أما «هو» الآخر فجميل الصورة، ظريف الهيئة، حسن الحلية، ممتلىء البدن، ريان الجسم، واسع البطن، أنيق الملبس إلى آخر حد الأناقة، دقيق الذوق في تناسب الألوان، وتناسق الأشكال، حتى يعد حجة فيما يلبس وما لا يلبس، وما يتناسب وما لا يتناسب؛ لأنه خبير بأحدث الأزياء، بل هو فيها مخترع فنان، يحدثك حديثا مستفيضا عن خير الخياطين ومزاياهم وعيوبهم ومواضع الإجادة والعيب فيهم.
وشيء آخر يجيد ذوقه، ويجيد التحدث فيه، ويجيد وصفه ويجيد نقده، وهو الطعام والشراب؛ فإن أردت أن تعرف لونا من الطعام لا يناسب لونا او أردت حديثا شهيا عن طعام شهي أو عن المائدة وكيف تنظم، وعن بيوت مصر وما يجيده كل بيت من الأصناف، فهو في ذلك الذي لا يبارى، وله فوق ذلك العلم الدقيق الواسع في صنوف الشراب، فأيها قبل الأكل، وأيها على الأكل وأيها بعد الأكل، وأي ألوان الشراب يصح أن تجتمع وأيها لا يصح، وأي أنواع الشراب تجيده فرنسا، وأيها تجيده ألمانيا وأيها أسبانيا - بل كل هذه معلومات أولية بالنسبة إليه، فعنده ما هو أدق في ذلك وأعمق.
هذه هي الدنيا وهذه هي الحياة، وهل أنت آخذ من دنياك إلا ما طمعت وما شربت وما لبست؟
وله كذلك حديث طريف عن النساء وأوصافهن؛ فهو يجيد الحديث عن سحر العيون، ورشاقة القد، ولطافة التكوين، وبراعة الشكل، وهيف القوام إلى آخر ما هنالك، ثم يتبع هذا بالكلام على مغامراته وما شاهده في حياته، كأنه كان له في كل خطوة حادثة نسائية، وفي كل سفر عشق، وفي كل مجتمع غرام. والعشق العفيف، والهوى العذري والحب الأفلاطوني ألفاظ جوفاء، لا تدل على شيء إلا على جنون قائلها أو ريائه. ينظر للمرأة نظر الأفعى للعصفور، وله من وسائل الإغراء ونصب الشباك، ورسم الخطط ما يعجز عنه القائد الماهر والصائد الحاذق؛ فما هو إلا أن يضع عينه على فريسته حتى يخلق من الحركات والأفاعيل والأحاديث ما يلفت النظر، وإذا هو في حديث جذاب مع من أحب.
وإلى هنا ينتهي علمه الواسع وقدرته الفائقة.
ثم ما الخلق وما الفضيلة وما الحق؟ ليست إلا كلمات اخترعها الأقوياء ليستغلوا بها الضعفاء. ولا بأس من استعمالها أحيانا متى جلبت خيرا أو دفعت ضيرا، ولم يخلق الله أسخف ممن يزعمون أنهم يتمسكون بمبدإ؛ فليس في الدنيا مبدأ صحيح إلا المبدأ القائل: «الغاية تبرر الوسيلة» على أن تفسر الغاية بغايتي لا غاية غيري؛ فكن «وفديا» في دولة الوفد، و«شعبيا» في دولة حزب الشعب، و«حرا دستوريا» في دولة الأحرار الدستوريين، والعن في كل دولة أعداءها، وتغن بمناقبها متى كان هذا ينيلك «درجة» أو على الأقل «علاوة»، واجعل مبدأك مشايعة الزمان، تقبل على من أقبل عليه، وتدبر عمن أدبر عنه؛ ولا تأخذ شيئا «جدا» فما الحياة إلا لهو ولعب، فإن استطعت أن تجعلها كلها «مزحة» أو «نكتة» فافعل فهكذا خلقها الله.
صادفته يوما في فندق، فلما نزل إلى البهو استرعى نظر الناس بشكله وأناقته ولباسه وأمره للخدم ونهيه، وتحدث بصوت عال قليلا، فإذا ضحك يتصاعد من هنا ومن هنا، وإذا الصوت يرتفع شيئا فشيئا والتفات الناس يزيد شيئا فشيئا، وإذا الحديث جذاب، وإذا هو محور من في المجلس وقيد أبصارهم وآذانهم.
وشأنه في «المصلحة» التي يعمل فيها شأنه قى الفندق، كعبة القصاد ونجمة الرواد، يقضي الحاجات لتقضى حاجاته، وينفذ أغراض من هو أكبر منه لينفذ أغراضه من هو أصغر منه، وهكذا اتخذ «وظيفته» تجارة، يحسب فيها في دقة ما يشتري وما يبيع، وما يدخل وما يخرج، ومقدار الرصيد، وبكم هو دائن وبكم هو مدين.
لعل الذي جعل من الإنسان ذكرا وأنثى، وجعل منه من يميل إلى الشعر والخيال، ومن يميل إلى الحقيقة والواقع، جعل الناس كذلك أحد هذين الرجلين، وكل ما في الأمر أنه قد يكون «هو» الأول صرفا و«هو» الثاني صرفا، وقد يكون خليطا منهما، مزيجا بينهما. هما رجل الآخرة ورجل الدنيا، ورجل الفلسفة ورجل المادة، ورجل الأخلاق والمبادىء، ورجل المصالح والمنافع.
الصدق في الأدب
نامعلوم صفحہ