على كل حال نعمنا بالصداقة حينا تساهمنا فيه الوفاء، وتقاسمنا الصفاء، أسافر إلى الإسكندرية فأرى أول واجب علي أن أزوره، ويحضر إلى القاهرة فيرى أول واجب عليه أن يزورني، وأكتب إليه، ويكتب إلي، ثم عفى الزمان على الصداقة ففترت حرارتها، وخمدت جذوتها، لا لسبب إلا أن الصداقة ككل حي إذا لم تغذ بالمقابلة والمكاتبة أسرع إليها الذبول فالفناء. •••
ثم دارت الأيام دورتها، وتعرفت في الأسكندرية بإنسان جديد، فإذا هو صديقي القديم، هو في هذه المرة بدين بطين، مطهم الوجه، ريان السواعد؛ كنت في أيامي الأولى أقرأ في أرنبة أنفه وصفاء جبهته آيات السذاجة والإخلاص، وكنت أرى في وجهه وجلسته عزوفا عن الدنيا، وزهدا في الاستكثار منها، ورضى بميسورها؛ وكنت ألمح في فتور عينه حياء العذراء وخجل المخدرات؛ وكنت أرى في نبرات صوته وحركات جفونه ونظرات عينه دينا وورعا، فإذا كل ذلك قد استحال كما يستحيل الماء إلى ثلج؛ وعلمت أنه قد ورث من أبيه فأثري، وسمحت لي الظروف بمخالطته فأدهشني ما رأيت من تغير وانقلاب - رأيته وقد أماط عن وجهه قناع الحياء، وخلع ربقة الحشمة، يداخل الناس ويمازجهم، حسن الصحبة، جميل العشرة، يضرب بسهم وافر في المفاكهة والتنادر، جيد القصص، حسن الحديث، لا يأنف من حديث فاجر إذا كانت فيه نكتة حلوة، كثرت أصحابه على اختلاف منازعهم وطبقاتهم؛ وهو عند كل جماعة منهم قطب الرحى، يمتزج بأرواحهم ويتصل بقلوبهم، خبير كل الخبرة بأندية اللهو وما إليها، يعرف جد المعرفة برامج السينما في كل أسبوع، وما يمثل من روايات في كل فصل من الفصول، وعنده الخبر اليقين عن كل مغن ومغنية وفنان وفنانة أتت من مصر إلى الإسكندرية تغني أو تمثل، ذهب عنه خفر عينيه وأصبح يتعشق الجمال ويتتبعه، ويحملق فيه ويشتهيه؛ شغلت المسائل المالية جزءا كبيرا من عقله، فهو كثير التفكير فيها، له ديون وعليه ديون، وله قضايا وعليه قضايا، وله دفاتر حساب دقيقة، وله آمال مالية واسعة.
حادثته مرة، وكان أشد ما أريد استطلاعه منه أن أعرف حال دينه الذي كان يملك عليه قلبه وعقله، والذي كان يغمر حياته ويسيطر على كل خطوة من خطواته؛ فإذا عقله حر شديد الحرية في تفكيره، قد تحرر من كل قيد، يعجب بالمدنية الحديثة ويستلهمها الرأي ويستوحيها النظر، ويتخذ عماد منطقه ومصدر حكمه على الأشياء ما يفعله الأوربيون وما لا يفعلون. قد يعارض ما يراه من ضروب المدنية مبدأ من مبادئ دينه فيظهر عليه نوع من الارتباك والحيرة، ويجمجم في القول ويتبين في قوله الاضطراب بين دين خالط لحمه ودمه شطرا من حياته، وبين عقل نزع إلى الحرية في آخر أيامه، ويشعر بثقل الموقف على نفسه فيجتهد في تحوير الحديث، وتغيير مجرى القول إلى حيث يسترد كامل رأيه، ومنتهى حريته. هذا عقله، وأما قلبه فدينه في رف من رفوفه، لم يملأه، ولم يخل منه؛ لذلك حرت أن أسميه مؤمنا أو كافرا، ماشيته مرة على البحر فرآه جميلا جليلا، ورأى القمر يسطع عليه بنوره الساحر، فصاح: هذا موضع سجود، فصلى على الرمل؛ ودعاني مرة إلى ملهى فكان فيه كمن لا يؤمن بحساب ولا عقاب؛ وهكذا تذبذبت حياته بين نزعة قديمة، ونزعة جديدة، ودين نشأ عليه، وتحرر مال حديثا إليه؛ حينا يتحرك دينه وينتفش حتى يعم قلبه، وحينا ينكمش وينكمش حتى لا يكاد يرى أو يحس. •••
حننت إليه لما بيننا من حب قديم، ولكن لست أدري: لم لم تتأكد بيننا الصداقة في هذه المرة كما تأكدت من قبل، أكان يعطفني عليه دينه وقد رق؟ أم كان يحننني عليه ما فيه من ضعف - مظهره الحياء والخجل، وقد قوي فلا حياء ولا خجل؟ أم كانت تؤلف بيننا وحدة فتعددت، وأسلوب واحد في الحياة فتفرقت بنا السبل؟ لعله شيء من ذلك، ولعله كل ذلك، ولعله شيء غير ذلك؛ على كل حال تركته وبيننا ود دخله العقل فخف، وصداقة جال في نواحيها الفكر فنثرت.
لقد خليته، وأنا أفكر في شأنه. لقد عاش شيخا وهو شاب، وعاش شابا وهو شيخ. عصى هواه صغيرا وأطاعه كبيرا، فليته ولد كبيرا ثم عاد صغيرا. وليت شعري هو في أي حاليه أسعد: أيوم فر من العالم إلى دينه، أم يوم فر من دينه إلى العالم؟ - إنه ليمثل في حياته العالم خير تمثيل، موجة دين تتبعها موجة إلحاد، وموجة روحانية تتلوها موجة مادية، وهكذا دواليك؛ وما أدري أيقف صديقنا في تطوره عند هذا الحد، أم يعود سيرته الأولى، أم يختلط مسلكا جديدا لا هو هذا ولا هو ذاك؟ الله أعلم.
لذة الشراء
بالأمس ضحك مني بائع الكتب القديمة، إذ رآني أقلب في الكتب، وأذهب ذات اليمين وذات الشمال، وأصعد على الكرسي وأنزل من عليه، والكتب بعضها بال عتيق قد غلف بالتراب وأكلته الأرضة، وكلها وضعت حيثما اتفق، لم يعن فيها بترتيب حسب الموضوع ولا حسب الحجم ولا حسب أي شيء، ولم يبذل أي جهد في تنظيفها وعرضها؛ فكتب في الأرض، وكتب في السماء، وكتب في الرف، وكتب على المقاعد، وكتب في الممشى؛ والبائع رجل تقدمت به السن، زهد البيع وزهد الشراء، وإنما يبيع ويشتري لأنه اعتاد أن يبيع ويشتري؛ كل ما في أمره أنه فضل أن يجلس في الدكان على أن يجلس في البيت، إذ يرى الرائحين والغادين، ويستقبل الزائرين، ومن حين إلى حين يبيع كتابا أو كتابين.
وسط هذه المكتبة المغمورة بالكتب، والمغمورة بالتراب، والمغمورة بالفوضى انغمست ببذلتي البيضاء، القريبة العهد بالكواء، أبحث عن كتب نادرة أشتريها، وأتصفح كتبا أتعرف قيمتها، فضحك إذ رأى غراما بالكتب يشبه الجنون؛ ورغبة في البحث والشراء تشبه الخبل.
لا تضحك - يا سيدي - فإنما هي لذة الشراء أصيب الناس بها جميعا، وإن اختلفوا في مقدار الإصابة، فقد تهور فيها قوم، واعتدل فيها آخرون ؛ وهي ظاهرة في منتهى القوة والغرابة، تتجلى بأجلى مظاهرها في الهواة؛ فهذا هاوي سجاجيد يجن جنونه إذ يرى سجادة قديمة، صنعت في أصفهان في القرن الخامس عشرن أو السادس عشر، يحتقرها الرائي العادي، ولا يرضى أن يأخذها ولا بالمجان، ويشمئز أن يراها في بيته، فإذا الهاوي يجري ريقه ويتحلب فمه، كأنه جائع سغب أمام أكلة لذيذة، ولا يجد ثمنها فيستدينه؛ وقد ينقصه الضروري من وسائل العيش ومرافق الحياة فيعمى عنه، ولا يرى أمامه إلا السجادة وشراءها ولتكن النتيجة بعد ما تكون، وسيتكفل الزمن بأداء الدين، وليحمل الزمن وحده عبء ما يحتاج إليه من ضرورات العيش، بل سواء أحلها أم لم يحلها، فليس في الوجود ما يعدل هذه السجادة.
وكذلك الشأن في هاوي طوابع البريد، وهاوي الكتب، وكل الهواة، نمت عندهم على مر الزمان لذة الشراء لما يهوون، وغذاها كثرة الشراء وأحاديث أمثالهم الذين يحيطون بهم وإظهارهم الإعجاب الشديد بما اقتنوا، فإذا نظروا إلى سجادة عجبوا من لونها الباهت، وخيوطها التي هلهلها الزمن، وصورها غير المنسجمة، ونحو ذلك مما يدل على إمعان في القدم؛ وكلما كان خيطها أبلى، ونسيجها أبسط، وتصويرها أتفه، كانت أشد استخراجا للعجب؛ وكانوا أكثر لها تقويما، وأشد لها إعظاما، وكانت لذة الشراء عند الهواة أشد طغيانا، وهم أمامها أشد ضعفا.
نامعلوم صفحہ