ولقد كان أوغسطين، كالفيثاغوريين، ينظر إلى الموسيقى على أنها مظهر أرضي للإيقاع الكوني، وكان مثل أفلاطون يرى لهذه الظاهرة دلالة أخلاقية. وقد حذر المسيحيين من الخلط بين رمز الإيقاع الموسيقي وبين ما يدل عليه هذا الرمز؛ فالجمال والموسيقى كانا في نظره محاكاة فنية لنظام أكمل أضفاه الفضل الإلهي على البشر. وقد نصح المسيحيين بأن يقتدوا، في نظرتهم إلى الموسيقى، بداود ملك بني إسرائيل؛ إذ إن داود كان «بارعا في الغناء، محبا للانسجام الموسيقي كل الحب، لا من أجل المتعة العابرة، بل بقلب عامر بالإيمان، وبالموسيقى عند ربه الإله الحق، بوصفها تمثيلا صوفيا لشيء عظيم؛ ذلك لأن التوافق المعقول المنظم بين مختلف الأصوات في التنوع المنسجم، يوحي بالوحدة المحكمة لمدينة إلهية يسودها النظام.»
12
كذلك كان لمحاورة «طيماوس» الأفلاطونية تأثير بالغ في الفيلسوف الروماني بويتيوس (480-524م)؛ فقد شارك أفلاطون آراءه التي أعرب عنها في هذه المحاورة؛ إذ كتب في مؤلفاته الخاصة يقول: إن نفس العالم تتحد بفضل التوافق الموسيقي؛ ذلك لأننا حين نعرف ما في الأصوات من وحدة منسجمة محكمة عن طريق ما نلمسه في أنفسنا من نظام وإحكام، ندرك أننا نحن أنفسنا نتوحد بفضل هذا التشابه.» وكان يروي أن هناك علاقة رياضية تربط بين النفس البشرية والنفس الكونية. وعلى ذلك فإن الموسيقى، التي هي في أساسها رياضية، تتخذ طابعا أخلاقيا؛ لأن في وسع النوع الملائم من الموسيقى غير المناسبة، فتفسد هذه العلاقة الرياضية، وتحط من نفس الإنسان وتحطم بدنه. وهكذا كان بويتيوس، في العالم الروماني، خير مدافع عن الرأي اليوناني في فلسفة الجمال، كما بدأه الفيثاغوريون وطوره أفلاطون، وهو الرأي القائل إن الموسيقى ترتبط بنا بحكم الطبيعة، وإن في وسعها صلاح الخلق أو إفساده.
ولقد بدأ الفيلسوف الروماني بويتيوس نشاطه في ميدان الموسيقى كواحد من أتباع المذهب الفيثاغوري والأفلاطوني، فاتفق مع هذين المذهبين الفلسفيين على أن الموسيقى في أساسها ذات طابع رياضي، وينبغي أن تستخدم وسيلة تمهد لدراسة الفلسفة. كذلك أيد بويتيوس الرأي القائل إن للموسيقى قيمة أخلاقية تحض الناس على التزود من العلم، وتساعد على تقريبهم من الحقيقة الحقة بتحريرهم من هذا العالم الخداع، عالم التغير المحسوس. وكان بدوره يؤمن بأن في مقدور الموسيقى أن تحط من معنويات الإنسان إذا كانت متجهة إلى إثارة انفعالاته. وكان بويتيوس يرى أن الإنسان قد وهب قدرات موسيقية فطرية، وأن في وسع المرء أن يتخلص من النواحي الحسية في هذا الفن الذي يثير الرغبات الحسية في كثير من الأحيان، بالانصراف إلى الدراسة النظرية للموسيقى بما تقتضيه من تفكير عقلي؛ إذ إن العقل أسمى من الحواس.
ولقد كان هذا الفيلسوف المبكر النضج في سن العشرين عندما أهدى كتابه في الموسيقى إلى من هم في مثل سنه، على أمل أن يثير فيهم حب الفلسفة، وإن يكن ذلك أملا ميئوسا منه، ولكن بويتيوس لم يتم كتاباته في الموسيقى، وكانت كل إشاراته إلى الموسيقى، خلال بقية سني حياته، تؤكد أهمية الجانب التعليمي فيها بوصفها مبحثا عقليا، وقيمتها في تحقيق حياة أخلاقية سليمة.
وقرب نهاية حياته، عندما كان قابعا في سجن ينتظر فيه موته السابق لأوانه، كتب عن ربة الموسيقى «موزي»، فوصفها بأنها عروس بحر «سيرينا»، تضلل كل من وقعوا تحت تأثير سحرها الخلاب، وأطلق على ربة الشعر والغناء اسم «بغي المأساة» التي تقدم إلى الإنسان «سما حلو المذاق»، بدلا من أن تعطيه بلسما فلسفيا شافيا يخفف به عن نفسه أعباء الحياة. وهكذا فإن الفلسفة وحدها، أم الربات «الموزي» جميعا، هي وحدها التي أقبلت على بويتيوس تقدم إليه السلوى، وهو راقد على فراش الموت.
13
ولقد كان الهدف الذي اختطه بويتيوس لنفسه في الأصل هو «التوفيق بقدر ما بين أفكار أرسطو وأفلاطون»، وكان تأثير فلسفته في موسيقى العصور الوسطى عميقا باقيا «فقد أعلن بويتيوس أن من الضروري، لكي يصل المرء إلى «قمة الكمال» التي لا نبلغها إلا بفضل الدراسة الفلسفية وحدها، أن يكون للمرء إلمام كامل بميادين تمهيدية للمعرفة ، هي العلوم الرياضية، أو الرباع
Quadrivium ، وهو لفظ يبدو أن بويتيوس ذاته هو الذي أدخله في اللغة اللاتينية ... وكان بويتيوس مقتنعا بأن كل من يهمل هذه الدراسات يظل إلى الأبد جاهلا بالفلسفة في مجموعها، ولا أمل له فيها. وليس لمثل هذا الإهمال دواء؛ إذ إنه يضيع إلى الأبد فرصة الفوز على الدارس الذي يتوق إلى بلوغ قمة الكمال؛ فمن لم يمر بدراسة الموسيقى داخل نطاق الرياضيات، فإن عالم الفلسفة يظل مغلقا في وجهه. وفي عبارة أخرى فإن اكتساب معرفة الرياضيات ضرورة لا غناء عنها. وهدف الدراسة وغاية التعليم هو الفلسفة في كل الأحوال، غير أن الطريق الوحيد الموصل إليها يمر عبر الرياضيات.»
14
نامعلوم صفحہ