وليس يمكن أن تعد المدنية مدنية راقية إلا إذا وجد فيها الجانبان، وكانا معا راقيين، وكانا متوازيين.
فلننظر - في ضوء هذا القول الجميل - إلى المدنية الحديثة، أهي مدنية صالحة؟ أهي مدنية راقية؟ أهي أمل الإنسانية؟
الحق - مع الأسف - أنها ليست كذلك.
لقد نجحت في الجانب المادي نجاحا فوق ما كان ينتظر، وفشلت في الجانب الروحي فشلا أبعد مما كان ينتظر، فأما الذين يهمهم الرواة والمنظر وحسن الشكل والمتعة المادية فقد صفقوا للمدنية الحديثة حتى كلت أيديهم من التصفيق، وبحت أصواتهم من نداء الاستحسان؛ وأما الذين يهمهم من الإنسان روحه لا جسمه، ومن المادية روحها لا مادتها، فنالهم شيء غير قليل من اليأس. أما المادية فحدث عنها ولا حرج، لقد حلقت الطيارات في السماء، وغاصت الغواصات في قاع الماء، وأتت الكهرباء بالسحر الحلال، تضغط على زر فتبعث ما شئت من أنوار، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حرارة، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حركة؛ هذا التليفون بين أوربا وأمريكا ، وهذا اللاسلكى يفعل أعاجيبه، بل كيف أعد والمخترعات لا تحصى عددا، والعجب منها لا ينتهي أبدا، حتى ظننا أن العالم احتفظ بأسراره كلها منذ خلق، ثم باح بها جميعها لرجال المدنية الحديثة، فلم يعد لديه سر، وكل ما في الأمر تصفية حساب الأسرار.
ولكن لا تخدعنك هذه المظاهر، فالمثل العامي يقول: «لا يعجبنك البيت وتزويقه، فساكنه قد جف رقيه»، لا تنظر إلى المكان وانظر إلى السكان.
هذه مشكلات العمال العاطلين، وهذه الملايين المملينة من البائسين، وهذه الحروب الطاحنة في أسبانيا، بين الشيوعيين والفاشستيين، وهذه الدول كلها تتسلح لتقذف بأبنائها جميعا في أتون من نار مساحته الأرض كلها، وهذا وهذه، مما لا يعد من ضروب الشقاء.
هذا هو القصر السعيد، فأين سكانه السعداء؟ وهذه هي السفينة الجميلة المعدة بكل وسائل الإعداد، فأين بر السلامة؟ وهذا «الفرح»، فأين «العريس»؟!
سر هذا الشقاء كله طغيان جانب المادة على جانب الروح. سر هذا كله أن المدنية الحديثة عجزت عن أن تنظر إلى الإنسان كوحدة على الرغم من أنها قربت بطرق المواصلات والمعاملات بين أجزاء العالم.
لقد قربت في المكان وباعدت بين السكان، تقدمت في علم الجغرافيا ولم تتقدم في علم الاجتماع، استكشفت الجبال والوديان والصحاري والأنهار والبحار، ولم تستكشف قلب الإنسان. عملت على وحدة الإنسان جغرافيا، وعملت على تفريقه اجتماعيا؛ فما أغرب شأنها، وما أصح عينها، وما أضعف ذكاءها!
لقد تساءلت المدنية: كيف نعيش؟ فحسنت كيف نعيش، ولكن لم تتساءل لم نعيش، وكيف يجب أن نعيش، وما الغاية التي لأجلها نعيش، فلم تتقدم في هذا الباب شيئا.
نامعلوم صفحہ