الديمقراطية، وقد جهروا بما عراهم من الريب، بالرغم عن المادة 23 من معاهدة فرساي، في أن العمل بالانتداب ممكن، أما المادة 22 فهي، والحق يقال، مثال العدل والنبل في المعاهدات، هي منقطعة النظير فيما تنطوي عليه من الآمال العالية بشرف الدول العظمى، وبمقدرة الشعوب التائقة إلى الحكم الذاتي المستقل، على أنها لا تختلف عن القاعدة الذهبية، وعن الآيات المنزلة بشيء، نرددها مكبرين متورعين ، ونقف عند العمل بها عاجزين متذبذبين. أجل إن بين القاعدة والتطبيق وهدة عميقة نراها اليوم، وقد اشتد ظلامها، في سوريا وفلسطين وشرقي الأردن.
بيد أن ذلك لا يضير بالانتداب في قصده الأول؛ أي في وضعه الأساسي، فهو محقق في نهاية الأمر مهما طال، هو محقق لأن تطبيقه غير ممكن، وقد يستغرب أن يكون هذا المثل الديمقراطي الأعلى، الذي استهوى الشعوب الطالبة الاستقلال، صحيحا بليغا في عكسه كما هو في وضعه الأساسي.
لست أدري إذا كان الرئيس ولسون أبصر أو تصور شيئا من هذا الانقلاب في أمر تعليمه هذا. لست أدري إذا كان قد أدرك ما سيكون من عجزه المحمود، ومن فوزه الأحمد. هاكه واقفا على رأسه، ومتمما لقصد خالقه، هاكه ممثلا أعجوبة السياسة في هذا الزمان.
وهل أزيدك بيانا، أيها القارئ العزيز؟ هذه هي الحلقات المنطقية: الحكومة البريطانية مقيدة بالانتداب في العراق، يستحيل العمل بالانتداب بحسب أوضاعه «كأمانة للتمدن مقدسة»، ليس بالإمكان أن نحوله إلى استعمار. إذن، ينبغي أن يلغى الانتداب، أما الشعب الذي انتدب له، فبما أنه قد خطا خطوات تذكر في سبيل حريته، وأحسن شيئا من علم الاستقلال والتطبيق، فينبغي أن يظل سائرا سيره هذا، ولا بأس بمعاهدة بينه وبين الدولة التي كانت صاحبة الانتداب يلتئم مضمونها وأسباب رقيه المستمر.
هذا ما حدث في العراق؛ فقد أدركت الدولة المنتدبة وعصبة الأمم أن من العبث المحاولة - ولا سيما أن النفقات باهظة - للتأليف بين القاعدة والتطبيق في الانتداب. هذا إذا سلمنا أن قد كان هناك قصد للتأليف. أما أن النتيجة لم تظهر قبل مرور العشر سنوات، فذلك أمر يسير. وقد كان في هذا الإبطاء - على ما أظن - شيء من الخير للفريقين. مما ينبغي أن يذكر كذلك أن العراقيين، منذ بداءة الأمر حتى النهاية، لم يقبلوا بالانتداب قطعا، واستمروا جميعا، المعتدلون والمتطرفون، في الجهاد للقضاء عليه.
ولكننا نخطئ إذا ظننا أن المرحلة التي بلغها العراق في تطوره السياسي ورقيه هي نتيجة جهاد العراقيين وحدهم. فالحقيقة كلها، نسجلها دون أن نغمط حق الوطنيين، هي أن المفاوضات مع الحكومة البريطانية ما كانت توفق هذا التوفيق، وفي مدة يجوز أن نعدها قصيرة، لو جرت بوساطتهم أو بوساطة لجان من أحزابهم. إن هناك إذن عاملا آخر هو من الأهمية بمكان، بل هو من وجهة خاصة أهم العوامل كلها؛ فسيد البلاد الأكبر، خصوصا في هذا الشرق، لا يزال - وهو ولي الأمر - قادرا أن يسير الأمور ويصرفها بما قد يكون فيها من الخير أو من الشر. وعندما تكون الدولة في طور التكوين، مثل العراق، تتضاعف الآمال وتتضاعف الأخطار؛ فالرجل الذي يدير شئون البلاد يستطيع أن يكون عمارا، ويستطيع أن يكون هداما.
لقد أسلفت القول إن الملك فيصلا لم يكن موفور الحظ في بداءة عهده؛ فقد جاء العراق تقيده التعهدات، وتبوأ عرش العراق تحف به الصعوبات. ومع أنه كان يعلم أي المناهج يجب عليه أن ينهجها، فقد رأى بأم عينه العقبات التي ينبغي أن تذلل قبل أن يبلغ أول الطريق.
ما أحب فيصل تاجا يجيئه من يد أجنبية (وقد هم مرة بالنزول) وما كان من شيمته أن يغمط النعمة، فيدعو الأمة لتنقذ التاج من قيوده، هذه هي المعضلة الكبرى التي وجب عليه حلها، هو ذا الطريق الوعر الذي كان عليه أن يسلكه، فقد رآه واضحا بكل مشقاته، وتقدم فيه بخطوات ثابتة؛ تارة بطيئة، وتارة حثيثة، وهو على الدوام الرجل الأبي الجريء الخبير الصبور.
قلت: المعضلة الكبرى، وما فصلت؛ فقد كانت تنحصر، عندما جلس على العرش، في أمرين: الفوز بثقة أهل العراق، والمحافظة على صداقة الإنكليز. وقد مشى إلى غرضه بما أكسبته تجارب الزمان، متمهلا متحذرا، واثبا عاديا، مستعينا تارة بصراحة الفكر، وطورا بالكياسة واللباقة؛ تارة يبرز عقله، وطورا يفتح قلبه؛ فيتغلب إما بالإقناع، وإما باللطف والمعروف، هذه هي الطريق التي سلكها فيصل، وكان فيها العامل الأكبر - القوة المرنة النافذة المحترمة دائما - في نجاح المفاوضات بين العراق وبريطانيا. وإن إدراكه لتلك المحجة في خلال عشر سنوات فقط - نظرا لما اعترضها من العقبات الوطنية والدولية - لمما يدعو للإعجاب والثناء.
أما المعارضة فما كانت لتؤخر في سير الملك فيصل، ولا كان هو يؤخر في سيرها؛ فبينا هي كانت تشحذ السلاح لتجاهد الانتداب وأصحابه، كان هو يجتاز العقبات، من معاهدة إلى معاهدة، وهدفه وهدف المعارضة واحد لا يتغير؛ فلو أنه سلم التسليم التام للمتطرفين، لأضاع الفرص التي انتهزها ليخدم أغراضهم، ولو أنه بالغ في تقدير الجميل لأصحابه الإنكليز، لما تمكن قطعا من التأليف بين مصالحهم ومصالح العراق. فقد رفع الميزان بيد الحكمة وباسمها، وقلما اهتزت اليد في حفظ التعادل بين كفتيه، وقلما شط البصر. هو ذا الفوز السياسي العظيم «وفيه فوز شخصي للملك فيصل، وفوز وطني للعراق.»
شغل الملك
كان هارون الرشيد يخاطب السحابة التي تمر به قائلا: «أمطري حيث شئت، فإن خراج الأرض التي تمطرين فيها يجيء إلي.» وكان الخراج يطيع السحب كما تطيع السحب هارون، فيجيء إليه طاميا، فيتصرف به كيفما شاء وشاءت مكارمه، يبذل منه في تعزيز الجند والقضاء، عملا بالقاعدة التي لا تزال مرعية عند أكثر حكام العرب: العدل أساس الملك والجند سياجه. ويبذل منه في بناء المساجد ومعاهد الإحسان، عملا بالقاعدة الأخرى التي ترفع حتى الخليع إلى منزلة أهل البر والتقوى.
وما سوى الجند والقضاء والجوامع والأوقاف، لا يبقى في المملكة ما يستحق كبير الاهتمام غير الشعراء في البلاط، والجواري في الحريم، فيغدق عليهم وعليهن مما تبقى من الخراج.
أمطري حيث شئت أيتها السحب، فإن خراجك لهارون، أسير القوافي والعيون، وإن السماء مع ذلك تخدم أمير المؤمنين، وتجعل السحب من رعاياه المخلصين.
أما الملك فيصل فلا أظن أنه كان يخاطب السحب، على قربها منه في طيرانه، أو يسأل السماء أسئلة فيما يتعلق بخراج الدولة. لو اتسع الوقت لديه لمثل هذه المفاوضات الاقتصادية أو المناجاة الشعرية، وشاء أن يتمثل بالخليفة العباسي الشهير، لما كان له أن ينتظر من السحب الخير الكثير؛ كان له أن يقول للسحابة ما قاله الرشيد: «أمطري حيث شئت.» ويقف عندها، فإن لم تمطر في مزرعة صغيرة قرب خانقين، أو في الحارثية خارج بغداد - كل ما كان يملكه من أرض العراق - فهي وريح السموم سواء فيما قد يكون له من خراجها. تبارك الدستور، وتباركت آياته، فهو يجيز لأحقر الناس، إذا صار وزير المالية في الدولة، أن يقول للملك: هذا راتبك، يا صاحب الجلالة.
جلالة الملك فيصل الأول مع فخامة الرئيس مصطفى كمال حين زيارته لتركيا.
مأدبة الغداء التي أقامها السفير البريطاني على ظهر الباخرة الإنكليزية «لوين» في المؤتمر العربي النجدي.
ومن حسن حظ العراق أن عهد الخلافة قد ذهب، وأن أيام السلطان ابن السلاطين وأمير المؤمنين لن تعود؛ إذن مهما أمعنت السحابة في سمائها، فأمطرت في إيران وفي أفغانستان وفيما دونهما من البلدان، فإن بين خراجها اليوم، إذا وصل إلى بغداد، وبين الملك حكومة دستورية وبرلمانا. وقد كان، فوق ذلك، بين الملك فيصل وراتبه، خازن حريص على كل دينار منه.
ها هنا أقف، ولو فرضنا أن علمي بميزانية الملك الخاصة صحيح دقيق، فلا أتعدى حد اللياقة في إذاعة أسرارها. كفى بي أن أقول إن بعض الذين كانوا يتهافتون على ديوان أبيه الملك حسين ويحومون حوله، وبعض مشايخ القبائل العراقية، كانوا يشاركون الملك فيصلا في دخله الخاص.
وقد كان فيصل كريما جوادا، بل كان جوده إبان الحرب وفي سوريا موضوع الأمثال والقوافي. أما في العراق ... قلت أن لا يليق التدخل في الميزانية الملكية! ولكني أظن أن فيصلا في مكارمه وإحسانه، وهو بين راتب محدود ومطالب وواجبات غير محدودة، كان يشكر الله في بعض الأحايين أن اليد القابضة على مفتاح الخزينة هي يد أمين ضنين.
أشرت إلى العرش والتاج غير مرة فيما أسلفت، وما كان ذلك إلا كناية ورمزا، فاعلم - رعاك الله - أن ما كان لهذا الملك العربي عرش ولا تاج. ولكن في القيافة العربية ما يشبه التاج، ما يميز صاحبه عن غيره من العرب، وهو العقال المزركش بالقصب. بيد أن ملك العراق أبدل تلك القيافة بالملابس الإفرنجية، وصار خاضعا فيها للأحكام الديمقراطية الجائرة في أزياء هذا الزمن.
أما وقد كان مشيق القد رشيقه، فأي ثوب لبسه لبق به. وكنت ترى في طلعته ومشيته وأناقته ذلك الامتياز الساحر الذي يصعب وصفه، ويصعب على الديمقراطية، مهما تعسفت في أزيائها السمجة وأحكامها المطردة، أن تمحو أو تتغلب عليه.
بيد أن الأناقة في مجلسه، وهو يحدث أو يستمع، كان يعتريها في بعض الأحيان شيء من الهجنة، فيجلس جلسة القروي وقد ذهل عنها، فتراه والظهر منه منحن، واليدان مرتخيتان فوق الركبتين، وتود أن تقول الكلمة التي يستقيم بها حاله. ومما كان يزيد بدهشتي المألومة أن رأسي رجليه، وهو جالس تلك الجلسة، كادا يلصقان الواحد بالآخر؛ أي إن رجليه ضمتا في شكل 8 لا في شكل 7 كما ينبغي، وهذا الاتجاه في الرجلين، جلوسا أو وقوفا، مستقبح عند الغربيين، ومحظور في الجندية.
ولا أكتمك أني في تلك الساعة، ساعة كان يجلس الملك فيصل جلسته المستهجنة، كنت أرغب بالمنزلة التي تجيز لي التنبيه والتذكير. وليس لأحد خارج بيته، غير البدوي المدرك لهذا الأمر أو الصديق المحتظي بالعطف الملكي الخاص، أن يقول إذ يرى رجليه مضمومتين في شكل 8: سيدي فيصل، رجليك.
على أن هذا الاتجاه في الرجلين يهون، عند ذكرنا لأولئك العرب، حتى الأمراء منهم والملوك، الذين يلعبون بأباهم أرجلهم وهم جالسون على الأرض، أو متربعون على الديوان.
فيا ليت النبي فطن إلى هذا الأمر، النبي الذي لم يفته شيء من منكرات السلوك في شعبه، فحدث حتى عن القلس؛
1
ليته حدث ناهيا كذلك عن هذه التسلية بأباهم الرجل، لكنت إذ ذاك أنقل إليك خبرا يدهش ويسر، فأقول: كنت ذات يوم في مجلس السيد الإدريسي، أو الإمام يحيى، أو الملك ابن سعود، فدخل أعرابي وسلم وجلس، وإذ رأى يد السيد مثلا تعبث بالأباهم الشريفة صاح قائلا: يا طويل العمر، هذا مخالف للسنة؛ فقد جاء في الحديث ... ويروي الحديث الذي أود لو كان. ولكن النبي - لسوء الحظ - لم يفطن إليه. وستستمر تلك العادة، تلك التسلية بأباهم الرجل، إلى أن يقتدي أصحاب الجلالة هناك بابن عمهم ملك العراق، فيلبسون الجوارب والأحذية.
قلت إن ملك العراق لا يلبس التاج، وهو في هذا مثل سائر ملوك العرب الأقدمين والحديثين، فقد كان فيصل يلبس السدارة حتى في الحفلات الرسمية، إلا أنها سوداء اللون مثل جوخ ثوبه الإنكليزي، وما رأيته مرة جالسا على عرش أو شبه عرش، وما رأيت عرشا في القصر أو شبه عرش، ولا فراش ملك مثل الذي يجلس عليه الإمام يحيى. قلت: القصر - والحقيقة أنه مثل العرش ومثل التاج - لا وجود له. إنما الملك حدثني عن المدينة الجديدة التي يريد بناءها، وأطلعني على التصميم، ستكون بغداد الجديدة، التي ستبنى على الضفة الغربية، مدورة مثل مدينة المنصور، وفي وسطها ساحة كبيرة، وفي الساحة محطة للطائرات بين الشرق والغرب، وحول الساحة أبنية الحكومة، وحلية العقد القصر الملكي، سيكون لملك العراق قصر إذن في المستقبل.
2
أما الآن فالبناية ذات الطبقة الواحدة، القائمة في بستان، على طريق الأعظمية، هي المقر الملكي. فيها يشتغل الملك، وفيها يستقبل الناس، تدخلها فإذا أنت في رواق صغير، إلى شماله مكتب لرئيس التشريفات، وهو يستقبل من الزائرين الحضر ذوي السدارات والبرانيط والعمائم، فيقدمهم للملك أو يعين لهم وقتا للمقابلة، وإلى جانب مكتبه غرفة الحرس الملكي الذي قلما يبدو للعيان، وإلى الجهة الأخرى من الرواق مكتب السكرتير الأول، تحاذيه غرفة الانتظار لرجال العشائر ومشايخ العرب، وأصحاب العباءة والعقال، وبين المكتبين باب كبير يفتحه حاجب، فإذا أنت في ردهة مربعة، هي مكتب الملك ومجلسه، ينير هذه الردهة شباكان في الحائط المقابل للباب، ولكن الأسترة تلطف النور، فلا يبهرك، ولا يحول بين ناظريك ووجه الملك، الواقف لاستقبالك.
أما فرش الردهة فالذوق فيه غالب على الفخامة، وجامع بين الشرق والغرب؛ السجاد عجمي، والديوان عربي، والمنضدة مع الكراسي المنجدة بالجلد أوروبية. وهناك خزانة للكتب، وعلى الحائط فوقها رسوم لبعض أمراء البيت الهاشمي. يجلس الملك على الديوان في الصدر، وإلى جانبه مائدة صغيرة على حرفها بضعة أزرار للأسلاك الكهربائية تصلها بدواوين البلاط.
عندما يدخل الزائر يقف الملك، فيخطو بضع خطوات، ويتقدم في بعض الأحايين إلى وسط الردهة مرحبا. كان الملك فيصل في استقباله وفي حديثه على جانب عظيم من الرقة والبشاشة، واللطف والوداعة، بل كان مثال النبل وكرم الأخلاق. يقول لك ذلك كل من زاره وكل من عرفه؛ غربيا كان أو شرقيا، وضيعا كان أو رفيعا، من البدو أو الحضر. وكان استقباله شرقيا للجميع، يأمر بالقهوة والسجاير، ويقدم في بعض الأحايين للزائر سيكارة من علبته الخاصة، فيشعر بأنه عند أحد أصدقائه، لا في حضرة مليك البلاد، ويخرج معجبا بهذه الروح العربية الديمقراطية الشريفة، فإن لم يكن شاهد شيئا من أبهة الملك، فقد قابل عربيا من أماجد العرب، هو حقا ملك القلوب.
في ذلك البستان بيت آخر ذو طبقة واحدة؛ هو منزل الملك في النهار، فيتناول فيه طعام المساء، ويقيم فيه المآدب الرسمية والاستقبالات العامة، ها هنا في البيتين كان الملك فيصل يشتغل ويقضي معظم يومه، وما كان في شغله ليرعى نظام الدوام المحدد للعمل اليومي، ثماني ساعات لا غير، فيشتغل اثنتي عشرة ساعة وما يزيد في بعض الأحايين.
أما أشغاله فما كانت تنحصر في جلوسه إلى منضدته وفي مجالسه ومحادثاته، وما كانت كلها تظهر حتى لرجال البلاط والحكومة، فمن أين لهم أن يروها في استقبال عام مثلا، أو في مأدبة رسمية؟ ألا إن هموم الدولة، ساكنة أو ناطقة، وشئون الملك - سافرة أو محجبة - لتتمشى هناك بين الضيوف، ولا يعرفها ويشعر بوطأتها غير الملك. وبكلمة أخرى إن الملك يشتغل حتى في ساعة لهوه، وإن شغل هذا الملك العربي ليختلط حتى بطعامه، فقلما كان فيصل يأكل وحده، وقد كان شغله مزدوجا في ضيافاته على اختلاف الضيوف؛ فإذا كانوا من مشايخ البدو، أو من الوطنيين، أو من الأوروبيين، من أصحاب الشكوى أو المشاريع الإصلاحية أو الامتيازات؛ فعليه أن يستمع إليهم، ويتبصر فيما يعرضون، فلا يفوته شيء مما قد يكون فيه خير الأمة.
قد تسأل بعد هذا: وأين المنزل الملكي الخاص؟ أين بيت فيصل بن الحسين بن علي؟ في شارع صغير في قلب المدينة، إلى جانب الميدان بيت ذو طبقتين، شبيه بالبيوت الأخرى الملتصقة بعضها ببعض؛ يسكن فيه الأستاذ إبراهيم دباس، معلم الملك فيصل اللغتين الإنكليزية والفرنسية، بل المعلم اللبناني في الأسرة الهاشمية المالكة، الذي قال فيه الملك حسين: «هذا معلم أولادنا وأحفادنا.»
وفي ذلك الشارع أيضا، على نحو مائتي ذراع من البيت المذكور، منزل الملك الخاص؛
3
حيث تقيم الملكة حزيمة؛ زوجته الوحيدة، وابنه الوحيد الأمير غازي، وكريماته الأميرات الثلاث، ها هنا كان الملك فيصل يقضي مع أهله بضع ساعات من يومه.
وما استنكف أن يكون منزله في صف من البيوت العادية قريبا من منزل معلمه المسيحي اللبناني، أقول «المسيحي اللبناني» لألفت نظر العرب في كل مكان، ونظر أبناء لبنان، إلى مزية خاصة في فيصل، بل في البيت الهاشمي، فما كان الملك حسين - رحمه الله - يفرق بين العربي واللبناني، والمسلم والمسيحي، وأن أنجاله كلهم مثله في هذا الموقف العربي الشامل في عروبته جميع سكان البلاد العربية، إنما الملك فيصل كان أقربهم إلى اللبنانيين، وأكثرهم إعجابا بهم، وأشدهم رغبة في استخدامهم، والانتفاع بعلومهم ومواهبهم.
على أن النزعات السياسية، والنعرات الحزبية في العراق، كانت تحول دون تحقيق رغباته، من ذلك ما أراده مرة لمعلمه إبراهيم دباس؛ فقد كان في نيته أن يعينه كاتب سره، لولا صوت الاحتجاج في البلاط وخارج البلاط. وما السبب في ذا الاحتجاج؟ إني على يقين - وأنا أعرف بعض المحتجين - أن لا أثر للتعصب الديني فيه، إنما هي السياسة والمآرب الشخصية، التي تشين غالبا الأعمال الوطنية في كل البلدان، وخصوصا في هذا الشرق العربي.
وما كانت مشاكل الملك الكبرى تمكن الملك فيصل من الاهتمام بغيرها من المشاكل الحزبية المحلية، بل ما كان يجيز لنفسه تكبير صغائر الأمور، وعنده من كبيرها ما يشغل قلبه وعقله، ومعظم وقته وقواه.
وعنده فوق ذلك، وهو الملك التلميذ، مسائله الإنكليزية والفرنسية يدرسها. ما كان فيصل بالتلميذ الكسول، المتأخر في التحصيل، كما كان في صباه بالأستانة؛ فقد بلغ الشأو في الإنكليزية، على قصر وقته للتعلم، وعندما زار إنكلترا زيارته الأخيرة خطب خطبة بهذه اللغة، وكان مسرورا بل فخورا بحسن وقعها، فقد قال لمعلمه الدباس : «كنت أتمنى يا أستاذ أن تكون معي في لندن لتسمع تلميذك يخطب بالإنكليزية كأبناء الإنكليز أنفسهم، فإنك ولا شك كنت تفتخر بتلميذك ...»
ملك تلميذ، وقد كان بوده أن يكون كذلك معلما؛ فقد خطب مرة في دار المعلمين، في واجبات المعلم الخلقية والروحية، وقال إنه مستعد لأن يعلم في مدرسة ثانوية ولو بضع ساعات في الأسبوع.
ملك يتعلم ويعلم، ويعمل فوق ذلك في وضع أسس الدولة وتوطيدها، فلا عجب إذا كان عمله اليومي يتجاوز في بعض الأحايين اثنتي عشرة ساعة. كان يجيء المقر كل يوم في الساعة السابعة صيفا والثامنة شتاء فيصل، غالبا، قبل رؤساء الدواوين، ويشتغل من خمس إلى سبع ساعات، ثم يذهب في الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الحارثية مزرعته، وهي على نحو خمسة أميال من بغداد، للغداء وللقيلولة، إلا أنه كان غالبا يحرم الراحة حتى هناك؛ لأن أشغال الملك كانت تلحق به إلى ذاك البيت الصغير؛ حيث كان يدعو بعض صحبه، فتعقد الجلسات السياسية حول مائدة الشاي.
وليس فيما عددت كل أشغاله؛ فقد كان يقول عندما يجيء الحارثية: إني ها هنا فلاح. وقد قال لي مرة إن كل ما كان يتبقى من ماله، بعد النفقات الخاصة والعامة، دفنه في الأرض، أي في مزرعتيه بالحارثية وخانقين، فقد كان - والحق يقال - شغفا بالأرض؛ بزرعها، بامتحانها، بتحليل عوامل خيرها، بتجربة الآلات والبدع الزراعية فيها. ما كان يباشر هذه الأعمال كلها بنفسه، ولكنه كان يشرف عليها، ويهتم ما استطاع بها. ومع ذلك فما أفلحت مشاريعه الزراعية كلها، وأكثرها لا يزال في طور التجربة.
نسمع الحكومات والمصلحين في أوروبا وأميركا ينادون الناس في الأيام ويحذرونهم قائلين: عودوا إلى الحقول، عودوا إلى المزارع. ولكن الشعب العراقي ليس مثل شعوب أوروبا وأميركا في التهافت على المدينة، والتزاحم على التجارة والصناعة، ليستوجب هذه الدعوة. إلا أن اهتمام الملك فيصل بالزراعة نبه الكثيرين إلى الأساليب العلمية الفنية فيها، ووضع نواة النهضة الزراعية في العراق.
ومن حسنات الديمقراطية فيه أنه كان يكره الأبهة في حله وترحاله، فقلما كان يخرج في موكب، أو يظهر في حلقة براقة من أبهة الملك. ما كان الناس ينتبهون لسيارة الملك أو يعرفونها إذا مرت في شوارع بغداد؛ فقد كان فيصل يكتفي بياور واحد يجلس إلى جانب السائق، ويسوق هو نفسه السيارة في بعض الأحايين.
قلت إنه كان يؤم الحارثية للغداء ويقضي شطرا من يومه هناك، ثم يعود عند الغروب ليتناول العشاء في المنزل المجاور للبلاط. ومما استحبه وألفه في أوروبا الثوب الرسمي في المساء، أما إذا كان ضيوفه من الأهالي فيتناول العشاء - إكراما لهم - في ثوبه العادي. وإذا كان بينهم أوروبيون، فإما أن يرتدي الجوخ الأسود والقميص الأبيض، وإما أن يظهر في ثوبه العسكري بصفته القائد العام للجيش. سأل أحد السوريين رئيس التشريفات، بعد أن عين له وقتا لمقابلة الملك، أي الأثواب يجب عليه أن يرتدي، فأجابه قائلا: «تعال في الثوب الذي أنت لابس؛ الملك لا يسأل.»
وإذا كان ضيوف الملك من حاشيته وأهله، أو من أصدقائه في الحكومة ودار الانتداب والسفارات، فقد كان يجلس وإياهم بعد العشاء جلسة بيتية، ويلعبون ال «بريدج» الذي كان يؤثره على سواه من الألعاب. قيل لي إنه كان في لعب «التنس» كذلك من المجيدين المبرزين. فإن قارنا بينه من هذه الناحية وبين زملائه جنوبا، أي بينه وبين ابن سعود مثلا أو الإمام يحيى، بدا لنا عصريا إلى حد المبالغة. أما إذا كانت المقارنة بينه وبين جاريه الآخرين شرقا وشمالا، أي بينه وبين داهية طهران وداهية أنقره، فهو دونهما في ألاعيب هذا العصر؛ لأنه ما كان يحسن لعب ال «بوكر» ولا يرغب فيه. بيد أنه كان متساهلا في الأمور الاجتماعية أكثر من أخويه علي وعبد الله، وقد كان يحترم على الأخص عليا، ويحرص على كرامته.
أقول هذا لأخبرك بما جرى ذات ليلة في رمضان؛ كان الملك فيصل يتناول العشاء وبعض رجال الحكومة المقربين، احتفالا بحدث مفرح في سياسة العراق، وكان ضيوفه - إخوانه - وهم فرحون مرحون يشعرون بنقص في الضيافة ولا يفصحون، فقرأ الملك الخبر في وجوههم وأمر لهم بالشمبانيا، وفي تلك الليلة جاء الملك علي يزور أخاه، دون سابق إعلام منه بذلك، فدخل قاعة الطعام ساعة كانت سدادات القناني تفرقع وتتطاير في الجو ...
إني أذكر قصة أخرى سمعتها في جدة، كان الأمير علي وبعض رجال حكومة أبيه الملك حسين مصطافين في الطائف، ومعهم شيخ مدمن كان يجيئه الحين بعد الحين صندوق من الوسكي من تاجر مسيحي في جدة، فأرسل الصندوق ذات يوم خطأ إلى بيت الأمير علي، ففتحه وأخذ منه زجاجتين، ثم أرسل الباقي إلى صاحبه يقول: «إن الصندوق فتح في الجمرك وأخذ الرسم عليه ... أما ما كان من أمر الزجاجتين فالأرض تدري.»
كان الملك فيصل - عملا بمهنته وبتقاليد بيته في الأقل - من المحافظين، بيد أنه لم يتقيد بالقيود كلها، وما استولى الماضي عليه استيلاء العقل والحكمة؛ فقد كان مدركا ما للتطرف السياسي والاجتماعي في زمانه من الشيوع والسطوة، وكان مدركا كذلك أن العرب وإن كانوا بطبيعة الحال محافظين، ينزعون إلى التمرد، ويقبلون على النعارين فيهم المشاغبين. فعلى من يتولى أمرهم ويدير شئونهم أن يقرن في مبادئه وأساليب عمله شيئا من المصلح، شيئا من الحاكم المستبد؛ لذلك كان الملك فيصل يتحرى الوسط في الأمور.
وقد سمعته يقول مرارا: «كم من تقليد مفيد يفسده الغلو!» أحب أن يقتدي بملوك العرب وأمرائهم في الجلوس للناس، بل باشر الأمر، فكان يجيئه الناس من بدو وحضر في يومي الأربعاء والسبت من كل أسبوع، مسلمين عارضين شكاويهم، فيسمع لهم ويقضي ما استطاع بينهم، وقد كان يرتاح إلى هذه الاجتماعات ويرى فيها ما يزيد بخبره، ويصحح علمه بطبائع الناس، فضلا عن أنها تقرب بينه وبين الرعية.
ولكن الحكومة نظرت إليها بغير عينه، وقد تكون عدتها من البدع؛ فهناك محاكم وقضاة، وهناك دستور، وهناك ... فلا يجوز للملك التدخل في شئون المواطنين الخاصة، ولا يليق بالناس أن يحملوا الملك فوق طاقته. ظل الملك مع ذلك يقابل كل من جاء زائرا في ذينك اليومين، ولكن العادة المثمرة خيرا في صنعاء وفي الرياض أمست عقيمة في بغداد، وقد تبطل قطعا، فيذكرها الناس كما يذكر الحاج حجة لا تعاد أو كما يذكرون تقليدا مهملا.
وهذه السدارة هي اختراع الملك فيصل، وهي اليوم تدعى باسمه ال «فيصلية»، إن هي إلا دليل آخر على أن حب الوسط كان من طبعه. أما الكلمة المأثورة: خير الأمور الوسط، فلا تمثل الحكمة دائما ولا حسن الذوق. وما السدارة؟ لا قبعة هي ولا قلبق، هي احتجاج على الطربوش، وما هي في الصيف أخف من الطربوش، ولا هي صحيا أحسن منه. إن في خطوطها، في شكلها، شيئا من الظرف، ولا تخلو طريقة لبسها من شيء يتحداك، ولكنها في المواقف الرسمية - على الأقل - رمز الخفة والدعابة، أراد الملك فيصل عمرة جديدة لأهل العراق، أو للعصريين من أهله، وأبى أن يقلد الأمة التي نبذت الطربوش كما نبذه، فيختار مثل مصطفى كمال القبعة كاملة؛ لذلك اضطر أن يقف عند الحد الوسط، اكتفى بنصف قبعة.
لا أظن أن السدارة تدوم طويلا، فالعمرة التي لا حافة ولا رف لها إنما هي مبتورة ناقصة، قد تكون بليغة فيما تقوله وطنيا، ولكن الوطن إذا توطدت أركانه يستغني عن الرموز، والعمرة التي لا رف لها تفضح الوجه إذا كان قبيحا، ولا ترمقه إذا كان مليحا بشيء من الظل يزيد الملاحة فيه. لقد أدرك العرب ذلك، وأدركوا الناحية الصحية في العمرة، فلبسوا فوق العرقية الكوفية، وربطوها بعقال للزينة والفائدة معا، فإذا نبذنا العقال والعمامة فيليق بنا أن نظهر، في المواقف الرسمية على الأقل، مكشوفي الرأس، وهذا مكروه عند المسلمين المحافظين ومخالف للتقاليد المرعية.
على أن الملك فيصل تعدى التقليد في صورته الأخيرة، وهو فيها مكشوف الرأس، جهم المحيا، بعيد غور الفكر، تعلو سيماءه مسحة من الكآبة. عد إليها، وتخيل السدارة على الرأس، يبدو في الوجه شيء مستغرب مستهجن؛ هو التناقض بين ملامحه وما تخيلته على رأسه. ما كان يخفى على الملك فيصل أن التناسب هو السر في الحسن والأناقة، فعندما يبدو أثر التفكر بليغا في الوجه، أو عندما يكون الوجه متجهما، فالرأس المكشوف هو أكثر تناسبا من الرأس الذي تعلوه قبعة صغيرة محقرة.
خذ عمرة الملك فيصل في صيده تر فيها ما تفتقده السدارة من أسباب الحسن والأناقة، فالسدارة تحقر الوجه التعب، الوجه العابس، وتسلبه محاسنه، بينا أن عمرة الصيد تظلل بعض الخطوط فيه تزيده قوة وجلالا. عد إلى صورته في الصيد وتأملها، فإن هذه المحاسن لتبدو واضحة بليغة، ويبدو حتى في ظلال خطوط التعب شيء من النشاط المذخر.
كان الملك فيصل في الصيد، مثله في كل شيء، مثال البساطة والاتضاع، ينبو عن الكلفة كما ينبو عن الأبهة، فيخرج بعض أصحابه يرافقهم واحد أو اثنان من الحرس الملكي، وكلهم في المطاردة إخوان، لا تفاضل بينهم بغير المهارة. وأما الذين كان يؤثر اصطحابهم فمنهم رئيس التشريفات تحسين قدري، ومستشار الداخلية السر كينيهان كورنوالس. والاثنان إذا حدثا عن الملك الصياد لا يغمطان حقه كما أنهما لا يسترسلان في الغلو، فالسر كينيهان يعترف بمهارة الملك في الإصابة، ولكنه يبسم إذا سئل عن قوة الملك في المطاردة في المشي.
أما تحسين فهو يعترف بأنه لا يستطيع أن يماشي الملك، وأما أنه دونه في الصيد، في الإصابة، فمسألة فيها نظر. كذلك كانا يفاخران الملك فيسمع ويبتسم، ثم يمشي مجدا وراء غزلانه، فيدهش في العدو رفيقه الإنكليزي، وإذا عرض له سرب من الحبارى، يجيء بالدليل على مهارته في الإصابة، فيدهش الرفيق الآخر.
على ذكر الصيد أقول إن الملك فيصلا خرج فيه عن تقاليد السلف، وعن عادات العرب التي لا تزال متبعة حتى في العراق؛ فقلما كان يستخدم الصقر في صيده، وقلما كان يصيد بالسهام الخنزير البري. ولو أنه رغب بهذا النوع من الصيد، لما أظنه كان يتشبه ببعض الخلفاء الذين كانوا يحملون سهاما في الحرب وفي الصيد نصالها من ذهب.
أما جود الملك فيصل عند العودة من صيده، فقد كان يبعث البهجة والسرور في بيوت الكثيرين من أصدقائه في بغداد.
المناقب
ما جاء في المعقول والمنقول أن الأخلاق النبوية تتجلى كلها في أحد من سلالة النبي، وإن كان نسبه خلال ثلاثمائة وألف من السنين سليما صافيا، وقد يعد ذلك من الحسنات في هذا الزمان . ما كان فيصل مثلا يطمح إلى النبوءة، أو يدعي شيئا من الوحي. وما كان قسطه من الفيض الروحي أو النور الإلهي كافيا ليفتح له تلك الأبواب التي تقفل دون سواه من الناس، فتجعل الرؤيا لديه حقيقة راهنة، والخيال أمرا ملموسا.
ما تراءى النبي محمد مرة لفيصل - على ما أعلم - كما تراءى لأخيه الملك علي ذات ليلة في المدينة، وهو ذاهب إلى الجامع للصلاة. كان علي يومئذ أمير المدينة وأسير محنة كادت تهد قواه وتذهب برجائه، فيمم الحجرة النبوية، يستغيث بالرسول ويستنجده، فلاقاه الرسول في الشارع - رأيته والله كما أراك الآن، يا أستاذ - وقال له: «مكن إيمانك بالله يا علي، ولا تقنط.»
أما الملك فيصل فما رأى النبي مرة في حياته الكثيرة التجارب والمحن، وما كان - على ما أعلم - يستغيث بالنبي، وما سمعته مرة يحلف باسمه، وقد تنازل فيصل عن الشارة النبوية، أي ذؤابة العمامة، بل العمامة نفسها، وتنازل كذلك عن بعض حقوق المسلم وتقاليد الشريف؛ فقد اقتصر في زواجه على واحدة، ونصر المرأة في بعض حقوقها، وكان يكرم الشعراء؛ فلا يقول إنهم في واد يهيمون. وما كان يستعجل ضيوفه في الرحيل، فيردد الآية: «فإذا طعمتم فانتشروا». ولا كان يرغب بالحرب والقتال، فقد أصلى خصومه النار مرة، وكان بعد ذلك مسالما، وعاملا لتأييد السلم في العالم.
وقد كان فيصل شريفا شريفا، لا ينزع إلى القوة في التملك، كبعض الأشراف، ولا يدعي ما ليس له، وكان تقيا نزيها متواضعا، لا يشرب الخمر، ولا يقامر، ولا يجنح إلى البدع في الملذات. ولو كان فيصل من الذين يغالون في تقديرهم النسب النبوي، فيبرز شعورهم به إلى حد الإساءة إليه، لكان في أحكامه مستبدا مثل أبيه، وفي تشبثاته شاذا مثل الإمام يحيى، ولو كان مواظبا على السنة مثل ابن سعود لكان أمره في أكثر الأحايين مستغربا مضحكا.
كان فيصل مسلما سنيا حنفيا صادقا وكفى، بل كان لبلورة إيمانه سطوح متعددة، تنعكس فيها أنوار المذاهب الإسلامية الأخرى انعكاسا صافيا، وقد كنت أشعر في محادثته أن لعقيدته الدينية بطانة من التساهل الذي يتخلله الاحترام لسائر الأديان في العالم. هو رجل من رجال العالم الكبار، وهو مسلم يندر مثله بين حكام المسلمين؛ فقد كان في تعقله واعتداله مثال الحكمة العالية، وفي رحابة صدره وتساهله مثال الحب والإخلاص.
ذكرت في مطلع الكتاب أن فيصلا تربى في المضارب تربية عربية بدوية، عملا بتقليد للبيت الهاشمي يراد منه أن ينشأ أبناؤه أصحاء أشداء، أن يخشوشنوا مثل البدو، ويتشربوا في البادية روح الحرية والإخاء، نعم التقليد، ولكن إقامة فيصل في الأستانة سبع عشرة سنة، في بلهنية العيش، وفيما يجوز أن يدعى الأسر، أفقدته - على ما يظهر - ما اكتسبه في البادية من القوة والنشاط، فما كان فيصل مستمتعا على الدوام بتمام الصحة والعافية، وأن تلك القوة التي كانت تمكنه من الاستمرار في جهاده السياسي إنما هي قوة عصبية ومعنوية، منشؤها الإرادة والعزم، فقد تحمل في الحرب ما يتحمله البدو من مشقات البادية، وبدت قواه هذه في أشد مظاهرها وأروعها، ولكنه كان يؤثر الرأي على الشجاعة، ويقول: «النصر يبدأ بالإدارة والتدبير.»
الملك فيصل الأول في الكوفية.
الملك فيصل الأول كما رسمه الفنان أوغسطس جان وقد اشترى هذه الصورة متحف برمنغهام.
يصح أن نقول إنه ما كان من رجال الحرب الكبار، بل كان أولا وآخرا رجلا مفكرا، والفكر صنو السلم. وقد كان الملك فيصل في حبه وجهاده من أجل السلم، شجاعا غير هياب، وشهما كريما لا يذكر الحساب، لولا ذلك لكان اضطرم الدم العربي القرشي مرارا في عروقه، وخصوصا يوم خانه السياسيون وانقلب عليه المعاهدون، فحمله على عمل يبرر ولا يحمد فيه البلاء لخصوم العرب وللعرب أنفسهم، علي وعلى أعدائي، ولكنه كان يأبى أن يكون مدمرا.
إن التاريخ حافل بالنكبات التي منشؤها عنجهية الملوك وحماقتهم. أما فيصل فقد كانت الحماقة بعيدة منه بعد العنجهية، وكان حب الذات عنده رمزا لحب أسمى، رمزا لحب قومي، رمزا لحب أمته العربية. في سبيل هذا الحب ، وفي سبيل السلم المؤيد له، كان يتحمل فيصل ما لا يتحمله رجل آخر في منزلته. وكان يكظم الغيظ، وينكر النفس؛ توصلا إلى أغراضه.
إنما هذا شأن الرجل الحكيم الخبير، البارع في معالجة الأمور المتوقدة، وفي حل المشاكل المتعقدة، بل هذا شأن الرجل العظيم في السياسة. ومما لا ريب فيه أن فيصلا كان من أعظم السياسيين في الشرق الأدنى، ومن أكبر العاملين من أجل السلم في العالم؛ يكفي ما قام به لتوطيد الصلات السلمية بين العراق الجديد والبلدان المحيطة به؛ فقد تغلب بالحكمة والشهامة، وبالإخلاص ليقينه ولوطنه، على النزعات الحربية في جارات العراق الثلاث: تركيا وإيران ونجد.
أجل، إن في مصالحته لحكومات هذه البلدان، وفي زياراته لأنقرة وطهران وباريس، وفي مساعيه الموفقة لتوثيق عرى الولاء بينه وبين خصومه بالأمس، بينه وبين ابن سعود ومصطفى كمال ورضا خان والفرنسيس أنفسهم، إن في هذه الأعمال الجليلة ما يستوجب الكثير من ترويض النفس، ومغالبة الأهواء، ومن الشهامة وكرم الأخلاق. إن فيها ما يوجب علينا أن نقرن اسمه بأسماء شتراسمان وبريان ورمزي مكدونلد، بل إن فيها ما كان يؤهل ملك العراق لجائزة «نوبل للسلم».
حدثني فيصل عن اجتماعه بعبد العزيز ابن سعود قال: «لو كان الخلاف خلافا شخصيا بيني وبين ابن سعود، وتلاقينا واحتربنا، وقتل أحدنا، وانتهى الأمر؛ فلا بأس. أما أن نجر العرب لقتل العرب من أجل أنفسنا؛ فهذا عيب والله، بل إثم كبير! نحن الملوك والأشراف أمناء على مصالح هذه البلاد العربية؛ فمن العيب، بل من الإثم، أن نسلك المسلك الذي لا تستقيم فيه غير مصالحنا الخاصة؛ لأننا ملوك وأشراف. من العيب أن نستخدم قوة الأمة لتعزيز مقام ملك أو مقام شريف فيها. وعندما تتغلب مطامع الملك الشخصية على وطنيته يحق للأمة إذ ذاك أن تحاسبه، بل ذلك واجب عليها.»
عندما اجتمع فيصل وعبد العزيز على المركب الحربي البريطاني في خليج البصرة، في شهر شباط سنة 1930، سلما سلام الإخوان، وقبل الواحد منهما الآخر على الطريقة العربية، ثم قال فيصل لعبد العزيز: «لست الآن فيصل بن الحسين يحدث عبد العزيز ابن سعود، إنما أنا ملك العراق وأنت ملك الحجاز ونجد. فإذا كنت تنظر إلي في اجتماعنا هذا بصفتي الشريف فيصل بن الملك الحسين، الذي كان بينك وبينه ما كان، فإنك تحتقرني، ولكن اجتماعك هو بفيصل ملك العراق، وبصفتي هذه أحب وآمل أن تكون بلاد نجد والحجاز سعيدة، وأن تكون على ولاء وبلاد العراق.»
ومما قاله بخصوص المخافر التي بنيت قرب الحدود بين العراق ونجد: «ما بنيناها عداوة لأهل نجد بل مساعدة لكم، يا أخي. بنيناها لردع القبائل، قبائلكم وقبائلنا، عن الغزو والتجاوز، فإذا جاء الإخوان صائلين نردهم خائبين، فيتعودون الطاعة للنظام، فيهون عليكم إذ ذاك ضبطهم. وكذلك أقول في قبائل العراق، المخافر هي لمصلحة بلادكم - والله - وبلادي.»
الملك عبد العزيز: «أقسم بالله أن ليس في قلبي ذرة من البغض أو من الاحتقار لفيصل، وما فيه لفيصل غير الحب والإكرام، والله وبالله ورب البيت، جئت تابعا قلبي إلى هذا الاجتماع، وإني أسأل الله أن يوفقنا جميعا إلى ما فيه خير العرب.»
وعندما كان الأمير فيصل ابن الملك عبد العزيز في أوروبا، وعاد منها بطريق روسيا وطهران ووصل إلى بغداد في صيف سنة 1932، رحبت الحكومة به ترحيبا جميلا، وشاركها الشعب بمظاهرات الإكرام والولاء، حل الأمير فيصل ضيفا على الملك، فأدب له مأدبة رسمية، وخطب فيها مطريا الملك عبد العزيز، الزعيم العربي العظيم. وما كان الملك عبد العزيز أقل كرما وإخلاصا؛ فقد أبرق إلى الملك فيصل يقول: «إن عروة الإخاء الوثقى بين أهل نجد والحجاز وأهل العراق هي من فضل فيصل.» إني على يقين أن هذه العواطف المتبادلة بين العاهلين هي فوق السياسة، هي من القلب.
فقد قال لي الملك عبد العزيز، عندما زرته أخيرا في جدة: «إن الملك فيصلا صديق مخلص، وعربي شريف كريم الأخلاق، وزعيم مقتدر حكيم.»
وقال لي مرة وهو يجنح إلى الدعابة: «فيصل يقول إنه يحب أن نزور أميركا أنا وإياه، وكيف نسافر إلى أميركا، وحدنا؟ والحريم، لا والله، النساء هناك سافرات، ونحن متبعون في الحجاب سنة النبي
صلى الله عليه وسلم . نسافر ونترك الحريم، هذا ما يصير. نأخذ الحريم معنا ونحجبهن، هذا صعب والله ... ولسنا من الذين يقولون بهذا الذي يسمونه روح العصر، فنكتفي بواحدة لا غير. إننا متبعون السنة النبوية، نأخذ ما يجيزه النبي ونمتنع عما يحظره، فقد أجاز لنا التمتع بما نشاء من النساء، مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيديكم لغيرنا من حكام المسلمين ما يشاءون، فقد لا يلزم بعضهم أكثر من واحدة ... أما نحن فإننا نتمسك بالحقوق التي يتنازلون عنها.»
قد تنازل الملك فيصل عن حق الزواج بغير واحدة، ولكن الملكة زوجته والأميرات بناتها لا يزلن محجبات، وما كان يستصوب الدعايات الدينية، والسياسة المبنية على الدين؛ أي إنه كان مخالفا للنزعة النجدية الوهابية، ولكنه أذن للمبشرين الأجانب بالدخول إلى العراق. وقد استحسن نبذ الطربوش في تركيا فنبذه في العراق، ولكنه أحجم عن القبعة واستعاض عنها بالسدارة. لقد وقف فيصل إذن بين ابن سعود ومصطفى كمال في بعض الأمور الاجتماعية. وما كان ذلك حرصا على كرامة يخشى أن تذل بالاقتداء، بل عملا بما رآه حقا في مثل بيئته وأحواله؛ فقد شاهدناه مقدما في بعض المواقف الخطيرة، عندما يتوضح السبيل ويتيقن الحكمة فيه؛ كالعمل للسلم ولتوطيد الولاء بينه وبين جيرانه. فما كان هيابا في هذا الأمر ولا اكترث لما قد يكون في إقدامه من المفاداة بكرامته.
كان في الأحوال المريبة والمواقف التي لا يترجح له فيها اليقين، يحجم ويتردد، ويسمع فوق ذلك لكل من جاءه ناصحا مشيرا. ولكنه في الأحوال المتأكدة، وإن تزاحمت فيها الأغراض والنزعات، كان يستقل بعمله، ويمضي لغرضه جازما حازما، فتظهر روح الزعامة فيه طليقة قوية. وقد كانت السكينة من سجاياه الكبرى في كل أحواله، بل كانت الركن الأول لقواه المعنوية والسياسية كلها. السكينة وما فيها من الغذاء للنفس، ومن أسباب السيطرة عليها، هذه هي ناحية من نواحي العظمة في فيصل، فقلما كان يرى في حالة الغضب أو الاضطراب؛ كأنه الأرز من الأشجار، لا تهزه الرياح العاصفة، قال لي أحد وزرائه: «أحب والله أن أراه مرة مغضبا أو مضطربا، وإن غضب مرة فلا يلبث أن يسكن ويروق. لا يمشي مع الغضب إلى النهاية، إلى ما لا تحمد عقباه.»
ومن مزاياه، مع ذلك، شدة الإحساس والتأثر؛ فإذا كان في مجلسه من لا يحب، أو من لا يثق به، كنت تراه منكمشا، متواربا بنفسه، ومقفلا عليها باب السكوت. يفعل ذلك وهو يشعل السيكارة تلو السيكارة؛ أو يلعب بسبحته. رأيته مرة يلعب بزر من أزرار صدرته كالولد الصغير، كأنه في كل ما ذكرت يغالب النفس المأسورة، المضغوط عليها، فلا تشتعل غيظا. وبكلمة أخرى كان يسوس جواد النفس فيه، الجواد العربي الأصيل، سياسة ماهر مجرب حكيم. بيد أنه كان يخشى في أيام الانتداب الأولى أن يجمح به فيبعده من تلك الحياة الملكية المكربة.
وما كان الإيمان بالله وبرسوله ملجأ فيصل الوحيد - كما قد يتبادر لذهن الناس - بل كان له ملجأ آخر، وقد يكون في بعض أحواله الملجأ الأول؛ وهو الاسترسال في التفكير والتساؤل العقلي؛ كأن يجلس ونفسه، فيطارحها الحديث بسكينته المعهودة، فيقول لها: وما هذا الذي نحن فيه؟ تعالي نبحث هذا الموضوع ونتبحر فيه.
كان فيصل تواقا إلى النور في شتى المواضيع، وكان يجنح كثيرا إلى الشك والتساؤل. «لله ما أكثر سؤالات سيدنا!» قالها ذات ليلة أحد الضيوف. قلت: وما أوسع نطاقها! فمنها سؤالات الطالب العلم، ومنها سؤالات الراغب بطريقة للتنفيذ في شئون الملك، ومنها سؤالات للتسلية، وهو لا يجهلها. إن من حق الملوك الجزية، وعلى كل من يتشرف بمحلس الملك أن يدفعها، وله بعد ذلك أن يفاخر ما شاء.
سألنا مرة سؤالا عن الحروف العربية وهل يمكن إصلاحها مع المحافظة على جمالها، ففتح بابا عسر بعد ذلك إقفاله. كان الشاعر الزهاوي من المدعوين إلى العشاء، فتناول الحديث وشرع يشرح مشروعه أو بالحري اختراعه الذي فهمت منه، وما أظن أن الضيوف الآخرين والملك فهموا أكثر مني، أن ستكون الأحرف العربية ستة عشر حرفا لا غير، وبشكل يمكن من الكتابة بها، من اليمين إلى الشمال، ومن الشمال إلى اليمين، وكان الضحك مسك الختام.
قلما كان الملك فيصل يبدي رأيا واحدا في مسألة من المسائل، بل كان يقلب بها ليتسع مجال التساؤل من نواحيها كلها، فيعطيك هو نفسه رأيين أو ثلاثة آراء فيها؛ مما جعلني أظن أن العقلية الفلسفية السقراطية هي من طبعه. ولو لم يكن سياسيا، لو ظل في مكة بعيدا عن الدوائر السياسية، لكان عالما من علماء الإسلام، له منزلة الغزالي؛ فقد كنت أشعر وهو ينتقل بنا من موضوع إلى آخر أن له رغبة خاصة شديدة؛ هي رغبة العالم الفيلسوف، في مجرد الاطلاع على حقائق الأمور والتبحر فيها.
أما المسائل التي تتعلق بشئون البلاد، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، فقد كان ينظر إليها من وجهة واحدة هي وجهتها العملية، كيف يمكننا أن نعمل بهذا المبدأ؟ كيف تطبق هذه النظرية عندنا؟ وبكلمة أخص - كما كان يقول - كيف نقاوم ما لا يوافقنا من المدنية الغربية ونتغلب عليه؟ كيف التخلص مما هو مضر منها بثقافتنا العربية؟ وما هي الأشياء النافعة لنا؟ وما هي المضرة في ثقافة الغربيين ومدنيتهم؟
تقولون: إنها مدنية مادية، وهل نحن بغنى عن الماديات؟ فإذا سلمنا أنها لازمة لنا - ولا أظنكم تنكرون ذلك - فهل ينبغي أن نتكالب في سبيلها مثلهم؟ كيف يمكننا أن نحسن أحوالنا الاقتصادية ونظل شرقيين؟ هل نتوفق إلى ذلك في اختيارنا النافع، ونبذنا المضر في هذه المدنية؟ هو ذا فيصل في حكمته وفي حيرته.
على أنه لم يكن متسائلا في كل الأمور، وقد كان له من الآراء الوضعية الفاصلة، ومن مواقف الحزم واليقين، ما يسترعي الأنظار: لا ينبغي أن تتناول الأمة دفعة واحدة أكثر مما يمكنها أن تتصرف به، ينبغي أن تكون تشوقاتها الوطنية متناسبة ومقدرتها العملية. الأمر الواقع هو غالبا مكروه، والشرقي لا يعرف به. ترانا نلجأ إلى الدين نغذي به الآمال، أو إلى الشعر فنتلذذ بالخيال؛ يجب علينا أن نروض أنفسنا في مجابهة الحقائق، يجب علينا أن ننظر إلى الحياة مجردة من الزخرف والخيال، هو ذا فيصل الفاصل الجازم، فيصل المعلم، فيصل الزعيم.
إني لأذكره خصوصا في مجلسه، وقد صفت له ساعة من الزمان، فيمدد رجليه ويدعونا أنا والقسطنطين، لمشاركته في التدخين، فيعلم أني لا أحب السيكارة، فيأذن بالغليون، أو يخرج صندوقا من الحشيش ويفتحه قائلا: «دونك والسيكار.»
عندما جئنا ذات ليلة للعشاء وجدناه جالسا يطالع بعض الأوراق، وهو مكشوف الرأس، والسدارة، وهي من لون ثوبه الرمادي، على الطاولة الصغيرة أمامه، وبعد أن انتهى من قراءة ما بيده وضمها إلى غيرها من الأوراق على الطاولة، قلت: «لا نهاية على ما يظهر لشغل جلالتكم.» فقال: «يجيئنا كل يوم شغل يومين.» - «أيعني ذلك أنه يجب عليكم أن تشتغلوا ليل نهار؟» - «إذا اقتضى الأمر، ولكن المعدل عشر ساعات، وأحيانا اثنتا عشرة ساعة.» - «هذا مخالف لنظام العمال.» - «سجلها إذن لهذا العامل الذي لا يرعى نظام العمال ... وما رأيك، يا أمين، في الحكومة البلشفية؟»
عددت هذا السؤال منه مفاجأة جائرة، وقد سأله عرضا، وهو يلبس سدارته، كأن الجواب عليه ممكن ونحن ماشون إلى غرفة الطعام. فقصصت عليه، إذ جلسنا إلى المائدة، قصة كارل ماركس يوم كان مقيما في لندن؛ فقد فكر مرة بالسفر إلى أميركا، ثم عدل عنه قائلا: «لو أنني سافرت لصرت هناك غنيا، ولما تسنى لي أن أكتب كتابي وأؤدي رسالتي.»
ثم قلت لجلالته: «إن البلشفية أو حكومة السوفيات هي أعظم تجربة اقتصادية سياسية في تاريخ العالم، منذ أيام أور وآشور إلى يومنا هذا، وإنها كتجربة جديرة بالاعتبار، فقد يكون فيها الخير الأكبر المنشود، وهي في كل حال لا تخلو من الخير.»
ثم اتخذت خطة الهجوم، ولست أدري الآن بأي أسلوب، وبأية حيلة، انتقلت إلى فن التصوير، وسألته عن صورتيه الزيتيتين اللتين رسمهما اثنان من الفنانين البريطانيين المشهورين لزلوس المحافظ، وأغسطس جان المجدد. وأظن أني أسميت الأول ملكيا والثاني بلشفيا.
فأجاب الملك وهو يبتسم ابتسامة من تذكر شيئا يسر ويحزن معا: «لا يزال الرسمان في لندن، يظهر أن الفنان يريد أن يغتني دون أن يسافر إلى أميركا ... لا، ليس في طاقتي أن أدفع ثمن الرسم الواحد ألف جنيه إنكليزي.»
وما أدهشني ذوقه عندما سألته أي الرسمين يفضل على الآخر، فلما شرحت - بناء على طلبه - الطريقة القديمة والطريقة الجديدة في التصوير، قال: «إذا لم يكن المرء ملما بفن التصوير إذن، لا يدرك محاسن المجددين ولا تروقه طريقتهم؛ العين وحدها لا تكفي كما تقول، والعاطفة مع العين لا تعين، بل تضلل كما هو الأمر في تفضيلي رسم لزلوس على رسم جان.» - «أوليس السرور الناشئ عن النظر والعاطفة والمعرفة معا أكبر وأثبت من السرور الناشئ عن العاطفة والنظر وحدهما.» - «هذا صحيح، يا أمين، وبودي لو كنت عالما بشيء من الفن؛ لأني أحب الرسوم الزيتية الجميلة، ولكنك رأيت كيف تتراكم الأشغال علي، فأين الوقت لدرس الفنون لنتمكن من فهمها فيزداد سرورنا بها؟ ما رأيك في الدعاية؟» - «كانت شرا لازما من شرور الحرب العظمى، وقد أمست ضربة من ضربات المدنية.» - «يسرني والله أن أسمع هذا منك، يقولون لي: يلزمك بروباغندا. وأنا أقول إنها - وإن كانت مبنية على الحقيقة - من الأباطيل، تذهب كالهباء المنثور، وقبيح بالمرء أن يعلن نفسه.» - «إن لها غير الهباء المنثور نتائج مدهشة، وخصوصا إذا كان القائمون بها من رجال الفكر والفن، المعلن ينفع نفسه في أكثر الأحايين ويزعج الناس دائما.» - «إني أفضل الضرر بدون دعاية على النفع بها.»
قال هذا بلهجة فاصلة صادقة وهو يضع المنشفة على المائدة ويضربها بيده، ثم قال ونحن عائدون إلى المجلس: «فضلا عن ذلك، ليس في ماضي حياتي شيء مهم، ليس فيه ما تسميه مادة صالحة للدعاية. الحقيقة يا أخي، الحقيقة وحدها تكفي، هي تنطق بخير صاحبها أو بشره.» - «ولكن الناس لا يدركون الحقيقة إذا لم ينبهوا إليها.» - «ومن ينبههم إليها؟ الكتاب؟! أكثرهم يقفون بين الحقيقة والناس. الكاتب، الكاتب هو الذي يعرف الحقيقة ويقدمها للناس بأمانة وإخلاص، وعندي أن لا يجوز أن يقدم منها للناس غير ما فيه الفائدة وشيء إذا شئت من الفكاهة، هذا شغل الكاتب.» - «الكاتب الذي يتشرف الآن بمحادثتكم.» - «أسؤال منك هذا أم إقرار؟» - «وهل تأذنون بالاثنين؟» - «يعني أنك تريد التعاون.» - «أولستم الزعيم الأكبر للقائلين بالتعاون ؟»
رفع يديه وقال ضاحكا: «أحسنت التورية.» ثم جلس متبصرا «وماذا تبغي مني، يا أمين؟» - «ما جئتكم مستوزرا ولا طالب امتياز نفط.»
ضحك ثانية، وهو يشعل السيكارة، ويشير إلى علبة السيكار. - «وإني استأذنكم في اختيار المناسب من المواد التي تتعلق بحياتكم الشخصية، وسأتقيد من وجهتي الخاصة بقاعدتكم؛ الحقيقة قبل كل شيء والمفيد الطريف منها لا غير.» - «وهل يحسن الكاتب الاختيار دائما؟» - «لا والله.» - «وهل يستطيع أن يملك عواطفه وأمياله دائما؟» - «ذلك ممكن، المسألة تتوقف على مزاج الكاتب وتهذيبه، وهو في كل حال، لسوء الحظ، ولحسن الحظ، قاضي التمييز.» - «أعوذ بالله من بعض القضاة وتمييزهم.» - «وإن حسبتموني من ذلك «البعض» فإني مصر على التمييز، وطامع برحابة صدركم.» - «الذي يصلح للنشر، يا أمين، والذي لا يصلح.»
وقف عندها مترددا، فقلت: «هو ذا شغلي.»
كانت السبحة بين أنامله يتلهى بها، فتوقف فجأة، وهو يضحك. - «وإني أسألكم فوق ذلك أن تمتحنوني بصفتي قاضي التمييز، قصوا علي قصة فأقول لكم بصراحة إذا كانت تصلح للنشر.»
كان صافي المزاج تلك الليلة، متألق الروح، فرفع السدارة عن رأسه ووضعها على الطاولة، وقال: «سأقص قصة مضحكة ولكن لا لامتحانك، لا والله. كنا بعد الجلوس الأول، أنا والمندوب السامي السر برسي كوكس، مشتغلين في تأليف الوزارة الأولى، فعينا كل الوزراء إلا واحدا حرنا في أمره، بقي عندنا بضعة أشخاص من المستوزرين وليس فيهم من يمتاز عن الآخر بشيء؛ محمد، محمود، أحمد، حمدي - كلهم واحد - من منهم نعين يا حضرة المندوب؟ من منهم تعين يا جلالة الملك؟ حرنا والله في أمرنا، ثم خطر لي خاطر، فقلت للمندوب: «عندي اقتراح، وقد يضحك؛ كن مسلما لدقيقتين، وتوكل على الله، تعال نعمل يانصيب على الوزارة الأخيرة.» وهذا ما كان، كتبنا الأسماء على وريقات، وضعناها في علبة، هززتها بيدي قائلا للمندوب: «قل معي: توكلنا على الله.» ثم سحبنا الورقة الأولى وفتحناها، وكان صاحبها الوزير ... وزير اليانصيب!» •••
اجتمعت ذات يوم في الحارثية بالنحات الإيطالي المشهور بباترو كانونيكا، فسألت نفسي هل وجوده هناك من نعمة «اليانصيب» كذلك ؟ ولم لم يخص «اليانصيب» بصفته نحاتا إنكليزيا؟ أما إبستين فهو من المجددين، وقد يكون مثل أغسطوس جان شغفا بالمال، ولكن هناك في لندن كثيرين غيره يجيدون عملهم ولا يطمعون، وهناك النحاتون الفرنسيس والألمان، بل هناك النحات اللبناني الحويك، فما الذي حمل الملك على تفضيل الإيطالي يا ترى؟
نزا بي القلب إلى البحث والعلم، وسأذيع الآن سرا من أسرار الدولة الإيطالية؛ إن دعاية موسوليني لبلاده تتجاوز التجارة والسياسة، فتشمل كذلك الفنون الجميلة. وهب أن الأستاذ كانونيكا هو صديق حميم للسنيور غراندي وزير الخارجية السابق، فهل يدعوه لمأدبة رسمية تقام لملك من الملوك أو لوزير من الوزراء الأجانب، دون أن يستأذن موسوليني؟ وإن أذن السيد الأكبر فلغرض ما، ولا حاجة إذ ذاك إلى حركة الالتفاف في الحديث، لنصل إلى الفنون الجميلة، فنرفع اسم إيطاليا عاليا في الخارج، ونزيد بثروة أحد أبنائها النوابغ.
وهاكم النحات الشهير جالسا قرب غراندي، في المأدبة التي أقامها موسوليني للملك فيصل وحاشيته عندما زاروا روما المرة الأخيرة، وهل يسيء الأدب إذا ما فاه بكلمة تتعلق بمهنته الشريفة، إذا ما أعرب عن رغبته في تزيين بغداد بأثر من آثاره، يكون موضوعه جلالة الملك، ملك العراق؟ لا بأس بذلك، إنما يا أستاذ كن دقيق الإشارة، لطيفها. لا تجارة في مأدبة الوزارة.
بمثل هذا يمهد رئيس الحكومة الإيطالية السبل لفناني إيطاليا، فيجيء السنيور كانونيكا إلى أنقرة، ليخلد في المرمر والنحاس مصطفى كمال. وبعد ذلك يجيء إلى بغداد ليزين ساحتها الكبرى بتمثال الملك فيصل. أجل لقد كانت المأدبة واسطة التعارف، وكان سلام، وكان كلام، وكان بعدئذ العمل في تماثيل فيصل والسعدون.
استقبلنا الملك أصيل ذاك النهار باسم الفن، وهو مثال الأناقة والذوق، يرتدي ثوبا رماديا خاطه خياط إنكليزي، وقميصا ناعما، وربطة رقبة وجوارب وسدارة كلها من لون ثوبه؛ هو التناسب مجسما. وكان ساعة وصولنا واقفا أمام الأستاذ، على بضع خطوات منه، والأستاذ واقف وظهره للنور، أمام رأس من الطين يكون ملامح الوجه فيه، ووقفت أنا أمام الملك أنتظر السؤالات، فنظر إلى الأستاذ ثم إلي، وقال: «أنا الآن بين فنانين، أعوذ بالله.» - «أوليس خيرا من أن تكون بين سياسيين؟» - «والله صحيح، والله صحيح.»
وكان صفوت الخازن الأمين الرصين، واقفا في زاوية القاعة، مكتوف اليدين، وعلى وجهه مسحة من القلق. «سيتعب الملك من الوقوف.» قال هذا وبادر إلى كرسي قدمه له، ولكن صاحب الأمر في تلك الساعة إنما هو الأستاذ الإيطالي، فهز رأسه عندما جلس الملك، وقال: «واطي، لا يوافق، يجب أن يكون النور على الوجه بخط مستقيم وليس بخط منحدر.»
وقد أطنب في الشرح إكراما للملك فأبعد الكرسي، وجاء صفوت - الحريص على راحة سيده - بطاولة صغيرة، فكان يجلس عليها من حين إلى حين جلسة غير كاملة، فيريح رجلا واحدة من الوقوف.
ما كان فيصل ليرضي الفنانين؛ لأنه كان يتعب في جلوسه أو في وقوفه ساعة، فتبدو على وجهه سيماء الزعج، وقد كنت في ذاك اليوم مساعدا للأستاذ كانونيكا، في شغلي الملك عما كان يزعجه، ولو فهم الحديث لزاد ارتياحه إلى العمل، مع ذلك كان يتقدم في تكوين الوجه بينا نحن ننتقل في المواضيع من بلاد إلى بلاد، وقد ذكرني بأبيات لعمر الخيام في الطيان الأكبر، مبدع الكائنات، وها هو ذا الطيان الأصغر يلطف بإبهامه خطا في الجبين، ويرفع من الخد نتوءا بالسكين، وينقل شيئا من هذه الناحية فيضعه في الناحية الأخرى، ويحفر ويدور ويبني ويحور حتى كاد الوجه يشبه صاحبه، ولكن هناك في نفس فيصل، ساعة اكتئابه وساعة ابتهاجه، ما أظنه يبرز من بين أنامل النحات الإيطالي وسكينه، عندما كان يعدل الخطوط والظلال في الجبين مثلا، ما أدرك شيئا مما كان يشغل الملك، كنا نتحدث في المدنية الغربية المادية، وكان فيصل حائرا قلقا على عادته، لا يدري ما سيكون حظ البلاد العربية منها، هل نستطيع أن نغربل هذه المدنية، فنأخذ قمحها، وننبذ زؤانها؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟
أخرج من جيبه علبة السكاير، فإذا هي فارغة، فمد بيده إلى صفوت ووجهه المنقبض يقول: «إلي بسيكارة، أنقذني.» فأسرع صفوت يملأ له العلبة. «وهل يمكننا أن نحافظ على ثقافتنا، يا أمين، ونحن غائصون إلى الركب في الثقافة الأوروبية؟! وهل يصح أن ننبذ ثقافتنا القومية، ونقبل ثقافة الغرب كلها بحذافيرها؟!»
كان يجب على الملك في تلك الساعة، من أجل الأستاذ كانونيكا على الأقل، أن يجيب على سؤالاته، فيستمر في الحديث. فطاوعته في الاقتضاب، وتعمدت إذكاء قريحته، فقلت: «أحد الجوابين على هذا السؤال هو مصطفى كمال، والجواب الآخر هو العلماء، فاختاروا ما تشاءون.» - «لا العلماء، من وجهة نظري، ولا مصطفى كمال. مدارسنا الدينية قديمة عقيمة. هي مدارس العمائم وللعمائم، تلف وتلف مثل العمامة حول موضوع واحد، ولكننا لا نزال في حاجة إليها، فإذا أبطلناها اليوم وعلمنا أولادنا العلوم الطبيعية لا غير، يصيرون كلهم ملحدين دهريين. الولد المسيحي أو اليهودي تعلمه أمه شيئا من الدين، فتغرس في صدره الاعتقاد بالله، ولكن الأولاد المسلمين لا يتعلمون شيئا في بيوتهم، أمهاتهم جاهلات، وآباؤهم في أشغالهم، وأكثرهم كذلك جاهلون، فيجيء الأولاد إلى مدرسة المسجد وعقولهم فارغة فيملؤها الإمام بقشور الدين. أنا من رأيك أن ليس من الحكمة ولا من الواجب أن تعلم الحكومة الدين في مدارسها، فإذا علمنا دين الإسلام وجب علينا أن نعلم الباقين من الطلاب أديانهم، حتى اليزيديين منهم والصابئة، وهذا غير ممكن؛ لأن العلوم الدينية كلها تستغرق معظم وقت التدريس. أنا من رأيك يا أمين، ولكنني أعدك بأننا سنصلح مدارسنا الدينية وسيصير عندنا أئمة عصريون إن شاء الله! سيتعلم بعض طلاب مدرسة التجهيز العلوم الدينية ويتشربون في الوقت نفسه الروح العلمية العصرية، فيصير عندنا علماء مجددون، وعندما يتم ذلك، عندما نصلح المدارس الدينية، نبطل تعليم الدين في مدارس الحكومة.»
سأل الأستاذ كانونيكا الملك أن يدير وجهه إلى النور، فحدق بناظريه كأنه يتحقق لونهما العسلي، وغرضه الشكل لا اللون، ثم طلب منه أن يغير وقفته، فغيرها وهو يسأل النحات: «ألا تتعب؟»
ثم أمر بالشاي، وأشعل سيكارة، وأعاد سؤاله باللغة الفرنسية: «ألا تتعب؟»
فأجاب الأستاذ وهو يشتغل في اللحية بالإبهام والسكين معا: «إني مسرور جدا.»
وكان الجو يبرد ويقتم، فأحس الفنان وأحسست أنا أن لا بد من شيء يعيد إليه اللمعة والحرارة، فرويت نادرة من نوادر الفنان الشهير وسلر، فسر الملك بها، فعاد النور يتألق في وجهه وناظريه، فهتف كانونيكا بالفرنسية، قائلا: «هكذا! هكذا!» ومرت يده مسرعة من اللحية إلى الأذن ومنها إلى مؤخر الرأس.
الملك فيصل الأول في المعرض الزراعي الصناعي الذي أقيم ببغداد سنة 1932 ومعه أخوه جلالة الملك علي (من اليمين: داود الشلبي، محمد طيب - بين الملكين غازي - جعفر العسكري، نوري السعيد، ثابت عبد النور).
وانتقلنا كذلك في الحديث، مسرعين من لندن إلى الأستانة، فحدثنا الملك عن نفسه يوم كان صفوت العوا المعلم الخاص لأولاد الشريف حسين هناك. ثم قال: «أنا أعرف طعم القضيب وأكثر من الطعم، ما كنت مجتهدا مثل أخي عبد الله، بل كنت متأخرا دائما في العلم وكان معلمنا (هز صفوت رأسه مبتسما) يعلمني أنا هكذا (ضم الملك أصابع يده بعضها إلى بعض وطفق يضربها بكف اليد الأخرى) وهذا صفوت اسأله.» والشيخ الجليل المكلل شعره الأبيض بسدارة سوداء، الضام يديه إلى صدره، الواقف في الزاوية كتمثال للحشمة والوقار؛ أحنى رأسه ثانية وابتسم.
وبينا نحن نتناول الشاي انتقلنا من الأستانة إلى باريس. يظهر أن الفرنسيس، خصوم فيصل بالأمس، هم اليوم جانحون إلى الولاء؛ فقد أدركوا أنهم أخطئوا في صيف عام 1920؛ لأنهم ما فاوضوا فيصلا بدل أن يحاولوا القضاء عليه وعلى آماله، فلو فعلوا لكان أمرهم في سوريا اليوم على ما يرام، ولما كانت الثورة التي جرت على فرنسا الخسائر الباهظة من مال ورجال، وخير برهان على تغير موقفها المأدبة التي أقيمت للملك فيصل بباريس في صيف سنة 1931، والنخب الذي شربه مدير الوزارة الخارجية يومئذ المسيو برثيلو، نخب الملك فيصل، «ملك العراق وسوريا». إن هذا الحدث لا يزال حديث الصحافة وموضوع اهتمام السياسيين العرب والفرنسيس حتى اليوم.
في حديث الملك عن برثيلو نذكر سلفه في الوزارة الخارجية بيشون، وشد ما كان الفرق بين الاثنين. بيشون خصم العرب في مؤتمر فرساي أساء معاملة فيصل وأثار غضبه؛ فعندما سافر من بيروت وحاشيته في الباخرة الحربية البريطانية إلى مرسيليا، استقبلتهم السلطة هناك بأمر يمنعهم من السفر في فرنسا، فأرسلت برقيات الاحتجاج إلى لندن، فجاء الجواب مشيرا على الوفد العربي بالسفر حول الحدود الفرنسية إلى البلجيك، ريثما تتم المفاوضات بين الحكومتين البريطانية والفرنسية، فداروا تلك الدورة وسمح لهم بالدخول إلى فرنسا من حدود البلجيك.
وقد اعترضتهم في باريس عقبات أخرى أقامها بيشون، الذي أنكر على العرب حق التمثيل في المؤتمر، وبذل ما في طاقته ليقفل الأبواب كلها دون فيصل، كان الكرنل لورنس يومئذ مع الأمير، فاستشاط غيظا لسلوك الحكومة الفرنسية، وراح يحتج إلى الوفد البريطاني، فاهتم لويد جورج بالأمر في الحال، وفي أصيل ذاك اليوم قرع جرس الهاتف في منزل الأمير: «وزير الخارجية بيشون يريد أن يكلم الأمير فيصل.» - «تفضلوا، فيصل يخاطبكم.» - «قد منحنا العرب حق التمثيل في المؤتمر.»
كان الخبر قد بلغ الأمير - جاءه به لورنس - وأحسن ما فيه أن العرب نالوا الحق بممثلين بدل الممثل الواحد. فقال فيصل لنا، وهو يروي الحادث في الحارثية: «اغتنمت الفرصة لإدراك ثأري من بيشون، فقلت له: «جاءنا العلم بذلك، وقد علمنا أيضا أن المؤتمر منح العرب الحق بممثلين اثنين.» فما أجاب بكلمة.»
ثم أدرك ثأره مرة ثانية في موقف آخر بباريس، فرمى الوزير الفرنسي بسهم نافذ من سهام التهكم، ذلك عندما وقف في المؤتمر يبسط قضية العرب، فذكر المساعدة التي جاءتهم من الحكومة البريطانية، فقال بيشون متغيظا: «والحكومة الفرنسية، أليس عند الأمير ما يقوله عن مساعدتها العرب؟» فوقف فيصل هنيهة، وفيه نزوة إلى الصراحة، فأومأ إليه الرئيس ولسون مشجعا، فقال: «نعم، قد ساعدتنا الحكومة الفرنسية ببضعة مدافع من زمان نابوليون.» وكانت الضحكة التي زادت بتغيظ بيشون.
وما نجا حتى كليمنصو من سهام فيصل، إلا أن النصل في السهم هذه المرة لم يكن عربيا. «عندما سألني ذات يوم المستر لويد جورج رأيي في المؤتمر، قصصت عليه قصة القافلة وقلت إن دليلها يركب دائما حمارا، فقال على الفور ضاحكا: ومن هو حماري أنا ...؟» •••
كان فيصل يروي الأخبار - إن كان عن نفسه أو عن سواه - بسذاجة جميلة وصراحة صادقة، لا يعتريهما شيء من التحفظ والاستدراك، فيجيء كلامه عفو القريحة دون تعمل ودون تنميق. حدثنا مرة عن أيامه الحجازية عندما كان يخرج وأخوه عبد الله لتأديب البدو: «نحن نعرف البادية، يا محروث، ونعرف مشقاتها ومسراتها.» كان الشيخ محروث الهذال أمير العمارات من المدعوين تلك الليلة للعشاء، وهو الوحيد بيننا في القيافة العربية، وما كان فيصل يهمل أحدا من ضيوفه، فيختار من المواضيع ما يهتم به ويرتاح إليه. - «أذكر أني كنت أشرف مرة على تموين الحملة، فجهزناها بما يلزم من الدقيق والسمن والأرز والبن والسكر والشاي، ثم طلبت شيئا من العدس، وكان الوالد - رحمه الله - يفحص كل شيء قبل الرحيل، وكان قاسيا في أحكامه، قاسيا والله، لا يريدنا إلا مثل البدو في عيشنا؛ فلا يكون لنا ما ليس لهم. فعندما جاء يفحص المونة وقف عند كيس العدس وسألني: ما هذا؟ قلت: عدس. فقال: وهل يأكل البدو العدس؟ قلت: لا. فقال: وهل أنت أحسن من البدو؟! وأمر بأن يعاد الكيس إلى بيت المال، ما أذن لنا بالعدس. ولكن المرء لا يسأل وهو في الغزو، وهذا محروث يشهد على ما أقول، كنا نأكل الخبز معجونا بالتراب - والله - ومخبوزا بالرماد، ولا نبالي. بل كنا نلتذ به كأنه الكعك بعينه.»
ثم انتقل في الحديث إلى التعليم، وقابل بين تربية أولاد المدن والتربية البدوية، وهو يأسف أن الحضر إجمالا لا يدركون معنى شظف العيش وفوائده، «فإذا قدمنا لهم الكعك قالوا هذا خبز يابس، والأنكى من ذلك أن الطلاب في المدارس لا يقبلون بغير الكعك المسمسم. تراني أتكلم بالألغاز، وما هو من شأني. من آفات التعليم اليوم عندنا في العراق أن يكون هدف الطلبة كلهم واحدا، كلهم يتعلمون ليصيروا موظفين في الحكومة، والأولاد يؤمون المدارس الأولية والهدف الواحد - الوظيفة - نصب أعينهم، هذا هو المرض في التعليم عندنا، وقد طالما فكرت في مداواته وأظنني اهتديت إلى العلاج.»
وما العلاج؟ مدرسة تؤسس في العاصمة لتجهيز الطلاب للخدمة المدنية، فتختار الحكومة الموظفين من الحاملين شهادتها، وسيكون طلاب هذه المدرسة من خريجي المدارس الثانوية في البلاد، الناجحين بالفحص الخاص لهذا الغرض، من كل لواء عدد محدود كل سنة أو سنتين.
بعد العشاء استأذن الشيخ محروث الهذال والضيوف الآخرون. وكنت أرى أن الملك تعب وعلى شيء من الاضطراب، بالرغم من أحاديثه الطريفة ومؤانسته، فنهضت أستأذن كذلك، فأومأ بيده أن اجلس فامتثلت.
بعد أن ودع الضيوف انتقلنا في الحديث من التعليم إلى السياسة، فعدنا إلى باريس ولندن، إلى عام 1927، وإلى المعاهدة المشئومة التي ماتت في المهد. وبينما كان الملك يروي آخر أخبارها، دخل الحاجب يعلمه بقدوم رئيس الوزارة السيد نوري السعيد، فاستقبله في غرفة أخرى، وعاد بعد قليل وقد تغير وجهه، عاد فرحا يتألق النور في عينه وفي محياه. وما الخبر؟! لولا ذاك الخبر، الذي جاء به نوري، لخبا نوره، لما نام فيصل تلك الليلة. وكيف ينام والجيش العراقي في خطر؟! ويكفي - وإن كان الخطر مبالغا فيه - أن تتسلح به المعارضة، وتنشط في إسقاط الحكومة.
جلس الملك ونزع السدارة عن رأسه، وهو يحمد الله، ثم أشعل سيكارة وهو يحمد الله، «ما نمت ساعة، الليلة البارحة، يا أمين، ولا الليلة السابقة.» قال هذا، وأخرج من جيبه ورقة بسطها على الطاولة، فإذا هي خارطة مرسومة بقلم الرصاص لناحية كردستان القائمة فيها الثورة. - «ها هنا قرية برزان تحيط بها الجبال، ليس من خطتنا أن نهجم هجوما مباشرا على الشيخ ورجاله، بل هي خطة التفاف، إننا نطوقهم تدريجا، ونحن خلال هذا العمل نفتح الطرق ونعبدها، وقد أسسنا مخافر عسكرية في تلك الجبال الوعرة، ومراكز حكومة في القرى التي نحتلها. إن هذا العمل، يا أخي، هو الأول من نوعه في بلاد الأكراد وفي تاريخهم.»
رسم بقلمه على الخارطة خطا وهميا يمثل نصف دائرة هي الطرق المعبدة، وفيها نقط هي مخافر الجيش ومراكز الحكومة، ثم رسم خطا آخر يبدأ في جبال عقره ويتجه شرقا ، وقال: «علينا أن نتم حركة الالتفاف من هذه الناحية، فندفع بالشيخ أحمد البرزاني إلى الشمال، فيضطر إذ ذاك أن يقبل شروطنا أو يلجأ عند الحدود إلى الأتراك.»
1
كنت أشعر، وفي القلب انكماش، بأننا عدنا إلى الحرب العظمى ندرس الخرائط، ونتبع حركات الجيوش. بعد أن رسم الملك الخطة على خارطته قال: «ولك أن تسأل عن الخبر الذي أقلقني وحرمني النوم منذ يومين؛ في الساعة السابعة مساء، جاءتنا برقية تقول إن جنودنا نحو ألفين تقدموا في مضيق زازوك - ها هو - واحتلوا القرية، ولكن البرقية التي وصلتنا في صباح اليوم التالي تقول إن العصاة استولوا على الحملة، وإن المكارين خلصوا بغالهم، بعد أن تركوا أحمالها للعصاة وفروا هاربين، ثم جاء في البرقية الثالثة الخبر الأسوأ؛ عاد رجالنا ليخلصوا الحملة فوجدوا رجال الشيخ في الأماكن التي كانوا قد أخلوها؛ أي إن العصاة استولوا على قمم الجبال، وبات جيشنا في الوادي بخطر، كأنه في شرك، ومنذ ذاك الحين ما جاءنا خبر. تصور حالتي يا أمين، هل محق الجيش، وما بقي واحد منه يبعث إلينا بالخبر؟ ما نمت والله الليلة البارحة، وفي هذا النهار كله، في هذه الساعات السود، تراني أحاول الابتسام وأستقبل الضيوف وأستمر في العمل، كأن الأمور في أحسن حال، هذا شغل الملك يا أمين، ومن يغبطني عليه؟! وإنما الله سبحانه وتعالى يمدنا بالصبر والقوة، لنظل واقفين على الأقل موقف الدفاع في هذه الحياة، ويفتح لنا من حين إلى حين باب الفرج، كما فعل الآن سبحانه وتعالى؛ فقد انتصر جيشنا على العصاة، واسترد القسم الأكبر من الحملة.»
لقد حاولت في هذا الفصل أن أقدم للقارئ صورا قلمية تجمع بين الظاهر وبعض ما تراءى لي من الباطن، فيحيط بمناقب الملك فيصل إذا ما تأملها، ويدرك شيئا من السر في عظمته، لا يمكنني أن أقول إن هذه العظمة كانت كامنة فيه حتى في تلك الأيام التي انتهت بنكبة دمشق، ولا أقول إنها ثمرة التجارب والمحن، فإن رأس السر في العظمة البشرية لا يزال غامضا.
بيد أن في قصصه وأخباره منافذ للنظر لا تنكر قيمتها، ولا يخفى جمالها، وسأختم هذا الفصل بما أحسبه أجمل هذه القصص؛ فهي تريك نفس فيصل في جمالها واتضاعها، في صدقها وسلامة طبعها، في حالتي الكدر والسرور. سألت الملك ذات ليلة أن يخبرني بما يحسبه أشأم أيامه وأسعدها في عهده العراقي؛ أما أشأم الأيام يوم الجراحة ومجيء السر برسي كوكس بذلك الأمر ليمضيه - الأمر بنفي الزعماء الوطنيين - فقد أسلفت ذكره في الفصل الرابع، وهاك قصة أسعد الأيام: «كنا في الأستانة نذهب مع الوالد لنسلم على السلطان، فندخل ردهة العرش مكتفين محنيي الرءوس، فنجثو أمام الباديشاه ونقبل يده، ثم نرجع بضع خطوات مواجهين العرش، ونقف ساكتين، وبعد ذلك نخرج كما دخلنا، والقلوب تنبض بالخوف - والله - والخشوع. ولت الأيام، وولى السلطان، حاربنا الأتراك وانتصرنا عليهم، ثم رجعت إلى الأستانة وأنا ملك العراق، وعندما وصلنا إلى حيدر باشا قادمين من أنقرة، كان في انتظارنا عند المرسى مركب بخاري، هو اليخت الذي كان للباديشاه، فأقلنا إلى غلطة.
وعندما نزلنا في الشاطئ الأوروبي، رحنا نزور القصر، قصر طولمه بغجه، القصر الذي كنا ندخله خائفين مرتعبين، بين صفوف من الجند، لنقف مثل العبيد أمام الباديشاه، فدخلناه هذه المرة بسلام، وكانت الأروقة والقاعات كلها خالية خاوية. أما ردهة العرش، فقد هالني فراغها عندما وقفت في الباب، ولكن العرش، العرش الفارغ المهجور، لا يزال فيها. فمشيت إليه هذه المرة بخطوات ثابتة، وصعدت درجاته سامد الرأس، وجلست في الكرسي! وكان سروري والله عظيما، فحمدت الله رب العروش، مشيدها وهادمها، وقلت لنفسي: لقد أدركت ثأرك اليوم.»
نحن وهارون الرشيد1
وكان الناس محتشدين حول الساعة العظيمة - الأعظمية - التي صنعها أحد أبناء البلدة المشرفة باسم الإمام الأعظم؛
2
لتعرض في معرض الزراعة والصناعة ببغداد، وكانت الساعة قائمة في باحة المعرض الكبرى، فوق قاعدة عالية من الحديد، وهي تردد نبأ الزمان - أيامه وساعاته ودقائقه - وتبشر العراق بعهد جديد.
والناس متلعون، والعيون منهم محدقة، بهذا الأثر الصناعي العربي البغدادي الأعظمي، والكل معجبون به، هذه الساعة مفخرة المعرض، بل مفخرة العراق. ومن ذا الذي يقول إن العقل العربي عقيم لا يحسن الاختراع، إنها بيت القصيد في هذا المعرض. وقد قال أحد الشعراء: إن صانعها عبقري متحدر من أجداد عبقريين. وقال الآخر: وما أدراك، قد يكون من سلالة ذلك العربي الذي صنع الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى عاهل الفرنجة شارلمان.
إنه لشاعر بعيد الخيال، ولكنه ما علم أن الخليفة هارون الرشيد كان في تلك الساعة واقفا مثله، وقريبا منه، بين المتفرجين. وقد كان مع الخليفة شاعره أبو النواس، والملك فيصل، وكاتب هذه السطور.
أربعة متنكرون في زي التجار أموا المعرض في تلك الليلة متفرجين متنزهين، وكل واحد منهم طلق المحيا، طليق عنان النفس، يروم من الزمن ساعة ولا كالساعات، تعود فيها الحياة إلى صفائها الأول وطهرها القديم، وكان فيصل طروبا في اجتماعه بهارون، وهارون مبتهجا بلقاء فيصل.
وقفنا عند الساعة الأعظمية، ونحن مثل غيرنا هناك معجبون بدقة صنعها، وضخم هيكلها. ولكن الخلفية هارون هز برأسه، وقال: «كأن رقبة الصانع من الخيزران، أويظن أن رقاب الناس تمط لتصير كرقاب الجمال؟ وهل أفك رقبتي - بارك الله فيك - لأدرك مصير الزمان؟ أين التناسب يا فيصل بين الساعة وقاعدتها؟ هذا نقص في الصناعة وخلل في الفن، ما كان أهل الصناعات والفنون في أيامنا يقترفون مثل هذه الذنوب، بل كانوا يرعون قاعدة التناسب والانسجام. وكنا - بارك الله فيك - إذا أخل أحد بها ننبهه ونهديه، وإذا استمر في فعلته نقصيه. كنا ننشد الكمال فيما نصنع ونخترع، وإن كان قليلا. ولا عجب إن بدت أعمالنا حقيرة في هذا الزمان. إلا أننا، على قلة بضاعتنا، كنا ننشد الكمال - ما تسمونه اليوم المثل الأعلى - في كل شيء منها؛ إي والله المثل الأعلى في كل شيء وحتى في التهتك. لولا ذلك، بارك الله فيك، لما قربت مني هذا الخبيث، الذي يتدحرج في أموره من تحت إلى فوق.»
فانتفض أبو النواس وقال: «ولولا ذلك لشنق مولاي هارون نفسه. أفلا تذكر - أطال الله عمرك - ما قلته لي يوم عدت بعد غيبة في الحانة: «شهر في الحانة، يا خبيث!» إني أذكرك بما قلت مع بنت الساقي ورفيقاتها، خير من سنة في القصر مع المعتقات من الحريم.» - «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومن تهتكك، أيها الأثيم.» - «وما تهتكنا - أطال الله عمرك - إذا قسناه بتهتك أهل هذا الزمن؟! قد لا تجد في هذا المعرض أثرا منه. في هذه الجادات المتألقة، وبين هذه الزينات الباهرة، والآثار الصناعية الساحرة، يخسف الحسن حتى في ولدان الجنة. أما إذا خرجت من ها هنا وجلت في المدينة، فإنك لترى العجب؛ هناك في الحانات والمقاهي والمرابع ترى المئات والألوف من تلاميذ الداعي لكم بطول العمر حسن بن هاني.» - «أولم تر في بغدادنا غير هذا يا أبا نواس؟» - «عفوك، سيدي فيصل، إني فيما قلت مفاخر لا مهاتر. وقد شاهدت غير ذلك مما يدعو للفخر والابتهاج أن في هذه البغداد، يا مولانا، من العلوم والفنون ما يحمل كبار علمائنا وفقهائنا على الانزواء والاختباء، وكنا نحن مع ذلك حاملين مصباح العلم والفلسفة. ما شاء الله، ما نورنا إذا قابلناه بنور اليوم غير نور الحباحب، يظهر لي أن كل شيء في هذا الزمان كبير ضخم عظيم، مثل هذه الساعة. العلم والفنون والدعارة، كلها جبارة، إني والله أخشى أن أعيش في هذا الزمان، فإن قلت الشعر قاله مثلي مئات، وإن جلت في الحانة ضعت بين المتخمرين والمستخمرات، وإن قلت يا غلام قالوا كلهم هات هات. حسن بن هاني تدحرج مرة من تحت إلى فوق، في بيت من الشعر، والناس في هذا الزمان يتدحرجون على الدوام ولا يصحون، على ما يظهر لي، ليدركوا حالهم؛ ليعرفوا في الأقل هل هم فوق أم تحت ... والمزلقات والزلاقات كلها من عند أولئك الفرنجة، الذين كانوا في زمانك يا مولاي مطمورين بالجهل، كانوا البرابرة وكنا المتمدنين. أما اليوم - الله، الله! - هم الأساتيذ في العلمين والمسيطرون في الخافقين.»
كنا نمشي الهوينا، والأنظار منا تسيح بين المتفرجين، وتقف هنا وهناك عند الآثار المعروضة، بينما كان أبو النواس يحدث ولا يبالي، كأنه يخطب في الحانة لكيلا يسمع أصوات الناس، وما أدهش الخليفة فيما قال ولا أدهش الملك ، بل كان الاثنان عندما وقف عند «العلمين» و«الخافقين» يتحدثان في موضوع آخر.
فسمعت هارون يقول لفيصل: «لو كان للفرنجة في أيامي جزء صغير مما لأبنائهم اليوم من العلوم، لفتحت لهم بلادي، وقصري، وقلبي.»
فقال فيصل: «فتحت قصورك، وفتحت قلبك للبرامكة؛ ورأيت ما كان منهم.»
بهت هارون، ونظر إلى فيصل ملوما، فقال: «سامحك الله، سامحك الله، أما وقد ذكرت البرامكة فسأصارحك في أمرهم؛ كان البرامكة في الملك أنوار العدل والحكمة، وكانوا في قصورهم من أبناء الغرور والحماقة، نقلوا الحكومة إلى قصورهم، وطمعوا ببلوغ ذرى البذخ والكرم والمجد، ظنوا - بارك الله فيك - أنهم يبارون هارون ويفوقونه، وكنت في بادئ الأمر أقول: دعهم ينفقون في ملكنا ما جاءهم من خراجنا. ولكن، إذ استفحل أمرهم، أدركت خطئي. هذا، بارك الله فيك، ما كنت أقوله وأنا الخليفة الرشيد.
أما الآن، وأنا هارون بن المهدي فأقول: أنكرت يومذاك حكمتي، وما كنت يا أخي فيصل إلا بشرا، فنزا بي القلب - بارك الله فيك - إلى ما نظنه واجبا لإعزاز الكرامة البشرية التي تسترقنا. وترددت والله وتحيرت، وقلت غير مرة لنفسي: كن رشيدا، الصبر أجدر بك، والنصيحة أولى. فحاورتني النفس قائلة: إنهم من أساطين الحكمة والعدل في الملك، فهم في غنى عن النصيحة، يجب عليهم أن يكونوا في بيوتهم حكماء، فلا يجعلوها مقر الحكم والسيادة.
البرامكة - بارك الله فيك - نصبوا المشنقة لأنفسهم، وأنا الخليفة هارون الرشيد شددت الحبل. ومع ذلك أقول لك يا فيصل إني نادم على ما كان، ولو كان لي أن أجلس مرة أخرى على عرش بغداد لكنت أرحب بكل أجنبي ذكي نشيط، على شرط ألا يتدخل في السياسة، وأن يحترم شرائع البلاد، وأن يروض حريمه على الصبر والعفة، أو يدخلهن حلالا في دين المسلمين ... إن في الرجل المتعلم، العامل المجتهد بركتين؛ بركة لنفسه وبركة للملك. وإن في الرجل الجاهل الخامل الكسول القنوع لعنتين؛ لعنة تلزمه، ولعنة تلحق بالملك وبالأمة.» - «في كلامك يا أخي هارون كنوز من الحكمة، وإني منتفع بها ونافع لأهل العراق إن شاء الله، ولكن الأجنبي في هذه الأيام يحترم الشرائع أكثر من الوطني، أتدري السبب؟ إني أصارحك يا أخي كما صارحتني، الأجنبي يحترم الشرائع؛ لأنه هو الذي يسنها، فهل كان البرامكة يسنون الشرائع في أيامكم؟» - «لا والله، إلا بعض القوانين، وبمشورة الخليفة وإرادته.» - «وهل حاولوا أن يقتلوا الثقافة العربية بنشرهم الثقافة الفارسية في البلاد؟» - «بل عكس ذلك، الثقافة العربية - بارك الله فيك - كانت في أيامنا الثقافة العليا، الثقافة المنشودة في كل الأمم، والمفاخر بها في كل الأمم.» - «ولو حاول البرامكة أن يسنوا شرائع البلاد ويستقلوا بالعمل، ولو حاولوا أن يقتلوا الثقافة العربية بنشرهم الثقافة الفارسية، ولو كانوا يجيئونك اليوم بعد اليوم قائلين: «امض يا هارون هذا الأمر.» و«انشر يا هارون هذا البلاغ.» ثم يدعونك إلى قصورهم ويأدبون لك المآدب؛ فما كنت تفعل يا أخي؟» - «واحدا من أمرين؛ إما أن أنتقل إلى الحانة فأقضي فيها بقية أيامي أنا وأبو النواس، وإما أن أنصب المشنقة للبرامكة بيدي قبل أن يصيروا أصحاب الأمر والنهي في البلاد. ولا تنس، بارك الله فيك، أني ما غمدت السيف مرة - سيف الحق - سيف النبي عليه السلام؛ لقد كان دائما مسلولا.» - «وما قيمة السيف يا أخي في زمن الدبابة والطائرة؟!» - «فقهت - بارك الله فيك - فقهت معناك، لكل أجل كتاب، وكتاب هذا الزمان العلم، بل العلوم الطبيعية والفنية، إنك على حق يا فيصل، إنك على حق، وإن ثروة العقل لأكبر الثروات وأضمنها، ولكن أجدادنا علمونا أن نحترم العلم، ونكرم النبوغ، إن كان عربيا أو عجميا، وقد عملنا نحن بما علم الأجداد، أليس الأمر كذلك يا أبا نواس؟»
قال هذا ملتفتا، ثم وقفنا كلنا مدهوشين، أين أبو النواس؟! لقد أضعناه، فقال الخليفة: «من عادته أن يختفي ثم يظهر، أنا أعلم الناس بأمره هو قافية شاردة، وقاه الله شر القوافي ... أعود إلى ما قلت، فهل كنت أصبر على هذا الخبيث، أبي النواس، وأتحمل شواذه، لو لم يكن شاعرا مجيدا، وعبقريا فريدا؟»
وقفنا أمام كشك يباع فيه التبغ، صاحبه شاب في ثوب إفرنجي وسدارة، وبينما كان فيصل، وقد فتح علبته فوجدها فارغة، يشتري حاجته من السكاير، سأل الخليفة الشاب رأيه في ملك العراق.
فقال وهو يبتسم: «هو أحسن ملوكنا.»
فقال هارون لفيصل: «ومن كان قبلك؟ إما أن هذا الفتى أبله، وإما أنه ذكي ظريف.»
ثم وجه إلى الشاب سؤالا آخر: «هل الملك فيصل مسلم سليم العقيدة تقي؟» - «وهل أنا إمام لأعرف هل عقيدته سليمة أم فاسدة؟! إما أنه تقي، فعندنا من هم أتقى منه، وعندنا من هم دونه. الكفار يملئون البلاد - لعنة الله عليهم - ولكن جلالة الملك يصلي الجمعة في الجامع، ويصوم رمضان أو بعضه، ويحسن إلى الفقراء وإلى من يحتاجون إلى المال لتعليم أولادهم، وبعد ذلك ... ألا يكفي؟»
فقال فيصل: «وماذا بعد ذلك، قل لنا بالله عليك.» - «لا والله لا علم لي بشيء محقق، وإن من الظن لإثما.»
وقف عندها ليعنى بحاجة رجل آخر ثم استأنف كلامه: «أظنكم غرباء، لهجة الشيخ بدوية، ولكنها غير عراقية، هي أقرب إلى لهجة أهل الحجاز.»
فقال هارون: «إنما أنا حجازي، والرفيقان من بلاد الشام. قل لنا الآن ماذا يقول أهل العراق في ملكهم فيصل؟» - «يقولون إنه كان أول عهده، منذ عشر سنين، مسلما تقيا زاهدا يحفظ الشرع ويرعى التقاليد، لا خمر في القصر، ولا مطامع دنيوية، ولا مكاتيب سرية، ولا قيل وقال.»
رمق هارون فيصلا بلحظة فيها غمزة، وسأل بائع التبغ سؤالا آخر، فقال متبرما: «اعفوني بالله عليكم، أنا لست من حزب المعارضة.»
استأنفنا السير، واستأنف الخليفة الحديث، فقال: «إن الفتى لنجيب وإنه لأديب، وقد ذكرتني كلمة قالها بمسألة مهمة يا فيصل، استرع لها نظرك، هي مهمة وهي مزعجة، ولكنك سيد البلاد - بارك الله فيك - وقطب من أقطاب الحكمة في زمانك، فوجبت عليك القدوة، ووجب على الرعية الاقتداء، يتغير كل شيء في الحياة، يا فيصل، إلا أولية في الرجل والمرأة؛ فالرجل يظل رجلا، والمرأة تظل امرأة، إلى آخر الدهر والصلة الجنسية تظل هي هي، مهما تبدلت الشرائع، وتلطفت النزعات والنزوات، وليس بين الحكماء والأنبياء من أدرك هذا السر إدراك نبينا عليه السلام، ولا حاجة إلى أن أذكرك بالآية.
الملك فيصل الأول ومعه أخوه جلالة الملك علي وربندراث طاغور، ويظهر في الرسم جعفر العسكري ونوري السعيد.
قد يكون لبعض المسلمين - بارك الله فيك - أسباب شخصية أو مالية أو صحية في احتذائهم حذو النصارى، أو هي «الموضة» في هذا الزمان - زمانك يا فيصل - أن يكتفي المسلم بواحدة شرعية، ويسلك مسلك النصارى في سد الفراغ. قبيح بنا، نحن المسلمين، أن نأتي الأمور من غير أبوابها الشرعية، وخصوصا أن في شرعنا ما ترتاح إليه الحكمة البشرية، وتتبجح فيه الأماني الطبيعية؛ لذلك أقول: خير للمسلم أن يستمتع بحقه كما هو في الآية، وينزه نفسه - بارك الله فيك - عما دق ورق من أساليب الزنى عند النصارى، هذي هي نصيحتي لكل مسلم، وخصوصا لملوك المسلمين، هي نصيحة خبير مجرب، بل نصيحة من يستمد حكمته من شمس الإسلام، من حكمة سيد البشر عليه السلام، ولا تنسوا حتى وما ملكت أيديكم ... إن بي شهوة للقهوة.»
دخلنا المقهى فإذا هو حافل بالناس في شتى القيافات، تكللها العمائم والعقل والطرابيش والسدارات وبعض القبعات، فجلسنا إلى طاولة صغيرة نحن الثلاثة، فصفق الخليفة كفا على كف صفقة خفيفة، أولا وثانيا وثالثا، فقال له فيصل: «نسيت أنك في مقهى.» وضرب الطاولة بعصاه، فجاء الخادم مسرعا، فقال هارون: «ونسيت أن تقول إننا في زمان لا يفهم أهله بغير العصا.»
كان جالسا إلى جنبنا شيخ جليل بهي الطلعة، كبير العمة، أبيض اللحية، ومعه غلام أمرد مكحول العين، يرتدي بزة من الدمقس، ورأسه مكلل بعقال ضخم عراقي، فألقى الخليفة عليه السلام، وتبادلا بعد التحية بضع كلمات عن المعرض - زين والله زين - أطال الله عمر جلالة الملك!
الخليفة :
مجدد عهد الرشيد؛ رشيد زمانه.
الشيخ :
ليت للمسلمين خليفة مثل هارون.
الخليفة :
وهل كان يهتم هارون بالزراعة اهتمام الملك فيصل؟ وهذا المعرض، لو كان لهارون أن يشاهده لفضله على أبهة الملك، ومجد الخلافة.
الشيخ :
زمانه غير زماننا.
الخليفة :
أوليس فيصل ملكا عظيما؟
الشيخ :
إن الله سبحانه وتعالى يوزع نعماءه على الأمم بقدر استحقاقها، فلو استحق العراق لكان مليكه خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين مثل الرشيد والمأمون. أهل العراق، وما أدراك ما أهل العراق، يلزمهم ملك قوي مقتدر، قطاع رءوس. والله يا أخي لو قطع الملك فيصل بضعة رءوس في بغداد، لقال الناس «هذا وربك ملك.» ولخافوه واحترموه وأكبروه، أما أنه ديمقراطي فذلك لا يفيد. وأين نحن من الديمقراطية؟! يمر الملك - أطال الله بعمره - في أسواق بغداد، فلا يدري أحد به، وإذا عرفوا سيارته لا ينهض له أحد. فلو أنه يخرج في موكب ملكي، تتقدمه وتتبعه ثلة من الجنود، على خيول مطهمة، لكان الناس يقفون مسلمين إكراما وإجلالا، ولكانوا يدركون ما عليهم من الواجب ويشعرون بشيء من سطوة الملك.
أمسك الشاب بجبة الشيخ وهو يتكلم، كأنه يقول له أكثرت الكلام، قم بنا. فنهض إذ ذاك معتذرا، وقال: «إننا مضطرون أن نحرم أنفسنا أنسكم، قد حان وقت الصلاة.»
ومشى الشاب سبهللا، كما يقول أصحاب المقامات، وراح الشيخ يتدعدع وراءه.
ثم جاء الخادم يرفع الفناجين وهو يبتسم ابتسامة تهكم وازدراء، فسأله الخليفة أن يفصح عما في باطنه، فقال: «أنا أعرف هذا الشيخ التقي النقي؛ هو متزمت والله، نقطة القهوة تنقض وضوءه، وهو يقيم الصلوات الخمس كل يوم، ويصوم رمضان، ويزكي ماله، ويحسن إلى الناس، والله العظيم، ولكنه، وقد رأيتم، من ال «بو غلام».»
فقهقه الخليفة وقال للملك ونحن خارجون: «يظهر أن بغدادك، يا فيصل، مثل بغدادي، ولكنها تقية نقية - بلغة هذا الصعلوك - إذا قابلناها بغيرها من المدن في الشرق وفي الغرب، وخصوصا بتلك المدينة التي جاء ذكرها في كتاب النصارى. وهذا أبو النواس، قلت لكم إنه يختفي، ولا يلبث أن يظهر.»
التقيناه في الباب وهو يمسح جبينه بردنه: «عرقت من الطواف، وأنا أنشدكم.» ثم أخبرنا أن ظمأ به خفف خطاه، وجنح هواه. «ما لقيت في المعرض كله غير هذا الذي يسمونه صودا، وهو يحرق اللهاة، ويفسد النيات، هو شراب البله، لا شراب الشعراء.» - «وأين وجدت ضالتك، يا خبيث، ومن هداك إليها؟» - «ملك في صورة إنسان، وهو من الفرنجة، ورب الكعبة. سلمت عليه وقلت: أنت من الكرام. فرد بالعربية: والهمد لله. فضحكت وقلت: وأنا من البصرة، وبي ظمأ لا يرويه ما في هذا المعرض من شراب، فهل أنت من الهادين والمشاركين؟ فقهني والله فقال: وأنا من بلاد دون البصرة، والمثل عندكم يقول: الغريب للغريب نسيب. فقلت: هيا بنا إذن. فأخذ بيدي وهو يردد كلمتي. ما رأيت والله ألطف منه وأظرف. مشينا في زقاق إلى جانب الشارع الكبير، نوره ضئيل، وسره ظليل. ودخلنا حانة فرحب بنا شاب أمرد مثل رفيقي الفرنجي، قيل لي إنه يهودي، ولكنني عففت، والله يا مولاي، عففت. علمني الفرنجي العفة. شربت وإياه الأول والثاني والثالث من الشرابين الذهبي والفضي، وكان إبليس واليهودي ينصبان الشرك لأبي النواس، ولكنني لزمت صاحبي، وخرجنا من الحانة، وتهنا في ذاك الزقاق.»
وكان الخليفة أول من انتبه إلى ازرقاق وورم حول إحدى عينيه. فسأله مستخبرا، فقال وهو يمسح عينه بردنه: «تعثرت في ذاك الزقاق، فارتطم وجهي بالحائط.» - «ولم لا تقول زلقت يا خبيث، الحمد لله أنها في العين الواحدة، لا في الاثنتين. وما كان حالك يا ترى لو كان يحمل ذاك الإنكليزي خنجرا؟ ولكن الإنكليز، على ما أخبرت، لا يحملون السلاح في سهراتهم وسكراتهم؛ فهم يستعملون بدلها الأيدي، مضمومة هكذا.»
ضم الخليفة يده، ودنا بها من وجه شاعره، وأغرق ثانية في الضحك.
فقال الملك فيصل لي: «هذا ملك يعرف كيف يعامل الشعراء.»
ثم أشاح الخليفة بوجهه إلى الملك، وقال: «هل عندك شاعر في البلاط، يا فيصل؟ يلزمك شاعر إكراما لأصدقائك الإنكليز على الأقل.»
كنا قد وصلنا إلى بوابة المعرض، فوقف الملك فيصل يشعل سيكارة ثم قال: «عندنا من الشعراء كثير، ولكنهم كلهم خارج البلاط والحمد لله، وقد كنت مرة حبيبهم جميعا، كنت يا أخي هارون، سيدهم ومليكهم المفدى، ذلك عندما شاع أن في نية الملك أن يعين واحدا منهم للبلاط ، شاعرا يتولى مديحي! شيء سخيف يا أخي، ولكنها عادة ملكية، أظنها سرت من الشرق إلى الغرب، وهي تعود اليوم إلينا؛ لا ليكون لنا فيها شيء مما لك من السلوى في أبي النواس، بل لتزيد في همومنا، كدت والله أقع في الشرك، فعندما انتشر الخبر أن التعيين مرجح لواحد من اثنين، تنازع هذان الاثنان وتخاصما، وساءني أن أكون السبب في ذلك، فقلت لا هذا ولا ذاك، فانقلب الاثنان علي، وعمدا إلى القوافي يرميان بها من كان بالأمس سيدهما ومليكهما المفدى، فعينا واحدا منهما في مجلس الأعيان، والآخر في مجلس النواب فسكتا، واطمأنا، وشرعا ينظمان القصائد في مديح الربيع!»
أبو النواس : «احش فميهما ورقا، فتدفع الأذى عن نفسك وعن الربيع.»
الملك : «ولكن الشعراء أحسن من سواهم يا أخي هارون، فهم في القليل يشعرون بجمال الربيع ويمدحونه، فإن في هذا البلد من لا يعجبهم حتى الربيع.»
الخليفة : «لقد سررت يا فيصل بهذه العودة إلى البلد الذي أشعلت يوما فيه مصابيح المجد والإحسان، وبذرت فيه الشيء الكثير من بذور الحماقة، وقد سررت كل السرور بنزهتنا هذه، بارك الله فيك. ولكني لا أغبطك في حالك، ولا أسر لو أراد الله أن يعيدني إلى سابق عرشي ويعيد إلي الغابر من مجدي، لا والله لا أسر؛ فالناس ناس في كل زمان، أكرمهم - بارك الله فيك - يمدحوك، احرمهم يذموك، أما أولئك الذين لا يرون الجمال حتى في انبلاج الفجر، ولا يعجبهم حتى الربيع، فلا خير فيهم للملك، ولا خير فيهم لأنفسهم.
ولكني قبل الوداع أقول هذه الكلمة؛ سيمدحونك كلهم غدا، وسيتغنون بذكرك، وسيرفعون اسمك عاليا - بارك الله فيك - ليكون نور هدى لأهل العراق، وللعرب جميعا. أما الآن فهم كلهم أولادك يا فيصل، العقوق منهم والبار، وقد يكون في العقوق ما يساعدك لتصل إلى الذروة العليا، فيعم إحسانك ويشمل الجميع إلا نفسك، إلا نفسك، سنة الله في أصفيائه المصلحين لعباده.
وكلمتي الأخيرة - بارك الله فيك - هي هذه: تمسك بحبل الإنكليز ولا تفلت حبل المعارضة، أستودعك الله.»
رسالة إلى فيصل
أخي فيصل
كنت في هذه الفانية المثل الكريم للإخاء الإنساني، ومن أجمل الكلمات التي كنت تفوه بها، في محادثتك الناس، تلك الكلمة العذبة الصادقة، «يا أخي.»
وكنت أنا أحجم التشبه بك، وبينك وبيني تقاليد الملك والنسب، فلا أدعوك بالكلمة التي تفصح عن أصدق العواطف في قلبي.
أما وقد أصبحت روحا صافيا علويا، وأنا في عزلتي روح طليق على الأقل، فليس ما يحظر علي ما كانت تحول دونه التقاليد.
لذلك أصدر رسالتي بالكلمة التي تحلو للقلب، وتصفو للروح فأدعوك أخي، وأكتب إليك كما يكتب الأخ إلى أخيه، لأطلعك على بعض ما جرى بعد فراقك؛ مما يزيد بيمنك وحبورك.
وقبل ذلك أحب أن أكشف عن لوعة في قلبي. من الأماني التي كنت أتمناها أمنيتان وضعهما القدر في حقيبتك عندما دعاك للرحيل؛ الأولى هي أن أراك ها هنا في الفريكة، لا لما في الزيارة الملكية من الشرف والمجد - وأنا لا أزال في القيد الذي يحببهما إلى الناس - بل ليكون في الزيارة ما يستبشر به لبنان، جبلنا التعس المحبوب، فيلطف الله بحاله، وينعش بعض آماله.
والأمنية الثانية هي أن أرى هذا الكتاب الذي كتبته فيك، بين يديك، تقرؤه لتعيد على الأقل ذكرى جلساتنا وأحاديثنا، فتبسم تارة، وتجهم أخرى، وأنت تقول: ما شاء الله! أو سامحك الله. ثم تشعل السيكارة وتمد رجليك وتعود إلى صفحاته تقلبها، فتضحك مستهجنا أو مستحسنا، وتأخذ القلم لتكتب على الهامش كلمة فيها إصلاح خطأ أو فيها شيء من الحب أو من التوبيخ.
أمنيتان من الأماني التي يسفيها الزمان كما تسفي الرياح رمال النفود، وينثرها كما ينثر الإعصار أوراق الخريف.
هذا القليل أقف عنده، والقليل من حديث المرء عن نفسه كثير، فإن هناك أمة بأجمعها تود لو كان لها أن تخاطبك لتبثك لوعتها، وتشكو إليك شجوها، بل إن أصوات الحزن وأنات الأسى لا تزال تتصاعد من القلوب، في كل قطر من الأقطار العربية.
ولكني وأنا الآن واقف بينك وبين هذه الأمة سأحجب عنك سحب الأشجان ووابل الدموع، وأبعث إليك بطائفة من الأخبار المفرحة.
أولها، يا أخي فيصل، هو أنك في انتقالك إلى رحمة الله، فتحت فتحا مبينا؛ فقد كنت ملك العراق فصرت ملك الأمة العربية، كنت سياسيا عاملا في العراق فصرت قوة للعمل في قلوب الناطقين بالضاد في كل مكان، كنت تجاهد في سبيل العرب فصرت علما للجهاد في كل قطر، في كل بلد، في كل ربع عربي.
فما أجمل الموت الذي أتى بروحك حتى على القلوب الغريبة القصية، فأحيا فيها حب العرب، والإعجاب بالعرب! ما أجمل الموت الذي حمل بين جناحيه تعاويذ اسمك إلى ما وراء الآفاق، إلى كل قطر عربي صالت عليه الأجانب! ما أجمل الموت الذي طاف بنور وجهك في الخافقين وهو يشعل مصابيح اليقظة العربية!
وما أجمل الموت الذي أشعل نور الحقيقة، في قلوب العراقيين جميعا، فاجتمعوا حول جثمانك يذرفون الدموع السخية، وينثرون أزاهر الحب والإجلال في طريقك إلى المقر الأخير.
وهناك في فسيح العراء، قرب القصر الذي كان مهد الجهاد وعرشه، اجتمعت الوفود من الأقطار العربية كلها، واحتشد الألوف من العراقيين ليبكوا فيصل العرب، وليمجدوا فيصل العرب، وقالوا جميعا - قالوا أخيرا - إنه مات في حومة الجهاد، وإنه سيد الشهداء.
وليس في العراق اليوم من ينكر أنك كنت فيه الكل في الكل، وكنت تذكي نار الجهاد، وتنير مصباح الهدى في أحزاب الأمة كلها، وفي جهاز الدولة بأجمعه؛ فكنت الملك، وكنت الزعيم الأكبر، كنت النائب والوزير والمعلم، كنت الهادي، وكنت الفيصل في جميع الأمور.
وما كان خارج العراق بعد فراقك؟ ينبغي أن نعود سبعمائة سنة لنجد ملكا آخر توحدت في حبه وإجلاله قلوب العرب في كل الأقطار، وقلوب المسلمين في كل مكان، فمنذ أيام صلاح الدين إلى اليوم ما رفع العرب، ما رفع الإسلام، علما واحدا فوق الأعلام، وما مجدوا ملكا كما مجدوك.
لست أدري يا أخي فيصل، لماذا يخاف الناس الموت؛ فالذي يموت في جهله وخموله يرتاح من ذلة الخمول والجهل، والذي يموت في مجده وجهاده يزيده الموت مجدا ويشعل مصباح جهاده في قلوب الناس.
وهذه حفلات الأربعين التي أقيمت لذكرك الخالد في كل بلد عربي، بل أقيمت في الشرق وفي الغرب، في قارات الدنيا، في نيويورك، في البرازيل، في بونس أيرس، في لندن، في جنيف، في باريس، في برلين، حتى في السنغال، صلى الناس على فيصل، وترحم الناس عليه.
قلت الناس، وما قلت العرب وما قلت المسلمون. الناس، وفيهم المسيحي واليهودي والوثني، وفيهم العربي والأميركي والأوروبي؛ اجتمعوا في أربعة أقطار العالم ليترحموا على فيصل، ويمجدوا ذكر فيصل، ويرفعوا اسم العرب، وعلم القضية العربية. وهذا ما يسرك، ولا ريب، كما يسرني، كما يسر كل عربي، كما يسر كل امرئ ينشد الحرية والاستقلال والوحدة والسلام، لأمته ولسواها من الأمم.
وهناك، خبر يبهجك كثيرا، وقد لا يدهشك بقدر ما أظن، ذكرت جنيف، والذكر ذو شجون، فإننا لنذكرك فيها مجاهدا، ونذكرك في سويسرا مستشفيا، ونذكرك في يومك الأخير، وقد نضوت عنك ثوب هذه الحياة الفانية، وكنا نتوق دائما إلى أخبارك، وأنت هناك، في شتى أحوالك، ولا نأمنها، ومضارها صحافة أوروبية تلونت أغراضها والتوت. فلولا الأمير شكيب هناك في منفاه، لفاتنا الكثير من أخبارك المهمة التي فيها للعرب العبرة والذكرى. لولا الأمير شكيب - صوت العرب المدوي، وعقل العرب الأفهم - في هذا الزمان، لما علم العربي بما كان من جهادك واستشهادك في آخر أيامك.
1
أما الخبر المبهج الذي أشرت إليه، فهو يتعلق بفتنة الآشوريين، تلك الفتنة التي قطعت عليك ذلك الاستشفاء، وعجلت بأجلك؛ فقد انتصر العراق في جنيف، انتصر في القضية التي أثارت عليك وعلى العراق ثائرة الصحف الأوروبية الاستعمارية، وتلك الصحف نفسها، التي حملت عليك باسم الإنسانية والدين، ولها في الدين والإنسانية أغراض لا تخفى على الناس، ذكرتك بالخير بعد وفاتك، بل اعترفت بفضلك وعبقريتك.
وفي دفاع العراق لدى عصبة الأمم في مسألة الآشوريين، أظهرت حكومة العراق حصافة ومقدرة في سياستها، وعدلا وصدقا في إدارتها، في الكتاب الأزرق الذي صدرته، وفي دفاع وفدها لدى العصبة هناك. إن ذلك الدفاع ليبهجك حقا، وليزيد بحبك لثلاثة من رجالات العراق، لياسين ونوري ورستم، فتباركهم من عليائك، وقد أثبتوا للملأ ما كنت مستعدا أنت لتثبته
2
فعينت العصبة لجنة للاهتمام بإسكان الآشوريين هؤلاء خارج العراق.
بقي الخبر الذي يبهجك، ولا غرو، أشد الإبهاج أجعله مسك الختام. هو يتعلق بمن كان بالأمس قرة عينك، وهو اليوم قرة عين العراق. إن الآمال بالغازي كبيرة، وقد برهن حتى الآن في موقفين على ما فيه من نجابة وشجاعة وإقدام. فأثنى عليه الوفود الذين حضروا حفلة الأربعين ببغداد، وأعجبوا به كل الإعجاب. وعندما وقف على المنبر مكان سعيد الذكر والده ليفتح البرلمان كبرت قلوب الناس به واهتزت لخطابه، وعندما وصل فيه إلى الكلمة «سنظل سائرين إلى الأمام.» وقالها بصوت الزعيم المقدام، وهو يضرب المنصة بيده؛ هتف النواب «عاش الغازي!» وصفق له استحسانا جميع الحاضرين، وفيهم النساء الأوروبيات وسفراء الدول وقناصلها.
وقد قال الغازي إلى كل من حدثه إنه سيحذو حذو الوالد العظيم، ويهتدي بنور هداه، وفقه الله.
آمين.
حاشية:
إن أمنيتي الكبرى، عندما تجيء نوبتي، هي أن تكون أنت يا أخي فيصل أول من أجتمع بهم هناك، فنجلس جلسة الأحباب ونعيد ذكرى مجالسنا وأحاديثنا في هذا العالم.
النسر العربي1
حلق النسر في الفضاء بعيدا،
رجع النسر في الفضاء شهيدا،
نسر العروبة حبيب الحرم، وربيب البوادي.
البادية مرضعته، والخيام مأواه،
الرمال فراشه، وملعب صباه،
نسر العروبة في حمى الحرية
طليق جريء، وديع أبي، أنيس وفي،
نسر العروبة في ظلال قدسية
شفيق كريم، طهير حليم، قوي تقي.
تبارك الحمى، وتباركت المرابع والرمال.
تبارك الإرث، وتباركت الخصال.
فمن جبل النور نوره، ومن المضارب شعوره.
من قمم الهدى
2
شممه، ومن ربيع الطائف زهوره. •••
كتبت له الهجرة ليتم خلقه فيه.
فكان من العرب، وكان من السراة.
في الصروح الفخمة مثله في بيوت الوبر،
وكان في المجالس المهيبة مثله في فسيح العراء.
فمن بساتين يلدز سوسن مبسمه،
ومن مياه آسية
3
حلو شمائله،
من بلوج الفجر على ضفاف البوسفور بهاء طلعته،
ومن ذهب الشفق على حواشي مرمرة ذهب نطقه،
من ظلال السرو في جوار أيوب
4
تلك الوداعة فيه وتلك السكينة. •••
نسر العروبة ربيب العاصمتين، عاصمة الرسول وعاصمة الخلافة،
عاصمة الحق والهدى، وعاصمة الدهاء والسياسة.
مزجت يد الأقدار شرابه، وفتحت للنبوغ أبوابه،
ثم همست في أذن النسر تقول:
إن وراءك ثلاثمائة وألف سنة، وأمامك أبدية من الآمال.
إن وراءك أمة الكهف، وقد هجعت ستمائة سنة،
وأمامك أعلام اليقظة والجهاد.
سمع النسر ووعى، فراح يعزي الأماني، ويستنهض الهمم.
ليجاهد في سبيل قومه،
امتشق الحسام باسم الله، وباسم العرب.
الثورة، الثورة!
فهبت في البوادي رياح السموم،
وهبت إليه البدو والحضر،
وكان الجهاد، وكان الظفر.
أمة الكهف، تدهش المستيقظين،
كتب لفيصلها الفوز المبين.
وأجمل ما في دمشق الأغاريد.
هو ذا الملك العربي الجديد.
فعلى ضفاف التميس، شهود يذبذبون.
وعلى السين خصوم مخدعون.
فكان التاج، وكانت ميسلون.
حلق النسر في الفضاء بعيدا،
رجع النسر في الفضاء شهيدا. •••
ليس في حقائق الوجود أنصع من حقيقة البعث والخلود.
تهمس الطبيعة في قلب السنين فتحيي في فصولها الراحلة أملا أبديا.
يضع الله في حقيبة الربيع حفنة من بذوره الخالدة.
يكفن الله الشتاء الراحل بكفن من الثلج المبطن بالزهور النائمة.
يمر سرب القطا راحلا راجعا بين فصلي القنوط والرجاء.
تغرد القبرة على غصنها الطري وتهجع، ثم تعود إلى التغريد.
رحلة يتبعها أوبة، وأوبة يتلوها رحيل.
ومثل الربيع، ومثل القبرة، ومثل عواصف الشتاء، ما لبث النسر أن عاد، إلى الجهاد. •••
عاد فيصل ينشد في العراق الأمل الأعلى - أمل الأمة المنكوبة.
عاد يشيد على ضفاف الرافدين ملكا عربيا جديدا.
عاد يجدد في عاصمة الرشيد والمأمون عصر العلم والهدى، عصر المدنية والفلاح، عصر الثقافة والصلاح.
جاهد بعقله، جاهد بقلبه، وجاد بعد ذلك بروحه.
جاهد بكل ما استطاع أن يحشد وينظم من جيش السلم والولاء.
من علم وحكمة، من حلم وكياسة، من ثبات يمده اليقين، من حزم تتناوبه الصلابة واللين.
حلق النسر في الفضاء بعيدا،
رجع النسر في الفضاء شهيدا. •••
زرعت بستانا في العراق، ورحلت قبل أن تراه مثمرا.
زرعت بذورا في البلاد العربية، ورحلت قبل أن تراها مزدهرة ندية.
كنت في الحرب العالمية فيصلا فاصلا، وفي السلم الوديع الجريء الصفي.
كنت في السياسة عينها الباصرة ، وميزانها السوي.
كنت في الكياسة طلعتها الساحرة ونطقها الذهبي.
كنت في الحذق عنوانه، وفي الحزم برهانه، وفي الشدة واللين المثل العلي.
كنت في الدهاء معاوية، وفي الصبر والإباء الشريف الرضي.
كنت في الحلم صنو الرسول، وكنت في الوداعة أخا الناصري.
حلق النسر في الفضاء بعيدا،
رجع النسر في الفضاء شهيدا.
سجل الحوادث البارزة في حياة الملك فيصل
سنة
1883م / 1301ه
ولد في الطائف
1891
سافر مع أبيه إلى الأستانة
1905
تزوج بابنة عمه حزيمة ابنة الشريف ناصر
1909
تعين أبوه الحسين شريف مكة فعاد معه إلى الحجاز
1911
رافق أخاه الأمير عبد الله في حملة على عرب عسير الثائرين على الدولة
1913
قاد الحملة الثانية على الإدريسي، وبعد رجوعه من أبها انتخب مبعوثا عن جدة في المبعوثان العثماني
1915-16
كان في سوريا رسول أبيه لدى جمال باشا، وعاملا في سبيل العرب، فاشتبه به جمال وكان ينوي اعتقاله، فخرج من دمشق بحيلة وعاد إلى الحجاز
2 حزيران 1916م / 9 شعبان 1334ه
نادى الشريف حسين بالثورة على الأتراك، وعين فيصلا لقيادة جيش الشمال
6 تموز 1917
استولى على العقبة وأصبح القائد العام للجيش العربي المؤازر لجيوش الجنرال آلنبي بفلسطين
1 ت1 1918م / 25 ذي الحجة 1336ه
دخل الشام ظافرا
22 ت2
سافر إلى باريس ليمثل العرب في مؤتمر فرساي
12 أيلول 1919
سافر إلى لندن للمفاوضة والإنكليز ثم جاء باريس فتفاوض والوزير الأول كليمنصو
8 آذار 1920م / 19 جمادي الثانية 1338ه
نادى به المؤتمر السوري العام ملكا دستوريا
25 تموز
واقعة ميسلون وسقوط الحكومة العربية
26 تموز
خرج من الشام وقصد بعد ذلك إلى أوروبا
آذار 1921
جاء القاهرة وقد عقد فيها مؤتمر برئاسة تشرشل، وزير المستعمرات البريطانية يومئذ، للنظر في شئون الشرق الأدنى ومنها مسألة عرش العراق
24 حزيران
وصل إلى البصرة
11 تموز
قرر مجلس الوزراء ببغداد أن يكون الأمير ملكا دستوريا للعراق
23 آب / 19 ذي الحجة 1339ه
أقيمت ببغداد حفلة التتويج
شباط 1930
اجتمع بالملك عبد العزيز آل سعود في خليج البصرة
تموز 1931
زار مصطفى كمال في أنقرة ليوطد العلاقات بين تركيا والعراق
نيسان 1932
زار الشاه رضا خان في طهران للغاية نفسها
3 ت1
دخل العراق في عصبة الأمم وألغي الانتداب
حزيران 1933
زار إنكلترا زيارة رسمية بدعوة من مليكها جورج الخامس
تموز
جاء سويسرة للاستشفاء
آب
عاد إلى بغداد بالطائرة لإخماد فتنة الآشوريين
1 أيلول
عاد إلى سويسرة ليكمل دور الاستشفاء
8 أيلول/18 جماد أول 1352ه
توفي فجأة بسكتة قلبية في مدينة برن، فنقل الجثمان إلى برنديزي، ومنها على الطراد البريطاني دسبتش إلى حيفا
15 أيلول/25 جماد الأول
جرى الدفن في بغداد غداة وصول الجثمان إليها بالطائرة
الملك فيصل الأول في البصرة مع أمير المحمرة الشيخ خزعل وناجي السويدي وأحمد الصانع.
تذييل
يريب بعض الناس حبي للعرب وملوكهم، واهتمامي الدائم بشئونهم، وقد انتقدني نفر من الكتاب، ونصحني الصديق منهم والمحب، فقالوا: إن وطنك القريب لبنان لأحق باهتمامك من الوطن البعيد. وقال آخرون أقوالا تتجاوز النصح والنقد، وكانوا في نقاشهم أقرب إلى تلك التي تنفث سمها منهم إلى الأديب المحافظ على أدبه، والوطني النزيه في وطنيته، ولكنت مستحقا مذماتهم كلها لو أن حبي للعرب أفقدني ذرة من حبي للبنان.
على أن هناك غير الريب في استطاعة المرء أن يجمع بين الحبين، وإن كانا غير متناقضين. إن في الأمر غوامض سياسية وفكرية - كما يظنون - لا تلتئم وما يعهدونه بي من الصراحة ووضوح البيان، وكيف لا وفي قلبي - وهذا القلب متجه الآن بسمعه إلى الناقدين الناصحين لا إلى سواهم - تتنازع الأغراض، وتتزاحم الأضداد؟! فهل أنا أميركي أم لبناني أم عربي؟ أم هل أنا الكل في واحد؟ وهل أنا ملكي أم ديمقراطي أم اشتراكي؟ أم هل أنا الثلاثة اليوم وأمس وغدا؟ إن في أمري ليحير الأصدقاء ويبلبل الخصوم، ولا يجوز لرجل صريح مثلي ومحب للناس مسالم مثلي، أن يترك أحدا في مزالق الحيرة وفي لجج البلبال.
ولقد سمعت من يرومون لي من العيش خيره، ومن يتمنون لي غيره، يقولون: ولكنك على ما نعلم ديمقراطي، تشربت روح الديمقراطية في البلاد الأميركية، بل في أكبر وأرقى جمهورية من جمهوريات العالم، وأنت الحامل في خطبك ومقالاتك على الظلم والظالمين، على الاستئثار والاستبداد، على الجهل والتعصب، وأنت النصير - يترددون ثم يقولون: الأكبر - لحرية الشعوب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، المطالب بها، والمناضل في سبيلها على الدوام.
نعم، إني كذلك، وإني مع ذلك محب للعرب، على ما يكتنفهم من الجهل، وعلى ما لا يزال فيهم من مساوئ الماضي السياسية والاجتماعية والدينية. وإني أهتم بشئونهم وشئون ملوكهم وأمرائهم، وأخدمهم ما استطعت بقلمي ولساني، على ما لأكثرهم من النعرات الإقليمية الذميمة، والنزعات القديمة التي لا تلتئم وروح الزمان.
قلت: «على ما» وكدت أن أقول: لما؛ إذ قد تكون الآفات التي ذكرت هي السبب في اهتمامي، وما الفائدة يا ترى من بذل ما لديك، إذا كنت ذا علم أو مال أو جنون وطني، في سبيل من لا يحتاج إلى علمك أو مالك أو جنونك.
أليس في هذا ما يكفي ليجلو ما في موقفي ظاهرا من التناقض والغموض؟ إني إذن أزيد في الإيضاح.
إن إقامتي خمسا وعشرين سنة في الولايات المتحدة وطدت في المبادئ الديمقراطية - أي حب الحرية العامة المتساوية، وكره الامتيازات التي تعطى لأولي النفوذ والسيادة - وعلمتني أن شكل الحكومة وأساليبها السياسية لا تطابق دائما تلك التعاليم المدونة في دستورها الأساسي والممثلة في تقاليدها؛ فالشعب - لا نكران - ينتخب النواب وكبار رجال الحكومة، ولكن الذين يسيطرون على الحكام والمتشرعين، بشتى الأساليب الظاهرة والخفية، هم أرباب المال؛ أجل، إن الاسم للأحرار والحكم لملوك الدولار.
ولهؤلاء شركاء من رؤساء الأحزاب السياسية، التي لا تقوم وتتعزز بدون المال، فضلا عن الانتخابات وما يتقدمها من حرب خطابية وصحفية، ودعايات حزبية وشخصية، تعد نفقاتها بملايين الدولارات، فإذا كان المال هو الحاكم المطلق في الحكومة الجمهورية، وخير هذا الحكم عائد بأكثره إلى المتمولين والمتنفذين، فأين حرية الشعب يا ترى؟ وأين حقوقه السياسية والاقتصادية؟ بل أين المجال الفسيح الشائع لأبناء العمل الحر المستقل؟
لست في هذا المقام معددا سيئات الجمهورية وحسناتها، ومن ينكر الحسنات؟! ولكني أشير إلى رأس الآفات فيها، وهو يكفي لينفر عنها ، بل ليجند عليها، حتى الأحرار في هذه الأيام.
هذي هي الحقيقة في جلاء ما يظهر من التناقض بين موقفي الملكي وبين تربيتي الأميركية الديمقراطية. وهناك حقيقة أخرى أهم مما ذكرت؛ لأنها أثبت وأعم؛ فالإنسان المفكر لم يهتد حتى اليوم إلى حكومة عامة في شكلها وروحها، تصلح لكل شعب من شعوب الأرض ولا يصلح الحكم ويستقيم، جمهوريا كان أو ملكيا، إلا إذا كان له ما يبرره ويعززه من عقلية الشعب ونفسيته، ومن تقاليد الأمة وثقافتها.
فالجمهورية لا تصلح اليوم في إنكلترا مثلا، وإن كان الشعب قد ألف في ملكها المقيد الأحكام الديمقراطية؛ ذلك لأن عقليته على الإجمال ملكية، ونفسيته نفسية الأشراف. ولا تصلح الملكية في أميركا، وإن كان الشعب قد أدرك مساوئ الحكم الجمهوري؛ ذلك لأن نفسيته ديمقراطية مثل عقليته وتقاليده، ولا تشذ هذه القاعدة إلا في الانقلاب العام، على أثر حرب أو ثورة كما في البلاد الروسية اليوم.
وما هي يا ترى نفسية العربي؟ وما هي تقاليد الأمة العربية؟ مهما قيل فيما أوجبه الإسلام من المشورة في الأحكام
وأمرهم شورى بينهم ... الآية؛ فإن تاريخ الأمة العربية ليثبت إجمالا تلك الحقيقة التي تنافي الإسلام. ومع أن العرب هم فطرة ديمقراطيون ولا يزالون كذلك في حياتهم الخاصة، فقد طرأ على هذه الفطرة في مظهرها العام في عهد الممالك العربية المجيد، طوارئ عديدة أضعفتها فأزالتها تماما، وقد نشأ مكانها في عقلية المجموع العربي حب لأبهة الملك، وشغف بالعظمة التي تتجلى في حاكم البلاد واحترام لسلطته الأبوية أو الشبيهة بها، إن كان ملكا صغيرا أو سلطانا ملقبا بأمير المؤمنين.
إن عقلية هذه الأمة العربية ملكية إذن، وتقاليدها ملكية منذ القدم، وليس لها من عوامل الثقافة وأسباب العلم ما يدعو للتطور السريع في تلك العقلية، أو للتغيير الأساسي في تلك التقاليد.
فهل يصلح والحالة هذه الحكم الجمهوري في البلاد العربية؟ وهل يستقيم حتى وإن كان صافي الروح سليم الأسباب مطابقا في أحكامه لتعاليمه؟ إني على يقين أنه يستحيل خصوصا في هذه الأيام؛ أيام الحكم المطلق - أيام الدكتاتوريات - في الغرب والشرق. وقد لا يقدم قطر من الأقطار العربية على تجربته مختارا قبل عشرين أو ثلاثين سنة. •••
إن لحكام البلاد العربية عقليات قديمة، وآمالا حديثة ، وسيادات مطلقة يجدد الزمان أركانها ويوطد، ولكن أكثرهم متشربون حب الرعية الأبوي، وعاملون بالقاعدة الذهبية: العدل أساس الملك؛ فهم من هذا القبيل عصريون أكثر من بعض زملائهم الغربيين.
وهم عصريون من وجهة أخرى، وإن كانوا متأخرين في تكييف بلادهم وتقديمها في الرقي والعمران. هم عصريون فيما ينتحله لأنفسهم من قوة التشريع والتنفيذ الحاكمون اليوم بأمرهم في العالم. وبكلمة أخرى هم مثال الدكتاتورية المتبع، فإذا كان الشعب الأوروبي الراقي يقبل بهذا الحكم، ويرى فيه خير بلاده الأكبر، فهل يخطئ العرب إذا ظلوا متمسكين به، محافظين عليه؟
فإذا كنت - أيها القارئ - محبا لهذه الأمة العربية، غيورا على مصالحها، أو عاملا مجاهدا في سبيلها وسبيل وحدتها القومية، فهل تسعى لقلب حكوماتها اليوم ولإعلان الجمهورية فيها بدل الملكية؟ وإذا كان لا يهمك أمرها، وكنت متيقنا مثلي أن الحكم الجمهوري غير ممكن فيها، وأنه اليوم مضر إذا كان ممكنا، فهل يجوز أن تنتقد أو تلوم من يختص ملوكها وأمراءها بما توجبه عليه الوطنية من الخدمة، وهم الموكلون بمقدرات البلاد، المهيمنون على ما فيها، وإن قل، من عوامل الرقي الاقتصادي، وأسباب التمدن الحديث؟ وإنك لتخطئ إذا نظرت إليهم بغير العين التي تراهم في بيئتهم وفي أحوالهم السياسية، وتقدرهم قدرهم بالنسبة إليها. أقول لك إنهم لذوو فضل جم، على ما في تلك البيئة من الجمود، وتلك الأحوال من عوامل الهدم، داخلا وخارجا، وإنهم لذوو مآثر جليلة.
إليك بوجيز العبارة البرهان؛ لو لم يقم الملك حسين بالثورة على الترك لما كانت الثورة، ولما كان العرب اليوم في معظم الجزيرة مستقلين كل الاستقلال؛ فقد كان رجال النهضة العربية في حاجة إلى زعيم يوحد الصفوف، ويوحد المحجة، ولم يكن فيهم ذلك الزعيم، لم يكن في الطليعة الرجل الأكبر الأوحد الذي تقبله الأحزاب كلها وتنصره، فنهض الحسين وكان زعيم النهضة المنتظر.
ولو لم يمن الله على العرب بابن سعود لكانت البوادي مسرحا شائعا للغزو والقتال، وللسلب والنهب والفوضى، ولظلت القبائل كما كانت قبله في عداء دائم واحتراب مستمر. لو لم يكن ابن سعود لما كانت نجد والحجاز الآن بلادا موحدة مطمئنة مسالمة، وفيها من عوامل المدنية ما تستطيع أن تنتفع به، ما يلائم اليوم طبائع أهلها البدو والحضر، ويمكنها غدا من الاستزادة عملا باستعدادهم، وتطور أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية.
وكذلك قل في اليمن وسيدها الإمام يحيى؛ فهو حاكم اليمن المطلق، الضابط أمرها بيد من حديد، المدبر شئونها بحزم تنيره الحكمة، وعزم يمده اليقين، الحامي ذمارها، داخلا من أغراض كبار السادة الشخصية، ونزاع القبائل، وخارجا من أطماع الأجانب ودسائسهم؛ أولئك المسيطرين في جوار اليمن جنوبا وعبر البحر غربا. إن الإمام ليدرك السر فيما يفعلون ويقولون، متزلفين كانوا أو مكابرين، فيحمل في سياسته الميزان، وقد علم أن الكفة الراجحة اليوم قد تكون غدا ناقصة، فلا تخدعه الواحدة، ولا تغره الأخرى.
وفي عسير اليوم البرهان القاطع على صحة ما أقول في الحكم المطلق وعكسه؛ فقد كان هذا القطر العربي، في عهد السيد الإدريسي، مثل نجد واليمن، عزيز الجانب، آمنا مطمئنا، وكان أهله مخلدين إلى السكينة، مستمتعين بما في البلاد من أسباب العيش والراحة والرفاهية. ولكن الأحوال ساءت بعد وفاة السيد محمد، فاضطرب حبل الأمن في البلاد، وتزعزعت أركان الحكم في صبيا وجيزان، فسرت في القبائل روح الشغب والفوضى، وتنازعت السيادة القوتان الغالبتان المجاورتان في الجنوب وفي الشمال، ولا يزال عسير موطن الخلاف والنزاع بين الإمام يحيى والملك عبد العزيز، هذه هي إحدى نتائج التفكك في الحكم، والانحطاط في البيت الحاكم. ولولا النزاع بين العاهلين الكبيرين، والخوف من عواقبه المشئومة، لكان التفكك في هذه الإمارة الصغيرة وأمثالها مفيدا للقضية العربية، والوحدة المنشودة.
وماذا أقول فيمن حمل لواء هذه القضية، وجاهد في سبيلها، في ساحات الحرب والسياسة، عشرين سنة، وكان في القطر العراقي ظافرا ببعض أمانيه؟ فهل ينكر أحد أن للملك فيصل، رحمه الله، الفضل الأكبر في استقرار العراق وتقدمه؟! هل ينكر أحد الحقيقة الناصعة الرائعة في جهاده الذي استمر اثنتي عشرة سنة؟ فلولا هذا الجهاد العظيم لما كان العراق اليوم موحدا، ولما كان قد تخلص من الانتداب، ولما كان يسلك الآن الطريق الفسيح القويم، المؤدي إلى حريته واستقلاله.
هذه هي كلمتي لمن يريبهم اهتمامي بملوك العرب، ولمن يغيظهم موقفي العربي. وإني أسألهم، باسم الإنسانية أولا وباسم الوطنية. ثانيا: ألا يستحق الذكر والثناء والإعجاب من يقيمون العدل، ويوطدون الأمن والسلام، في أمة من أمم هذا العالم المضطرب المكترب؟ ألا يستحقون، وهم القائمون بأعباء هذه الأمة العربية، الحب والبذل من أبناء الأمة؟ فلو كان الملك فيصل أوروبيا لرفعه شعبه إلى منزلة بسمرك ودزرائيلي، ولو كان ابن سعود أوروبيا لجعلته أمته بطلا من أبطال العالم. •••
أعود إلى لبنان لأقول كلمة وجيزة، هي كل الحقيقة وكل اليقين، في محنته اليوم، وفيما أشع من حظه يوم كان فيصل سيد البلاد السورية.
ثلاث عشرة سنة مرت على استقلال لبنان المقيد بالانتداب، المثقل بالضرائب، المسربل بسربال السخرية الجمهوري، المسمر بمسامير الفاقة، المكلل بإكليل من الشوك، ومع كل هذا لا يزال في البلاد من ينادون ويفاخرون بالاستقلال، ويقولون بوجوب الانتداب لحمايته وتعزيزه. وبالرغم من كل هذا ليس في البلاد أحد راضيا بحالة واحدة من أحوال لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس في البلاد من يطالب بالاستقلال والانتداب، ولا يندب حظ لبنان في الحالين.
أعجب لشعب يئن من النير، ويصيح قائلا إن النير لازم له ومفيد، لازم لخلاصه، مفيد لسعادته الأبدية، شعب قديس شهيد!
ولكن في لبنان من المفكرين البصيرين الجريئين بالإفصاح عما يجيش في صدورهم، من يرون في هذه الحال شيئا غير معقول، غير طبيعي، شيئا جد منكر، جد فظيع، ويدركون التناقض بين العقيدة الوطنية وحقيقة الحال، وكلهم يستغيثون ويرومون الخلاص.
ولكنهم مختلفون في ما هي حقيقة الخلاص؛ فمنهم من يظنون أنها في إعادة الدستور والحكم النيابي.
ومنهم من يقولون إن لبنان الكبير هو رأس مصائب اللبنانيين، ويرومون تصغيره، يطلبون إعادته إلى ما كان عليه عهد المتصرفية السعيد.
ومنهم من لا يقبلون بهذا التصغير، ولا يتنازلون عن شبر أرض في لبنان الكبير.
ومنهم من لا يعرفون ماذا يريدون.
أما أولو الأمر أصحاب الانتداب، فهم يسمعون ويبسمون ويعللون ويسوفون، ولكنهم يعرفون ماذا يريدون.
هم يريدون لبنان كبيرا لا صغيرا؛ لأنهم يريدونه لأنفسهم؛ أجل، مهما تطورت أحواله، وتعددت وتلونت مطالبه وآماله، فهو منذ البدء كان وسيظل مطمح أنظار الفرنسيين، يريدونه قيد سياستهم الخارجية، ليعززوا به مركزهم الحربي البحري في هذه الزاوية المباركة من البحر المتوسط.
فإذا تعهدوا لأشياع لبنان الكبير بالمحافظة على وحدته الجغرافية والسياسية فهم في تعهدهم صادقون، وكيف يقبلون بأن تسلخ طرابلس مثلا عن لبنان، ولهم فيها المصلحة الحربية السياسية، والمصلحة الاقتصادية؛ أي المطار ومصب أنابيب البترول. إن غرضهم في لبنان منذ عهد غورو وقبله هو واحد لم يتغير، وقد لا يتغير، وهم يسيرون إليه هادئين متحفظين، فيتذرعون لتحقيقه تدريجا بمختلف الوسائل.
وإنهم عاملون - على ما أظن - ليخلصوا البلاد ويخلصوا أنفسهم من الانتداب كما فعل الإنكليز في العراق، فيعقدون معاهدة مع سوريا تضمن مصالحهم بها، ويستمرون في سياستهم اللبنانية، الممهدة لتحقيق الغرض الأكبر جميعه، فيلغى الانتداب في لبنان كذلك، وتعلن فيه الحماية. هو ذا المستقبل الزاهر، وقد لا يكون بعيدا؛ الحماية الفرنسية في البلاد الساحلية، وحكومة ضعيفة، ملكية أو جمهورية، في سوريا.
وهل من مناص؟ هل انطفأت أنوار الأمل كلها؟ ألا تستطيع سوريا أن تخلص لبنان؟ ألا يستطيع لبنان أن ينجو بنفسه، ويسهل سبيل الخلاص لجارته ورفيقته في هذه الأحوال؟
هب أن ذلك غير ممكن الآن، فهناك صاحبة القوة والإرادة في الأمر؛ هناك الدولة المنتدبة. فهلا تعدل وتعمل لسوريا ولبنان ما فيه خيرهما وخيرها؟ إن ما يطلبه العاقلون المنزهون عن الأغراض إنما هو هذا العمل في سبيل توحيد البلاد، بل العمل الذي يوجبه عليها صك الانتداب، وإني على يقين أن ليس في الأمة من يرفض التعاون الوثيق والمشارفة النزيهة في هذا السبيل.
ومع أن الحاضر مبهم والمستقبل مظلم، فإني أرى في ظلمة الآفاق نورا واحدا من أنوار الأمل، لا يزال ثابتا في أفقه القريب، نافذا في أشعته القليلة، وقد بدأ بعض إخواني اللبنانيين يرون هذا النور ويرون فيه الأمل المنشود، وهم من الموالين لا المعادين للانتداب.
حلمت مرة حلما سياسيا جميلا؛ حلمت أني حضرت اجتماعا وطنيا حول التفاهم بين سوريا ولبنان، وتحديد سبل التضامن الاقتصادي والسياسي بين البلدين.
هو حلم حلمته، ولكنه صورة صادقة لما في نفسي من عقيدة ويقين، ومن أمل ورجاء، ولا حاجة لترداد ما كتبته وقلته في هذا الموضوع. إني أرى الهاوية، ولا أرى غير طريق واحدة للنجاة، وإني أستشهد الله والتاريخ أن حبي للبنان لا يقل ذرة عن حب إخواني اللبنانيين الذين يقدسون أرزه، ويتغنون بمجد الجدود الفينيقيين.
ولكني، وأنا أنظر إلى الماضي مثلهم، أتطلع كذلك إلى المستقبل، وإلى أبناء المستقبل - أبنائنا وأحفادنا - وأريد أن يكونوا أحرارا مثل أجدادهم الفينيقيين، ومثل أجدادهم العرب.
وأنى لهم أن يكونوا كذلك، إذا كنا لا نقوم نحن بشيء من الواجب علينا، فنمهد في الأقل سبيل الخلاص من نير الرق والاستعمار؟! ولا يتمهد السبيل ويزداد نور الأمل ضياء إلا إذا تفاهم لبنان وسوريا، وتقررت سبل التضامن السياسي والاقتصادي بين البلدين.
وهناك تضامن آخر لا تستغني سوريا عنه وإن توحدت تماما، فإذا ظل لبنان منفصلا عن سوريا فمصيره الحماية لا محال، وإذا ظلت سوريا منحصرة بالأربع المدن - حتى وإذا ضمت إليها اللاذقية وإسكندرونة وجبل الدروز - فإن كيانها القومي متزعزع، ومصيرها لا يدعو للتفاؤل، إذا كان لا يتم التضامن الاقتصادي والسياسي بينها وبين العراق.
أما إذا عقد التضامن اللبناني السوري، وتم الاتحاد السوري العراقي وكانت فرنسا صديقة هذا الاتحاد، ومطمئنة إليه؛ إذ تكون مصالحها الاقتصادية والسياسية مضمونة فيه؛ فالبلاد العربية الموحدة تستطيع إذ ذاك أن تساعد عرب فلسطين مساعدة فعلية. وقد يقتنع الإنكليز هناك، ويقنعون كما فعلوا في العراق، فتنجو البلاد المقدسة من الصهيونية والاستعمار الصهيوني.
رحم الله فيصلا، فلو استقر ملكه السوري واستمر، لما كان لبنان اليوم في هذه الحالة السياسية المبلبلة المحزنة.
رحم الله فيصلا، فلو أنه - تعالى - أمد بأجله، لاستمر في جهاده الشريف الذي لم يكن يعتريه شيء من الملل والفتور، ولتحققت آماله العربية في الوحدة السورية العراقية اللبنانية الفلسطينية.
1
أنا اللبناني المحب للبنان، الغيور على مصالح اللبنانيين إخواني، وعلى كرامتهم قبل مصالحهم، أقول ذلك وأتيقنه كل اليقين. وأنا اللبناني الراغب للبنان بمنزلة رفيعة في الوحدة السورية، المطالب بها، آسف جد الأسف؛ لأن الفرنسيين لم يدركوا ما كان مضمونا لهم في ملك سوري موطد الأركان، وفي مليك كفيصل، رحب الصدر، حصيف حكيم.
رحم الله فيصلا، صديق لبنان واللبنانيين، المحب لهم حبا جما، المعجب بهم إعجابا قلبيا، الراغب في استخدام مواهبهم ومعارفهم لخير البلاد جمعاء، بل لخيرهم قبل كل خير. ولقد طالما قال لي وللكثيرين غيري إنه يجب أن يرى اللبناني عاملا مكرما، مفيدا ومستفيدا، في كل بلد من البلدان العربية، فيشعر حيث كان أنه في وطنه وبين قومه.
ومن من اللبنانيين الذين عرفوا الملك فيصلا وحدثوه يشك بصدق تلك الكلمات الذهبية التي كان يفوه بها، وتلك العواطف السامية التي كان يفصح عنها، كلما ذكر لبنان لديه؟ ومن منا - نحن الفخورين بمعرفته، السعيدين بذكرى مجالسته - ينسى تلك الكلمة الوديعة العذبة يا أخي التي كان يخاطب بها جليسه؟ فقد كان حقا أخا للجميع، وخصوصا للبنانيين، وما كان ملكا بغير سجاياه الشريفة العالية.
ومع أن قسطه من العلوم لم يكن وافرا، فقد كان لعقله، كما كان لقلبه، أفق منفرج وجو فسيح. وإني لأذكره في دينه، وما كان يوحي إليه، قولا وعملا، من حقيقة الإخاء الإنساني، الممثلة في سائر الأديان الإلهية. وإني لأذكره في وطنيته، وما كانت توحي إليه من حقيقة الوحدة القومية التي كان يرفعها دائما، قولا وعملا، فوق كل وحدة من الوحدات الدينية المتعددة في هذه البلاد. •••
ولكن التاريخ يسجل على فيصل أمورا في سياسته السورية، وطنية ودولية، منها ما ضاق خبره في تلك الأيام دون إدراكه، ومنها ما كان في الإمكان تداركه. وقد كنت فيما كتبت مؤرخا أمينا لذاك العهد عهده
2
فحققت الحوادث، ومحصت الحقائق، بقدر ما مكنت المصادر والأحوال. وأسفت لأني لم أتمكن من إطلاق العنان لقلمي في مضمار الثناء والإعجاب.
ثم مرت السنوات، عشر منها، وأنا في أثنائها أراقب مجرى السياسة العراقية الإنكليزية، وأطالع ما استطعت إليه سبيلا مما كان يكتب فيها، وفي الملك فيصل وجهاده، وقد كنت مغتبطا بعملي الجديد؛ لأني أستطيع أن أكتب في عهد فيصل العراقي ما يسر به القلب ويقبله التاريخ. ولكني مع ذلك كنت أشعر بما يشعر به المصور عندما تحول الأيام دون إكمال صورته، فلا يستأنف العمل قبل أن يعود إلى المشهد ويجدد النظر فيه.
أحجمت لذلك عن التأليف، ووطنت النفس على أن أزور العراق ومليكه مرة ثانية، فكتبت مستأذنا بذلك، وأنا غير متيقن ما عسى أن يكون الجواب؛ نظرا لما أسلفت في الصراحة في الملك فيصل وفي سعيد الذكر والده. فإذا كان الإذن، فهل يقرن يا ترى بالترحيب؟ لقد أخطأت فيما كان من ارتياب؛ فقد جاءني من الملك جواب بخط يده، تجلت فيه تلك السجايا الشريفة - رحابة الصدر، وكرم الأخلاق، والتواضع - التي فطر عليها، وكانت تزين أعماله كلها وأقواله.
أممت بغداد ورفيقي، رفيق رحلاتي، الشيخ قسطنطين يني، فوصلناها في 13 آذار سنة 1932، وتشرفنا بمقابلة الملك فيصل في اليوم التالي، ففاق في جميل ترحيبه ما جاء في كتابه من اللطف والإكرام، وكان في أثناء الشهر الذي أقمته في العاصمة يدعوني - تارة وحدي، وطورا ورفيقي - ثلاث أو أربع مرات كل أسبوع إلى القصر أو إلى الحارثية، فأتحدث إليه بحرية عهدها بي، وكان يشجعني عليها بما يبدو في حديثه ومحياه من ألفة وارتياح. وقد شاء - رحمه الله - أن يحدثني في العام والخاص من الشئون التي لم يكن يفضي بها - على ما أظن - إلى غير القليلين من بطانته وأهل بيته، وكنت أدونها. وذاكرة الرفيق قسطنطين تعين في أكثر الأحايين ذاكرتي، عندما نعود من مجلسه.
تمثال الملك فيصل الأول في جانب الكرخ في الصالحية.
وهذا الكتاب، إذا كان لا يجوز أن يدعى تاريخا بمعنى الكلمة المدرسي، هو في الأقل مصدر ثقة يرجع إليه من قد يكتب في المستقبل تاريخ النهضة العربية والعراق؛ إذ ليس فيه غير ما رأى المؤلف وسمع، وغير ما عرفه وتحراه بنفسه، فهو على الإجمال مجموعة صور قلمية للملك فيصل ؛ صور تمثله في مجالسه غير الرسمية، وصور تريكه في عمله وجهاده. وقد حاولت أكثر من ذلك، حاولت أن أصور عقل الملك فيصل في جوه المضطرب وأفقه الهادي، وأن أصور قلبه في مده وجزره، في مرحه وغمه، في يقينه وحيرته، بل في كل ما كان يتنازعه ويتزاحم فيه، من العواطف والخواطر والآمال.
وفي الكتاب حوادث مفصلة، تتعلق بالملك والإنكليز، لم يذكرها أو يشير إليها من كتبوا في أحوال العراق السياسية؛ لأنها لا تبيض من صحيفتهم، ولا تدعو لحسن الظن بهم.
أما مصادر الكتاب فأهمها، بعد أحاديث الملك، الوثائق الرسمية التي أطلعني عليها - بإذن منه - كاتب سره الأول يومئذ عبد الله الحاج.
الفريكة في أول تشرين الأول سنة 1933م
11 جماد الثاني سنة 1352ه
أمين الريحاني
نامعلوم صفحہ