أما في الأسلوب فكان يرمي إلى أن يعودنا الاستقلال في الفكر والعمل، فكان يلقي الدرس ويشرح نظريته ثم يترك كل طالب يحمل عبء نفسه في كتابة ما سمع وربط الأفكار بعضها ببعض، فكان ذلك من أشق الدروس علينا أولا، وأعودها بالفائدة أخيرا - حتى شعر كل طالب أن درس الأخلاق منحه عينين أخريين نظر بهما للحياة من جديد، وأكسبه قوة على الحكم لم تكن له من قبل، ومنحه قدرة على تقويم الأشياء قيما جديدة.
كان للفقيد دروس أخرى قيمة، ولكن لا بالمعنى المتعارف من الدروس. طريقته فيها أشبه بطريقة سقراط، يظهر في الطلبة أوقات فراغهم فيلتف حوله الكثير منهم، فيتكلم معهم في موضوع تخلقه المناسبة، فيرد عليه الطلبة ويرد عليهم، ويدفع الحجة بالحجة حتى يصل في النهاية إلى تكوين فكرة واضحة عند الطلبة في الموضوع الذي يبحث فيه، فكان ذلك درسا في المنطق العملى من ألذ الدروس.
رأينا منه كيف كانت تعرض الفكرة فيحللها تحليلا في منتهى الدقة ويسلط عليها من أشعة ذهنه ما يضيئها من كل جانب. وكانت آراؤه تدوي بين الطلبة وتعارض وتحاكى وترن في الآذان حتى يأتي موضوع جديد يحل محل القديم.
كذلك كان شأنه مع الأساتذة، يتحين فرصة اجتماعهم فيجلس معهم يستمع لحديثهم، ثم يستمد من قولهم فكرة أو مبدأ يشرحه ويدلل عليه؛ وكثيرا ما يستطرد لنقد فكرة شائعة، أو أسلوب في التربية أو نحو ذلك، وهو فيما يقول شجاع لا يبالي أكان سامعوه على رأيه أو غير رأيه، هشوا له أو امتعضوا منه.
قد كان في المدرسة أساتذة من خيرة المحافظين، وآخرون من خيرة الأحرار؛ وكان عاطف حرا في تفكيره، تحرر عقله من كثير من التقاليد. ليست عادتنا عنده خير العادات ولا آراؤنا خير الآراء، ولا كتبنا المؤلفة خير الكتب؛ فكان يهاجم المحافظين مع الأدب التام في نقده. ينزل إلى ميدان البحث وهو واثق بالظفر، لإمعانه في الفكرة قبل أن يعتنقها، ولوضوح الحقائق في ذهنه وضوحا تاما، وتميز كل حقيقة عن أختها، فلا يختلط بها ما يشابهها، وأخيرا لشعوره بقوة إقناعه؛ ومن ثم كان كبير الثقة برأيه، يندر أن يعدل عنه. وقد أدته هذه الثقة إلى قوته وصلابته في تنفيذ ما يرى؛ فليس يرجع في منتصف الطريق، ولا يبالي بالعقبات العظيمة تعترضه وتقف في سبيله؛ كما لا يعبأ بغضب الغاضبين وسخط الساخطين، ثقة منه بأن الناس سوف يتطعمون الحق، فينقلب غضبهم رضا وكراهتهم حبا. سمعته قبيل وفاته يصف حفلة أقيمت في مدرسة الأمريكيين للبنات فيقول: إن خير ما سمعته في هذه الحفلة قول فتاة في وصف رجل: «إنه يضحي شهرته وجاهه في سبيل نصرة الحق»، فكان إعجابه بهذه الجملة معبرا عما عرفناه عنه من تغلغل هذه الفكرة في نفسه ومصادفتها هوى في فؤاده.
تراه مع شدة وثوقه برأيه واسع الصدر جدا للرأي المخالف، فهو يصغي لكل ناقد، وأحيانا يشتد الناقد في نقده، ويشوب نقده بشيء كثير من الحدة أو التعريض، فيقابل ذلك باطمئنان، ويستخرج الحدة أو التعريض وحده ويضعه جانبا، ثم يستخلص ما في قول الخصم من رأي فيرد عليه.
ومع تمام حريته في التفكير لم يكن تام الحرية في العمل؛ فكان عند وضع الرأي موضع التنفيذ يراعي كل ما يحيط به من ظروف، ويرى الإصلاح تدريجيا لا طفرة؛ فكان يمزج فكرته الحرة بشيء غير قليل من تقاليد المحافظين عند العمل.
ودرس آخر أعظم من هذا كله وهو إدارة المدرسة، فإنها الجو الأخلاقي الذي يتنفس منه طلبة المدرسة وأساتذتها، وفي الحق كانت به مدرسة القضاء م تنبت فيه الأخلاق الفاضلة. أساس الإدارة عنده مصلحة المدرسة لا مصلحة شخصه. فخير أساتذة المدرسة أنفعهم لها ولو كان فيه جفاء، أكسد بضاعة عنده الملق والنفاق، إن دخلا في تقدير العامل فسلبا لا إيجابا.
جد لا يعرف دعة ولا يستوطئ راحة؛ ألم تره قبيل وفاته قد خذلته قواه ولم يسعفه نشاطه، يمشي متطرحا ويكاد يتساقط من الإعياء، وهو مع ذلك يتحامل على نفسه ويتطلب ما يأباه القدر عليه؟
رجل بين الرجولة، يكره السفاسف ولا يتدنى إلى الصغائر؛ لا تسمع له حديثا في تافه من القول ولا سخيف من الهذر؛ إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه فهو مملوء الهيبة موفور الكرامة.
نامعلوم صفحہ