أما «جيوم دي ماشو
Guillaume de Machaut » (1300-1377م)، فكان أشهر الموسيقيين في القرن الرابع عشر. وهناك وجه شبه بين حياته الشخصية وبين حياة الشاعر الجوال (التروفير) من حيث إنه كان رجل دين تحول إلى الدنيا، وكان صاحب نزعة إنسانية واضحة، وقد ألف مقطوعات من نوع «الموتيت» بنفس الأسلوب الملتزم للنظام الذي استحدثه دي فيتري، ثم انتقل إلى استخلاص الإمكانات البوليفونية للأقصوصة الغنائية (
ballad ) عند الشعراء الجوالين، وكان بعض هذه الأقاصيص الغنائية يتحدث عن انشغال الشاعر المتجول بالحب، وبعضها الآخر كانت له رنة اجتماعية؛ إذ كان فيها إيحاء إلى رجال الدين بأن يتنازلوا بشرف عن بعض أراضيهم، بدلا من أن تؤخذ منهم قسرا، كذلك ألف ماشو قداسا بوليفيونيا يظن أنه أول قداس ألفه موسيقي واحد.
ولقد كانت المؤلفات النظرية في الموسيقى خلال العصور الوسطى تحمل عادة طابع التأثير ببويتيوس؛ ذلك لأن بويتيوس كان حلقة بين الفلسفة اليونانية الموسيقية وبين عالم العصر الوسيط؛ إذ إنه شبه الموسيقى بالرياضة، ثم أدرج الموسيقى ضمن «الرباع» (الكواد ريفيوم) التعليمي بوصفها مبحثا عاليا، وتشهد كتابات روجر بيكون بمدى قوة تأثير بويتيوس في الفلسفة التعليمية السائدة في عصره.
كذلك احتفظت العصور الوسطى في مرحلتها المتأخرة بالثنائية الميتافيزيقية التي تجعل من الموسيقى فنا محاكيا للنظام الإلهي،
11
وقد أجرى الفيلسوف «إريجينا
Erigena » هذا التشبيه بالنسبة إلى البوليفونية، وردده الموسيقار «دي فيتري» بعد أربعة قرون، على أنه كان هناك أيضا من الموسيقيين والباحثين النظريين من لم يعبئوا كثيرا بالتعاليم القديمة أو بالصيحات المستمرة التي كانت الكنيسة تشكو فيها من انحطاط الموسيقى لخروج الموسيقيين عن التراث القديم. ولقد كان نمو فن البوليفونية، الذي بدأ على الأرجح في الموسيقى الدينية بوصفه ارتجالا لكنترابنط بسيط على لحن ديني، أو نشيد جريجورياني، وتحول هذا الفن إلى قالب عظيم التعقيد يبعث في النفس متعة جمالية، كان هذا النمو دليلا على أن القدرة الخلاقة لا تستسلم بسهولة لمذهب فلسفي أو أمر ديني صادم. صحيح أن موسيقي العصور الوسطى كان يؤلف موسيقى للدعوة الدينية، غير أن قدرا كبيرا من هذه الموسيقى كان من حيث الإيقاع واللحن يرجع إلى أصل دنيوي، وأدخله إلى الكنيسة موسيقيون دينيون تأثروا بهذه المصادر الدنيوية.
وإذا كان موسيقي العصور الوسطى قد تجاهل تعاليم بويتيوس، فإن قلة نادرة من الباحثين هي التي تجرأت على تحدي سلطته. ومن هؤلاء يوهانس دي جروكيو
Johannes de Grocheo (حوالي 1300م) الذي رفض نظرية العدد الفيثاغورية، وكذلك فلسفة بويتيوس لأنه أبى أن يعترف بأن الإبداع الموسيقي إنما هو ترديد عددي وإيقاعي للنظام الكوني. وقد شك جروكيو في صحة رأي بويتيوس القائل إن الموسيقى علم رياضي. واختلف مع بويتيوس وأتباعه الذين أكملوا عرض فلسفته الموسيقية في الفكرة القائلة إن قوانين الموسيقى ينبغي أن يكون لها من الصرامة ما لنفس القوانين التي أضفت على الطبيعة نظاما وتناسقا. وقد أكد جروكيو في كتاباته قيمة الموسيقى من الوجهة الشعبية والحضارية، واستبق كتابات مفكرين ظهروا بعده مثل مونتني وروسو وهيردر؛ إذ أشار إلى أن الموسيقى تختلف باختلاف عادات الشعوب ولغاتها.
نامعلوم صفحہ