وفي إشارات أفلوطين (204-269م) إلى الموسيقى ظهر طابع الأفلاطونية المحدثة بوضوح «فلما كانت كل موسيقى تهتم أساسا باللحن والإيقاع، فلا بد أن تكون انعكاسا أرضيا للموسيقى التي تتمثل في إيقاع العالم المثالي. ويمكن القول عن الصنائع، كالبناء والنجارة، التي تضفي على المادة صورا وأشكالا، إنها فيما تقتدي به من نماذج تستمد مبادئها من ذلك العالم وما فيه من تفكير. أما في هبوطها بهذه النماذج وربطها إياها بالعالم المحسوس، فإنها لا تكون منتمية تماما إلى عالم المعقول، وإنما يرجع أصلها إلى الإنسان.»
60
وقد اتفق أفلوطين مع أفلاطون وأرسطو في الاهتمام بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، ولكنه اختلف عنهما في أنه لم يجعل هذه القيمة مبنية على أساس سياسي، وإنما على أساس ديني؛ فبواسطة الجمال، وعن طريقه، يطهر الإنسان روحه، فينتقل بذلك في مدارج الخير واحدا بعد الآخر، فإذا كان الإيقاع في الموسيقى مظهرا أرضيا للإيقاع في العالم المثالي، كانت الموسيقى أقدر الفنون على الارتقاء بالإنسان إلى مراق أنقى وأصفى، ولكنه كان بدوره يخشى مثل أفلاطون من أن يؤدي هذا النبض الإيقاعي ذاته، بالمثل، إلى بث الشر في النفوس. ولقد بدأ أفلوطين حيث انتهى أفلاطون، ونسب الخلق الفني إلى قدرة الإنسان على محاكاة المثل الأعلى؛ فالوحي يأتي من أعلى، ولا بد أن يكون التكوين المزاجي للموسيقى معينا له على أداء هذه الرسالة في الحياة، فلا بد له أن يكون «سريع الاستجابة للجمال إلى أبعد حد»، منجذبا إليه إلى حد الافتتان به؛ بحيث تكون استجابته لدوافعه هو ذاته بطيئة إلى حد ما، أما استجابته للمثيرات الخارجية فتكون فورية مباشرة «وفضلا عن ذلك ينبغي أن يكون الموسيقي حساسا للأنغام والألوان، نفورا من الأصوات الخشنة غير الإيقاعية»؛ فالروح الموسيقية تهفو إلى «التناسق والأنموذج الجميل الصورة». «هذا الميل الطبيعي ينبغي أن يكون نقطة بداية مثل هذا الشخص؛ فلا بد أن يكون ممن يجتذبه النغم والإيقاع وجمال الصورة في المحسوسات. ولا بد أن يعرف التمييز بين الصور المادية وبين الوجود الحقيقي الذي هو مصدر كل هذا التطابق، ومصدر كل التنظيم المعقول في العمل الفني. وينبغي أن يعلم أن ما كان يسحره ليس إلا انسجام العالم المعقول، وما في ذلك المجال من جمال، وليس صورة معينة للجمال، وإنما الجمال الشامل والجمال المطلق، ولا بد أن تغرس فيه حقائق الفلسفة لكي تؤدي به إلى الإيمان بما يملكه في ذاته، وإن لم يكن على علم به.»
61
وعندما يتم تأليف الموسيقى، يكون في وسع الخلق الفني للملحن أن يسحر النفس البشرية إلى حد أن المستمع إلى الموسيقى لا يكاد يشعر عن وعي بتأثيرها الخلاب فيه؛ ففي استطاعة الموسيقى أن تثير في النفس أحوالا متعددة دون أن يملك السامع إلا الاستسلام لها.
62
ولقد كانت الموسيقى في نظر أفلوطين أشبه بالصلاة؛ إذ إنها تتيح للسامع أن يتحد بالملحن «فالصلاة تستجاب لمجرد أن الطرفين يتوافقان مع نغمة واحدة، كوتر موسيقي يغمز من أحد طرفيه فيتذبذب في الطرف الآخر بدوره. وكثيرا ما يؤدي عزف وتر إلى إثارة ما يمكن أن يعد إدراكا في وتر آخر، نتيجة لانسجامها وتناغمها في سلم موسيقي واحد، فإذا كانت ذبذبة «ليرا» تؤثر في «ليرا» آخر بفضل ما بينهما من تعاطف، فلا بد أن يكون هناك نظام لحني واحد في «الكل»، على الرغم من كونه مؤلفا من أضداد، هو التشابه والتقارب.»
63
وهكذا فإن النظرية الأخلاقية في الموسيقى، التي علت مكانتها عند أفلاطون، قد اكتسبت مزيدا من القوة الدافعة على يد أفلوطين، ثم أصبحت هي السائدة طوال تاريخ الفن في العصور الوسطى.
وبعد عامين من وفاة أفلوطين، ظهر قسطنطين إلى العالم ليجعل من المسيحية عقيدة الدولة في عهده. وقد أسهم فرفوريوس (233-305م) تلميذ أفلوطين، الذي ألف شرحا لكتاب «الهارمونيات
نامعلوم صفحہ