شكر وتقدير
مقدمة
1 - ظهور مفهوم الفوضى
2 - النمو الأسي واللاخطية والتفكير المنطقي
3 - الفوضى في السياق: الحتمية والعشوائية والتشويش
4 - الفوضى في النماذج الرياضية
5 - الأشكال الكسرية وعناصر الجذب الغريبة والأبعاد
6 - قياس ديناميكيات عدم اليقين
7 - الأعداد الحقيقية والملاحظات الحقيقية والحواسب
8 - الإحصائيات والفوضى
9 - القابلية للتوقع: هل تقيد الفوضى توقعاتنا؟
10 - الفوضى التطبيقية: هل يمكن فهم أي شيء من خلال نماذجنا؟
11 - الفلسفة في الفوضى
مسرد المصطلحات
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
مقدمة
1 - ظهور مفهوم الفوضى
2 - النمو الأسي واللاخطية والتفكير المنطقي
3 - الفوضى في السياق: الحتمية والعشوائية والتشويش
4 - الفوضى في النماذج الرياضية
5 - الأشكال الكسرية وعناصر الجذب الغريبة والأبعاد
6 - قياس ديناميكيات عدم اليقين
7 - الأعداد الحقيقية والملاحظات الحقيقية والحواسب
8 - الإحصائيات والفوضى
9 - القابلية للتوقع: هل تقيد الفوضى توقعاتنا؟
10 - الفوضى التطبيقية: هل يمكن فهم أي شيء من خلال نماذجنا؟
11 - الفلسفة في الفوضى
مسرد المصطلحات
قراءات إضافية
مصادر الصور
نظرية الفوضى
نظرية الفوضى
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
ليونارد سميث
ترجمة
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
علا عبد الفتاح يس
مراجعة علمية
أ.د. انتصارات محمد حسن الشبكي
إهداء إلى ذكرى ديف بول ديبير؛
الفيزيائي الحق، والصديق الحقيقي.
شكر وتقدير
ما كان هذا الكتاب ليخرج إلى النور دون تشجيع والدي بالطبع، لكنني أدين بالفضل الأكبر لإيمانهما، وشكهما، وأملهما، وإلى حب عائلتي الصغيرة وصبرهم. مهنيا، أدين بالفضل الأعظم إلى إد شبيجل، أحد مؤسسي نظرية الفوضى، والأستاذ المشرف على رسالتي، ومعلمي، وصديقي. وقد أفدت كثيرا أيضا من مناقشة بعض الأفكار الواردة في الكتاب مع جيم بيرجر، وروبرت بيشوب، وديفيد برومهيد، ونيل جوردون، وجوليان هانت، وكيفن جاد، وجو كيلر، وإد لورنز، وبوب ماي، ومايكل ماكي، وتيم بالمر، وإتامار بركاتشيا، وكولن سبارو، وجيمس ثيلر، وجون ويلر، وكريستين زايمان. ويسعدني أن أعبر عن تقديري لمناقشاتي مع عميد كلية بمبروك بجامعة أكسفورد والسادة الأساتذة بها ودعمهم لي. أخيرا وبصفة رئيسية، أود أن أعرب عن امتناني لطلابي، وهم يعلمون أنفسهم. أنا لا أعرف أبدا كيف أتصرف عند سماعي على نحو عابر لحوار متبادل من قبيل: «هل تعرف أنها كانت طالبة لدى ليونارد ؟»، «آه، هذا يفسر الكثير من الأمور.» آسف لذلك، ألقوا باللائمة على شبيجل.
مقدمة
يعكس مفهوم «الفوضى» في هذا الكتاب بعض الظواهر في الرياضيات والعلوم، إنها النظم التي يكون فيها (دون خداع) للفروق الصغيرة في الطريقة التي تكون عليها الأشياء في الوقت الحالي آثار كبيرة على الطريقة التي ستكون عليها الأشياء في المستقبل. وسيكون من قبيل الخداع - بالطبع - إذا حدثت الأشياء على نحو عشوائي فقط، أو إذا ظل كل شيء في حالة ازدياد مستمر إلى الأبد. يستقصي هذا الكتاب أثر الثراء اللافت الذي ينتج عن ثلاثة محددات بسيطة، سنطلق عليها «الحساسية»، و«الحتمية»، و«التكرار». تسمح هذه المحددات بالفوضى الرياضية: سلوك يبدو عشوائيا، لكنه ليس كذلك. فعندما سمح في هذه الفوضى بقدر قليل من «عدم اليقين» وافترض أنها المكون النشط للتوقع، أثارت جدلا عمره مئات السنين حول طبيعة العالم.
يحاول هذا الكتاب تقديم هذه المصطلحات للقارئ. إن هدفي هو بيان ماهية الفوضى، ومواضعها، وكيفياتها؛ متجاوزا أي موضوعات تدور حول أسبابها التي تتطلب خلفية رياضية متقدمة. لحسن الحظ، يصلح وصف الفوضى والتوقع لفهم بصري هندسي؛ سيكشف تناولنا للفوضى القابلية للتوقع دون معادلات، مزيحا الستار عن تساؤلات مفتوحة للبحث العلمي النشط في مجالات الطقس، والمناخ، والظواهر الواقعية الأخرى ذات الأهمية.
تطور الاهتمام الحديث الواسع بعلم الفوضى على نحو مختلف عما حدث من الاهتمام الكبير بالعلوم الذي ظهر منذ قرن، عندما لامست النسبية الخاصة عصبا مألوفا كان مفترضا أن ينبض لعقود. لماذا كان رد الفعل العام تجاه تبني العلم للفوضى الرياضية مختلفا؟ ربما يتمثل أحد الأسباب في أن معظمنا يعرف بالفعل أنه في بعض الأحيان قد يترتب على الفروق الصغيرة جدا آثار هائلة. ترجع أصول المفهوم الذي بات يعرف الآن باسم «الفوضى» إلى الخيال العلمي، كما ترجع إلى حقائق العلم. في حقيقة الأمر، نمت جذور هذه الأفكار في تربة الخيال قبل أن تقبل كحقائق؛ فلعل العامة كانوا بالفعل على وعي بتداعيات الفوضى، بينما ظل العلماء في حالة إنكار. وتوافر لدى كبار العلماء وعلماء الرياضيات الشجاعة والاستبصار الكافيان لتوقع ظهور مفهوم الفوضى، لكن حتى وقت قريب اشترط الاتجاه السائد في العلم على الحلول حتى تكون صالحة ضرورة أن تكون متساوقة؛ فالأشكال الكسرية والمنحنيات الفوضوية لم تكن تعد شذوذا فحسب، بل كانت تعد أيضا أمارة على مسائل أسيء طرحها. بالنسبة إلى أي عالم رياضيات، قلما تجد اتهاما يجعله يشعر بالخزي أكثر من طرح فكرة أنه أضاع حياته المهنية في مسألة أسيء طرحها. ولا يزال بعض العلماء يكرهون المسائل التي يتوقع أن تكون نتائجها غير قابلة للتكرار، ولو من الناحية النظرية. لم تصبح الحلول التي تتطلبها الفوضى مقبولة على نطاق واسع في الدوائر العلمية إلا مؤخرا، واستمتع المتابعون من العامة بالتشفي الذي بدا من عبارة «لقد قلنا لكم ذلك» التي يقولها «الخبراء» عادة. يشير ذلك أيضا إلى سبب شيوع دراسة الفوضى في العلوم التطبيقية مثل علم الأرصاد الجوية وعلم الفلك، على الرغم من دراستها بقوة في الرياضيات والعلوم؛ فالعلوم التطبيقية تحركها رغبة في فهم الحقيقة وتوقعها، وهي رغبة تتجاوز التفصيلات الدقيقة في صور الرياضيات السائدة في وقت ما. تطلب ذلك أفرادا فريدين من نوعهم استطاعوا رأب الفجوة بين نماذجنا للعالم والعالم الواقعي دون الخلط بين الاثنين، أولئك الذين استطاعوا تمييز الرياضيات عن الواقع؛ ومن ثم وسعوا دائرة الرياضيات.
كما هي الحال في جميع كتب سلسلة «مقدمة قصيرة جدا»، تتطلب قيود المساحة اختصار عرض أو حذف بعض الموضوعات؛ لذلك فإنني أكتفي هنا بعرض بعض الموضوعات الرئيسية بشكل مفصل، بدلا من عرض شروح ضحلة لعدد كبير من الموضوعات؛ لذلك أعتذر إلى من لم أشر إلى أفكارهم وأعمالهم، وأتوجه بالشكر إلى لوسيانا أوفلاهيرتي (محررة كتبي)، ووندي باركر، ولين جروف لمساعدتي في التمييز بين أهم الموضوعات من وجهة نظري وما قد يهم القارئ.
كيف تقرأ هذا الكتاب
بينما توجد بعض المفاهيم الرياضية في هذا الكتاب، لا توجد معادلات معقدة على الإطلاق. وقد كان من الصعب تجنب استخدام المصطلحات الفنية؛ لذلك سيتوجب عليك استيعاب الكلمات الموضوعة بين علامتي اقتباس والتي توجد تعريفات مختصرة لها في مسرد المصطلحات؛ حيث إنها تمثل مصطلحات محورية في فهم الفوضى.
أرحب بأي أسئلة تتعلق بتلك المصطلحات على الموقع التالي:
http://cats.lse.ac.uk/forum/
في منتدى المناقشة الخاص بالكتاب. ويمكن العثور على مزيد من المعلومات عنها بسرعة على موقع ويكيبيديا على العنوانين التاليين:
http://www.wikipedia.org/
و
http://cats.lse.ac.uk/preditcabilitywiki/
ومن خلال المصادر المشار إليها في قسم «قراءات إضافية».
الفصل الأول
ظهور مفهوم الفوضى
منغرسة في الطين، ومتلألئة بألوان الأخضر والذهبي والأسود؛ كانت هذه فراشة، غاية في البهاء وغاية في السكون. سقطت على الأرض؛ شيء بالغ الروعة، شيء صغير يمكن أن يقلب موازين ويسقط صفا من قطع الدومينو الصغيرة، ثم الكبيرة، فالعملاقة؛ كل ذلك بمرور السنوات عبر «الزمان».
راي برادبري (1952)
السمات الثلاث المميزة للفوضى الرياضية
صار تعبير «تأثير الفراشة» شعارا ذائع الصيت في الفوضى، ولكن هل حقا من المدهش أن التفاصيل الصغيرة يكون لها في بعض الأحيان تأثيرات عظيمة؟ في بعض الأحيان ينظر إلى التفصيلة الصغيرة (مضرب المثل) على أنها الفارق بين عالم توجد فيه فراشة ما وعالم بديل مطابق للعالم الأول تماما، باستثناء أن الفراشة غير موجودة؛ ونتيجة لهذا الفارق الضئيل سرعان ما يبدأ العالمان في الاختلاف الشديد أحدهما عن الآخر. ويعرف المقابل الرياضي لهذا المفهوم باسم «الاعتماد الحساس». لا تظهر النظم الفوضوية اعتمادا حساسا فحسب، بل تمتلك سمتين أخريين أيضا هما أنها «حتمية»، و«لا خطية». سنرى في هذا الفصل ما تعنيه هذه التعبيرات، وكيف دخلت هذه المفاهيم إلى العلم.
الفوضى مهمة لأنها - جزئيا - تساعدنا على التعامل مع النظم غير المستقرة من خلال تحسين قدرتنا على توصيفها وفهمها، بل ربما توقعها أيضا. في حقيقة الأمر، إحدى الخرافات التي سندحضها عن الفوضى هي أنها تجعل التوقع مهمة لا طائل من ورائها. ثمة قصة بديلة لكنها على الدرجة نفسها من الشيوع الذي لقصة الفراشة السابقة، وهي أن هناك عالما تخفق فيه فراشة ما بجناحيها وعالم آخر لا تفعل فيه ذلك، ويعني هذا الفارق الضئيل ظهور أعاصير ورياح في واحد فقط من هذين العالمين، وهو ما يربط الفوضى بعدم اليقين والتوقع. في أي عالم نوجد؟ إن اسم الفوضى هو الاسم الذي سميت به الآلية التي تسمح بمثل هذا النمو السريع لعدم اليقين في نماذجنا الرياضية. ستتكرر هنا طوال هذا الكتاب صورة الفوضى التي تضخم من حالة عدم اليقين والتوقعات المحيرة.
أصول مفهوم الفوضى
تنتشر التحذيرات من الفوضى في كل مكان، حتى في دور الحضانة التي تحكى فيها قصة التحذير الخاص بإمكانية فقدان مملكة بسبب غياب مسمار، والذي يرجع تاريخه إلى القرن الرابع عشر؛ نشرت النسخة التالية من أغنية الأطفال المعروفة في تقويم «بور ريتشاردز ألماناك» في عام 1758 الذي نشره بنجامين فرانكلين:
بسبب غياب مسمار فقدت الحدوة،
بسبب غياب الحدوة فقد الجواد،
بسبب غياب الجواد فقد الفارس،
إذ اختطفه العدو وذبحه،
كل ذلك بسبب غياب مسمار حدوة الجواد.
لا نسعى إلى شرح أصل عدم الاستقرار في الفوضى، بل نسعى إلى تفسير تصاعد عدم اليقين «بعد» بذر البذرة الأولى؛ وفي هذه الحالة، نهدف إلى تفسير كيف فقد الفارس بسبب مسمار ضائع، وليس حقيقة ضياع المسمار في حد ذاتها. في حقيقة الأمر - بالطبع - إما أنه كان ثمة مسمار أو لم يكن ثمة مسمار، بيد أن الأغنية السابقة تخبرنا أنه إن لم يفقد المسمار، لم تكن المملكة لتضيع أيضا. سنستكشف في كثير من المواضع خصائص النظم الفوضوية من خلال بحث تأثير مواقف مختلفة قليلا.
تشيع دراسة الفوضى في العلوم التطبيقية مثل علم الفلك، وعلم الأرصاد الجوية، وعلم أحياء السكان، وعلم الاقتصاد. قدمت العلوم التي زودتنا بملاحظات دقيقة حول العالم إضافة إلى توقعات كمية، أهم المسببات التي ساهمت في تطور الفوضى منذ عصر إسحاق نيوتن. ووفق قوانين نيوتن، يتحدد مستقبل النظام الشمسي تماما من خلال حالته الراهنة. وضع العالم بيير لابلاس، الذي عاش في القرن التاسع عشر، هذه الحتمية في مرتبة مهمة في العلم؛ فالعالم الذي تحدد حالته الراهنة مستقبله تحديدا تاما يكون عالما حتميا. قام لابلاس عام 1820، باستحضار كيان بات يعرف الآن باسم «شيطان لابلاس»، وهو بذلك ربط من حيث المبدأ بين الحتمية والقدرة على التوقع من ناحية، وبين مفهوم النجاح في العلم من ناحية أخرى.
ربما ننظر إلى الحالة الراهنة للكون باعتبارها نتاجا لماضيه وسببا في مستقبله. إذا كانت هناك قوة ألمعية تستطيع في لحظة معينة معرفة جميع القوى التي تحرك الطبيعة، وجميع مواضع الأشياء التي تتألف منها الطبيعة، فضلا عن كون هذه القوة كبيرة بما يكفي لإخضاع هذه البيانات للتحليل، فسوف تتمكن من جمع كافة حركات الأجساد الكبرى في الكون، وحركات أصغر الذرات في معادلة واحدة. وبالنسبة إلى هذه القوة، لن يكون ثمة شيء غير مؤكد، وسيكون المستقبل تماما مثل الماضي ماثلا أمامها.
لاحظ أن لابلاس كان يتمتع بالبصيرة بحيث منح شيطانه ثلاث خواص؛ ألا وهي: المعرفة الدقيقة التامة بقوانين الطبيعة (جميع القوى)، والقدرة على التقاط صورة سريعة للحالة الدقيقة للكون (جميع المواضع)، وكذلك قدرات حسابية لا نهائية (قوة كبيرة بما يكفي لإخضاع هذه البيانات للتحليل). وبالنسبة إلى شيطان لابلاس، لا تمثل الفوضى أي عائق تجاه عملية التوقع. وسنبحث خلال هذا الكتاب أثر إزالة واحدة أو أكثر من هذه الخواص.
منذ عصر نيوتن وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان معظم العلماء علماء أرصاد جوية أيضا. ترتبط الفوضى وعلم الأرصاد الجوية ارتباطا وثيقا أحدهما بالآخر، عبر اهتمام علماء الأرصاد الجوية بالدور الذي يلعبه عدم اليقين في توقعات الطقس. تجاوز اهتمام بنجامين فرانكلين كثيرا بعلم الأرصاد تجربته الشهيرة في إطلاق طائرة ورقية أثناء عاصفة رعدية. ويرجع الفضل إلى بنجامين فرانكلين في رصد الحركة العامة للعواصف والتي تتحرك من الغرب تجاه الشرق، واختبار هذه النظرية عن طريق كتابة خطابات من فيلادلفيا لأصدقائه في مدن أبعد في الشرق للحصول منهم على توقعات للطقس. وعلى الرغم من أن الخطابات كانت تستغرق وقتا أطول من العواصف لتصل إلى وجهتها، كانت هذه ربما بمنزلة إرهاصات مبكرة لتوقعات الطقس. اكتشف لابلاس بنفسه قانون انخفاض الضغط الجوي مع الارتفاع، كما أسهم إسهامات أساسية في نظرية الأخطاء التي تنص على أنه عند إجراء ملاحظة أو رصد لشيء ما، لا تكون قيمة القياس دقيقة تماما من الناحية الرياضية؛ لذا دوما ثمة شيء من عدم اليقين فيما يتعلق بالقيمة «الحقيقية». يقول العلماء عادة إن أي نوع من عدم اليقين في أي عملية ملاحظة يرجع إلى «التشويش»، دون تحديد ماهية التشويش على وجه الدقة، اللهم إلا وصفه بأنه ما يربك رؤيتنا لأي شيء نحاول قياسه، سواء كان ذلك طول مائدة ما، أو عدد الأرانب في حديقة ما، أو درجة الحرارة في منتصف النهار. يفضي التشويش إلى «عدم اليقين في الملاحظة»، وتسهم الفوضى في فهمنا كيف يمكن أن تصير الأشياء غير اليقينية البسيطة أشياء غير يقينية كبرى، بمجرد وضع نموذج للتشويش. تكمن بعض الرؤى المستمدة من الفوضى في تفسير الدور (الأدوار) الذي يلعبه التشويش في آليات عدم اليقين في العلوم الكمية. صار التشويش أكثر إثارة للاهتمام؛ إذ تجبرنا دراسة الفوضى على إعادة النظر فيما قد نعنيه بمفهوم القيمة «الحقيقية».
بعد عشرين عاما من ظهور كتاب لابلاس حول نظرية الاحتمالات، قدم إدجار آلان بو مثالا مرجعيا مبكرا على ما قد نطلق عليه اليوم الفوضى في المناخ. ذكر بو أن مجرد تحريك أيدينا فقط سيؤثر على المناخ في جميع أنحاء الكوكب، ثم مضى بو يردد ما قاله لابلاس، مشيرا إلى أن علماء الرياضيات في كوكب الأرض باستطاعتهم حساب تطور «الخفقة» الناتجة عن حركة اليد، مع انتشار رقعة تأثيرها وتغييرها حالة المناخ إلى الأبد. بالطبع، يرجع الأمر إلينا فيما إذا كنا نريد أن نحرك أيدينا أم لا. تمثل الإرادة الحرة مصدرا آخر للبذور التي قد تغذيها الفوضى.
في عام 1831، في الفترة ما بين نشر أفكار لابلاس العلمية وشطحات خيال بو الأدبية، اصطحب الكابتن روبرت فيتزروي الشاب تشارلز داروين في رحلته الاستكشافية، وقادت الملاحظات التي دونت في هذه الرحلة داروين إلى نظريته حول الانتخاب الطبيعي. يشترك التطور والفوضى في أشياء كثيرة أكثر مما قد يعتقد المرء. أولا، عندما يتعلق الأمر باللغة، تستخدم كلمتا «التطور» و«الفوضى» في ذات الوقت للإشارة إلى الظواهر التي سيجري تفسيرها، وإلى النظريات التي من المفترض أنها تقوم بمهمة هذا التفسير، وهو ما يفضي في كثير من الأحيان إلى الخلط بين التفسير والشيء الذي يجري تفسيره (مثل «الخلط بين الخريطة والأرض»). طوال هذا الكتاب، سنرى أن الخلط بين نماذجنا الرياضية والواقع الذي تهدف إلى تفسيره يعكر صفو عملية مناقشة كل منهما. ثانيا، عند تدقيق النظر، قد يبدو أن بعض النظم البيئية قد تطورت كما لو كانت نظما فوضوية، مثلما أن فروقات صغيرة في البيئة يترتب عليها آثار هائلة. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت عملية التطور في تناول مفهوم الفوضى أيضا. يرجع الاقتباس المعروض في بداية هذا الفصل إلى قصة راي برادبري القصيرة «صوت كالرعد»، حيث يقتل صيادو الطرائد الكبيرة المسافرون عبر الزمن فراشة عن غير قصد، ثم يجدون المستقبل قد اختلف عندما يعودون إليه. تتصور الشخصيات في هذه القصة أثر قتل فأر، وهو ما يترتب عليه ضياع أجيال من الفئران والثعالب والأسود، بالإضافة إلى ما يلي:
يزج بجميع أنواع الحشرات، والنسور، وبمليارات لا نهاية لها من أشكال الحياة في فوضى ودمار ... طأ فأرا وستترك أثرا، مثل جراند كانيون عبر الأبدية. ربما لم تكن الملكة إليزابيث ستولد، وربما لم يكن جورج واشنطن ليعبر نهر ديلاوير، وربما لم تكن هناك الولايات المتحدة على الإطلاق. لذا كن حذرا. التزم بالجادة، ولا تنحرف أبدا!
من الواضح تماما أن ثمة أحد الأشخاص ينحرف عن الجادة فعلا، واطئا بقدمه حتى الموت فراشة جميلة صغيرة باللونين الأخضر والأسود. لا يمكن أن نبحث تجارب «ماذا لو» هذه إلا في إطار افتراضات الرياضيات أو الأدب؛ إذ لا يتوافر لدينا إلا تجسيد وحيد للواقع.
يلف الغموض أصول مصطلح «تأثير الفراشة». يسبق نشر قصة برادبري القصيرة الذي جاء في عام 1952 سلسلة من الأوراق البحثية العلمية حول الفوضى نشرت في أوائل الستينيات من القرن العشرين. أشار عالم الأرصاد الجوية إد لورنز ذات مرة إلى خفقة أجنحة نورس بحر باعتبارها عامل التغيير، على الرغم من أن عنوان المحاضرة التي أعلن فيها ذلك لأول مرة لم يكن من بنات أفكاره ، بل تشبه أيضا إحدى صوره الحاسوبية المبكرة لنظام فوضوي ما شكل فراشة. ولكن أيا كان شكل ذلك «الفرق الصغير»، سواء كان ذلك مسمار حدوة حصان مفقودا، أو فراشة، أو طائر نورس أو - كما جاء مؤخرا جدا - ناموسة «سحقها» هومر سيمبسون، لا تعتبر فكرة أنه تترتب على فروقات صغيرة آثار هائلة فكرة جديدة. وعلى الرغم من أن نظرية الفوضى لم توضح أصل الفرق البسيط، فهي تقدم لنا وصفا للتضخم السريع لذلك الفرق البسيط بنسب هائلة، وهذا من شأنه إحداث انهيار في ممالك كبرى؛ ومن ثم ترتبط الفوضى ارتباطا وثيقا بالتوقع والقابلية للتوقع.
توقعات الطقس الأولى
مثل ربان أي سفينة في ذلك الوقت، كان فيتزروي مهتما اهتماما عميقا بالطقس، وقد اخترع فيتزروي بارومترا أسهل في الاستخدام على متن السفينة، ويصعب في حقيقة الأمر المبالغة في تقدير قيمة بارومتر بالنسبة إلى ربان لا تتوافر لديه صور أقمار صناعية وتقارير عبر إشارات لا سلكية. ترتبط العواصف الكبرى بالضغط الجوي المنخفض؛ لذا من خلال توفير قياس كمي للضغط، وهو ما يسمح بمعرفة سرعة تغير الضغط، قد يوفر البارومتر معلومات حول ما هو محتمل وجوده في الأفق وهذه المعلومات قد تنقذ حياة أشخاص. لاحقا في حياة فيتزروي، صار أول رئيس لما صار يعرف لاحقا بمكتب المملكة المتحدة للأرصاد الجوية. واستغل خدمة التلغراف المطبقة حديثا حينها لجمع المعلومات الخاصة بالأرصاد الجوية وإصدار بيانات موجزة حول الحالة الراهنة للطقس في أنحاء بريطانيا. وجعلت خدمة التلغراف سرعة نقل أخبار الطقس تتجاوز سرعة الطقس نفسها للمرة الأولى. وبالتعاون مع لوفيريه الفرنسي، الذي اشتهر بتطبيق قوانين نيوتن لاكتشاف كوكبين جديدين، ساهم فيتزروي في الجهود الدولية الأولى لإجراء عملية توقع طقس آنية. انتقد عالم الإحصاء فرانسيس جالتون - ابن عم داروين - توقعات الطقس هذه بشدة، وكان جالتون نفسه قد نشر أول خريطة طقس في صحيفة «لندن تايمز» في عام 1875، كما يوضح الشكل رقم
1-1 .
شكل 1-1: أول خريطة للطقس تنشر في صحيفة على الإطلاق، والتي أعدها فرانسيس جالتون، ونشرت في صحيفة «لندن تايمز» في 31 مارس 1875.
إذا كان عدم اليقين الذي يرجع إلى أخطاء الرصد يوفر البذرة التي تنميها الفوضى، ففهم عدم اليقين هذا سيساعدنا في مجاراة الفوضى على نحو أفضل. مثل لابلاس، كان جالتون مهتما «بنظرية الأخطاء» بالمعنى الأوسع. ولتوضيح «المنحنى الجرسي» الشائع والذي يبدو في كثير من الأحيان أنه يعكس أخطاء القياس، ابتكر جالتون «كوينكانكس»، أو ما يطلق عليه الآن لوحة جالتون. تظهر أكثر نسخ لوحة جالتون شيوعا في الجانب الأيسر من الشكل رقم
1-2 . من خلال صب مجموعة من كرات الرصاص الصغيرة في لوحة جالتون، كان جالتون يحاكي نظاما عشوائيا كانت فرصة كل كرة في المرور على أحد جانبي كل «مسمار» يعترض طريقها 50:50، وهو ما يفضي إلى توزيع للكرات ذي شكل جرسي. لاحظ أن ثمة احتمالات في هذه الحالة أكثر مما في حالة خفقة جناح الفراشة التي لا يمكن تكرارها؛ إذ ربما يتلازم مسارا كرتين متقاربتين معا أو يتفرعان عند كل مستوى. سنعود مجددا إلى ألواح جالتون في الفصل التاسع، لكننا سنستخدم كثيرا قبل ذلك أرقاما عشوائية مستقاة من المنحنى الجرسي كنموذج للتشويش. يمكن رؤية المنحنى الجرسي أسفل لوحة جالتون الموجودة في الجانب الأيسر من الشكل رقم
1-2 ، وسوف نجد نسخة مبسطة من المنحنى أعلى الشكل رقم
3-4 .
شكل 1-2: رسوم جالتون التخطيطية التي ترجع إلى عام 1889 لما يطلق عليه الآن «ألواح جالتون».
تفضي دراسة الفوضى إلى استبصار جديد حول سبب استمرار كون توقعات الطقس لا يعول عليها حتى بعد مرور ما يقرب من قرنين من الزمان. هل يرجع الأمر إلى غياب التفاصيل الصغيرة عنا في طقس اليوم، وهو ما تترتب عليه آثار هائلة في طقس الغد؟ أم إلى أن الأساليب التي نتبعها - رغم كونها أفضل من أسلوب فيتزروي - تظل غير كاملة؟ إن التجسيد المناخي لتأثير الفراشة الذي ذكره بو تكمله فكرة أن العلم بمقدوره توقع كل ما هو مادي حال كون العلم كاملا، غير أنه ثمة حقيقة أدركت منذ فترة في كل من العلم والأدب، وهي أن الاعتماد الحساس سيجعل من عمليات التوقع المفصلة للطقس أمرا صعبا، بل ربما يحد من مجال الفيزياء. في عام 1874، أشار عالم الفيزياء جيمس كليرك ماكسويل إلى وجود علاقة تناسب ما تصاحب نجاح أي علم من العلوم قائلا:
ينطبق هذا الأمر فقط عندما ينشأ عن التغيرات الصغيرة في الظروف الأولية تغيرات صغيرة فقط في الحالة النهائية للنظام، ويتحقق هذا الشرط في كثير من الظواهر الطبيعية الكبرى، لكن في حالات أخرى قد ينشأ عن تغير أولي صغير تغير هائل في الحالة النهائية للنظام، كما يحدث عندما تتسبب عملية إزاحة «النقط» في اصطدام قطار سكة حديد بقطار آخر بدلا من الالتزام بمساره الصحيح.
بينما لا يعتبر هذا المثال مرة أخرى مثالا نموذجيا على الفوضى من حيث كونه يعبر عن حساسية «غير قابلة للتكرار»، إلا أنه يصلح في الوقت نفسه للتمييز بين الحساسية وعدم اليقين؛ فهذه الحساسية لا تمثل أي تهديد ما دام أنه لا يوجد عدم يقين فيما يخص موضع النقاط، أو فيما يخص أي مسار يسلكه أي من القطارين. خذ على سبيل المثال صب كوب من الماء قرب حافة في سلسلة جبال روكي. سيتدفق الماء على أحد جانبي هذه الحافة القارية نحو نهر كلورادو، ثم إلى المحيط الهادئ، وعلى الجانب الآخر إلى نهر المسيسيبي، ثم في النهاية إلى المحيط الأطلنطي. يعكس تحريك كوب الماء في أي اتجاه مقدار الحساسية؛ إذ إن أي تغيير بسيط في موضع الكوب يعني أن جزيئا محددا من الماء سينتهي به المآل إلى محيط مختلف. ربما يحد عدم يقيننا في موضع الكوب من قدرتنا على توقع أي محيط سيئول إليه ذلك الجزيء، وهو ما لا يحدث إلا «إذا» كان عدم اليقين يتجاوز الحد الفاصل للحافة القارية. بالطبع، «إذا» كنا نحاول في حقيقة الأمر عمل ذلك، فسيتوجب علينا في هذه الحالة التساؤل حول ما إذا كان ثمة خط رياضي يفصل القارات حقيقة، فضلا عن التساؤل عن طبيعة المخاطر الأخرى التي سيتعرض لها جزيء الماء، والتي ستحول دون وصوله إلى المحيط. عادة ما تتضمن الفوضى ما هو أكثر من «نقطة تحول» واحدة غير قابلة للتكرار. تميل الفوضى في سلوكها إلى أن تشبه كثيرا جزيء ماء يتبخر مرارا وتكرارا ويسقط في منطقة توجد بها حدود فاصلة قارية في كل مكان.
يعرف مفهوم «اللاخطية» بأنه كل ما هو ليس خطيا. ويدعو هذا النوع من التعريف إلى الحيرة؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يشرع في تعريف الطبيعة البيولوجية لحيوانات ليست أفيالا؟ تتمثل الفكرة الأساسية التي يجب أن تقر في الذهن الآن في أن أي نظام لا خطي سيظهر رد فعل غير متناسب؛ على سبيل المثال قد يكون أثر إضافة قشة ثانية إلى ظهر البعير أكبر بكثير (أو أصغر بكثير) من أثر القشة الأولى. تأتي استجابة النظم الخطية دوما متناسبة، فيما لا تتصرف النظم اللاخطية بالضرورة على هذا النحو، وهو ما يمنح اللاخطية دورا محوريا في نشأة الاعتماد الحساس.
عاصفة يوم ميلاد بيرنز
لكنك يا فأري الصغير لست وحدك هكذا،
بإثباتك أن التوقع أمر بلا طائل:
أفضل خطط الفئران والبشر
تذهب سدى في غير مآلها،
ولا تخلف لنا سوى الحزن والألم،
عوضا عن الفرح الموعود!
لا تزال مباركا، مقارنة بي!
لا يشغلك إلا الحاضر:
لكن آه! أنا أعود بناظري إلى الماضي،
إلى ذكريات كئيبة!
وإلى المستقبل أتطلع، على الرغم من عدم قدرتي على مرآه،
وأحزر وأصاب بالهلع!
روبرت بيرنز، قصيدة «إلى فأر» (1785)
شكل 1-3: العنوان الرئيسي لصحيفة «ذا تايمز» في اليوم التالي لعاصفة يوم ميلاد بيرنز والذي يوضح حجم الدمار الذي نتج عن العاصفة.
شكل 1-4: خريطة طقس حديثة تبين عاصفة يوم ميلاد بيرنز كما تظهر من خلال نموذج توقع لحالة الطقس (في الشكل العلوي)، وتوقع حالة الطقس قبل العاصفة بيومين للوقت نفسه يظهر يوما طقسه لطيف (في الشكل السفلي).
تثني قصيدة بيرنز على الفأر لقدرته على العيش في الحاضر فقط، وهو لا يدري ألم التوقعات غير المحققة أو الذعر الناشئ عن عدم اليقين حيال ما سيجري في المستقبل. وقد كان بيرنز يكتب في القرن الثامن عشر، عندما كان الفئران والبشر يضعون خططا في ظل مساعدة طفيفة من الآلات الحسابية. بينما قد يكون التوقع أمرا مؤلما، يبذل علماء الأرصاد الجوية قصارى جهدهم في توقع طقس الغد المحتمل بصفة يومية، وفي بعض الأحيان يصيب هذا التوقع. في عام 1990، في ذكرى ميلاد بيرنز، هبت عاصفة هائلة عبر منطقة شمال أوروبا، بما فيها الجزر البريطانية، وهو ما تسبب في أضرار بالغة في الممتلكات والأرواح. وقد مر مركز العاصفة من فوق مسقط رأس بيرنز في اسكتلندا، وصارت معروفة باسم عاصفة يوم ميلاد بيرنز. تبين اللوحة العلوية في الشكل رقم
1-4
خريطة طقس توضح تفاصيل العاصفة وقت الظهيرة في يوم 25 يناير من عام 1990. توفي من جراء تلك العاصفة سبعة وتسعون شخصا في شمال أوروبا، حوالي نصفهم من بريطانيا، وهو ما شكل أكبر عدد وفيات تسببت فيه عاصفة خلال 40 عاما، كما اقتلع نحو 3 ملايين شجرة، وبلغت تكاليف تعويضات التأمين ملياري جنيه استرليني. إلا أن عاصفة يوم ميلاد بيرنز لم تنضم إلى مثيلاتها من مجموعة التوقعات القاصرة الفاشلة؛ حيث توقع مكتب الأرصاد الجوية وقوع العاصفة.
في المقابل، تشتهر العاصفة الكبرى التي حدثت في عام 1987 بسبب نشرة الأرصاد الجوية التليفزيونية على محطة بي بي سي في الليلة السابقة على وقوعها، التي أخبرت المشاهدين بألا يقلقوا حيال الشائعات القادمة من فرنسا بقرب هبوب إعصار على إنجلترا. في حقيقة الأمر، بلغت سرعة الرياح في كلتا العاصفتين أكثر من مائة ميل في الساعة، وتسببت عاصفة يوم ميلاد بيرنز في خسائر بشرية أكثر؛ إلا أنه بعد مرور عشرين عاما على وقوع تلك العاصفة، كثيرا ما تذكر العاصفة الكبرى التي وقعت في عام 1987؛ ربما نظرا لأن عاصفة يوم ميلاد بيرنز «جرى» توقعها جيدا. تشير القصة المفضية إلى هذا التوقع إلى طريقة مختلفة يمكن أن تؤثر بها الفوضى في نماذجنا على حيواتنا دون استحضار عوالم بديلة، بعضها يتضمن فراشات وبعضها الآخر لا يتضمنها.
في الصباح الباكر ليوم 24 يناير من عام 1990، أرسلت سفينتان في منتصف المحيط الأطلنطي تقارير أرصاد جوية روتينية من موضعين يقع بينهما مركز ما صار يعرف لاحقا باسم عاصفة يوم ميلاد بيرنز. أسفرت نماذج التوقعات التي اعتمدت على هذه الأرصاد عن توقع حدوث العاصفة؛ لذلك أظهر استعراض هذه النماذج مرة أخرى بعد وقوع العاصفة أنه مع استبعاد هذه الأرصاد كانت ستقدم النماذج توقعا بوقوع عاصفة أضعف في الموضع الخاطئ. ونظرا لأن عاصفة يوم ميلاد بيرنز هبت خلال النهار، كان الإخفاق في تقديم تحذير سابق سيؤثر تأثيرا هائلا على معدلات الخسائر في الأرواح؛ لذا لدينا هنا مثال كانت بضع ملاحظات - حال غيابها - ستغير من نتيجة التوقع؛ ومن ثم مسار الأحداث الإنسانية. بالطبع، يصعب إضاعة سفينة في المحيط مخصصة لأغراض توقع حالة الطقس عن إضاعة مسمار في حدوة جواد. ثمة مزيد من الدروس المستفادة من هذه القصة، وحتى نرى مدى علاقتها بما نحن بصدده نحتاج إلى أن نرى كيف «تعمل» نماذج توقعات الطقس.
تعتبر عملية توقع حالة الطقس ظاهرة مهمة في حد ذاتها؛ إذ تجمع الأرصاد على نحو يومي في أكثر الأماكن بعدا قدر الإمكان، ثم ترسل تقارير بها وتوزع على مكاتب الأرصاد الجوية الوطنية حول العالم. وتستخدم دول كثيرة هذه البيانات في نماذجها الحاسوبية الخاصة بالأرصاد الجوية. في بعض الأحيان تكون تقارير الأرصاد عرضة لأخطاء قديمة وبسيطة، مثل تسجيل درجة الحرارة في خانة سرعة الرياح، أو حدوث خطأ مطبعي، أو وقوع خطأ فني أثناء النقل. وللحيلولة دون إفساد هذه الأخطاء للتوقع، تخضع الأرصاد الوافدة إلى مراقبة الجودة؛ بحيث تستبعد الأرصاد التي لا تتفق مع ما يتوقعه النموذج (بالنظر إلى آخر توقع له)، خاصة إذا لم تتوافر أرصاد أخرى قريبة ومستقلة تدعمها؛ إنها خطة محكمة. بالطبع، نادرا ما تتوافر أي أرصاد «قريبة» من أي نوع في وسط المحيط الأطلنطي، وإذا أظهرت أرصاد السفينة اقتراب عاصفة لم يكن النموذج قد توقع ظهورها هناك، يستبعد البرنامج الحاسوبي الخاص بمراقبة الجودة آليا هذه الأرصاد.
لحسن الحظ، جرى تجاهل نتيجة الحاسوب. كان أحد مسئولي تعديل التوقعات الجوية في نوبة عمل وأدرك القيمة الهائلة في هذه الأرصاد، وكان عمل المسئول يتمثل في التدخل عندما يقدم الحاسوب نتائج غير منطقية تماما، وهو الأمر الذي يتكرر كثيرا. وقد قام المسئول في هذه الحالة بالتحايل على الحاسوب لقبول الأرصاد. يعتبر اتخاذ مثل هذا الإجراء مسألة تقديرية؛ إذ لم يكن ثمة سبيل آنذاك لمعرفة أي إجراء يمكن أن يفضي إلى توقع أفضل، وجرى «التحايل» على الحاسوب، واستخدمت الأرصاد، ونتج عن ذلك أن صدر توقع بهبوب العاصفة، وأنقذ الكثير من الأرواح.
ثمة رسالتان مهمتان يمكن تحصيلهما هنا؛ الرسالة الأولى هي أنه في حال كانت نماذجنا فوضوية، فإن التغيرات الصغيرة في أرصادنا قد يكون لها تأثير كبير على جودة توقعاتنا؛ فالمحاسب الذي يسعى إلى التقليل من النفقات، وحساب الفائدة النموذجية المتحققة من إحدى الأرصاد، تحديدا التي جمعت من أي محطة رصد لحالة طقس محددة؛ سيميل إلى التقليل على نحو هائل من قيمة تقرير مستقبلي أصدرته إحدى تلك المحطات التي يجري الرصد فيها في الموضع الصحيح وفي التوقيت الصحيح، مثلما سيقلل من قيمة عمل مسئول تعديل التوقعات، الذي لا يوجد لديه ما يفعله عادة، بالمعنى الحرفي للكلمة. تتمثل الرسالة الثانية في أن توقع عاصفة يوم ميلاد بيرنز يشير إلى شيء مختلف قليلا عن تأثير الفراشة. تتيح لنا النماذج الرياضية أن نفكر فيما سيأتي به المستقبل الحقيقي، «ليس» من خلال أخذ العوالم المحتملة في الاعتبار، التي ربما لا يوجد منها إلا عالم واحد، بل من خلال مقارنة نماذج محاكاة مختلفة للنموذج المستخدم لدينا، التي ربما يتوافر منها أعداد بقدر ما يتاح لنا. مثلما قد يدرك بيرنز، يقدم لنا العلم طرقا جديدة للتكهن ويطرح لنا أشياء جديدة نخشاها. يعقد تأثير الفراشة مقارنة بين عالمين مختلفين؛ عالم يتضمن مسمارا وعالم آخر دونه. يضع «أثر بيرنز» كل التركيز علينا وعلى محاولاتنا لاتخاذ قرارات عقلانية في العالم الواقعي، باستخدام مجموعات من نماذج محاكاة مختلفة في ظل نماذج غير كاملة متنوعة، ويعد الإخفاق في التمييز بين الواقع ونماذجنا، وبين الملاحظات والرياضيات، وبين الحقائق التجريبية والخيال العلمي؛ هو السبب الجذري في معظم الحيرة حيال الفوضى التي يسببها العامة أو تحدث بين العلماء. لقد كان إجراء بحوث حول اللاخطية والفوضى هو ما أوضح مرة أخرى مدى أهمية هذا التمييز، وسوف نعود في الفصل العاشر لنلقي نظرة أعمق على كيفية استفادة مسئولي توقعات الطقس في يومنا هذا بالاستبصارات المستقاة من فهمهم للفوضى عند توقعهم لهذه العاصفة.
مررنا مرورا سريعا الآن على السمات الثلاث الموجودة في النظم الرياضية الفوضوية؛ فالنظم الفوضوية تتميز بأنها لا خطية، وحتمية، وغير مستقرة من حيث إنها تظهر حساسية تجاه الشرط المبدئي. في الفصول التالية سنعمل على التركيز على هذه السمات أكثر، بيد أن مجال اهتماماتنا الحقيقي لا يكمن في الفوضى الرياضية فحسب، بل فيما تستطيع أن تخبرنا به عن العالم الواقعي.
الفوضى والعالم الواقعي: القابلية للتوقع وشيطان القرن الحادي والعشرين
لا يوجد خطأ أكبر في العلم من الاعتقاد بأن مجرد إجراء عملية رياضية ما سيجعل ظاهرة ما في الطبيعة مؤكدة.
ألفريد نورث وايتهيد (1953)
ما هي التداعيات التي تنطوي عليها الفوضى في حياتنا اليومية؟ تؤثر الفوضى على طرق ووسائل توقع حالة الطقس، وهو ما يؤثر علينا مباشرة من خلال الطقس، وبطريقة غير مباشرة من خلال الآثار الاقتصادية المترتبة على كل من الطقس والتوقعات نفسها. كما تلعب الفوضى أيضا دورا في مسائل التغير المناخي، وفي قدرتنا على توقع قوة ظاهرة الاحترار العالمي وآثارها. وبينما ثمة أشياء أخرى كثيرة نتوقعها، يمكن الاستعانة بالطقس والمناخ لتمثيل عمليتي: التوقع القصير الأجل والنمذجة الطويلة المدى، على التوالي. سيصبح سؤال من قبيل «متى يحدث الكسوف الشمسي القادم؟» في علم الفلك سؤالا يشبه أسئلة الطقس، بينما سؤال من قبيل «هل النظام الشمسي مستقر؟» يشبه أسئلة الوضع المناخي. في مجال التمويل، يعتبر سؤال حول أفضل وقت لشراء 100 سهم من مجموعة أسهم محددة سؤالا يشبه سؤالا حول حالة الطقس، بينما سؤال حول ما إذا كان الاستثمار في سوق الأسهم أفضل أم في المجال العقاري يشبه سؤالا حول الوضع المناخي.
للفوضى أيضا أثر كبير على العلوم، من خلال فرض إعادة النظر مليا فيما يعنيه العلماء بكلمتي «خطأ» و«عدم اليقين»، وفي كيفية تغير هذه المعاني عند تطبيقها على عالمنا ونماذجنا. مثلما أشار وايتهيد، فمن الخطورة بمكان تفسير نماذجنا الرياضية كما لو كانت تتحكم في العالم الواقعي بطريقة ما. ومن المثير للجدل أن أكثر تأثيرات الفوضى إثارة للاهتمام ليست جديدة في حقيقة الأمر، بيد أن التطورات الرياضية في الخمسين عاما الأخيرة سلطت الضوء من جديد على الكثير من المسائل القديمة. على سبيل المثال، ما هو أثر عدم اليقين على تجسيد شيطان لابلاس في القرن الحادي والعشرين، الذي لم يتمكن من الفكاك من التشويش الذي تتعرض له الملاحظات؟
تصور وجود كيان ذكي يعرف جميع قوانين الطبيعة بدقة، وتتوافر لديه ملاحظات جيدة - لكنها غير كاملة - عن نظام فوضوي معزول خلال فترة طويلة اعتباطيا. فلا يستطيع هذا الكيان - حتى إذا كان كبيرا بما يكفي لإخضاع جميع هذه البيانات لتحليل حسابي دقيق - تحديد الحالة الراهنة للنظام؛ ومن ثم سيظل الحاضر، فضلا عن المستقبل، غير يقيني في نظر هذا الكيان الذكي. وبينما لا يستطيع هذا الكيان توقع المستقبل على نحو دقيق، لن ينطوي المستقبل على أي مفاجآت حقيقية له؛ إذ سيرى ما يمكن وما لا يمكن أن يحدث، وسيكون على علم باحتمالية وقوع أي حدث مستقبلي؛ إنها قابلية لتوقع العالم الذي يستطيع أن يراه. وسيترجم عدم اليقين في الحاضر إلى عدم يقين في المستقبل مقاس كميا جيدا، إذا كان نموذج الكيان الذكي كاملا.
في سلسلة محاضرات جيفورد في عام 1927، أصاب السير آرثر إدنجتون كبد مسألة الفوضى؛ فبعض الأشياء بسيطة لدرجة أنها لا تحتاج إلى توقع، خاصة إذا كانت تتعلق بالرياضيات نفسها، بينما تبدو أشياء أخرى قابلة للتوقع، أحيانا. يقول في هذا الشأن:
من المتوقع حدوث كسوف كلي للشمس يمكن رؤيته في كورنوول في 11 أغسطس 1999 ... ربما أغامر بالقول بأن 2 + 2 ستساوي 4 حتى في عام 1999 ... ليس محتملا أن يصبح توقع الطقس لمثل هذا الوقت من العام القادم دقيقا على الإطلاق ... يستلزم الأمر منا معرفة مفصلة للغاية بالظروف الراهنة؛ إذ إن أي انحراف محلي صغير قد يترتب عليه تأثير دائم التضخم. يجب أن نبحث حالة الشمس ... نحذر على نحو مسبق من الثورات البركانية ... إضرابات عمال مناجم الفحم ... عود ثقاب يلقى بعيدا بإهمال ...
تتسم أفضل نماذجنا للنظام الشمسي بالفوضوية، وتبدو أفضل نماذجنا للطقس فوضوية، ولكن لماذا كان إدنجتون واثقا في عام 1928 من أن الكسوف الشمسي سيحدث في عام 1999؟ ولماذا كان واثقا بالقدر ذاته من أن أي توقع للطقس قبله بعام لن يكون دقيقا على الإطلاق؟ في الفصل العاشر، سنرى كيف ساعدتني أساليب توقع الطقس الحديثة المصممة للتعامل بصورة أفضل مع الفوضى على مشاهدة ذلك الكسوف الشمسي.
عندما تتصادم نماذج الفوضى والخلاف
أحد الأشياء التي جعلت العمل في مجال الفوضى أمرا شائقا خلال العشرين عاما الأخيرة كان الاحتكاك المتولد عندما تتجمع طرق مختلفة للنظر إلى العالم حول المجموعة نفسها من الملاحظات. أفضت الفوضى إلى قدر من الخلاف؛ إذ إن الدراسات التي تمخضت عنها الفوضى قد أحدثت ثورة ليس فقط في طريقة توقع محترفي توقع الأرصاد الجوية، بل أيضا في مكونات أي توقع. تصطدم هذه الأفكار الجديدة عادة مع أساليب النمذجة الإحصائية التقليدية، ولا تزال هذه الأفكار تثير خلافا أيما خلاف حول أفضل طرق نمذجة العالم الواقعي. وتتجزأ هذه المعركة إلى مناوشات فرعية حسب طبيعة المجال ومستوى فهمنا للنظام المحدد الذي يجري طرح سؤال في إطاره، سواء كان ذلك عدد فئران الحقول في إحدى الدول الاسكندنافية، أو عملية رياضية لحساب كمية الفوضى، أو عدد البقع الشمسية على سطح الشمس، أو سعر النفط المقرر شحنه في الشهر التالي، أو درجة الحرارة العظمى غدا، أو تاريخ آخر كسوف شمسي على الإطلاق.
هذه المناوشات شائقة، بيد أن الفوضى تقدم استبصارات أعمق، حتى إذا كان الطرفان على جانبي المناوشات يتصارعان على ميزة تقليدية، لنقل على سبيل المثال: الوصول للنموذج «الأفضل». أعادت دراسات الفوضى هنا تعريف معنى التميز؛ فنحن مجبرون حاليا على التفكير في تعريفات جديدة لما يؤلف النموذج الأفضل، أو حتى النموذج «الجيد». الأمر المثير للجدل هنا هو أننا يجب أن نتخلى عن فكرة السعي وراء الحقيقة، أو على الأقل نحدد طريقة جديدة تماما لقياس قربنا منها. تحفزنا دراسة الفوضى إلى تحقيق المنفعة دون أي أمل في تحقيق الكمال، وإلى التخلي عن الحقائق الأساسية البديهية الكثيرة في التوقع، مثل الفكرة الساذجة القائلة بأن أي توقع جيد يتكون من تنبؤ يقترب من الهدف، وهو ما لم يبد ساذجا قبل أن نفهم تداعيات الفوضى.
رؤية لاتور الواقعية للعلم في العالم الحقيقي
حتى نختتم هذا الفصل، سنوضح كيف أن الفوضى قد تدفعنا إلى إعادة النظر فيما يشكل نموذجا جيدا، وإلى مراجعة معتقداتنا حول الأسباب النهائية لفشل توقعاتنا. يتشارك العلماء والرياضيون على حد سواء في الشعور بهذا التأثير، بيد أن إعادة النظر ستختلف وفق وجهة نظر العالم والنظام التجريبي قيد الدراسة. ويمثل الشكل رقم
1-5
الوضع على نحو رائع، وهي لوحة فرنسية تنتمي إلى الفن الباروكي بريشة جورج دي لاتور، تظهر لعب الورق في القرن السابع عشر. كان لاتور فنانا واقعيا يتمتع بروح دعابة، وكان مغرما بقراءة الطالع وألعاب الحظ، خاصة تلك الألعاب التي كان الحظ يلعب فيها دورا أقل مما كان يعتقده اللاعبون. نظريا، قد تلعب الفوضى هذا الدور تماما. سنفسر هذه اللوحة بحيث تمثل الشخصيات فيها عالم رياضيات، وعالم فيزياء، وعالم إحصاء، وفيلسوفا، جميعهم منخرطون في لعبة مهارة، وحذق، وقدرة على الاستبصار، وبراعة حسابية، وهو ما يمثل وصفا لمهمة علمية، بيد أن المهمة التي أمامنا ليست إلا لعبة بوكر. سيبقى تحديد هوية كل من في اللوحة مسألة غير محسومة؛ إذ سنعاود إلقاء الضوء على الشخوص الممثلين لفروع العلم الطبيعي عبر صفحات الكتاب. تختلف الاستبصارات التي تسفر عنها الفوضى باختلاف منظور الرائي، وإن ظلت بعض الملاحظات القليلة واضحة.
شكل 1-5: لوحة «الغش في اللعب باستخدام ورقة آس ديناري أحمر»، بريشة جورج دي لاتور، حوالي عام 1645.
الشاب المتأنق أناقة لا تشوبها شائبة إلى اليمين مستغرق في إجراء عمليات حسابية دقيقة، لا شك أنها عمليات تنطوي على توقع احتمالي من نوع ما. ويمتلك الشاب حاليا مجموعة كبيرة من العملات الذهبية على المائدة. تلعب موزعة الأوراق دورا محوريا؛ فبدونها لا يمكن اللعب، فهي تزودهم باللغة التي يتواصلون بها، بيد أنه يبدو أن ثمة تواصلا غير لفظي بينها وبين الخادمة. ودور الخادمة أقل وضوحا، ربما يكون هامشيا، غير أن تقديم الخمر سيؤثر على مجريات اللعب، وربما هي نفسها تعتبر مصدر تشويش. تبدو شخصية المحتال الذي يرتدي زيا مفككا حل شرائطه مهتما لا شك بالعالم الواقعي، وليس مجرد المظاهر بشكل من أشكالها. تلتقط يده اليسرى إحدى أوراق الآس الديناري العديدة التي دسها في حزامه، وهي الورقة التي كان على وشك أن يضعها على مائدة اللعب. ما هي إذن قيمة «الاحتمالات» التي يحسبها الشاب، إذا كان لا يلعب - في حقيقة الأمر - اللعبة التي يفسرها نموذجه الرياضي؟ وإلى أي مدى يصل عمق استبصار هذا الشخص المحتال؟ نظرته موجهة إلينا، وهي تشير إلى معرفته بقدرتنا على رؤية أفعاله، ربما حتى يدرك وجوده في اللوحة.
إن قصة الفوضى مهمة لأنها تمكننا من رؤية العالم من منظور كل لاعب من هؤلاء اللاعبين، فهل ما نفعله هو مجرد صياغة لغة رياضية تجري اللعبة بها؟ هل نخاطر بخسارة اقتصادية من خلال المبالغة في تفسير نموذج ربما يكون مفيدا، بينما يغيب عن ناظرينا حقيقة أن النموذج - مثل جميع النماذج - غير كامل؟ هل نرصد فقط الصورة الكبيرة دون المشاركة في اللعبة، مقدمين في بعض الأحيان تشويشا مثيرا؟ أم إننا نتلاعب بتلك الأشياء التي نستطيع تغييرها، مقرين بمخاطر عدم كفاية النموذج، وربما أيضا بمناحي قصورنا، نظرا لوجودنا داخل النظام؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أولا أن نتفحص العديد من المصطلحات الخاصة الكثيرة في العلم حتى نتمكن من إدراك كيفية ظهور الفوضى من بين التشويش الذي تتعرض له الإحصاءات الخطية التقليدية سعيا وراء أدوار في فهم وتوقع نظم العالم الواقعي المعقدة. قبل إدراك الديناميكيات اللاخطية للفوضى على نطاق واسع في العلوم، كانت هذه الأسئلة تقع أساسا في مجال الفلاسفة. أما حاليا، فتمتد هذه الأسئلة عبر نماذجنا الرياضية إلى مجال علماء العلوم الطبيعة واختصاصيي التوقعات، وهو ما يغير إحصائيات دعم اتخاذ القرار، بل يؤثر حتى على الساسة وصانعي السياسات أيضا.
الفصل الثاني
النمو الأسي واللاخطية والتفكير المنطقي
إحدى أكثر الخرافات شيوعا حول النظم الفوضوية هي استحالة توقعها. وللكشف عن المغالطة في هذه الخرافة، يجب أن نفهم كيف يزداد عدم اليقين في توقع ما في الوقت الذي يزداد فيه توقعنا للمستقبل تدريجيا. سنتناول في هذا الفصل أصل «النمو الأسي» ومعناه؛ إذ إن في المتوسط ستزيد نسبة ضئيلة من عدم اليقين زيادة أسية سريعة في نظام فوضوي؛ فثمة معنى ما في أن هذه الظاهرة تنطوي حقيقة على نمو «أسرع» لعدم اليقين مما يوجد في أفكارنا التقليدية حول طريقة نمو الخطأ وعدم اليقين، حال زيادة توقعنا للمستقبل تدريجيا. وبالرغم من ذلك، يمكن توقع الفوضى بسهولة في بعض الأحيان.
الشطرنج والأرز وأرانب ليوناردو: النمو الأسي
ثمة قصة تروى كثيرا حول أصل لعبة الشطرنج توضح على نحو رائع سرعة النمو الأسي. تحكي القصة أن أحد ملوك فارس القديمة شعر بسرور بالغ عندما أهديت إليه اللعبة للمرة الأولى، حتى إنه أراد أن يكافئ مبتكر اللعبة، سيسا بن ظاهر. من المعروف أن لوحة لعبة الشطرنج تتضمن 64 مربعا مصفوفة في صورة 8 × 8 مربعات. فطلب ابن ظاهر - كمكافأة له - ما بدا كأنه كمية متواضعة للغاية من الأرز يجري تحديدها باستخدام لوحة الشطرنج الجديدة؛ إذ طلب أن توضع حبة أرز واحدة في المربع الأول من اللوحة، وحبتان في المربع الثاني، وأربع في المربع الثالث، وثماني حبات في المربع الرابع، وهكذا بمضاعفة عدد الحبات في كل مربع حتى بلوغ المربع الرابع والستين. غالبا سيطلق الرياضي على أي قاعدة لتوليد رقم من خلال رقم آخر «خريطة» رياضية؛ لذا سنشير إلى هذه القاعدة البسيطة (ضاعف القيمة الحالية لتوليد القيمة التالية) باسم «خريطة الأرز».
قبل حساب كمية الأرز التي طلبها ابن ظاهر، لننظر في حالة النمو الخطي التي توجد فيها حبة أرز واحدة في المربع الأول، وحبتان في المربع الثاني، وثلاث حبات في المربع الثالث، وهكذا حتى نحتاج 64 حبة في المربع الأخير، وفي هذه الحالة، سيكون لدينا إجمالي قدره: 64 + 63 + 62 + ... + 3 + 2 + 1، أو حوالي 1000 حبة. وللمقارنة فقط، يحتوي كيس به كيلوجرام واحد من الأرز على بضع عشرات الآلاف من حبوب الأرز.
تتطلب خريطة الأرز حبة واحدة في المربع الأول، ثم حبتين في المربع الثاني، وأربعا في الثالث، ثم 8، 16، 32، 64، 128 في المربع الأخير في الصف الأول، وفي المربع الثالث في الصف الثاني سنتخطى 1000 حبة، وقبل نهاية الصف الثاني سيوجد مربع تستنفد فيه كمية الأرز في الكيس. وسيتطلب ملء المربع التالي وحده كيسا كاملا آخر، ثم كيسين في المربع التالي، وهكذا. وسيتطلب أحد المربعات في الصف الثالث كمية من الأرز تكافئ حجم بيت صغير، وستتوفر لدينا كمية من الأرز تكفي لملء قاعة ألبرت الملكية قبل نهاية الصف الخامس. وأخيرا، سيتطلب المربع الرابع والستون بمفرده مليارات ومليارات من حبات الأرز، أو للدقة، 2
63 (أي: 9223372036854775808) حبات، بإجمالي عدد حبات 18446744073709551615. هذه ليست كمية بسيطة من الأرز! تساوي هذه الكمية تقريبا إنتاج العالم بأسره من الأرز خلال ألفيتين. يزداد النمو الأسي سريعا بما يتجاوز أي تناسب.
من خلال مقارنة كمية الأرز في أي مربع محدد في حالة النمو الخطي مع كمية الأرز في المربع نفسه في حالة النمو الأسي، ندرك سريعا أن النمو الأسي أسرع كثيرا من النمو الخطي؛ إذ إنه في حالة النمو الأسي يوجد في المربع الرابع عدد حبات أرز ضعف عدد حبات الأرز في حالة النمو الخطي (8 في الحالة الأولى، و4 فقط في الحالة الثانية)، وعند بلوغ المربع الثامن، في نهاية الصف الأول، يصل عدد حبات الأرز في حالة النمو الأسي 16 ضعفا! بعد ذلك سرعان ما سنجد أرقاما فلكية.
بالطبع، أخفينا قيم بعض «المعلمات» في المثال المذكور. كان يمكننا أن نجعل النمو الخطي أسرع بألا نضيف حبة واحدة في كل مربع، بل قل على سبيل المثال 1000 حبة إضافية. يحدد هذا المعلم - وهو عدد الحبات الإضافية - ثابت التناسب بين رقم المربع وعدد الحبات في ذلك المربع، وهو ما يمنحنا منحنى العلاقة الخطية بينهما. وثمة معلم أيضا في حالة النمو الأسي؛ ففي كل خطوة زدنا عدد الحبات بعامل مقداره اثنان، وهو ما كان يمكن أن يكون بعامل مقداره ثلاثة، أو بعامل مقداره واحد ونصف.
يتمثل أحد الأشياء المدهشة في النمو الأسي في أنه «أيا كانت» قيم هذه المعلمات، سيأتي وقت يتخطى النمو الأسي «أي» نمو خطي، ثم سرعان ما سيقزم أي نمو خطي، مهما كانت سرعة النمو الخطي. لا ينصب اهتمامنا الأساسي على كمية الأرز في لوحة الشطرنج، بل على آليات عدم اليقين بمرور الوقت، ليس فقط نمو إحدى الكميات بل نمو عدم يقيننا في توقع الحجم المستقبلي لتلك الكمية. في سياق التوقع، سيأتي وقت يتخطى فيه عدم يقين ينمو نموا أسيا بقيمة ضئيلة جدا حاليا عدم يقين ينمو نموا خطيا بقيمة أكبر كثيرا حاليا. وسيتكرر الشيء نفسه عند مقارنة النمو الأسي مع النمو المتناسب مع تربيع الزمن، أو تكعيب الزمن، أو مع زمن مرفوع لأي أس (ترميزا، سيتجاوز النمو الأسي الثابت في نهاية المطاف النمو المتناسب مع تربيع الزمن
t
2 ، أو تكعيب الزمن
t
3 ، أو الزمن مرفوعا إلى أس
t
n
بحيث تكون
n
أي رقم). ولهذا السبب من بين أسباب أخرى يعتبر النمو الأسي مميزا رياضيا، ويؤخذ كمعيار لتعريف الفوضى. ساهم النمو الأسي أيضا في شيوع الانطباع الخاطئ في جوهره أن النظم الفوضوية لا سبيل إلى توقعها على الإطلاق. وتشير لوحة شطرنج ابن ظاهر إلى أن ثمة معنى عميقا وراء كون النمو الأسي أسرع كثيرا من النمو الخطي. ولوضع هذا في سياق التوقع، نتقدم بضع مئات من السنوات في الزمن، ونتجه بضع مئات من الأميال إلى الشمال الغربي، من بلاد فارس إلى إيطاليا.
في بداية القرن الثالث عشر، طرح ليوناردو بيزانو (نسبة إلى مدينته بيزا) سؤالا متعلقا بالديناميكيات السكانية. في حالة زوج من الأرانب ولد حديثا في حديقة كبيرة، وفيرة الإنتاج، ومسورة، كم زوجا من الأرانب سنحصل عليه خلال عام واحد، إذا كان من طبيعة أزواج الأرانب الناضجة التناسل وإنجاب زوج جديد من الأرانب شهريا، مع العلم أن الأرانب الحديثة الميلاد تنضج في شهرها الثاني؟ في الشهر الأول يوجد لدينا زوج صغير، وفي الشهر الثاني يصل هذا الزوج الجديد إلى سن النضوج ويتوالد لينجب زوجا جديدا في الشهر الثالث؛ لذا في الشهر الثالث سيكون لدينا زوج ناضج وزوج مولود حديثا، وفي الشهر الرابع سيكون لدينا مرة أخرى زوج مولود حديثا من زوج الأرانب الأصلية وزوجان ناضجان بإجمالي ثلاثة أزواج، وفي الشهر الخامس سيولد زوجان جديدان (أحدهما من كل زوج ناضج)، ويصبح لدينا الآن ثلاثة أزواج ناضجة بإجمالي خمسة أزواج ... وهكذا.
إذن ما هو شكل «الديناميكا السكانية» هذه؟ في الشهر الأول لدينا زوج غير ناضج، وفي الشهر الثاني لدينا زوج ناضج، وفي الشهر الثالث لدينا زوج ناضج وزوج جديد غير ناضج، وفي الشهر الرابع لدينا زوجان ناضجان وزوج غير ناضج، وفي الشهر الخامس لدينا ثلاثة أزواج ناضجة وزوجان غير ناضجين.
إذا حسبنا عدد جميع الأزواج شهريا، فستكون الأعداد كالآتي: 1، 1، 2، 3، 5، 8، 13، 21 ... رصد ليوناردو أن الرقم التالي في السلسلة دائما ما يمثل مجموع الرقمين السابقين (1 + 1 = 2، 2 + 1 = 3، 3 + 2 = 5، ...) وهو أمر منطقي؛ إذ إن الرقم السابق هو الرقم الذي كان لدينا الشهر الماضي (في نموذجنا تبقى جميع الأرانب على قيد الحياة مهما كان عددها)، ويصبح الرقم قبل الأخير هو عدد الأزواج الناضجة (ومن ثم عدد الأزواج الجديدة التي تولد في الشهر الحالي).
إنه لأمر ممل الآن أن نكتب «وفي الشهر السادس يصبح لدينا 12 زوجا من الأرانب»؛ لذا يستخدم العلماء اختصارا الرمز
X
للإشارة إلى عدد أزواج الأرانب و
X
6
للإشارة إلى عدد الأزواج في الشهر السادس. وبما أن سلسلة الأرقام 1، 1، 2، 3، 5، 8، ... تعكس كيف يزداد عدد الأرانب مع الوقت، فإنه يطلق عليها وعلى ما يشاكلها «سلسلة زمنية». وتحدد خريطة الأرانب القاعدة التالية:
أضف قيمة
X
السابقة إلى قيمة
X
الحالية، ثم اعتبر مجموعهما قيمة
X
الجديدة.
يطلق على الأرقام في السلسلة 1، 1، 2، 3، 5، 8، 13، 21، 34 ... أرقام فيبوناتشي (فيبوناتشي هو اسم الشهرة لليوناردو بيزانو)، وهي أرقام تظهر مرة بعد أخرى في الطبيعة؛ في بنية نباتات دوار الشمس، ومخروط الصنوبر، والأناناس. وتعتبر هذه الأرقام محل اهتمام هنا لأنها توضح النمو الأسي بمرور الوقت بالتقريب. تشير علامات الصليب في الشكل رقم
2-1
إلى نقاط فيبوناتشي - عدد الأرانب كدالة في الوقت - بينما يشير الخط المتصل إلى اثنين مرفوعة إلى أس
λt ، أو باستخدام الرموز ، حيث يمثل الرمز
t
الزمن بالشهور، والرمز
λ
الأس الأول. تعتبر الآساس التي تتضمن ضرب الزمن في الأس طريقة مفيدة لقياس النمو الأسي المنتظم، وفي حالتنا هذه، تساوي
λ
لوغاريتم رقم يطلق عليه الرقم الذهبي، وهو رقم خاص جدا جرت مناقشته تفصيلا في كتاب «الرياضيات: مقدمة قصيرة جدا».
شكل 2-1: سلسلة صلبان تظهر عدد أزواج الأرانب شهريا (أرقام فيبوناتشي)؛ ويمثل المنحنى البسيط الذي تقع الصلبان قربه نموها الأسي.
أول ما يمكن ملاحظته في الشكل رقم
2-1
هو أن النقاط تقع بالقرب من المنحنى. يتمتع المنحنى الأسي بخصوصية في مجال الرياضيات لأنه يعكس دالة تتناسب زيادتها مع قيمتها الحالية؛ فكلما زادت القيمة، زادت سرعة نموها. ويبدو من المنطقي أن شيئا كهذه الدالة يعمل على توصيف ديناميكيات نمو عدد أرانب ليوناردو؛ حيث إن عدد الأرانب في الشهر التالي يتناسب بصورة أو بأخرى مع عدد الأرانب في الشهر الحالي. الشيء الثاني الذي نلاحظه في الشكل هو أن النقاط «لا» تقع على المنحنى. يمثل المنحنى «نموذجا» جيدا لخريطة أرانب فيبوناتشي، لكنه لا يعد مثاليا؛ فدائما ما يكون عدد الأرانب في نهاية كل شهر رقما صحيحا، وبينما قد يقترب المنحنى من الرقم الصحيح الدقيق، فإنه لا يساويه تماما. ومع مرور الشهور وزيادة عدد الأرانب، يقترب المنحنى أكثر فأكثر من كل رقم من أرقام فيبوناتشي، لكنه لا يبلغها على الإطلاق. وسوف يتكرر في هذا الكتاب طرح مفهوم الاقتراب أكثر فأكثر مع عدم بلوغ الغاية تماما.
إذن كيف ستساعدنا أرانب ليوناردو في الوصول إلى فهم نمو عدم اليقين في التوقع؟ مثل جميع الملاحظات، فإن عملية عد الأرانب في الحديقة عرضة للخطأ. ومثلما رأينا في الفصل الأول، من المعروف أن حالات عدم اليقين في الملاحظات ترجع إلى التشويش. تصور أن ليوناردو عجز عن ملاحظة زوج من الأرانب الناضجة أيضا في الحديقة في الشهر الأول؛ ففي تلك الحالة كان عدد أزواج الأرانب في الحديقة سيصبح 2، 3، 5، 8، 13، ... سيتمثل الخطأ في التوقع الأصلي (1، 1، 2، 3، 5، 8 ...) في الفرق بين الحقيقة وذلك التوقع، أي: 1، 2، 3، 5 ... (مرة أخرى، سلسلة أرقام فيبوناتشي). في الشهر الثاني عشر، كان هذا الخطأ ليبلغ رقما لافتا جدا يصل إلى 146 زوجا من الأرانب! فخطأ صغير في العدد الأولي للأرانب سيؤدي إلى خطأ كبير جدا في التوقع. في حقيقة الأمر، يزداد الخطأ أسيا بمرور الوقت، وهو ما ينطوي على تداعيات كثيرة.
لنتفحص معا أثر نمو الخطأ الأسي على عدم اليقين في توقعاتنا. لنقارن مرة أخرى النمو الخطي والنمو الأسي. لنفرض أنه - بالنسبة إلى أحد الأسعار - يمكننا الحد من عدم اليقين في الملاحظة الأولية التي نستخدمها في وضع توقعاتنا. فإذا كان نمو الخطأ خطيا، وقمنا بتقليص عدم اليقين الأولي بعامل مقداره عشرة، فسيمكننا توقع سلوك النظام بفترة أطول بعشرة أضعاف قبل أن يتخطى عدم اليقين لدينا الحد نفسه، وإذا ما قلصنا عدم اليقين الأولي بعامل مقداره 1000، إذن فسيمكننا وضع توقعات على الدرجة نفسها من الجودة خلال فترة تزيد 1000 مرة، وهو ما يعتبر ميزة في النماذج الخطية، أو يعتبر - على نحو أكثر دقة - ميزة ظاهرية في دراسة النظم الخطية فقط. في المقابل، إذا كان النموذج لا خطيا، وكان نمو عدم اليقين نموا أسيا، يمكننا إذن تقليص عدم يقيننا الأولي بعامل مقداره عشرة، إلا أن قدرتنا على التوقع ستكون أطول بمقدار الضعف فقط بالدرجة نفسها من الدقة. في تلك الحالة، «بافتراض» أن النمو الأسي في عدم اليقين منتظم من حيث الوقت، فإن تقليص عدم اليقين بمعلم 1000 لن يؤدي إلا إلى اتساع نطاق توقعاتنا بالدرجة نفسها من الدقة بعامل مقداره ثمانية. يندر أن يكون تقليص عدم اليقين في أي عملية قياس أمرا مجانيا (يجب توظيف شخص آخر لعد الأرانب مرة ثانية)، وقد تكون عمليات تقليص عدم اليقين على نحو كبير مكلفة؛ لذا عندما ينمو عدم اليقين نموا أسيا سريعا، تقفز التكلفة بصورة هائلة، وقد تكون محاولة تحقيق أهداف توقعاتنا من خلال تقليص عدم اليقين في الشروط المبدئية باهظة للغاية.
لحسن الحظ ، ثمة بديل يجعلنا نقبل الحقيقة البسيطة القائلة بأننا لا يمكن أن نتأكد على الإطلاق من أن أي ملاحظة لم يفسدها التشويش؛ ففي حالة الأرانب أو حبات الأرز، يبدو أن ثمة حقيقة في الأمر، رقما صحيحا يمثل الإجابة الصحيحة. وإذا ما قلصنا عدم اليقين في هذا الشرط المبدئي إلى الصفر، فسيمكننا إذن أن نتوقع دون أخطاء. لكن هل يمكن حقا أن نتأكد تماما من الشرط المبدئي؟ ألا يحتمل أن يكون هناك أرنب صغير آخر يختبئ وسط التشويش؟ بينما تشير أفضل تخميناتنا إلى أن ثمة زوجا واحدا في الحديقة، ربما يكون ثمة زوجان، أو ثلاثة، أو أكثر (أو ربما لا توجد أزواج على الإطلاق). إذا كنا غير متيقنين من الشرط المبدئي، يمكننا أن نبحث في تنوع التوقعات التي تجرى وفق نموذجنا من خلال عمل مجموعة توقعات بأن نبدأ كل توقع من كل شرط مبدئي نعتقد في منطقيته؛ لذا سيبدأ أحد التوقعات من المجموعة عند قيمة
X
تساوي واحدا، ويبدأ توقع آخر في المجموعة عند قيمة
X
تساوي اثنين، وهكذا. كيف يجب أن نوزع قدراتنا المحدودة بين المزيد من حساب المزيد من التوقعات وتقديم ملاحظات أفضل للعدد الحالي للأرانب في الحديقة؟
في خريطة الأرانب، ستزداد الفروق بين التوقعات المفردة المختلفة ضمن مجموعة التوقعات زيادة أسية سريعة، بيد أنه في ظل توقع مجمع، يمكننا أن ندرك مدى الاختلاف بينها، ونستخدم هذا كمقياس لعدم يقيننا في عدد الأرانب الذي نتوقعه في أي وقت معين. بالإضافة إلى ذلك، إذا عددنا بدقة عدد الأرانب بعد شهور قليلة، فسنتمكن من استبعاد بعض التوقعات المفردة ضمن مجموعة التوقعات. بدأ كل توقع ضمن المجموعة انطلاقا من رقم تقديري ما لعدد الأرانب الذي كان في الحديقة من البداية؛ لذا يوفر لنا استبعاد أحد التوقعات في حقيقة الأمر مزيدا من المعلومات حول العدد الأصلي للأرانب. وبالطبع ستثبت صحة هذه المعلومات فقط في حال إن كان نموذجنا مثاليا بالمعنى الحرفي؛ مما يعني - في هذه الحالة - أن خريطة الأرانب ترسم صورة السلوك الإنجابي وطول عمر الأرانب بدقة . في المقابل، إذا كان نموذجنا مثاليا، فسيمكننا إذن استخدام ملاحظاتنا المستقبلية في معرفة الماضي، ويطلق على هذه العملية «تقليص التشويش». أما إذا بدا أن نموذجنا غير مثالي، إذن فقد ينتهي بنا المطاف إلى نتائج غير متسقة.
لكن ماذا إذا كنا نقيس شيئا لا يمثل رقما صحيحا، مثل درجة الحرارة، أو موضع كوكب ما؟ وهل تعتبر درجة الحرارة في نموذج توقع حالة طقس غير مثالي مطابقة تماما لدرجة الحرارة في العالم الواقعي؟ كانت هذه هي الأسئلة التي أثارت اهتمام فيلسوفنا في البداية بالفوضى. أولا، يجب أن نبحث السؤال الأكثر إلحاحا حول سبب عدم سيطرة الأرانب على العالم خلال تسعة آلاف شهر انقضت منذ عام 1202؟
الامتداد والانطواء على الذات ونمو عدم اليقين
تضفي دراسة الفوضى مصداقية على قول علم الأرصاد الجوية المأثور، الذي يذهب إلى أن أي توقع لا يكون كاملا في غياب تقدير مفيد لعدم يقين التوقع. فإذا كنا نعرف أن الشرط المبدئي غير مؤكد، فإننا إذن لسنا مهتمين فحسب بعملية التوقع «في حد ذاتها»، بل نهتم كذلك بمعرفة أي أخطاء التوقع هو الأكثر احتمالا.
النمو الأسي: مثال من الصف الثالث الابتدائي للآنسة نيجل
قبل بضعة أشهر، تلقيت رسالة بريد إلكتروني كتبها صديق قديم لي منذ أيام المدرسة الابتدائية. وكانت الرسالة تتضمن رسالة أخرى كان قد أرسلها طالب في الصف الثالث الابتدائي في نورث كارولاينا، وكان الصف الذي ينتمي إليه يتلقى دروسا في الجغرافيا، وكانت الرسالة تطلب من كل من يقرؤها أن يرسل ردا إلى المدرسة يذكر فيه محل الإقامة، وسيحدد الصف محل الإقامة ذلك على نموذج كرة أرضية في المدرسة. وطلبت الرسالة أيضا من كل من يقرؤها أن يمرر الرسالة إلى عشرة أصدقاء.
لم أمرر الرسالة لأي شخص، لكنني كتبت رسالة إلى صف الآنسة نيجل مشيرا إلى أنني في أكسفورد بإنجلترا، واقترحت أيضا أن يخبروا مدرسة الرياضيات عن تجربتهم ويستخدموها كمثال على توضيح النمو الأسي. إذا أرسل كل واحد منهم الرسالة إلى عشرة أشخاص، ثم في اليوم التالي أرسل كل منهم رسالته إلى عشرة أشخاص آخرين، فسيبلغ عدد الأشخاص الذين تصلهم الرسالة 100 شخص في اليوم الثالث، و1000 شخص في اليوم الرابع، وعدد رسائل أكثر من عناوين البريد الإلكتروني نفسها خلال أسبوع أو ما يقرب من ذلك. في أي نظام واقعي، لا يمكن أن يستمر النمو الأسي إلى ما لا نهاية؛ ففي نهاية المطاف، تنفد كمية الأرز، أو المساحة الخالية في الحديقة، أو عناوين البريد الإلكتروني الجديدة. إن الموارد دائما هي ما يحد ذلك النمو، وحتى الحديقة الوفيرة الإنتاج لن تسمح إلا بتوفير كمية محدودة من الغذاء للأرانب؛ فثمة حدود للنمو الذي يضع حدا للأعداد، إن لم يكن نماذج الأعداد ذاتها التي لدينا.
لم أعرف قط إن كان طلاب صف الآنسة نيجل قد تلقوا درس النمو الأسي. ولكن كانت الإجابة الوحيدة التي تلقيتها عبارة عن رد آلي يذكر أن صندوق البريد الإلكتروني للمدرسة قد تجاوز الحد الأقصى للرسائل وأغلق.
يجب ألا يزداد خطأ التوقع في أي نظام واقعي دون حدود، حتى إذا بدأنا بخطأ صغير مثل حبة واحدة أو أرنب واحد، فلن يزيد خطأ التوقع كثيرا على نحو اعتباطي (إلا إذا كان لدينا مسئول توقع ساذج جدا)، ولكن الخطأ سيصل إلى مرحلة التشبع عند قيمة مقيدة محددة، مثلما سيتوقف عدد الأرانب نفسه عن التزايد. يمتلك الرياضي طريقة لتفادي أخطاء التوقع الكبرى المثيرة للضحك (بخلاف السذاجة)، وتحديدا من خلال جعل عدم اليقين الأولي «لا متناهي» الصغر؛ أي أصغر من أي قيمة قد تتصورها، لكنه أكبر من الصفر. وسيظل عدم اليقين هذا لا متناهي الصغر طوال الوقت، حتى إذا كان ينمو نموا أسيا سريعا.
تحد العوامل المادية - مثل الكمية الإجمالية لغذاء الأرانب في الحديقة أو مساحة القرص الصلب في نظام رسائل البريد الإلكتروني - من النمو عمليا. الحدود بديهية حتى إذا كنا لا نعرف تماما ما يتسبب فيها؛ فمثلا أعتقد أنني فقدت مفاتيحي في باحة انتظار السيارات، أو ربما فقدتها في مكان يبعد عن الباحة بمسافة عدة أميال، إلا أنه ليس من المرجح على الإطلاق أنها في مكان على مسافة أبعد من القمر، ولست في حاجة إلى فهم قوانين الجاذبية أو تصديقها لأقدر ذلك. وبالمثل، يندر أن تنحرف تقديرات مسئولي توقعات الأرصاد عن 100 درجة مئوية، حتى إذا كان التوقع قبل عام كامل! وحتى النماذج المنقوصة يمكن تقييدها عادة بحيث يحد من أخطائها في التوقع.
متى خطت نماذجنا داخل نطاق أراضي الخيال (مما يشير إلى قيم لم تبلغها أي بيانات من قبل قط)، إذن فعلى الأرجح سيتقوض شيء ما، إلا إذا تداعى شيء ما بالفعل في نموذجنا. في كثير من الأحيان - مع تزايد عدم يقيننا أكثر مما ينبغي - يبدأ عدم اليقين في الانطواء على ذاته. تخيل عجن العجين، أو ماكينة طوفي تمط وتطوي الطوفي باستمرار. فإن الخط الوهمي من الطوفي الذي يصل بين حبتي سكر قريبتين جدا سيزداد طولا أكثر فأكثر مع تباعد هاتين الحبتين تحت تأثير عمل الماكينة، لكن قبل أن يصبح طول الخط أكبر من الماكينة نفسها، سينطوي هذا الخط على نفسه، مؤلفا كومة متشابكة مريعة. وستتوقف المسافة بين حبتي السكر عن الزيادة، حتى مع ازدياد طول خيط الطوفي الواصل بينهما أكثر فأكثر؛ مما يزيد من تشابك الكومة أكثر فأكثر. تقدم لنا ماكينة الطوفي طريقة لتصور حدود نمو خطأ التوقعات متى كان نموذجنا كاملا، وفي حالتنا هذه، يتمثل الخطأ في «المسافة» المتزايدة بين الحالة الحقيقة وأفضل توقعاتنا لتلك الحالة. سيتوافق أي نمو أسي للخطأ فقط مع النمو الأولي السريع لخيط الطوفي، ولكن في حال إذا لم تسارع توقعاتنا نحو اللانهائية (يجب أن يظل الطوفي في الماكينة، وأن تمتلئ الحديقة بعدد محدد من الأرانب، وما إلى ذلك)، في النهاية سينطوي على نفسه الخيط الواصل بين الحقيقة وتوقعنا، ببساطة لا يوجد مكان آخر أمام الخيط ليمتد فيه. من عدة أوجه، يعتبر تشبيه حركة حبة سكر في ماكينة الطوفي بتطور حالة نظام فوضوي في ثلاثة أبعاد طريقة مفيدة لتصور الحركة الفوضوية.
نرغب في تحديد طريقة لاحتواء الفوضى؛ إذ ليس أمرا غريبا أنه من الصعب توقع الأشياء التي تنفصل متباعدة نحو اللانهائية، لكننا لا نريد أن نفرض شرطا صارما من قبيل اشتراط ألا يتجاوز توقع ما قيمة محددة، مهما كان حجم القيمة. كحل وسط، نشترط أن يعود النظام مرة أخرى للاقتراب من حالته الراهنة في وقت ما في المستقبل، وأن يتكرر هذا مرة بعد أخرى. يمكن أن تستغرق عودة النظام وقتا كيفما يشاء، ويمكننا تحديد معنى العودة باعتبارها تمثل العودة إلى الحالة الراهنة على نحو أقرب مما شهدناه يعود من قبل، وإذا حدث ذلك، فسيعد المسار «متكررا». وهنا يقدم الطوفي مرة أخرى مثالا مشابها؛ فإذا كانت الحركة فوضوية وانتظرنا ما يكفي من الوقت، فستعود حبتا السكر مجددا قريبتين إحداهما من الأخرى، وستمر كل منهما بالقرب من الموضع الذي كانت فيه عند بداية التجربة، وذلك بافتراض عدم إغلاق الماكينة أثناء ذلك.
الفصل الثالث
الفوضى في السياق: الحتمية والعشوائية والتشويش
تشبه كل النظم الخطية بعضها بعضا، أما كل نظام لا خطي يكون لا خطيا بطريقته الخاصة.
على غرار رواية تولستوي «أنا كارنينا»
النظم الديناميكية
تعد الفوضى إحدى سمات النظم الديناميكية، ولا يزيد أي نظام ديناميكي عن كونه مصدرا من مصادر الملاحظات المتغيرة؛ كما هو الأمر في حديقة فيبوناتشي الخيالية التي تحتوي على أرانب، ودرجة حرارة الأرض وفق قياس مقياس الحرارة في مطار هيثرو في لندن، والاقتصاد الذي يجري رصده من خلال سعر أسهم شركة آي بي إم، وبرنامج الحاسوب الذي يحاكي مدار القمر ويقوم بطباعة بيانات تاريخ ومكان كل كسوف شمسي مستقبلي.
ثمة أنواع ثلاثة مختلفة على الأقل من النظم الديناميكية. يوجد أسهل تعريف للفوضى في إطار «النظم الديناميكية الرياضية»، وتتألف هذه النظم من قاعدة؛ ألا وهي أنك تدخل رقما ما فيخرج لك رقم جديد، وهذا الأخير يعاد إدخاله مرة أخرى للحصول على رقم جديد آخر، وهو ما يجري إدخاله مجددا، وهكذا دواليك. تسمى هذه العملية «التكرار». يعتبر عدد الأرانب في حديقة فيبوناتشي الخيالية شهريا مثالا نموذجيا على سلسلة زمنية من هذا النوع من النظم. ويوجد نوع ثان من النظم الديناميكية في العالم التجريبي لعالم الفيزياء، أو عالم الأحياء، أو متداول الأسهم بالبورصة. هنا تتألف سلسلة ملاحظاتنا من قياسات ضوضائية للواقع، وهي قياسات مختلفة جوهريا عن الأرقام الخالية من التشويش في خريطة الأرانب؛ ففي هذه «النظم الديناميكية الفيزيائية» - ومنها على سبيل المثال مناخ الأرض وأعداد فئران الحقول في الدول الاسكندنافية - تمثل الأرقام الحالة، بينما في خريطة الأرانب كانت الأرقام «هي» الحالة. ولتفادي الحيرة التي لا ضرورة لها، يكون من المفيد هنا الإشارة إلى النوع الثالث من النظم الديناميكية، والتي تظهر عندما يجري حاسوب رقمي العمليات الحسابية التي يحددها النظام الديناميكي الرياضي، وهو ما سنطلق عليه «المحاكاة الحاسوبية»، وتعتبر برامج الحاسوب التي يصدر عنها توقعات الطقس في التليفزيون مثالا شائعا لها. ومن المهم تذكر أن هذه «أنواع» مختلفة من النظم، وأن كلا منها نوع قائم بذاته. إذ تختلف أفضل معادلاتنا لتوقع حالة الطقس عن أفضل نماذجنا الحاسوبية التي تعتمد على تلك المعادلات، كما يختلف هذان النظامان كلاهما عن الشيء الحقيقي، ألا وهو طقس الأرض نفسه. يثير الحيرة أن الأرقام الصادرة عن كل نوع من أنواع النظم الثلاثة يطلق عليها سلسلة زمنية، ويجب ألا ننسى أبدا الفارق بين أي سلسلة زمنية يمثلها كل نوع من هذه الأنواع: عدد الأرانب المتخيلة، ودرجة الحرارة الحقيقية في المطار (إذا كان ثمة شيء مثل ذلك يوجد بالفعل)، وقياس يمثل تلك الحرارة، ومحاكاة حاسوبية لدرجة الحرارة تلك.
تعتمد مدى أهمية هذه الفروق على ما نهدف إلى تحقيقه؛ فمثل لاعبي لعبة الورق في لوحة لاتور، لكل من العلماء، وعلماء الرياضيات، والإحصائيين، والفلاسفة مهارات وأهداف مختلفة؛ فربما يهدف الفيزيائي إلى توصيف الملاحظات من خلال نموذج رياضي، وربما يختبر النموذج من خلال استخدامه في توقع ملاحظات مستقبلية؛ فالفيزيائي لدينا مستعد للتضحية بالسلاسة الرياضية في سبيل الصلة الفيزيائية. يحب علماء الرياضيات أن يثبتوا أشياء تنطبق على نطاق واسع من النظم، لكنهم يبالغون في تقدير قيمة البرهان، حتى إنهم عادة لا يأبهون بضرورة تضييقهم لذلك النطاق للحصول على البرهان. يجب أن يكون المرء حذرا دوما متى سمع أي عالم رياضي يقول «تقريبا كل». يجب أن يحرص الفيزيائي لدينا على ألا ينسى ذلك، وألا يخلط بين الفائدة الرياضية والصلة الفيزيائية. يجب ألا تتسم البداهات الفيزيائية بالتحيز عبر خواص نظم «مفهومة جيدا»، مصممة فقط لسلاستها الرياضية.
الإحصائي لدينا مهتم بوصف إحصائيات شائقة مستقاة من السلسلة الزمنية للملاحظات الحقيقية، وبدراسة خواص النظم الديناميكية التي تولد سلاسل زمنية تبدو مثل الملاحظات، مع حرصه دائما على وضع أقل قدر ممكن من الفرضيات. أخيرا، يبحث الفيلسوف لدينا في العلاقات القائمة بين النظام الفيزيائي الذي نزعم صدور الملاحظات عنه، والملاحظات نفسها، والنماذج الرياضية أو الأساليب الإحصائية التي ابتكرناها لتحليلها؛ فعلى سبيل المثال، يهتم الفيلسوف بما يمكن أن نعرفه عن العلاقة بين درجة الحرارة التي نقيسها ودرجة الحرارة الحقيقية (إذا كان ثمة شيء مثل ذلك)، ويهتم بما إذا كانت حدود معرفتنا ليست سوى صعوبات عملية قد نتمكن من تخطيها، أو أنها حدود لا نستطيع تجاوزها.
النظم الديناميكية الرياضية وعناصر الجذب
من الشائع أن نجد أربعة أنواع مختلفة من السلوك في السلاسل الزمنية؛ فقد تكون السلاسل الزمنية عاجزة عن الحركة، وتبدأ بصورة أو بأخرى في تكرار الرقم الثابت نفسه مرارا وتكرارا؛ أو ترتد في حلقة مغلقة مثل أسطوانة مكسورة، تكرر النمط نفسه على نحو دوري، أي سلسلة الأرقام نفسها تماما مرارا وتكرارا؛ أو تتحرك في حلقة تتضمن أكثر من دورة، ومن ثم لا تكرر نمطا واحدا تماما بل تقترب من كل نمط، مثل لحظة المد المرتفع التي تنساق خلال فترة النهار؛ أو تكون دائمة القفز على نحو غير منظم، أو ربما حتى في هدوء، دون أن تظهر نمطا محددا. يبدو النوع الرابع عشوائيا، بيد أن المظاهر ربما تكون خادعة؛ فربما تبدو الفوضى عشوائية لكنها ليست كذلك. في حقيقة الأمر، مثلما تعلمنا كيف ندرك الأمور على نحو أفضل، لم تعد الفوضى تبدو لنا على هذا القدر من العشوائية عادة. وفي الصفحات القليلة التالية سنقدم المزيد من الخرائط، وإن كانت ربما خالية من الأرز أو الأرانب. وسنحتاج هذه الخرائط للحصول على أشياء شائقة في رحلتنا بحثا عن الأنماط المختلفة للسلوك التي أشرنا إليها توا، وبعض من هذه الخرائط قام بوضعه علماء الرياضيات لهذا الغرض تحديدا، على الرغم من أن الفيزيائي لدينا قد يزعم - ولديه هنا سبب وجيه - أن أيا من تلك الخرائط وضعت نتيجة تبسيط القوانين الطبيعية. في حقيقة الأمر، تعتبر الخرائط بسيطة بما يكفي لأن يجعل كلا منها تخرج في صور عديدة مختلفة.
قبل أن نولد سلسلة زمنية من خلال تكرار خريطة ما، نحتاج إلى رقم ما نبدأ به. يطلق على هذا الرقم الأول «الشرط المبدئي»، وهو «حالة» أولية نحددها، ونكتشفها، أو نعدها لنظامنا المفترض. مثلما فعلنا في الفصل الثاني، سنتخذ الرمز
X
كرمز اختزالي للإشارة إلى حالة نظامنا. ويطلق على مجموع حالات
X
الممكنة «فضاء الحالة». بالنسبة إلى أرانب فيبوناتشي الخيالية، يمثل فضاء الحالة جميع الأرقام الصحيحة. هب أن سلسلتنا الزمنية مستقاة من نموذج لعدد الحشرات في الميل المربع خلال فترة منتصف الصيف سنويا؛ ففي تلك الحالة، ليست
X
سوى مجرد رقم؛ ومن ثم يعد فضاء الحالة - باعتباره مجموع جميع الحالات الممكنة - خطا. ربما يتطلب الأمر في بعض الأحيان أكثر من رقم واحد لتحديد الحالة، وإذا كان الأمر كذلك فستتألف
X
من أكثر من مركبة. في نماذج المفترس-الفريسة، على سبيل المثال، يشترط توافر أعداد كليهما، وتتألف
X
من مركبتين، أي إنها تعبر عن متجه. وعندما تعبر
X
عن متجه يتضمن عدد فئران الحقول (الفرائس) وعدد حيوانات ابن عرس (المفترسات) في الأول من يناير من كل عام، إذن سيصبح فضاء الحالة سطحا من بعدين - أي مسطحا - يشتمل على جميع أزواج الأرقام. وإذا كانت
X
تتألف من ثلاث مركبات (لنقل على سبيل المثال فئران حقول، وحيوانات ابن عرس، وكمية الثلوج المتساقطة سنويا)، إذن يصبح فضاء الحالة فضاء ثلاثي الأبعاد يشتمل على جميع ثلاثيات الأرقام. بالطبع، لا يوجد سبب للتوقف عند ثلاث مركبات، على الرغم من أن الصور تصبح أكثر صعوبة في الرسم بأبعاد أكثر؛ إذ تتألف نماذج حالة الطقس الحديثة من أكثر من 10 ملايين مركبة. وبالنسبة إلى نظام رياضي، ربما تكون
X
مجالا متصلا، مثل ارتفاع سطح المحيط أو درجة الحرارة عند كل نقطة على سطح الأرض. غير أن ملاحظاتنا للنظم الفيزيائية لن تكون أكثر تعقيدا أبدا من متجه، وبما أننا لن نقيس إلا عددا محدودا من الأشياء، ستكون ملاحظاتنا دوما عبارة عن متجهات محدودة الأبعاد. في الوقت الحاضر، سنبحث الحالة التي تكون فيها
X
رقما بسيطا، مثل 1 / 2.
من خلال تذكر أن أي خريطة رياضية ليست إلا قاعدة تحول مجموعة واحدة من القيم إلى المجموعة التالية من القيم، يمكننا تعريف «الخريطة التربيعية» من خلال القاعدة التالية:
اضرب
X
في أربعة للحصول على قيمة
X
الجديدة.
لدينا شرط مبدئي معطى، مثل
X
تساوي 1 / 2، فيولد هذا النظام الديناميكي الرياضي سلسلة زمنية لقيم
X ، وهي في هذه الحالة 1 / 2 × 4 = 2، 2 × 4 = 8، 8 × 4 = 32 ... والسلسلة الزمنية تكون كالتالي: 1 / 2، 2، 8، 32، 128، 512، 2048 ... وهكذا. تكبر هذه السلسلة أكثر فأكثر، ولا يعتبر ذلك - من الناحية الديناميكية - أمرا مثيرا للاهتمام كثيرا، فإذا زادت سلسلة زمنية ل
X
دون حدود مثلما يحدث في هذه السلسلة الزمنية، نطلق عليها سلسلة زمنية «غير محدودة». وللحصول على نظام ديناميكي تكون فيه قيم
X
محدودة، سنضرب مثلا ثانيا، «خريطة الأرباع»:
اقسم
X
على أربعة للحصول على قيمة
X
الجديدة.
ابتداء من قيمة
X
تساوي 1 / 2، تتولد السلسلة الزمنية 1 / 8، 1 / 32، 1 / 128، ... للوهلة الأولى، لا يعتبر هذا الأمر مثيرا للاهتمام؛ حيث تتضاءل قيمة
X
سريعا متجهة إلى الصفر، غير أنه في حقيقة الأمر، صممت خريطة الأرباع بعناية لتبين خواص رياضية خاصة. الحالة الأصلية - حالة
X
تساوي 0 - «نقطة ثابتة»، وإذا بدأنا من تلك النقطة الثابتة فلن نبرحها أبدا؛ حيث إن صفرا مقسوما على أربعة يساوي صفرا مرة أخرى. الحالة الأصلية تسمى «عنصر الجذب» الأول أيضا لدينا، ووفق خريطة الأرباع تمثل الحالة الأصلية الوجهة الحتمية التي لا سبيل إلى بلوغها، فإذا ما بدأنا بقيمة ما أخرى للرمز
X ، فلن نبلغ عنصر الجذب في الحقيقة على الإطلاق، على الرغم من اقترابنا منه مع زيادة مرات التكرار دون حدود. إلى أي مدى نقترب؟ إنه اقتراب على نحو اعتباطي، اقتراب بقدر ما تحب، اقتراب بصورة «لا متناهية الصغر»، وهو ما يعني أنه أقرب من أي رقم يمكن تصوره. حدد رقما، أي رقم، وسيمكن حساب عدد مرات التكرار اللازمة، وهو العدد الذي ستظل قيمة
X
بعده أقرب إلى قيمة صفر أكثر من ذلك الرقم. يعتبر الاقتراب اعتباطيا من عنصر الجذب بمضي الوقت مع عدم بلوغ هذا العنصر أبدا ملمحا شائعا في الكثير من السلاسل الزمنية المستقاة من النظم اللاخطية. يقدم بندول الساعة مثالا مشابها ملموسا؛ فكل حركة أصغر من سابقتها، وهو أثر نرجعه إلى مقاومة الهواء والاحتكاك، ويتمثل العنصر المتشابه مع عنصر الجذب في هذه الحالة في البندول الساكن تماما الذي يتدلى إلى أسفل. سنتناول المزيد عن عناصر الجذب بعد أن نكون قد أضفنا نظما ديناميكية أخرى قليلة إلى مجموعة نظمنا.
في «الخريطة اللوجيستية الكاملة»، تتراوح السلاسل الزمنية المستقاة من كل قيم
X
تقريبا بصورة غير منتظمة ما بين صفر وواحد دائما:
اطرح
X
2
من
X ، واضرب الفرق في أربعة، واعتبر الناتج هو قيمة
X
الجديدة.
إذا ما ضربنا مركبات متغيرات حالة بمركبات أخرى، يصبح السلوك لا خطيا، فكيف تكون السلسلة الزمنية في هذه الحالة إذا ما بدأنا مرة أخرى بقيمة
X
تساوي 1 / 2؟ ابتداء بقيمة 1 / 2، يكون نتاج طرح
X
2
من
X
هو 1 / 4، وضرب النتيجة في أربعة يساوي واحدا، وهكذا تساوي القيمة الجديدة 1. وعند الاستمرار في استخدام قيمة
X
تساوي 1، يكون نتاج طرح
X
2
من
X
يساوي صفرا، ولكن ضرب صفر في أربعة يساوي صفرا دوما؛ لذا سنحصل على قيم صفرية دوما؛ وعليه ستكون السلسلة الزمنية كالتالي: 1 / 2، 1، 0، 0، 0، ... لا تسفر هذه النتيجة عن شيء مدهش، إلا أنها بالكاد تمثل نتيجة مثيرة. تذكر التحذير حيال قول عالم الرياضيات «تقريبا كل».
يعد ترتيب الأرقام في أي سلسلة زمنية أمرا مهما، سواء كانت السلسلة تعكس قيما شهرية لأعداد الأرانب في تجربة فيبانوتشي، أو عدد مرات تكرار الخريطة اللوجيستية الكاملة. باستخدام الرمز الاختزالي المشار إليه في الفصل الثاني، سنكتب
X
5
باعتبارها قيمة
X
الخامسة الجديدة، و
X
0
للحالة الأولية (أو الملاحظة)، وبصورة عامة
X
i
للإشارة لترتيب القيمة في الخريطة. سواء كنا نكرر خريطة أو نصنع ملاحظات ، ستمثل
i
دوما رقما صحيحا يسمى عادة «الزمن».
في الخريطة اللوجيستية الكاملة مع كون قيمة
X
0
تساوي 0,5، فإن
X
1
تساوي 1، و
X
2
تساوي صفرا، و
X
3
تساوي صفرا، و
X
4
تساوي صفرا، و
X
i
ستساوي صفرا لجميع قيم
i
التي تزيد عن أربعة أيضا؛ إذن فالحالة الأصلية نقطة ثابتة، غير أنه في إطار الخريطة اللوجيستية الكاملة تزداد قيم
X
الصغيرة (يمكن التأكد من ذلك باستخدام آلة حاسبة صغيرة)، وتظل قيمة
X
تساوي صفرا غير مستقرة؛ ومن ثم لا تعد الحالة الأصلية عنصر جذب. لا يحتمل أن تتبنى أي سلسلة زمنية بدأت بالقرب من الحالة الأصلية أيا من الخيارات الثلاثة الأولى التي ذكرناها في بداية هذا القسم، لكنها ستسلك سلوكا فوضويا إلى الأبد.
يبين الشكل رقم
3-1
سلسلة زمنية تبدأ قرب قيمة
X
0
تساوي 0,876، وهي تمثل سلسلة زمنية فوضوية مستقاة من الخريطة اللوجيستية الكاملة. ولكن أمعن النظر في السلسلة مليا؛ هل تبدو حقا غير قابلة للتوقع تماما؟ يبدو أن قيم
X
الصغيرة تليها قيم
X
صغيرة أيضا، وأن ثمة ميلا في السلسلة الزمنية إلى التباطؤ قليلا متى كانت تقترب قيمتها من 3 / 4. سيتفحص الفيزيائي لدينا هذه السلسلة الزمنية، وسيرى أنها قابلة للتوقع على الأقل في بعض الأحيان، بينما قد يقرر الإحصائي لدينا أن السلسلة عشوائية بعد إجراء بضع عمليات حسابية. وعلى الرغم من قدرتنا على إدراك هذه البنية، لا تستطيع أكثر الاختبارات الإحصائية شيوعا إدراكها.
شكل 3-1: سلسلة زمنية فوضوية مستقاة من الخريطة اللوجيستية الكاملة التي تبدأ قرب قيمة
X
0
تساوي 0,876. لاحظ أن السلسلة قابلة للتوقع بصورة واضحة متى كانت قيمة
X
تقترب من الصفر و3 / 4.
الخرائط
يمكن النص على القاعدة التي تعرف خريطة ما إما بالكلمات، وإما في صورة معادلة، وإما في صورة رسم بياني. يحدد كل شكل في شكل رقم
3-2
القاعدة في صورة رسم بياني. لاستخدام الرسم البياني، حدد قيمة
X
الابتدائية على المحور الأفقي، ثم تحرك مباشرة إلى أعلى حتى تبلغ المنحنى، وستكون قيمة هذه النقطة على المنحنى في المحور الرأسي هي قيمة
X
الجديدة. تظهر الخريطة اللوجيستية الكاملة في صورة رسم بياني في الشكل (ب ) من الشكل رقم
3-2 ، بينما تظهر خريطة الأرباع في الشكل (أ).
شكل 3-2: تمثيل بياني لكل من (أ) خريطة الأرباع، و(ب) الخريطة اللوجيستية الكاملة، و(ج) الخريطة الانتقالية، و(د) خريطة الخيمة، و(ه) خريطة الخيمة ذات التضعيف الثلاثي، و(و) خريطة موران-ريكر.
تتمثل إحدى الطرق السهلة لاستخدام الرسم البياني للتأكد مما إذا كانت إحدى النقاط الثابتة غير مستقرة أم لا في النظر إلى منحنى الخريطة عند النقطة الثابتة. فإذا كان المنحنى يميل بدرجة أكثر من 45 درجة (سواء إلى أعلى أو إلى أسفل)، فإن النقطة الثابتة إذن غير مستقرة. في خريطة الأرباع تبلغ القيم في المنحنى أقل من واحد صحيح في جميع المواضع، بينما في الخريطة اللوجيستية الكاملة تزيد القيم في المنحنى قرب الحالة الأصلية عن واحد صحيح. هنا تزيد قيم
X
الصغيرة غير الصفرية مع كل تكرار، طالما ظلت هذه القيم صغيرة بما يكفي (تبلغ القيمة في المنحنى قرب القيمة 1 / 2 صفرا). مثلما سنرى لاحقا، بالنسبة إلى «تقريبا كل» شرط مبدئي يقع بين صفر وواحد، تظهر السلسلة الزمنية «فوضى» رياضية حقيقية. الخريطة اللوجيستية الكاملة في غاية البساطة؛ فالفوضى واضحة جدا.
لا يتطلب تحديد ما إذا كان أحد النظم الرياضية «حتميا» سوى التأكد بعناية مما إذا كان تطبيق القاعدة يتطلب رقما عشوائيا. حال عدم وجود رقم عشوائي، يعتبر النظام الديناميكي حتميا إذن. في كل مرة يجري فيها إدخال قيمة
X
نفسها، نحصل على قيمة
X
الجديدة نفسها كنتيجة. فإذا كانت القاعدة تتطلب (وهو ما تتطلبه حقا) رقما عشوائيا، يكون النظام عشوائيا إذن، وهو ما يطلق عليه أيضا نظام «تصادفي». في ظل أي نظام تصادفي، حتى إذا قمنا بتكرار الشرط المبدئي نفسه «تماما»، فإننا نتوقع أن تختلف تفاصيل قيمة
X
التالية؛ ومن ثم تختلف أيضا السلسلة الزمنية. بالعودة إلى تعريفاتها، سنجد أن الخرائط الثلاث المعرفة سابقا حتمية. تحدد سلاسلها الزمنية المستقبلية بالكامل من خلال الشرط المبدئي، ومن هنا جاءت التسمية «النظام الحتمي». سيشير الفيلسوف لدينا إلى أن مجرد معرفة قيمة
X
ليست كافية؛ إذ إننا سنحتاج أيضا إلى معرفة النظام الرياضي، ويجب أن نمتلك القدرة على إجراء الحسابات الدقيقة باستخدام قيمة
X
تلك. كانت هذه هي الهبات الثلاث التي تأكد لابلاس من أن شيطانه يمتلكها قبل 200 عام.
أول نظام ديناميكي تصادفي سنعرض له هو خريطة إيه سي والذي قاعدته هي:
اقسم
X
على أربعة، ثم اطرح 1 / 2 ثم أضف رقما عشوائيا
R
للحصول على قيمة
X
الجديدة.
تعد خريطة إيه سي نظاما تصادفيا، بما أن تطبيق القاعدة يتطلب توفير مجموعة من الأرقام العشوائية. في حقيقة الأمر، القاعدة المذكورة آنفا غير كاملة؛ حيث إنها لا تحدد كيفية الحصول على رقم عشوائي
R . ولإكمال القاعدة يجب أن نضيف شيئا من قبيل: لتوفير رقم عشوائي
R
عند كل تكرار، انتق رقما بين صفر وواحد بطريقة تجعل من المحتمل انتقاء أي رقم بينهما على نحو متساو، وهو ما يشير ضمنا إلى توزيع
R
توزيعا منتظما بين صفر وواحد، وإلى أن احتمالية وقوع القيمة التالية للرقم العشوائي
R
في نطاق قيم محددة تتناسب مع عرض ذلك النطاق.
ما هي القاعدة التي نطبقها في انتقاء الرقم العشوائي
R ؟ لا يمكن أن تكون القاعدة حتمية؛ إذ إن
R
لن تكون عشوائية في هذه الحالة. ومن المثير للجدل أنه لا توجد قاعدة محددة لتوليد قيم
R ، وهو ما لا يرتبط بالحاجة إلى أرقام منتظمة بين صفر وواحد، وستظهر المشكلة نفسها إذا أردنا توليد أرقام عشوائية تحاكي توزيع منحنى جالتون «الجرسي»، وسيتوجب علينا الاعتماد على الإحصائي لدينا للحصول على الأرقام العشوائية التي نحتاج إليها. بعد ذلك، سنقرر إن كانت الأرقام موزعة على نحو منتظم، أو أنها موزعة في صورة منحنى جرسي.
في خريطة إيه سي، تستخدم كل قيمة من قيم
R
في الخريطة، ولكن ثمة فئة أخرى من الخرائط العشوائية - تسمى نظم الدوال المتكررة - يبدو أنها تستخدم قيمة
R
ليس في صورة معادلة بل في اتخاذ قرار حيال ما سيجري عمله. كمثال على ذلك خريطة نظام الدوال المتكررة للأثلاث الوسطى، وهي الخريطة التي ستكون مفيدة لاحقا عندما نحدد خصائص الخرائط من خلال السلاسل الزمنية التي تولدها. قاعدة هذه الخريطة هي كالآتي:
انتق رقما عشوائيا
R
من أحد التوزيعات المنتظمة بين صفر وواحد.
إذا كان
R
أقل من 1 / 2، فاعتبر
X
مقسومة على 3 قيمة
X
الجديدة.
إذا لم تكن
R
أقل من 1 / 2، فاعتبر
X − 1
مقسومة على 3 قيمة
X
الجديدة.
إذن يتوافر لدينا الآن بضعة نظم رياضية، ويمكننا أن نحدد بسهولة ما إذا كانت حتمية أو تصادفية. ماذا عن نماذج المحاكاة الحاسوبية؟ نماذج المحاكاة بالحاسوب الرقمي حتمية دوما. وكما سنرى في الفصل السابع، إما أن تكون السلسلة الزمنية الناتجة من حاسوب رقمي في حلقة لا نهائية من القيم تتكرر على نحو دوري، مرارا وتكرارا، وإما أنها في طريقها إلى مثل هذه الحلقة. يوصف هذا الجزء الأول من السلسلة الزمنية الذي لا تتكرر فيه أي قيمة، ويتطور مساره نحو «حلقة دورية»، غير أنه لا يبلغها بأنه «عابر». في الدوائر الرياضية، تعتبر هذه الكلمة من قبيل الإهانة؛ حيث إن الرياضيين يفضلون التعامل مع أشياء تتسم بالديمومة، وليس مجرد أشياء عابرة. وبينما يتجنب علماء الرياضيات الأشياء العابرة، ربما لا يرى علماء الفيزياء أي شيء آخر غيرها والحاسوب الرقمي لا يستطيع التعامل مع هذه الأشياء العابرة. يعجز الحاسوب الرقمي الذي أثبت أهميته البالغة في تطوير فهمنا للفوضى - للمفارقة - عن عرض فوضى رياضية حقيقية، وهو كذلك لا يستطيع توليد أرقام عشوائية. لا يعد ما يطلق عليه مولدات الأرقام العشوائية في الحاسوب الرقمي والآلات الحاسبة اليدوية - في حقيقة الأمر - سوى مولدات أرقام شبه عشوائية، حتى إن أحد نماذج هذه المولدات المبكرة كان يعتمد في تصميمه على الخريطة اللوجيستية الكاملة! يعتبر الفرق بين الفوضى الرياضية ونماذج المحاكاة الحاسوبية - مثل الفرق بين الأرقام العشوائية والأرقام شبه العشوائية - نموذجا مثاليا على الفرق بين النظم الرياضية ونماذج المحاكاة الحاسوبية.
الخرائط الموجودة في الشكل رقم
3-2
ليست معروضة هناك من قبيل المصادفة. يبني علماء الرياضيات عادة نظما بطريقة تسهل عليهم نسبيا توضيح مسألة رياضية ما أو تطبيق نوع من المعالجة، وهي كلمة يستخدمونها في بعض الأحيان لإخفاء بعض التدخل الفني من جانبهم. إن الفيزيائيين هم من ينشئون الخرائط المعقدة حقا - بما في ذلك تلك المستخدمة في إرشاد سفن الفضاء، والتي تسمى «النماذج المناخية»، بل والخرائط الأكبر حجما المستخدمة في توقعات حالة الطقس الرقمية أيضا - وليس علماء الرياضيات. بيد أن تلك الخرائط جميعا تعمل بالطريقة نفسها؛ إذ يتم إدخال إحدى قيم
X
في النظام لتتولد قيمة
X
الجديدة. وآلية العمل مماثلة تماما للخرائط البسيطة المشار إليها سابقا، حتى إن كانت
X
تتضمن أكثر من عشرة ملايين مركبة.
المعلمات وبنية النموذج
تتضمن القواعد التي تحدد الخرائط المشار إليها آنفا أرقاما بخلاف الحالة، أرقاما مثل 4 و1 / 2. ويطلق على هذه الأرقام «معلمات». بينما تتغير قيمة
X
مع الوقت، تظل المعلمات ثابتة. ويعد من المفيد في بعض الأحيان مقارنة خواص السلاسل الزمنية المتولدة باستخدام قيم معلمات مختلفة؛ لذا فبدلا من تحديد الخريطة باستخدام قيمة معلم محددة، مثل 4، تحدد الخرائط عادة باستخدام رمز يشير إلى المعلم، لنقل
α
على سبيل المثال. ويمكننا بعد ذلك مقارنة سلوك الخريطة عند قيمة
α
تساوي 4 مع قيمة
α
تساوي 2، أو
α
تساوي 3,569945، على سبيل المثال. تستخدم الرموز اليونانية عادة في التمييز بوضوح بين المعلمات ومتغيرات الحالات، وتفضي إعادة كتابة الخريطة اللوجيستية الكاملة باستخدام أحد المعلمات إلى أحد أشهر نظم الديناميكيات اللاخطية، ألا وهي «الخريطة اللوجيستية»:
اطرح
X
2
من
X ، ثم اضرب الناتج في
α
واعتبر الناتج النهائي قيمة
X
الجديدة.
في النماذج الفيزيائية، تستخدم المعلمات في تمثيل أشياء من قبيل درجة حرارة غليان الماء، أو كتلة الأرض، أو سرعة الضوء، أو حتى السرعة التي «يسقط» الثلج بها في طبقات الجو العليا. عادة لا يلقي الإحصائيون بالا للفرق بين المعلم والحالة، بينما يميل الفيزيائيون إلى منح المعلمات مكانة خاصة. يعمد علماء الرياضيات التطبيقية - كما اتضح - في كثير من الأحيان إلى إجبار المعلمات نحو قيم كبيرة لانهائيا أو متناهية الصغر لانهائيا؛ إذ إن دراسة تدفق الهواء فوق جناح طويل بصورة لا نهائية - على سبيل المثال - تعد أسهل. مرة أخرى، تعتبر كل واحدة من وجهات النظر المختلفة هذه منطقية في سياقها. هل نحتاج إلى حل دقيق لسؤال تقريبي، أو إجابة تقريبية لسؤال محدد؟ في النظم اللاخطية، قد يعني هذا أشياء في غاية الاختلاف.
عناصر الجذب
تذكر خريطة الأرباع، آخذا في الاعتبار أنه بعد تكرار واحد كل نقطة بين صفر وواحد ستقع بين صفر و1 / 4 وبما أن جميع النقاط بين صفر و1 / 4 تقع أيضا بين صفر وواحد، لا يمكن أن تتجاوز قيم أي من هذه النقاط قيما أكثر من 1 أو أقل من صفر. تسمى النظم الديناميكية التي تتضاءل فيها القطع المستقيمة - في المتوسط - (أو في الأبعاد الأكبر، المساحات والحجوم) «نظما مشتتة». متى تقوم خريطة مشتتة بتحويل حجم فضاء الحالة تماما في داخله، ندرك على الفور وجود عنصر جذب دون معرفة شكله.
ومتى كانت قيمة
α
أقل من 4 أمكن إثبات أن الخريطة اللوجيستية تتضمن عنصر جذب من خلال رصد ما يحدث لجميع النقاط بين صفر وواحد. أكبر قيمة
X
جديدة نستطيع الحصول عليها هي أن تكون قيمة
X
التكرارية تساوي 1 / 2. (هل تستطيع أن ترى هذا في الشكل رقم
3-2 ؟) إن القيمة الأكبر ل
X
تساوي
α / 4، وما دامت قيمة
α
أقل من 4 تكون هذه القيمة الأكبر أقل من 1؛ وهو ما يعني أن كل نقطة بين صفر و1 تتكرر في نقطة بين صفر و
α / 4 ولا تبرحها أبدا؛ لذا يجب أن يتضمن النظام عنصر جذب. وبالنسبة إلى قيم
α
الصغيرة، تمثل نقطة
X
التي تساوي صفرا عنصر الجذب، كما هي الحال في خريطة الأرباع تماما. في حين أنه إذا كانت قيمة
α
أكبر من 1، إذن فستتحرك أي قيمة ل
X
قرب الصفر بعيدا، وسيقع عنصر الجذب في موضع آخر. يعد ذلك مثالا على البرهان غير البناء حيث نستطيع إثبات وجود عنصر جذب، لكن البرهان لا يوضح لنا كيفية العثور عليه، ولا يشير أي إشارة إلى خصائصه، وهو الأمر الذي يعد محبطا!
شكل 3-3: يظهر كل شكل تطور 512 نقطة، موزعة مبدئيا على نحو عشوائي بين نقطتي صفر وواحد، في الوقت الذي تتقدم فيه النقط في الخريطة اللوجيستية. يظهر كل شكل إحدى قيم
α
الأربع المختلفة، مبينا التداعي نحو (أ) نقطة ثابتة، و(ب) حلقة دورة ثانية، و(ج) حلقة دورة رابعة، و(د) الفوضى. يظهر الخط المتصل الذي يبدأ عند المرة 32 مسار نقطة واحدة، بغرض جعل المسار على كل عنصر جذب واضحا.
تظهر السلاسل الزمنية المتعددة للخريطة اللوجيستية لكل من قيم
α
الأربع في الشكل رقم
3-3 . في كل شكل، نبدأ بعدد 512 نقطة منتقاة عشوائيا بين صفر وواحد. وفي كل خطوة نقوم بتحريك مجموعة النقاط بالكامل إلى الأمام زمنيا. في الخطوة الأولى نرى أن قيم جميع النقاط تظل أكبر من صفر، ولكن مع التحرك بعيدا عن قيمة
X
تساوي واحدا مع عدم العودة إليها أبدا يكون لدينا عنصر جذب. في شكل (أ) نرى قيم جميع النقاط تقع في حلقة الدورة الأولى، وفي شكل (ب) نرى قيم جميع النقاط تقع في نطاق إحدى النقطتين في حلقة الدورة الثانية، وفي شكل (ج) نرى قيم جميع النقاط تقع في نطاق إحدى النقاط الأربع في حلقة الدورة الرابعة، وفي شكل (د) نرى وقوع قيم جميع النقاط، ولكن لا يمكن تحديد الدورة بوضوح. وحتى تصبح الديناميكيات أكثر اتضاحا، تنتقى إحدى نقاط المجموعة عشوائيا من وسط الرسم البياني، ويتم توصيل النقاط على مسارها بخط يبدأ منها وينطلق إلى الأمام. تبدو حلقة الدورة الأولى (شكل (أ)) خطا مستقيما، بينما يظهر الشكلان (ب) و(ج) المسارين يتبادلان بين نقطتين أو أربع نقاط، على التوالي. وبينما يبدو شكل (د) في أول الأمر مثل حلقة الدورة الرابعة أيضا، إلا أننا ندرك عند تدقيق النظر وجود خيارات تزيد كثيرا عن أربعة، وأنه على الرغم من انتظام ترتيب المرور على مجموعات النقاط، لا يظهر نمط متكرر واضح.
بالنظر إلى نفس الظاهرة من منظور مختلف، يمكننا فحص عدد من الشروط المبدئية المختلفة وقيم
α
المختلفة في الوقت نفسه، مثلما يوضح الشكل رقم
4-3 . في إطار هذا العرض الثلاثي الأبعاد، يمكن رؤية الحالات الأولية مبعثرة على نحو عشوائي على ظهر الجانب الأيسر من المربع. وعند كل عملية تكرار، تتحرك الحالات إلى الخارج في اتجاهك وتتداعى النقاط نحو النمط الموضح في الشكلين السابقين. تظهر الحالات العشوائية الأولية المكررة عند قيم 0، 2، 8، 32، 128، 512، بينما يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تختفي الأنماط العابرة، ويمكن رصد الأنماط المألوفة التي تظهر شيئا فشيئا مع وصول الحالات إلى مقدمة المربع.
ضبط معلمات النموذج والاستقرار البنيوي
يمكننا أن نرى الآن أن أي نظام ديناميكي يتألف من ثلاثة مكونات: القاعدة الرياضية التي تحدد طريقة الحصول على القيمة التالية، وقيم المعلمات، والحالة الحالية. ويمكننا - بالطبع - تغيير أي من هذه الأشياء ورصد ما يترتب على ذلك، لكن من المفيد أن نميز أي نوع من التغيير ندخله. بالمثل، ربما نحصل على رؤية أعمق حيال عدم اليقين في أحد هذه المكونات، ومن صالحنا تجنب تفسير عدم اليقين في مكون واحد من خلال عزوه على نحو خاطئ إلى مكون آخر.
ربما يبحث الفيزيائي لدينا عن النموذج «الحقيقي»، أو عن مجرد نموذج مفيد فقط. عمليا، ثمة فن «لضبط» قيم المعلمات. وبينما تتطلب اللاخطية منا أن نعيد النظر في طريقة إيجادنا ل «قيم معلمات جيدة»، ستضطرنا الفوضى إلى إعادة تقييم ما نعنيه بكلمة «جيدة»؛ فقد يغير أي فرق صغير جدا في قيمة إحدى المعلمات التي لا تؤثر تأثيرا ملحوظا على جودة التوقع القصير الأجل، من شكل عنصر الجذب إلى درجة لا يمكن معها تمييزه. تسمى النظم التي يحدث فيها هذا الأمر نظما «غير مستقرة بنيويا». بينما لا يجب أن يقلق مسئولو توقع حالة الطقس حيال هذا، يجب أن يشعر واضعو النماذج المناخية بالقلق، مثلما أشار لورنز في ستينيات القرن العشرين.
نشأ قدر كبير من الحيرة من العجز عن التمييز بين عدم اليقين في الحالة الحالية، وعدم اليقين في قيمة أحد المعلمات، وعدم اليقين فيما يتعلق ببنية النموذج نفسه. من الناحية الفنية تعد الفوضى إحدى خواص النظام الديناميكي ذي المعادلات الثابتة (البنية) وقيم المعلمات المحددة؛ لذا فإن عدم اليقين الذي تعمل الفوضى بناء عليه هو عدم اليقين في الحالة الأولية. عمليا، تتداخل هذه الفروقات ويصبح الوضع أكثر تشويقا وإرباكا بكثير.
النماذج الإحصائية للبقع الشمسية
لا توجد الفوضى إلا في النظم الحتمية فقط. لكننا إذا أردنا استيعاب أثرها على العلم، يجب أن نراها إزاء خلفية من نماذج نظم تقليدية تصادفية طورت خلال القرن الماضي. ومتى رأينا شيئا متكررا في الطبيعة، فإن أول ما يطبق من الفرضيات فرضية الحركة الدورية، وهي فرضية قد تجعلك شخصية مشهورة، مثلما حدث في حالة مذنب هالي، وعدد وولف للبقع الشمسية؛ ففي النهاية، يظل الاسم عالقا عادة حتى عندما ندرك أن الظاهرة ليست دورية في حقيقة الأمر. حزر وولف أن الشمس تمر في دورة مقدارها حوالي 11 عاما في المرة الواحدة في وقت لم يكن يمتلك سوى بيانات 20 عاما فقط. تظل الدورية مفهوما مفيدا على الرغم من استحالة إثبات دورية نظام طبيعي بصرف النظر عن حجم المعلومات التي نتلقاها، وهو ما ينطبق على مفهومي الحتمية والفوضى.
أظهر السجل الشمسي ارتباطه بحالة الطقس، والنشاط الاقتصادي، والسلوك الإنساني، بل حتى قبل مائة عام كان من الممكن «مشاهدة» الدورة التي تستمر 11 عاما في حلقات جذوع الأشجار. كيف يمكننا نمذجة دورة البقع الشمسية؟ إن نماذج البندول المتحرك بلا احتكاك دورية بصورة مثالية، بينما الدورة الشمسية ليست مثالية. في عشرينيات القرن العشرين، اكتشف الإحصائي الاسكتلندي أودني يول بنية نموذج جديدة، مدركا كيفية إدخال العشوائية في النموذج للحصول على سلوك سلاسل زمنية يبدو واقعيا أكثر. شبه يول السلاسل الزمنية المرصودة للبقع الشمسية بتلك السلاسل الزمنية المستقاة من نموذج بندول متضائل الخطران، بندول يتضمن احتكاكا تستغرق دورته الحرة حوالي 11 عاما، وإذا ما ترك هذا «البندول النموذجي» يتحرك «وحده في غرفة هادئة»، فستتلاشى السلسلة الزمنية الناتجة تدريجيا حتى تنتهي. وبغية إدخال الأرقام العشوائية لضمان استمرار النموذج الرياضي، توسع يول في هذا التشبيه مع البندول الطبيعي قائلا: «لسوء الحظ، يدخل صبية إلى الغرفة حاملين لعبة قذف البازلاء، ويقذفون حبات البازلاء على البندول من جميع الجهات عشوائيا.» صارت النماذج التي بنيت على ذلك دعامة أساسية في ترسانة أسلحة الإحصائيين؛ دعامة أساسية خطية وتصادفية. سنحدد فيما يلي «خريطة يول»:
خذ حاصل ضرب
α
في
X
مضيفا إليه قيمة
R
عشوائية لتحصل على قيمة
X
الجديدة، بحيث يجري انتقاء قيمة
R
عشوائيا من منحنى التوزيع الجرسي القياسي .
إذن كيف يختلف هذا النموذج التصادفي عن النموذج الفوضوي؟ ثمة اختلافان يبرزان أمام أعين العالم الرياضي على الفور: أولهما أن نموذج يول تصادفي؛ حيث تتطلب القاعدة مولد أرقام عشوائية، بينما أي نموذج فوضوي للبقع الشمسية سيكون حتميا بطبيعته. والاختلاف الثاني هو أن نموذج يول خطي، وهو ما ينطوي ببساطة كبيرة على أننا لن نقوم بعملية ضرب مركبات الحالة معا في تعريف الخريطة؛ كما ينطوي النموذج أيضا على إمكانية جمع حلول النظام معا للحصول على حلول أخرى مقبولة، وهي خاصية معروفة باسم «التراكب»، ولا تتوافر هذه الخاصية المفيدة للغاية في النظم اللاخطية.
وضع يول نموذجا مشابها لخريطة يول، وكان سلوكه مشابها أكثر لسلوك السلاسل الزمنية للبقع الشمسية الحقيقية. وتختلف الدورات في نموذج يول المحسن قليلا من دورة إلى الدورة التالية نظرا للآثار العشوائية؛ ما يشبه تفاصيل قذف حبات البازلاء. في إطار نموذج فوضوي تختلف حالة الشمس من دورة إلى الدورة التالية. وماذا عن «القابلية للتوقع»؟ في أي نموذج فوضوي، ستتباعد جميع الحالات الأولية تقريبا في النهاية، بينما في كل نموذج من نماذج يول ستتقارب حتى أكثر الحالات الأولية بعدا، «إذا» ما تعرضت كلتا الحالتين لنفس عملية الدفع من لعبة قذف البازلاء. هذا فارق شائق وجوهري نوعا ما؛ حيث تتباعد الحالات المتماثلة في ظل الآليات الحتمية، بينما تتقارب في ظل الآليات الخطية التصادفية، وليس نتيجة ذلك بالضرورة أن يكون نموذج يول أكثر يسرا في التوقع، بما أننا لا نعرف أبدا تفاصيل عمليات الدفع العشوائية المستقبلية، بيد أنه يغير الطريقة التي يتطور بها عدم اليقين في النظام، مثلما هو موضح في الشكل رقم
3-4 . في هذا الشكل يبدأ عدم اليقين صغيرا - أو يكون حتى صفريا في البداية - في قاعدة المنحنى، ثم يزداد اتساعا ويتحرك إلى اليسار مع كل تكرار. لاحظ أن عدم اليقين في الحالة يبدو كما لو كان يقترب من توزيع منحنى جرسي، وقد وصل إلى استقرار بصورة أو بأخرى عند بلوغه قمة المنحنى. بمجرد استقرار عدم اليقين عند حالة استاتيكية، لا يصبح للقابلية للتوقع أي وجود، ويطلق على التوزيع النهائي هذا «مناخ» النموذج.
شكل 3-4: تطور عدم اليقين في ظل خريطة يول التصادفية. بدءا من نقطة تقع في قاع الرسم البياني، ينتشر عدم اليقين إلى اليسار مع تقدم الزمن (إلى أعلى) ويقترب من توزيع منحنى جرسي ثابت.
النظم الديناميكية الفيزيائية
لا توجد طريقة لإثبات صحة وضع «الحتمية» أو «اللاحتمية»، ونستطيع أن نقرر ذلك فقط في حال إذا كان العلم كاملا أو مستحيلا على نحو واضح.
إي ماخ (1905)
ثمة ما هو أكثر من النماذج الرياضية في هذا العالم. تقريبا أي شيء نرغب في قياسه في العالم الواقعي، أو حتى نفكر فقط في رصده، يمكن أن نعتبره ناجما عن نظام ديناميكي فيزيائي؛ قد يكون موضع الكواكب في النظام الشمسي، أو سطح كوب من القهوة على مائدة مهتزة، أو عدد الأسماك في بحيرة ما، أو عدد طيور الطيهوج في إحدى المزارع، أو عملة يجري قذفها.
السلسلة الزمنية التي ننشد رصدها الآن هي حالة النظام الفيزيائي، لنقل على سبيل المثال، موضع الكواكب التسعة بالنسبة إلى الشمس، أو عدد الأسماك أو طيور الطيهوج. اختصارا، سنستخدم رمز
X
مرة أخرى للإشارة إلى حالة النظام، بينما نحاول ألا ننسى أن ثمة اختلافا جوهريا بين حالة نموذج والحالة الحقيقية إذا كان ثمة شيء مثل ذلك موجود على الإطلاق. ليس واضحا كيف ترتبط هذه المفاهيم بعضها ببعض؛ مثلما سنرى في الفصل الحادي عشر، رأى بعض الفلاسفة أن اكتشاف الفوضى يشير بالضرورة إلى أن العالم الواقعي يجب أن يتضمن خواص رياضية خاصة، ورأى فلاسفة آخرون - ربما في بعض الأحيان نفس الفلاسفة - أن اكتشاف الفوضى يشير ضمنا إلى أن الرياضيات لا تعبر عن العالم. هكذا هم الفلاسفة!
على أي حال، لا نستطيع معرفة الحالة الحقيقية لأي نظام فيزيائي، حتى إذا كان ثمة حالة حقيقية بالفعل. ولا نملك إلا ملاحظات، والتي سنشير إليها بالرمز
S
للتمييز بينها وبين حالة النظام
X . إذن ما هو الفرق بين
X
و
S ؟ البطل المجهول في العلم؛ إنه «التشويش». إن التشويش هو المادة اللاصقة التي تربط بين التجريبيين والنظريين في تلك الحالات التي يلتقون فيها، ويمثل التشويش أيضا الشحم الذي يجعل النظريات تنساب في سلاسة فوق الحقائق المزعجة.
في الوضع المثالي الذي نعرف فيه النموذج الرياضي الذي يولد الملاحظات، ونعرف أيضا «نموذج تشويش» لأي شيء ولد أي نوع من التشويش، فنحن إذن بصدد «سيناريو نموذج مثالي». من المفيد أن نفرق بين نسخة قوية من سيناريو النموذج المثالي نعرف فيها قيم المعلمات تحديدا، ونسخة بسيطة لا نعرف فيها إلا الصيغ الرياضية، ويتوجب علينا حساب قيم المعلمات من خلال الملاحظات. ما دمنا نسير وفق أي من سيناريوهي النموذج المثالي، يحدد التشويش من خلال المسافة بين
X
و
S ، ومن المنطقي الإشارة إلى التشويش باعتباره سببا في عدم يقيننا في الحالة، بما أننا نعرف بوجود حالة حقيقية حتى إذا كنا لا نعرف قيمتها. لا تستمر كثير من تفاصيل هذه الصورة في الظهور عندما نبرح سيناريو النموذج المثالي. حتى في داخل سيناريو النموذج المثالي، يلعب التشويش دورا بارزا جديدا بمجرد إقرارنا بأن العالم لا خطي.
ماذا عن مفاهيم الحتمية، والعشوائية، أو حتى الدورية؟ تشير هذه المفاهيم إلى خواص نماذجنا، ويمكننا تطبيقها في العالم الحقيقي فقط من خلال أفضل النماذج (الحالية). هل ثمة نظم ديناميكية فيزيائية عشوائية حقا؟ على الرغم من الاستخدام اليومي لقذف العملات وقطع النرد باعتبارها مصادر «عشوائية»، فالإجابة التقليدية في الفيزياء الكلاسيكية هي لا؛ فلا توجد عشوائية على الإطلاق. في ضوء مجموعة كاملة من القوانين ربما (وربما لا) يكون من الصعب جدا بالنسبة إلينا حساب نتائج مرات قذف العملات، وقطع النرد، وتدوير عجلة الروليت، بيد أن هذا يمثل مشكلة فقط من الناحية العملية، وليس من حيث المبدأ، ولم يكن شيطان لابلاس ليواجه أي صعوبة في إجراء توقعات مثل هذه. في المقابل، تختلف ميكانيكا الكم؛ ففي إطار نظرية ميكانيكيا الكم التقليدية، يعتبر عمر النصف لذرة يورانيوم كمية طبيعية وحقيقية مثل كتلة ذرة اليورانيوم. ولا يهم هنا حقيقة أن مرات قذف العملة أو تدوير عجلة الروليت الكلاسيكية لم تتم نمذجتها على النحو الأفضل عشوائيا، في ضوء ادعاءات ميكانيكا الكم المؤيدة للعشوائية والاحتمالات الموضوعية. تتطلب الادعاءات مع - أو ضد - وجود احتمالات موضوعية تفسير النظم الفيزيائية في إطار نماذجنا الخاصة بتلك النظم، وهذه هي الحال دوما. ربما تدحض نظرية مستقبلية ما هذه العشوائية لصالح الحتمية، بيد أننا لن نكون موجودين إلا لفترة صغيرة متضائلة. من قبيل الاحتراز النسبي ينبغي علينا القول بأن بعض أفضل نماذجنا للواقع ستظل تتضمن عناصر عشوائية حتى كتابة هذه الكلمات.
الملاحظات والتشويش
خلال العقود القليلة الأخيرة، كتب عدد هائل من الأوراق البحثية العلمية حول استخدام سلسلة زمنية للتمييز بين النظم الحتمية والنظم التصادفية، وقد بدأ هذا السيل من البحوث في مجال الفيزياء، ثم انتشر في مجالات الجيوفيزياء، والاقتصاد، والطب، وعلم الاجتماع، وما هو أكثر من ذلك. استلهمت معظم هذه الأوراق البحثية من نظرية رائعة أثبتها عالم رياضيات هولندي يدعى فلوريس تاكنس في عام 1983، والتي سنعود إليها في الفصل الثامن. لماذا كتبت كل هذه الأوراق، مع العلم أننا لدينا قاعدة بسيطة لتحديد ما إذا كان أي نظام رياضي حتميا أو تصادفيا؟ لماذا لا نكتفي بالرجوع إلى قواعد النظام ونرى ما إذا كان النظام يتطلب مولد أرقام عشوائية أم لا؟ كثيرا ما يحدث خلط بين الألعاب التي يمارسها علماء الرياضيات والقيود المفروضة على عمل علماء الطبيعة (وغيرهم).
يحب علماء الرياضيات الحقيقيون ممارسة الألعاب العقلية، مثل التظاهر بنسيان القواعد ثم تخمين إن كان النظام حتميا أو تصادفيا من خلال النظر إلى السلاسل الزمنية لحالات النظام فقط. فهل يستطيعون تحديد أي نظام حتمي بوضوح في ضوء سلسلة زمنية تمتد من ماض سحيق لا نهائي إلى مستقبل بعيد لا نهائي؟ نتيجة للنقاط الثابتة وحتى الحلقات الدورية، لا تشكل هذه اللعبة تحديا بما يكفي، وحتى نجعلها أكثر تشويقا، دعنا نعتبر أن ثمة تغييرا لا نعرف فيه الحالات على وجه التحديد، لكننا لدينا إمكانية الوصول إلى ملاحظات مشوشة
S ، لكل حالة
X . كثيرا ما يعتقد أن الحالة الأصلية
S - وإن كان ذلك مضللا بعض الشيء - ترتبط بإضافة رقم عشوائي إلى كل قيمة
X
حقيقية. في تلك الحالة، لا يؤثر «تشويش الملاحظة» هذا على الحالات المستقبلية للنظام، بل فقط على ملاحظاتنا لكل حالة، وهو دور مختلف جدا عن ذلك الدور الذي تلعبه الأرقام العشوائية
R
في النظم التصادفية، مثل خريطة يول التي كانت قيمة
R
تؤثر فيها على المستقبل؛ حيث إنها غيرت قيمة
X
التالية. وللتأكيد على هذه التفرقة، يطلق على المؤثرات العشوائية التي تؤثر على قيمة
X
التشويش الديناميكي.
مثلما ذكر آنفا، يستطيع علماء الرياضيات العمل في إطار سيناريو النموذج المثالي، فيبدءون عملهم وهم على علم بأن النموذج الذي ولد السلسلة الزمنية له نوع معين من البنية، وفي بعض الأحيان يفترضون معرفة هذه البنية (سيناريو نموذج مثالي بسيط)، وفي بعض الأحيان يعرفون قيم المعلمات أيضا (سيناريو نموذج مثالي قوي). يولد علماء الرياضيات سلسلة زمنية من
X ، ومنها سلسلة زمنية من
S ، ثم يتظاهرون بنسيانهم قيم
X
ويرصدون ما إذا كانوا يستطيعون استنتاجها، أو يتظاهرون بنسيان النظام الرياضي ليروا إن كان بإمكانهم - عند معرفة قيمة
S
فقط - تحديد النظام فضلا عن قيم معلماته، أو تحديد إن كان النظام فوضويا، أو توقع قيمة
X
التالية.
عند هذه النقطة، يجب أن يكون تحديد مسار اللعبة أمرا يسيرا للغاية. يحاول علماء الرياضيات محاكاة الموقف الذي لا يستطيع علماء الطبيعة الفكاك منه أبدا. «لا» يعرف الفيزيائيون، وعلماء الأرض، والاقتصاديون، والعلماء الآخرون القاعدة، قوانين الطبيعة الكاملة، المتعلقة بالنظم الفيزيائية للدراسة العلمية. والملاحظات العلمية غير كاملة. ربما تتسم دوما بعدم يقينها بسبب تشويش الملاحظة، على أن ذلك ليس نهاية المطاف، وربما تكمن الخطيئة الكبرى في الخلط بين الملاحظات الحقيقية والملاحظات في هذه الألعاب الرياضية.
يضطر عالم الفيزياء إلى ممارسة لعبة مختلفة؛ فبينما يحاول الإجابة عن الأسئلة نفسها، لا يحصل إلا على سلسلة زمنية من الملاحظات -
S - وبعض المعلومات المتعلقة بإحصاءات التشويش في الملاحظات، و«الأمل» في وجود خريطة رياضية ما. لا يستطيع الفيزيائيون التأكد على الإطلاق مما إذا كانت مثل هذه البنية موجودة أم لا، ولا يستطيعون حتى التأكد مما إذا كان متغير حالة النموذج
X
ينطوي حقيقة على أي معنى مادي. إذا كان
X
هو عدد الأرانب في حديقة حقيقية، يصعب إذن تصور عدم وجود
X ؛ إذ إن
X
هي مجرد رقم ما صحيح. ولكن، ماذا عن متغيرات النماذج مثل سرعة الرياح أو درجة الحرارة؟ هل ثمة أرقام حقيقية تتواءم مع تلك المركبات في متجه حالتنا؟ وإذا لم تكن هذه الأرقام موجودة، فأين ينفصم التواؤم بين الأرانب وسرعة الرياح؟
يهتم الفيلسوف لدينا بهذه الأسئلة اهتماما كبيرا، ويجب أن نهتم بها نحن أيضا. لوفيريه - العالم الفرنسي الذي عمل مع فيتزروي لوضع أول نظام إنذار مبكر لتوقع حالة الطقس - مات مشهورا لاكتشافه كوكبين. استخدم لوفيريه قوانين نيوتن في توقع موقع كوكب نبتون بناء على «حالات شذوذ» في السلسلة الزمنية المرصودة في مدار كوكب أورانوس، وجرى رصد ذلك الكوكب على نحو واف. حلل لوفيريه أيضا «حالات الشذوذ» في مدار كوكب عطارد، ومرة أخرى أشار إلى الراصدين بموضع كوكب جديد، وهو ما وجدوه حقيقة. كان الكوكب الجديد، الذي أطلق عليه اسم فولكان، قريبا جدا من الشمس وتصعب رؤيته، لكنه ظل تحت الرصد لعقود. نعرف الآن أنه ليس ثمة كوكب يسمى فولكان؛ خدع لوفيريه بسبب عجز قوانين نيوتن عن وصف مدار كوكب عطارد جيدا (على الرغم من توصيف قوانين أينشتاين له بصورة أفضل). كم مرة ألقينا باللائمة على عدم التوافق بين نماذجنا وبياناتنا عن التشويش، في حين يرجع السبب الجذري في حقيقة الأمر إلى عدم ملاءمة النماذج؟ تجري أكثر الأشياء تشويقا في العلم على التخوم، سواء أدرك العلماء ذلك أم لا. لا نعرف على وجه التحديد إن كانت القوانين الحالية صالحة للتطبيق على تخوم العلم أم لا، ويعتبر علم المناخ الحديث مثالا طيبا على العمل الشاق الذي يجري على تخوم فهمنا.
بينت دراسة الفوضى أهمية التمييز بين مسألتين مختلفتين، إحداهما آثار عدم اليقين على الحالة أو المعلمات، والأخرى عدم ملاءمة نماذجنا الرياضية نفسها. يستطيع علماء الرياضيات ممن يعملون في إطار سيناريو النموذج المثالي تحقيق تقدم من خلال التظاهر بأنهم لا يحرزون أي تقدم، بينما قد يتسبب العلماء الذين يتظاهرون - أو يعتقدون - بأنهم يعملون في إطار سيناريو نموذج مثالي، في حين أنهم ليسوا كذلك في ضرر بالغ، خاصة إذا كانت نماذجهم تؤخذ على نحو ساذج كأساس لعملية اتخاذ القرار. الحقيقة الواضحة هنا هي أننا لا نستطيع تطبيق معايير البرهان الرياضي على النظم الفيزيائية، بل على نماذجنا الرياضية للنظم الفيزيائية فقط. يستحيل إثبات فوضوية نظام فيزيائي، أو دوريته. يجب أن يتذكر الفيزيائي والرياضي لدينا دوما أنهما في بعض الأحيان يستخدمان الكلمات نفسها للإشارة إلى أشياء مختلفة نوعا ما، وهما بفعل ذلك يواجهان بعض الصعوبة عادة ويشعران بقدر هائل من المرارة. يشير تعليق ماخ السابق إلى أن هذا الأمر ليس شيئا جديدا.
الفصل الرابع
الفوضى في النماذج الرياضية
سنصبح أفضل حالا إذا أدرك عدد أكثر من الأشخاص أن النظم اللاخطية البسيطة لا تمتلك بالضرورة خواص ديناميكية بسيطة.
اللورد ماي (1976)
يعرض هذا الفصل لمسح موجز جدا للنماذج الرياضية الفوضوية من علم الحيوان إلى علم الفلك. مثل أي غزو ثقافي، كانت النماذج الحتمية اللاخطية ذات الاعتماد الحساس تلقى ترحيبا في بعض الأحيان، ولا تلقاه في أحيان أخرى. وقد لقيت ترحيبا بانتظام في الفيزياء حيث كان التحقق التجريبي من نبوءاتها العلمية - مثلما سنرى - مذهلا بكل معنى الكلمة. في مجالات أخرى، بما في ذلك مجال علم أحياء السكان، لا تزال علاقة الفوضى به محل تساؤل، غير أن علماء أحياء السكان كانوا هم من طرحوا بدايات النماذج الفوضوية قبل عقد من ظهور نماذج علماء الفلك وعلماء الأرصاد الجوية في المشهد. وقد تجدد الاهتمام بهذه الجهود في عام 1976 من خلال مقالة بحثية نقدية واسعة التأثير والانتشار في مجلة «نيتشر». وسنبدأ بالاستبصارات الأساسية التي نوهت عنها تلك المقالة.
أخطاء ماي العزيزة
في عام 1976، قدم اللورد ماي مقالة نقدية حازت على الاهتمام حول ديناميكيات الفوضى في مجلة «نيتشر»، وقد قامت بعرض الملامح الأساسية في النظم اللاخطية الحتمية. مشيرا إلى أن كثيرا من الأسئلة الشائقة ظل بلا إجابة، رأى ماي أن هذا المنظور الجديد لا يقدم قيمة نظرية فحسب، بل قيمة عملية وتربوية أيضا، وأن المنظور كان يتضمن كل شيء بدءا من الاستعارات الجديدة المستخدمة في وصف النظم، إلى الكميات الجديدة التي تنتظر الرصد وقيم المعلمات الجديدة التي تنتظر التقدير. من بين أبسط الديناميكيات السكانية ديناميكيات مجموعات التربية حيث لا يتداخل جيل مع الجيل التالي؛ فالحشرات التي تنتج جيلا واحدا سنويا، على سبيل المثال، يمكن وصفها من خلال خرائط زمنية منفصلة. وفي هذه الحالة ستمثل
X
i
المجموعة السكانية، أو كثافة السكان، في السنة رقم
i
th ؛ ومن ثم سيكون لسلسلتنا الزمنية قيمة واحدة لكل سنة، وتمثل الخريطة القاعدة التي تحدد حجم التعداد في السنة التالية عند معرفة تعداد هذا العام، ويمثل المعلم
α
كثافة الموارد. في خمسينيات القرن العشرين، وضع موران وريكر كل منهما على حدة الخريطة الموضحة في الشكل رقم
3-2 (و). وبالنظر إلى هذا الرسم البياني، يمكننا ملاحظة أنه في حال صغر قيمة
X ، تصبح قيمة
X
التالية أكبر؛ أي إن التعدادات الصغيرة تزداد، غير أنه إذا صارت قيمة
X
أكبر مما ينبغي، تصبح قيمة
X
التالية صغيرة، وعندما تكون القيمة الحالية كبيرة جدا، تصبح القيمة التالية صغيرة جدا. تستنفد التعدادات الكبيرة الموارد المتاحة لكل فرد؛ ومن ثم تتراجع عملية التكاثر الناجحة.
لطالما كانت التعدادات المتذبذبة بصورة غير منتظمة ترصد منذ وقت طويل، وكان الباحثون قد اختلفوا طويلا حول أصولها. تعتبر السلاسل الزمنية للوشق الكندي وفئران الحقول الاسكندنافية واليابانية، فضلا عن سلاسل البقع الشمسية، من بين أكثر مجموعات البيانات تحليلا في جميع الإحصاءات. وقد جاءت فكرة أن النماذج اللاخطية البسيطة للغاية قد تظهر تذبذبات غير منتظمة على هذا النحو لتقترح آلية محتملة جديدة لتذبذبات التعداد الحقيقية؛ وهي آلية كانت تتعارض مع الفكرة القائلة بأن التعدادات «الطبيعية» يجب أن تحتفظ بمستوى ثابت أو دورة متكررة منتظمة. تنطوي فكرة عدم حاجة هذه التذبذبات التي «تبدو» عشوائية إلى أن تستحثها بعض القوى الخارجية مثل الطقس - ولكنها قد تكون متأصلة في الديناميكيات السكانية الطبيعية - على إمكانية تغيير محاولات فهم وإدارة المجموعات السكانية على نحو جذري. وبينما يشير ماي إلى أن «استبدال المعلمات السلبية بتفاعلات إحدى الجماعات السكانية مع بيئتها البيولوجية والطبيعية قد يفضي إلى إلحاق ضرر هائل بالواقع»، قدم ماي عرضا للسلوكيات الشائقة في الخريطة اللوجيستية. تنتهي المقالة «برجاء يملؤه الحماس والحرارة لإدراج هذه المعادلات الفرقية في مقررات الرياضيات الأساسية، بحيث يثرى حدس الطلاب من خلال رؤيتهم للأشياء الرائعة التي تستطيع المعادلات اللاخطية البسيطة تنفيذها.» تعود هذه العبارة إلى ثلاثة عقود مضت.
سنبحث بعض هذه الأشياء الرائعة لاحقا، لكن لاحظ أن تركيز علماء الرياضيات على الخريطة اللوجيستية لا يقصد من ورائه الإشارة إلى أن هذه الخريطة في حد ذاتها «تتحكم» بأي شكل من الأشكال في النظم الطبيعية والبيولوجية. أحد الأشياء التي تفرق بين الديناميكيات اللاخطية والتحليل التقليدي هو أن الأولى تميل إلى التركيز أكثر على سلوك النظم وليس على تفاصيل أي حالة أولية واحدة وفق معادلات محددة ذات قيم معلمات محددة، أي إنه تركيز على الأشكال الهندسية أكثر من الإحصاءات. قد تكون بعض الديناميكيات المشابهة أكثر أهمية من الإحصاءات «الجيدة». ويتضح أن الخريطة اللوجيستية وخريطة موران-ريكر متشابهتان جدا في هذا الجانب، على الرغم من أنهما تبدوان مختلفتين تماما في الشكل رقم
3-2 (و). ربما تكون التفاصيل مهمة بالطبع، وربما يكون الدور المستمر للخريطة اللوجيستية نفسه تربويا، بإسهامه في دحض الاعتقاد التاريخي السائد القائل بأن الديناميكيات المعقدة تتطلب نماذج معقدة أو عشوائية.
العمومية: توقع مسارات إلى الفوضى
شكل 4-1: سلوك تضاعف الدورة في الخريطة اللوجيستية مع زيادة قيمة
α
من 2,8 إلى 3,5 تقريبا. حالات التضاعف الثلاث الأولى مميزة.
تفضي الخريطة اللوجيستية إلى تنويعات في السلوك ثرية على نحو مذهل. يلخص الشكل رقم
4-1
الذي يبين التشعب الشهير سلوك الخريطة عند قيم مختلفة كثيرة لمعلماتها في شكل واحد. المحور الأفقي هو
α ، وتشير النقاط في أي شريحة رأسية إلى الحالات التي تقع بالقرب من عنصر الجذب لقيمة
α
تلك. تعكس
α
هنا معلما ما في النظام؛ فإذا كانت
X
تمثل عدد الأسماك في البحيرة، فإن
α
تمثل إذن كمية الغذاء في البحيرة، وإذا كانت
X
تمثل الزمن المنقضي بين قطرة وأخرى من قطرات الماء من الصنبور ، فإن
α
إذن هي معدل الماء المتسرب من الصنبور، وإذا كانت
X
تمثل حركة التقلبات في الحمل الحراري في السوائل، فإن
α
هي كمية الحرارة التي انتقلت إلى قاع الإناء. ويظل السلوك هو نفسه في نماذج أشياء مختلفة تماما. في حال كانت قيمة
α
صغيرة (إلى اليسار) ثمة نقطة عنصر جذب ثابتة، وتزداد قيمة النقطة الثابتة مع زيادة قيمة
α ، حتى تبلغ
α
قيمة واحد صحيح، وهي القيمة التي تختفي عندها النقطة الثابتة، ونرصد تكرارات تتراوح بين نقطتين؛ وهو ما يمثل حلقة دورة ثانية. ومع استمرار
α
في الزيادة، نصل إلى حلقة دورة رابعة، ثم إلى حلقة دورة ثامنة، ثم حلقة دورة 16، ثم 32 وهكذا، وهو ما يمثل عملية تشعب مرة بعد مرة.
بما أن دورة الحلقة تزداد دوما بعامل اثنين، يطلق على عمليات التشعب هذه «تشعب متضاعفة الدورة». بينما لا يمكن رؤية الحلقات القديمة مرة أخرى، إنها لا تختفي، بل تظل موجودة، لكنها تصير غير مستقرة، وهو ما حدث مع الحالة الأصلية في الخريطة اللوجيستية عندما تصبح قيمة
α
أكبر من واحد. تظل
X
عند قيمة صفر فقط إذا كانت تساوي صفرا تماما، بينما تزداد القيم غير الصفرية الصغيرة عند كل تكرار. وبالمثل، تتحرك النقاط قرب حلقة دورية غير مستقرة بعيدا عنها؛ ومن ثم لا نراها بوضوح عند تكرار القيم في الخريطة.
ثمة نمط منتظم خفي في الشكل رقم
4-1 . انتق أي ثلاث قيم
α
متعاقبة تتضاعف عندها الدورة، واطرح الأولى من الثانية، ثم اقسم العدد الناتج على الفرق بين القيمتين الثانية والثالثة؛ ستفضي النتيجة إلى رقم فايجنباوم، وهو ما يساوي تقريبا 4,6692016091. اكتشف ميتش فايجنباوم هذه العلاقات، مستخدما آلة حاسبة يدوية في لوس آلاموس في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وصارت هذه النسبة معروفة باسمه حاليا. وقد توصل إليها آخرون أيضا على نحو مستقل، وكان امتلاك الاستبصار لإجراء هذه العملية الحسابية أمرا مدهشا في كل حالة.
بما أن رقم فايجنباوم أكبر من واحد، تتقارب قيم
α
التي يحدث عندها تشعب أكثر فأكثر، ويتولد عدد لا نهائي من عمليات التشعب قبل بلوغ
α
قيمة تقترب من 3,5699456718. يوضح الشكل رقم
4-2
ما يحدث لقيم
α
الأكبر. يتميز هذا الخضم من النقاط بالفوضوية الهائلة، ولكن لاحظ نوافذ السلوك الدوري، على سبيل المثال نافذة الدورة الثالثة التي تتخذ
α
فيها قيمة واحد مضاف إليه الجذر التربيعي لثمانية (أي حوالي 3,828)، تعد هذه حلقة دورة ثالثة مستقرة. فهل تستطيع تحديد نوافذ مماثلة للدورة الخامسة؟ أو الدورة السابعة؟
شكل 4-2: سلوكيات متنوعة في الخريطة اللوجيستية مع زيادة قيمة
α
من حلقة دورة رابعة عند قيمة
α
تساوي 3,5، إلى حالة فوضى عند قيمة
α
تساوي 4. لاحظ أن تضاعف الدورة المتكرر يتوالى عند الجانب الأيمن من كل نافذة دورية.
يضع الشكل رقم
4-3
الأرقام في الخريطة اللوجيستية في السياق. تشكل قيم
α
و
X
0
المنتقاة عشوائيا سحابة من النقاط على الشريحة التي تساوي فيها
t
صفرا من هذا الشكل الثلاثي الأبعاد. وبتكرار استخدام الخريطة اللوجيستية انطلاقا من هذه القيم، تتلاشى القيم العابرة، وتظهر عناصر الجذب عند كل قيمة
α
تدريجيا، حتى إنه بعد تكرار الخريطة 512 مرة ستشبه شريحة المرة الأخيرة شكل رقم
4-2 .
شكل 4-3: رسم بياني ثلاثي الأبعاد يبين انهيار قيم
X
0
و
α
العشوائية في البداية في الجانب الخلفي الأيسر من المربع تجاه عناصر الجذب المختلفة، مع زيادة عدد التكرارات. لاحظ تشابه النقاط قرب الجانب الأيمن الأمامي مع النقاط في الشكلين
4-1
و
4-2 .
سيكون من قبيل المغالاة أن نتوقع أن يدلنا شيء بسيط مثل الخريطة اللوجيستية على أي شيء حيال سلوك عنصر الهليوم في صورته السائلة، بيد أن الخريطة تفعل ذلك. لا تظهر بداية سلوك معقد فحسب مؤشرا نوعيا على تضاعف الدورة، بل تتفق القيم الكمية الفعلية لأرقام فايجنباوم التي جرى حسابها من خلال تجارب عديدة بصورة لافتة مع تلك القيم المحسوبة باستخدام الخريطة اللوجيستية. الكثير من النظم الفيزيائية يظهر هذا «المسار المتضاعف الدورة إلى الفوضى»، كما نرى في ديناميكا الموائع (الماء، والزئبق، وسائل الهليوم)، والليزر، والإلكترونيات (الديودات، وأجهزة الترانزستور)، والتفاعلات الكيميائية (تفاعل بي زد). يمكن للمرء تقدير قيمة رقم فايجنباوم بدقة خانتين في التجارب، وهو ما يمثل أحد أكثر النتائج إدهاشا في هذه المقدمة عن نظرية الفوضى . كيف يمكن أن تمنحنا العمليات الحسابية البسيطة باستخدام الخريطة اللوجيستية معلومات ذات صلة بكل هذه النظم الفيزيائية؟
إن انبهار عالم الرياضيات بهذا الشكل البياني ليس منبعه فقط جمال هذا الشكل، بل أيضا بسبب حقيقة أننا سنحصل على صورة مشابهة لخريطة موران-ريكر ونظم أخرى كثيرة تبدو للوهلة الأولى مختلفة تماما عن الخريطة اللوجيستية. يظهر طرح فني أن تضاعف الدورة أمر شائع في خرائط «المنحنى الواحد» التي «يبدو» فيها المنحنى «مثل» القطع المكافئ. من حيث المعنى الحقيقي والمرتبط بذلك تماما، تبدو جميع الخرائط اللاخطية تقريبا مثل قيمها القريبة للغاية من القيمة القصوى لها؛ لذا يطلق على خواص مثل تضاعف الدورة بأنها «عامة»، على الرغم من عدم اشتمال «جميع» الخرائط عليها. لعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة من هذه الحقائق الرياضية هو الحقيقة التجريبية القائلة بأن مجموعة واسعة التنوع من النظم الفيزيائية تظهر سلوكا ما غير متوقع يعكس - قدر ما نستطيع أن نرى - هذه البنية الرياضية. أليس هذا الطرح مقنعا إذن لتتولى الرياضيات التحكم في الطبيعة وليس فقط وصفها؟ للإجابة عن هذا السؤال، ربما نبحث عما إن كان رقم فايجنباوم أقرب إلى ثابت هندسي مثل
π ، أو إلى ثابت فيزيائي مثل سرعة الضوء، أي
c . توصف الأشكال الهندسية للأقراص، والعبوات، والكرات جيدا باستخدام
π ، بيد أن
π
تكاد لا تتحكم في العلاقة بين الأطوال، والمساحات، والحجوم الحقيقية بنفس الطريقة التي تتحكم بها قيم الثوابت الفيزيائية في طبيعة الأشياء في إطار قوانين الطبيعة التي نعرفها.
أصل المصطلح الرياضي «الفوضى»
في عام 1964 أثبت عالم الرياضيات الروسي إيه إن شاركوفسكي نظرية لافتة حول الأنماط السلوكية للعديد من خرائط «المنحنى الواحد»، ألا وهي أن اكتشاف وجود حلقة دورية واحدة يشير إلى وجود حلقات أخرى، وربما تكون كثيرة. كان اكتشاف وجود حلقة الدورة 16 لقيمة محددة للمعلم يشير ضمنا إلى وجود حلقات دورة ثامنة، ورابعة، وثانية، وأولى عند تلك القيمة، بينما كان يعني اكتشاف حلقة دورة ثالثة وجود حلقة لكل دورة محتملة! وهو ما يعتبر دليلا آخر غير بناء؛ فهو لا يدلنا على موضع تلك الحلقات ولكنه في النهاية يعد نتيجة متقنة تماما. بعد أحد عشر عاما من عمل شاركوفسكي، نشر لي ويورك ورقتهما البحثية الواسعة التأثير تحت عنوان رائع: «الدورة الثالثة تستلزم الفوضى». ومن وقتها ظهر مصطلح «الفوضى» واستقر في الأذهان.
النظم الرياضية المتعددة الأبعاد
كانت معظم حالات نماذجنا حتى الآن تتألف من مركبة واحدة فقط. ويعتبر نموذج فئران الحقول وابن عرس استثناء؛ حيث إن الحالة تتكون من رقمين؛ أحدهما يعكس تعداد الفئران، والآخر تعداد ابن عرس. وفي هذه الحالة تعتبر الحالة متجها. يطلق علماء الرياضيات على عدد المركبات في الحالة «بعد» النظام؛ حيث إن رسم متجهات الحالة سيتطلب فضاء حالة يمتلك هذا البعد.
مع انتقالنا إلى أبعاد أكبر، تصبح النظم في كثير من الأحيان «تدفقات» لا خرائط؛ فالخريطة دالة تتلقى قيمة واحدة من
X
لتولد قيمة
X
التالية، بينما يقدم التدفق سرعة
X
لأي نقطة في فضاء الحالة. تصور جزرة بيضاء تطفو تحت سطح البحر، يحملها التيار وتمضي في اتجاه تدفق اتجاه البحر. يشبه المسار الثلاثي الأبعاد للجزرة البيضاء في البحر مسارا تسلكه
X
في فضاء الحالة، ويطلق على كل منهما في بعض الأحيان «مسارات». إذا تتبعنا مسار كمية لا متناهية الصغر من السائل نفسه - بدلا من الجزرة البيضاء - فسنجد غالبا أن هذه المسارات متكررة عادة مع وجود اعتماد حساس. المعادلات حتمية ويقال إن كميات الموائع هذه تظهر نمط «فوضى لاجرنجية». تظهر التجارب المخبرية على الموائع عادة أنماطا جميلة تعكس الديناميكيات الفوضوية التي تجري ملاحظتها في نماذج تدفق الموائع لدينا. دون اختبار المعادلات التفاضلية التي تحدد مجالات السرعة تلك، سنستعرض سريعا فيما يلي عددا من النظم الفوضوية الكلاسيكية.
الفوضى المشتتة
في عام 1963، نشر إد لورنز ما صار لاحقا ورقة بحثية كلاسيكية حول قابلية النظم الفوضوية للتوقع. بحث لورنز مجموعة مبسطة للغاية من ثلاث معادلات تعتمد على ديناميكيات أحد الموائع قرب نقطة بدء الحمل الحراري، وهو ما صار يعرف الآن باسم «نظام لورنز». يمكن تصور المركبات الثلاث للحالة في صورة تقلبات حمل حراري في طبقة مائع بين طبقين مسطحين عند تسخين الطبق السفلي. عندما لا يكون هناك حمل حراري، يكون المائع ساكنا وتتناقص درجة حرارة المائع بصورة منتظمة من الطبق السفلي الأكثر حرارة إلى الطبق العلوي الأقل حرارة. تتألف الحالة
X
في نموذج لورنز من ثلاث قيم
x, y, z ، حيث تعكس
x
سرعة المائع الدوار، وتقيس
y
فرق درجة الحرارة بين كمية المائع الصاعدة وكمية المائع الغاطسة، وتقيس
z
درجة الانحراف عن نطاق درجة الحرارة الخطي. يبين الشكل رقم
4-4
عنصر جذب في هذا النظام؛ ومن قبيل المصادفة، يبدو عنصر الجذب مثل الفراشة. يشير التظليل المختلف في عنصر الجذب إلى التباينات في الوقت الذي يستغرقه تضاعف حالة عدم يقين لا متناهية الصغر. سنعود إلى مناقشة معنى هذا التظليل في الفصل السادس، لكن عليك الآن ملاحظة التباينات مع الموضع.
شكل 4-4: رسمان تخطيطيان ثلاثيا الأبعاد لعنصر الجذب في نظام لورنز (الرسم الأول)، وعنصر الجذب في نظام مور-شبيجل (الرسم الثاني). يشير التظليل إلى التباينات في زمن تضاعف عدم اليقين عند كل نقطة.
يبين لنا الشكل رقم
4-5
تطور عدم اليقين في نظام لورنز، وهو ما يبدو أكثر تعقيدا من الشكل المقابل في خريطة يول في الشكل رقم
3-4 . يوضح الشكل رقم
4-5
نوع التوقع الذي يمكن لشيطان القرن الحادي والعشرين عمله في هذا النظام. ثمة عدم يقين أولي صغير في الشكل يزداد اتساعا، ثم يضيق، ثم يتسع، ثم يضيق أكثر ... وفي النهاية ينقسم إلى جزأين ويبدأ في التلاشي. ولكن بناء على القرارات التي نحاول أن نتخذها، ربما لا تزال هناك معلومات مفيدة في هذا النمط حتى في الوقت الذي يبدو فيه بأعلى الشكل. في هذه الحالة، لم يكن عدم اليقين قد استقر في الوقت الذي وصل فيه أعلى الرسم.
شكل 4-5: التوقع الاحتمالي الذي قد يضعه شيطان القرن الحادي والعشرين في نظام لورنز الذي وضعه في عام 1963. قارن بين الطريقة التي يتطور بها عدم اليقين في هذا النظام الفوضوي مع الزيادة البسيطة نسبيا في عدم اليقين في خريطة يول الموضحة في الشكل رقم
3-4 .
في عام 1965، وضع عالما الفلك الرياضي مور وشبيجل نموذجا بسيطا لكمية من الغاز في الغلاف الجوي لأحد النجوم. وهنا نجد فضاء الحالة ثلاثي الأبعاد مجددا، ومركبات
X
الثلاث هي الارتفاع، والسرعة، وتسارع كمية الغاز. الديناميكيات شائقة لأن لدينا قوتين متنافستين: قوة حرارية تميل إلى تقويض استقرار كمية الغاز، وقوة مغناطيسية تميل إلى إعادة كمية الغاز إلى نقطة البداية، مثلما يصنع الزنبرك تماما. مع ارتفاع كمية الغاز، تختلف درجة حرارتها عن المائع المحيط بها، وهو ما يؤثر على سرعتها ودرجة حرارتها، لكن في الوقت نفسه يعمل المجال المغناطيسي للنجم كالزنبرك لإعادة كمية الغاز إلى موضعها الأصلي. تفضي الحركة التي تتسبب فيها قوتان متنافستان عادة إلى الفوضى. يبين الشكل رقم
4-6
أيضا عنصر جذب نظام مور-شبيجل.
شكل 4-6: رسمان تخطيطيان ثنائيا الأبعاد لكل من (أ) شريحة عنصر جذب في نظام مور-شبيجل عند قيمة
z
تساوي صفرا، و(ب) عنصر جذب في نموذج إينو حيث تساوي قيمة
α
1,4، وقيمة
β
0,3. لاحظ البنية المشابهة مع وجود فراغات في كل حالة.
كانت التجارب حول الفوضى - ولا تزال - تدفع إمكانات الحاسوب إلى حدودها القصوى، وفي بعض الأحيان تتجاوز تلك الحدود قليلا. في سبعينيات القرن العشرين أراد عالم الفلك مايكل إينو إجراء دراسة مفصلة حول عناصر الجذب الفوضوية. في ظل قدرة محددة للحاسوب ثمة علاقة تبادلية مباشرة بين مدى تعقيد النظام وفترة السلسلة الزمنية التي يمكن قياسها. أراد إينو وضع نظام يمتلك خواص تشبه خواص نظام لورنز في عام 1963، نظام أرخص في تكلفة التكرار على ذلك الحاسوب. كان هذا النظام نظاما ثنائي الأبعاد؛ حيث حالة
X
تتألف من زوج من القيم
x, y . تحدد خريطة إينو من خلال القاعدتين التاليتين:
تساوي قيمة
x
i + 1
الجديدة واحدا مطروحا منه
y
i
مضافا إليه
α
مضروبا في
x
i
2 .
تساوي قيمة
y
i + 1
الجديدة
β
مضروبة في
x
i .
يظهر الشكل (ب) من الشكل
4-6
عنصر الجذب عندما تساوي قيمة
α
1,4 وقيمة
β
0,3، ويظهر الشكل (أ) شريحة من عنصر جذب نظام مور-شبيجل تولدت من خلال مزج لقطات من النظام متى كانت قيمة
z
تساوي صفرا وتزيد. ويطلق على هذا النوع من الأشكال «قسم بوانكاريه»، وهو يوضح كيف أن شرائح من أحد التدفقات تشبه كثيرا الخرائط.
معادلات التأخير والأوبئة والتشخيصات الطبية
ثمة مجموعة أخرى من النماذج الشائقة تتمثل في معادلات التأخير. هنا، تلعب الحالة الحالية وحالة ما في الماضي (حالة التأخير) دورا مباشرا في الديناميكيات. تشيع هذه النماذج في النظم البيولوجية، وقد تقدم استبصارا في الأمراض المتأرجحة مثل مرض سرطان الدم. في كمية الدم المتدفقة، يعتمد عدد الخلايا المتوافرة غدا على عدد الخلايا المتوافرة اليوم، وعلى عدد الخلايا الجديدة التي يكتمل نموها اليوم. يحدث التأخير من جراء فجوة زمنية بين وقت طلب هذه الخلايا الجديدة ووقت نضوجها، ويعتمد عدد الخلايا التي تنضج اليوم على عدد خلايا الدم في وقت ما في الماضي. ثمة أمراض أخرى كثيرة تتضمن هذه الديناميكية المتأرجحة، وتعتبر دراسة الفوضى في معادلات التأخير شائقة ومثمرة للغاية.
نترك الحديث عن النماذج الرياضية لفقرة واحدة لنشير إلى أن البحوث الطبية تمثل مجالا آخر تستخدم فيه الاستبصارات المستقاة من نماذجنا الرياضية في النظم الحقيقية. توصلت البحوث التي أجراها مايك ماكي في جامعة ماكجيل بالاشتراك مع آخرين حول معادلات التأخير إلى علاج مرض متأرجح واحد على الأقل، كما أفضت دراسة الديناميكيات اللاخطية أيضا إلى استبصارات في تطور الأمراض التي تتأرجح الإصابة بها في مجموعة سكانية معينة، وليس في فرد واحد. يمكن مقارنة نماذجنا مع الواقع في دراسة مرض الحصبة، حيث يمكن بحث الديناميكيات في الزمن والفضاء على نحو مثمر للغاية. كما أفضى تحليل السلاسل الزمنية الفوضوية أيضا إلى ظهور طرق خلاقة لرصد سلاسل زمنية طبية معقدة، بما في ذلك سلاسل الدماغ (تخطيط كهربائية الدماغ) والقلب (مخطط كهربائية القلب)، ولا يعني هذا أن تلك الظواهر الطبية في العالم الواقعي فوضوية، أو حتى توصف على النحو الأمثل من خلال نماذج فوضوية؛ إذ إن طرق التحليل المستخدمة في تحليل الفوضى قد تتضح قيمتها عمليا بصرف النظر عن طبيعة الديناميكيات الكامنة في النظم الواقعية التي تولد الإشارات التي يجري تحليلها.
الفوضى الهاملتونية
شكل 4-7: شريحة ثنائية الأبعاد لعنصر الجذب في نموذج إينو-هايلس. لاحظ الحلقات الآنية، والبحر الفوضوي الذي به الكثير من الجزر (الخالية).
إذا كانت الحجوم في فضاء الحالة لا تنكمش عبر الزمن، فلا يمكن أن يكون ثمة عناصر جذب. في عام 1964، نشر إينو وهايلس ورقة بحثية توضح الديناميكيات الفوضوية في نموذج رباعي الأبعاد لحركة نجم في مجرة. تسمى النظم التي لا تتناقص حجوم فضاء الحالة فيها - بما في ذلك أنظمة ميكانيكا الأجرام السماوية النيوتونية التي تستخدم بصورة شائعة في توقع الكسوف، والتي تتتبع مستقبل النظام الشمسي والمركبات الفضائية فيها - نظما «هاملتونية». يمثل الشكل رقم
4-7
شريحة من نظام إينو-هايلس، وهو نظام هاملتوني. لاحظ التداخل المعقد للجزر الخالية في بحر من المسارات الفوضوية. ربما تقع الحالات الأولية التي بدأت داخل هذه الجزر في حلقات تكاد تكون مغلقة (طارات)، أو ربما تتبع مسارات فوضوية محصورة في إحدى سلاسل الجزر. وفي كلتا الحالتين، يمكن توقع ترتيب المرور على الجزر في السلسلة، وإن كان لا يمكن توقع الموضع على كل جزيرة على وجه التحديد. على أي حال، لا تكون الأشياء غير متوقعة إلا على المقياس ذي الأطوال الصغيرة.
استغلال استبصارات الفوضى
في فترة السنوات الثلاث بين عامي 1963 و1965، نشرت ثلاث أوراق بحثية منفصلة (من تأليف لورنز، ومور وشبيجل، وإينو وهايلس)، استخدمت كل منها الحاسوب الرقمي لطرح ما صار يطلق عليه بعدها «الديناميكيات الفوضوية». في اليابان، تمكن يوشيسكي ويدا من رصد الفوضى في تجارب تعتمد على حاسوب تناظري، وكان علماء الرياضيات الروس يعملون على تطوير الأسس التي توصل إليها علماء الرياضيات حول العالم قبل أكثر من قرن من الزمان. بعد ذلك بخمسين عاما تقريبا، ظللنا نكتشف - وما زلنا - طرقا جديدة لاستغلال هذه الاستبصارات.
ماذا يحد من القابلية لتوقع الكسوف الشمسي المستقبلي؟ هل يرجع هذا إلى عدم اليقين في معرفتنا للمدارات الكوكبية نظرا للدقة المحدودة في طرق قياسنا الحالية؟ أم إلى التباينات المستقبلية في طول اليوم الذي يغير الموضع على سطح الأرض الذي يتعرض للكسوف؟ أم إلى عجز معادلات نيوتن نظرا لوجود مؤثرات توصف (بصورة أفضل) من خلال النظرية النسبية العامة؟ نعرف أن القمر يتحرك بعيدا في بطء عن الأرض، وبافتراض استمرار ذلك، سيبدو في النهاية أصغر كثيرا مما هو عليه الآن، حتى إنه لن يستطيع حجب الشمس بالكامل. في تلك الحالة، سيكون ثمة كسوف كلي أخير للشمس، فهل يمكن أن نتوقع متى سيقع هذا الحدث؟ وأين يجب أن نكون على سطح الأرض لرؤية هذا الكسوف - آخذا في الاعتبار حالة الطقس؟ لا نعرف الإجابة عن هذا السؤال، مثلما لا نعرف - على وجه التحديد - إن كان النظام الشمسي مستقرا أم لا. كان نيوتن مدركا تماما للصعوبات التي كانت السلوكيات اللاخطية تشكلها في سبيل تحديد درجة الاستقرار القصوى لثلاثة أجسام سماوية فقط، وأشار إلى أن ضمان تحقق استقرار النظام الشمسي كان مهمة الرب. من خلال فهم أنواع المدارات الفوضوية التي تسمح بها النظم الهاملتونية، عرفنا أشياء كثيرة عن الاستقرار النهائي للنظام الشمسي. وأفضل توقعاتنا حاليا هو أن نظامنا الشمسي مستقر، على الأرجح. تتأتى استبصارات مثل هذه من خلال فهم هندسة الأشكال في فضاء الحالة، وليس من خلال محاولة إجراء عمليات حسابية مفصلة تعتمد على الأرصاد الجوية.
هل يمكن أن نستقي استبصارات على نحو آمن من السلوك الرياضي للنظم القليلة الأبعاد؟ تشير هذه النظم إلى ظواهر جديدة تكتشف من خلال التجارب، مثل التضاعف الدوري، أو تشير إلى ثوابت جديدة تحسب في الطبيعة، مثل رقم فايجنباوم. تمثل هذه النظم البسيطة أيضا مواضع اختبار لأساليب توقعاتنا، وهو أمر خطير إلى حد ما؛ فهل ظواهر النظم الفوضوية القليلة الأبعاد هي الظواهر نفسها التي نرصدها في النماذج الأكثر تعقيدا؟ وهل هذه الظواهر شائعة للغاية بحيث إنها تحدث «حتى في» النظم البسيطة القليلة الأبعاد مثل نظام لورنز لعام 1963 أو نظام مور-شبيجل؟ أم إن هذه الظواهر ترجع إلى بساطة هذه الأمثلة؟ وهل تحدث هذه الظواهر «فقط في» النظم الرياضية البسيطة؟ تنطبق مسألة «حتى في» أو «فقط في» نفسها على الأساليب المطورة لتوقع النظم الفوضوية أو التحكم فيها، والتي يجري اختبارها في النظم القليلة الأبعاد. هل تحدث هذه الأشياء «حتى في» أو «فقط في» النظم القليلة الأبعاد؟ الإجابة الأقوى حتى الآن هي أن الصعوبات التي نحددها في النظم القليلة الأبعاد نادرا ما تختفي في النظم المتعددة الأبعاد، بينما الحلول الناجحة لهذه الصعوبات والتي تصلح في حالة النظم القليلة الأبعاد تثبت فشلها في النظم المتعددة الأبعاد. مع إدراكه لحجم خطر المجازفة في التعميم انطلاقا من نظم ثلاثية الأبعاد، انتقل لورنز إلى نظام يتضمن 28 بعدا قبل حوالي 50 عاما، ولا يزال يضع نظما جديدة اليوم، بعضها يتضمن بعدين وبعضها يتضمن 200 بعد.
تؤثر الفوضى واللاخطية على مجالات كثيرة. ربما يتمثل الاستبصار الأعمق المستخلص هنا في أن الحلول التي تبدو معقدة تكون مقبولة في بعض الأحيان، وليس من الضروري أن تكون بسبب أي تشويش ديناميكي خارجي. لا يشير هذا ضمنا إلى أن هذه الحلول - في أي حالة بعينها - لا ترجع إلى تشويش خارجي، مثلما لا يقلل من القيمة العملية للنمذجة الإحصائية التصادفية، وهي التي تتمتع بخبرة وممارسة إحصائية جيدة ترجع إلى قرن تقريبا. ولكنه يشير إلى القيمة المتضمنة في تطوير اختبارات لأي أساليب مستخدمة في تطبيق معين، وفي اختبارات التوافق لجميع أساليب النمذجة المتبعة. يجب أن تكون نماذجنا خالية من القيود قدر الإمكان، لكن ليس أكثر مما ينبغي. ربما يكمن الأثر الدائم لهذه النظم البسيطة في قيمتها التعليمية؛ حيث يمكن أن يتعرف الشباب على السلوكيات الثرية لهذه النظم البسيطة في وقت مبكر من فترة تعليمهم. من خلال اشتراط التوافق الداخلي، تقيد الرياضيات جموح خيالاتنا في تصوير المجازات، ليس لجعلها متسقة مع الواقع الفيزيائي، ولكن لفتح آفاق جديدة في كثير من الأحيان.
الفصل الخامس
الأشكال الكسرية وعناصر الجذب الغريبة والأبعاد
تحمل البراغيث الكبيرة براغيث صغيرة
فوق ظهرها لتلدغها.
وتحمل البراغيث الصغيرة براغيث أصغر،
وهكذا إلى ما لا نهاية.
إيه دي مورجان (1872)
لا تكتمل أي مقدمة تتناول الفوضى دون العروج على الأشكال «الكسرية». لا يرجع هذا إلى أن الفوضى تنطوي على أشكال كسرية، أو لأن الأشكال الكسرية تشترط الفوضى، بل ببساطة لأن في الفوضى المشتتة تبدو الأشكال الكسرية الرياضية الحقيقية كما لو كانت تظهر فجأة. إن التمييز بين الأشكال الكسرية الرياضية والأشكال الكسرية الطبيعية يتساوى في أهميته مع التمييز بين معنى الفوضى في النظم الرياضية ومعناها في النظم الطبيعية. على الرغم من مضي عقود طويلة من المناقشات، لا يوجد تعريف وحيد مقبول عموما للشكل الكسري في كلتا الحالتين، على الرغم من إمكانية التعرف على الشكل الكسري عند رؤيته. يرتبط مفهوم الأشكال الكسرية تماما بخاصية التشابه الذاتي؛ فمع تقريب الرؤية على حدود السحب، والدول، وخطوط السواحل، نرصد أنماطا تشبه تلك الأنماط التي نراها على المقاييس ذات الأطوال الأكبر مرة بعد مرة. ويحدث الشيء نفسه مع مجموعة النقاط المعروضة في الشكل رقم
5-1 . تتألف المجموعة هنا من خمس مجموعات من النقاط، وإذا كبرنا أي من هذه المجموعات، فسنجد تشابها بين الصورة المكبرة والمجموعة الكاملة نفسها. إذا كان هذا التشابه تاما - أي إذا كانت الصورة المكبرة تكافئ المجموعة الأصلية - فستوصف المجموعة بأنها ذات «تشابه ذاتي متطابق». وفي حال إن كانت الخواص الإحصائية محل الاهتمام فقط هي التي تتكرر، فستوصف المجموعة بأنها ذات «تشابه ذاتي إحصائي». إن تحديد ما يعتبر «خاصية إحصائية محل اهتمام» على وجه الدقة يفتح الباب أمام أحد موضوعات النقاش التي حالت دون الاتفاق على وضع تعريف عام. يستحق فض التشابك بين هذه التفصيلات الشائقة كتابا خاصا ضمن السلسلة التي ينتمي إليها هذا الكتاب، ويكون موضوعه الأشكال الكسرية، أما الآن فسنكتفي بذكر بعض الأمثلة.
في أواخر القرن الثامن عشر، ناقش علماء الرياضيات الأشكال الكسرية على نطاق واسع ومنهم جورج كانتور، على الرغم من أن اكتشاف مجموعة الأثلاث الوسطى التي تحمل اسمه جاء أولا على يد عالم رياضيات من جامعة أكسفورد يسمى هنري سميث. كانت الأشكال الكسرية تستبعد في الأشكال الرياضية المتضمنة فيها عادة في المائة عام التي تلت باعتبارها أشكالا ناشزة، في الوقت الذي كان إل إف ريتشاردسون يبدأ في قياس طبيعة الأشكال الكسرية في عدد متنوع من الأشكال الكسرية الطبيعية. استقبل علماء الفلك والأرصاد الجوية والاجتماع الأشكال الكسرية الطبيعية والرياضية بترحيب أكثر. ظهر أول الأشكال الكسرية التي رأبت الصدع - وطمست التفرقة - بين الفضاء الرياضي والفضاء الواقعي قبل مائة عام في محاولة لحل مفارقة أولبرز.
حل مفارقة أولبرز من خلال الهندسة الكسرية
شكل 5-1: كون فورنييه، يوضح البنية الذاتية التشابه، كما نشر من قبل فورنييه نفسه في عام 1907.
في عام 1823، لخص عالم الفلك الألماني هاينريش أولبرز موضوعا أثار اهتمام علماء الفلك على مدار قرون في السؤال المختصر الآتي: لماذا تبدو السماء مظلمة ليلا؟ فإذا كان الكون كبيرا بصورة لا نهائية وتملؤه النجوم بانتظام بصورة أو بأخرى، إذن فسيكون ثمة توازن بين عدد النجوم على مسافة محددة والضوء الذي نتلقاه من كل نجم. ينطوي هذا التوازن الدقيق على حقيقة أن السماء يجب أن تكون مضيئة على نحو منتظم ليلا، وسيصعب مشاهدة الشمس إزاء سماء مضيئة على نحو مشابه في النهار. بيد أن السماء مظلمة ليلا، وهو ما يمثل مفارقة أولبرز. استخدم يوهانس كيبلر هذا التناقض كحجة في البرهنة على وجود عدد محدود من النجوم في عام 1610. كان إدجار آلان بو هو أول من طرح حجة لا تزال تتمتع بشعبية إلى اليوم، ألا وهي أن السماء مظلمة ليلا نظرا لعدم توافر الوقت الكافي للضوء الآتي من النجوم البعيدة للوصول إلى الأرض بعد. طرح فورنييه دالب بديلا مقنعا في عام 1907، مشيرا إلى أن توزيع المادة في الكون منتظم لكن على نحو كسري. وقد بين فورنييه طرحه من خلال الرسم الموضح في الشكل رقم
5-1 . يطلق على هذه المجموعة «كون فورنييه»، وهي مجموعة ذات تشابه ذاتي متطابق. ويفضي تكبير أحد المكعبات الصغيرة بعامل خمسة إلى شكل متماثل تماما مع المجموعة الأصلية، ويتضمن كل مكعب صغير الشكل الإجمالي للمجموعة الكاملة.
يقدم «كون فورنييه» طريقة لحل مفارقة أولبرز. يشير الخط الذي أضافه فورنييه في الشكل رقم
5-1
إلى اتجاه ضمن اتجاهات عديدة لن نجد فيه أي «نجم» آخر على الإطلاق. لم يتوقف فورنييه عند الحجوم الكبيرة على نحو لا نهائي، بل أشار إلى أن هذا التوالي يمتد أيضا إلى الحجوم اللامتناهية الصغر. اعتبر فورنييه الذرات أكوانا لا متناهية الصغر، تتألف بدورها من ذرات أصغر حجما، وطرح فكرة الأكوان الضخمة التي تلعب مجراتنا فيها دور الذرات. على هذا النحو، طرح فورنييه أحد نماذج الأشكال الكسرية الطبيعية القليلة التي لا تتضمن حدودا داخلية أو خارجية، بل تواليا يبدأ من حجوم لا نهائية إلى حجوم لا متناهية الصغر على نحو يذكر بالمشاهد الأخيرة من فيلم «الرجال ذوو البدل السوداء».
الأشكال الكسرية في العالم الفيزيائي
الدوامات الكبيرة بداخلها دوامات صغيرة،
تتغذى على سرعتها.
والدوامات الصغيرة بداخلها دوامات أصغر حجما،
وهكذا حتى تتحقق اللزوجة.
إل إف ريتشاردسون
تعتبر السحب والجبال وخطوط السواحل أمثلة شائعة على الأشكال الكسرية الطبيعية؛ فهي أشياء ذات تشابه ذاتي إحصائي توجد في الفضاء الواقعي. لا يعتبر الاهتمام بتوليد أشكال كسرية غير منتظمة أمرا جديدا؛ فقد طرح نيوتن شكلا مبكرا، عندما أشار إلى أنه عند صب الجعة في اللبن و«ترك المزيج ساكنا حتى يجف، سيظهر سطح المادة المتخثرة غير منتظم ووعرا مثل سطح الأرض في أي مكان». على خلاف مادة نيوتن المتخثرة، تعتبر الأشكال الكسرية في الفوضى أشياء رياضية موجودة في فضاءات الحالة، وهي أشكال كسرية حقيقية مقارنة بنظائرها الطبيعية (الفيزيائية). إذن فما هو الفرق؟ حسنا، الفارق الأول هو أن أي شكل كسري طبيعي يظهر خواص الشكل الكسري عند مقاييس طول محددة، ولا يظهرها عند مقاييس طول أخرى. خذ على سبيل المثال حافة سحابة؛ فعند تدقيق النظر أكثر فأكثر، وبالدخول إلى مقاييس أطوال أصغر فأصغر، ستبلغ نقطة لا تظهر فيها حدود السحابة. يختفي شكل السحابة ويتحول إلى تدافع غير منتظم للجزيئات؛ ومن ثم لا تعود هناك حدود تقاس. وبالمثل، لا تعتبر سحابة ما ذاتية التشابه عند مقاييس أطوال تشبه حجم الأرض، وبالنسبة إلى الأشكال الكسرية الطبيعية، تنهار المفاهيم الكسرية عند تدقيق النظر فيها أكثر مما ينبغي. تسهل هذه الحدود الطبيعية من عملية تحديد المؤثرات الخاصة القديمة في هوليوود باستخدام نماذج سفن في حوض لمحاكاة الأمواج. ويمكننا أن نستشعر أن الحدود تقع في المقياس الطولي غير الصحيح بالنظر إلى «السفن». حاليا، تعلم صناع الأفلام في هوليوود وولنجتون ما يكفي من الرياضيات لأن يمكنهم من ابتكار محاكاة حاسوبية غير حقيقية تخفي الحدود بصورة أفضل؛ فعلى سبيل المثال أبدى الفنان الياباني هوكساي احتراما لهذه الحدود في لوحته الشهيرة «الموجة الكبرى» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وكان علماء الفيزياء يعرفون ذلك منذ فترة أيضا. فبينما أفسحت قصيدة دي مورجان المجال أمام استمرار توالي البراغيث «اللانهائي»، واجهت الدوامات المتوالية في قصيدة إل إف ريتشاردسون قصورا معينا بسبب اللزوجة، وهو المصطلح المستخدم للإشارة إلى الاحتكاك في الموائع. كان ريتشاردسون خبيرا في نظرية الجريان المضطرب في الموائع وكان يرصده بدقة. وذات مرة ألقى ريتشاردسون جزرا أبيض عند نهاية قناة كيب كود بمعدلات منتظمة، مستخدما زمن وصول الجزر إلى أحد الجسور على الطرف الآخر من القناة لقياس مدى تبدد المائع أثناء تدفقه في اتجاه التيار. وقد قام ريتشاردسون بحساب أول توقع رقمي لحالة الطقس (يدويا!) خلال الحرب العالمية الأولى.
كان ريتشاردسون أحد المنتمين إلى جماعة الكويكرز الدينية، وقد ترك الخدمة في مكتب الأرصاد الجوية البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى ليصبح سائق سيارة إسعاف في فرنسا، وصار ريتشاردسون لاحقا مهتما بقياس طول الحدود بين الدول بغرض اختبار نظريته القائلة بأن طول الحدود بينها يؤثر على احتمالية خوضها حروبا. اكتشف ريتشاردسون أثرا غريبا عند قياس الحدود نفسها على خرائط مختلفة؛ إذ كانت الحدود بين إسبانيا والبرتغال أطول كثيرا عند قياسها على خريطة البرتغال مما كانت عليه عند قياسها على خريطة إسبانيا! وبقياس طول سواحل الدول الجزرية مثل بريطانيا، وجد ريتشاردسون أن طول السواحل يزداد مع صغر حجم المسماك الذي كان يستخدمه أثناء سيره بطول الساحل لقياس طوله، كما رصد أيضا علاقة غير متوقعة بين مساحة جزيرة ما وطول محيطها حيث يختلفان عند قياسهما على مقاييس مختلفة. أوضح ريتشاردسون أن هذه الاختلافات في مقياس الطول تتبع نمطا منتظما للغاية يمكن التعبير عنه من خلال رقم واحد لحد معين ، وهو أس يربط بين طول أحد المنحنيات ومقياس الطول المستخدم في قياسه، واتباعا لمنجزات ماندلبروت الأساسية، يطلق على هذا الرقم «البعد الكسري» للحدود.
ابتكر ريتشاردسون أساليب عديدة لحساب البعد الكسري للأشكال الكسرية الطبيعية. يقيس أسلوب المساحة-المحيط كيفية تغير المساحة والمحيط معا في ظل درجات أعلى فأعلى من دقة وضوح الصورة. وبالنسبة إلى شيء محدد - مثل سحابة واحدة - تسفر هذه العلاقة أيضا عن البعد الكسري لحدودها؛ فعندما ننظر إلى العديد من السحب «المختلفة» بدقة وضوح للصورة «متماثلة»، مثلما في صورة فوتوغرافية مأخوذة من الفضاء، تظهر علاقة مشابهة بين المساحات والمحيطات. لا نفهم لماذا تصمد علاقة المساحة-المحيط البديلة هذه في حالة مجموعات من السحب مختلفة الأحجام، وذلك بالنظر إلى أن السحب معروف عنها عدم تماثل أشكالها على الإطلاق.
الأشكال الكسرية في فضاء الحالة
سنبني الآن نظاما رياضيا صناعيا صمم لدحض أحد أكثر الخرافات استمرارا وتضليلا حول الفوضى؛ ألا وهي أن اكتشاف مجموعة أشكال كسرية في فضاء الحالة يشير إلى ديناميكيات حتمية. وقاعدة خريطة الخيمة ذات التضعيف الثلاثي هي:
إذا كانت قيمة
X
أقل من 1 / 2، فاعتبر
X
مضروبة في 3 هي قيمة
X
الجديدة، وإلا، فاعتبر قيمة
X
الجديدة هي 3 مطروحا منها
X
مضروبة في 3.
تقريبا كل قيمة حالة أولية تقع بين صفر وواحد ستبتعد كثيرا عن الحالة الأصلية. سنتجاهل هذه الشروط المبدئية ونركز على العدد اللانهائي من الشروط المبدئية التي تظل دوما بين قيمتي صفر وواحد. (نتجاهل التناقض الظاهري نظرا للاستخدام الفضفاض لكلمة «لا نهائي» هنا، لكن ضع في الاعتبار تحذير نيوتن الذي قال فيه إن «المبدأ القائل بأن جميع القيم اللانهائية متساوية مبدأ يفتقر إلى الثبات والقوة».)
شكل 5-2: سلسلة زمنية مستقاة من: (أ) خريطة نظام الدوال المتكررة للأثلاث الوسطى التصادفية، و(ب) خريطة الخيمة ذات التضعيف الثلاثي الحتمية. يظهر المستطيلان السفليان ملخصا لجميع النقاط التي جرى المرور عليها؛ قيم تقديرية لمجموعة خريطة كانتور للأثلاث الوسطى في كل حالة.
إن خريطة الخيمة ذات التضعيف الثلاثي فوضوية، وهي حتمية بوضوح، تتكرر المسارات محل الاهتمام فيها، ويزداد التباعد بين النقاط القريبة اللامتناهية الصغر بعامل ثلاثة عند كل تكرار، وهو ما يشير ضمنا إلى وجود الاعتماد الحساس. يوضح الشكل رقم
5-2
سلسلة زمنية من خريطة الخيمة ذات التضعيف الثلاثي، فضلا عن سلسلة زمنية مستقاة من خريطة نظام الدوال المتكررة للأثلاث الوسطى التصادفية. بشكل مرئي، نرصد إشارات على سهولة توقع الخريطة الفوضوية. تتبع قيم
X
الصغيرة «دوما» قيم
X
صغيرة. يظهر كل مستطيل من المستطيلين الصغيرين أسفل الشكل
5-2
مجموعة من النقاط يمر خلالها مسار طويل من أحد النظامين. تبدو مجموعتا النقاط متشابهتين جدا، وفي حقيقة الأمر تعبر كلتاهما عن نقاط من مجموعة خريطة كانتور للأثلاث الوسطى. تمر مجموعتا النقاط الديناميكيتان كلتاهما عبر مجموعة الأشكال الكسرية نفسها؛ ومن ثم لا يمكننا التمييز أبدا بين النظام الحتمي والنظام التصادفي إذا نظرنا فقط إلى بعد مجموعة النقاط التي يمر بها كل نظام. ولكن أيكون من قبيل المفاجأة أن فهم ديناميكيات النظم يستوجب علينا معرفة طريقة تحرك النظام، وليس فقط موضعه السابق؟ يقضي هذا المثال المضاد على الخرافة المشار إليها آنفا؛ فبينما قد تمر النظم الفوضوية عادة عبر مجموعات كسرية، لا يشير اكتشاف مجموعة محددة الأبعاد إلى حتمية أو فوضوية في ديناميكيات النظم بالضرورة.
لا يعتبر اكتشاف أشكال كسرية في الخرائط الرياضية الموضوعة بدقة أمرا مدهشا؛ حيث إن علماء الرياضيات يمتلكون ما يكفي من المهارة لوضع خرائط تولد أشكالا كسرية. أحد أكثر الأشياء حذقا في نظم الفوضى المشتتة هو أن الأشكال الكسرية تتبدى دون ميزة التصميم الذكي، وتعد خريطة إينو مثالا كلاسيكيا على ذلك. من الناحية الرياضية، تمثل خريطة إينو فئة كاملة من النماذج الشائقة؛ إذ لا يوجد شيء «يبدو كسريا» في الخريطة على وجه الخصوص، بخلاف ما هو موجود في خريطة نظام الدوال المتكررة للأثلاث الوسطى. يبين الشكل رقم
5-3
سلسلة من عمليات التكبير حيث تظهر منها - كما لو كان في الأمر سحر - بنى ذاتية التشابه فجأة، ولا شك في أن هذا من أكثر الأشياء إدهاشا في النظم الديناميكية اللاخطية. لا توجد أي إشارة على تصميم مصطنع في خريطة إينو، وتشيع البنى الكسرية في عناصر الجذب في النظم الفوضوية المشتتة، وهي مسألة غير ضرورية في النظم الفوضوية، والنظم الفوضوية لا تتطلبها، لكنها شائعة.
مثل جميع الأمور السحرية، يمكننا فهم طريقة عمل الخدعة، على الأقل بعد إجرائها: قررنا أن نقترب أكثر من نقطة ثابتة في خريطة إينو، وبالنظر إلى خواص الخريطة عن كثب جدا، نكتشف مقدار التقريب الواجب إجراؤه بغرض جعل التشابه الذاتي في الخريطة مدهشا للغاية. تعتمد تفاصيل البنية المتكررة - وهي عبارة عن خط واحد سميك وخطين أرفع - على ما يحدث بعيدا عن هذه النقطة، لكن إذا كانت خريطة إينو فوضوية حقا وكان المسار الحاسوبي المستخدم في صناعة هذه الصور واقعيا، فسيكون لدينا عنصر جذب كسري على نحو طبيعي.
شكل 5-3: سلسلة من عمليات التكبير نحو النقطة الثابتة غير المستقرة في خريطة إينو، والمميزة بعلامة «+» عند كل عملية تكبير. يتكرر النمط نفسه مرارا، حتى تبدأ نقاط البيانات في الاختفاء.
تعكس نظرية الجريان المضطرب التقليدية في فضاء الحالة قصيدة ريتشاردسون. كان من المعتقد أن ثمة إمكانية تولد نماذج دورية أكثر فأكثر، وأن تتبع المجموع الخطي لجميع هذه التذبذبات كان سيتطلب فضاء حالة كثير الأبعاد للغاية؛ لذا كان معظم الفيزيائيين يتوقعون أن تتخذ عناصر جذب الجريان المضطرب شكل كعكة الدونات المتعددة الأبعاد، أو تتخذ رياضيا شكل الطارة. في أوائل سبعينيات القرن العشرين، كان ديفيد رويل وفلوريس تاكنس يبحثان عن بدائل للطارات الناعمة المتعددة الأبعاد، واكتشفا عناصر جذب أشكال كسرية قليلة الأبعاد؛ فوجدا أن عناصر الجذب في الأشكال الكسرية «غريبة». حاليا، تستخدم كلمة «غريبة» للإشارة إلى الشكل الهندسي لعنصر الجذب، وعلى وجه الخصوص حقيقة كونه شكلا كسريا، بينما تستخدم كلمة «فوضى» للإشارة إلى ديناميكيات النظام، وهو ما يعد تفرقة مفيدة. لا يعرف على وجه الدقة أصل عبارة «عنصر جذب غريب»، بيد أن التعبير صار علامة ملهمة وملائمة على تلك الأشياء في الفيزياء الرياضية. بما أن النظم الهاملتونية لا تتضمن أي عناصر جذب على الإطلاق، فهي لا تشتمل على أي عناصر جذب غريبة، غير أن السلاسل الزمنية الفوضوية المستقاة من النظم الهاملتونية عادة ما تكون أنماطا معقدة تنطوي على عدم تجانس حاد، وعلامات على التشابه الذاتي يطلق عليها «المراكمات الغريبة» التي تستمر طوال فترة تشغيل الحاسوب، ولا يزال المآل النهائي لهذه المراكمات غير معروف.
الأبعاد الكسرية
يدلنا إحصاء عدد المركبات في متجه الحالة على بعد فضاء الحالة، ولكن كيف يمكننا حساب بعد مجموعة من النقاط إذا كانت تلك النقاط لا تمثل حدا من الحدود، مثل النقاط التي تكون عنصر جذب غريبا، على سبيل المثال؟ إحدى الطرق التي تذكرنا بعلاقة المساحة-المحيط هي تغطية مجموعة النقاط بالكامل بصناديق ذات حجم محدد، ثم مراقبة زيادة عدد الصناديق اللازمة مع صغر حجم كل صندوق شيئا فشيئا. يرصد أسلوب آخر تغير عدد النقاط - في المتوسط - عند النظر إلى كرة متمركزة حول نقطة عشوائية وتصغير نصف قطر الكرة. ولتفادي التعقيدات التي تنشأ قرب حافة إحدى عناصر الجذب، لن يستخدم عالم الرياضيات لدينا سوى الكرات ذات نصف القطر الذي يتلاشى مع صغره، ونرمز له بالحرف
r ؛ ومن ثم نحصل على نتائج مألوفة وهي: قرب نقطة عشوائية واقعة على خط، يتناسب عدد النقاط مع
r
1 ، وقرب نقطة واقعة على سطح مستو، يتناسب عدد النقاط مع
πr
2 ، وقرب نقطة مستقاة من مجموعة نقاط تكون شكل مكعب مجسم، يتناسب عدد النقاط مع 4 / 3
πr
3 . وفي كل حالة، يشير أس
r
إلى البعد في المجموعة؛ حيث يكون الأس 1 إذا كانت المجموعة تشكل خطا، و2 إذا كانت تشكل مسطحا، و3 إذا كانت تكون شكلا مجسما.
يمكن تطبيق هذا الأسلوب على مجموعات الأشكال الكسرية، على الرغم من أن الأشكال الكسرية تميل إلى امتلاك فراغات تسمى الفجوات، على جميع المقاييس. بينما لا يعد التعامل مع هذه العمليات الحسابية الخوارزمية الدقيقة أمرا هينا، يمكننا حساب بعد المجموعات ذات التشابه الذاتي المتطابق على نحو دقيق؛ فنلاحظ على الفور أن بعد أي شكل كسري لا يكون عادة رقما صحيحا. في إطار كون فورنييه، يبلغ البعد 0,7325 تقريبا (وهو ما يساوي
log 5/log 9 ) بينما يبلغ بعد مجموعة كانتور للأثلاث الوسطى 0,6309 تقريبا (وهو ما يساوي
log 2/log 3 ). في كل حالة، يساوي البعد رقما كسريا أكبر من صفر وأقل من واحد. اعتبر ماندلبروت مقطع
fract
في كلمة
fraction (كسر) جذر كلمة
fractal (شكل كسري).
ما هو بعد عنصر الجذب في خارطة إينو؟ أفضل تقديراتنا هو أن يكون بعدا يساوي 1,26 تقريبا، ولكن بينما ندرك وجود عنصر جذب، لا نعرف على وجه اليقين إن كان عنصر الجذب هذا - على المدى الطويل - ليس سوى حلقة دورية طويلة. في الخرائط، تتألف كل حلقة دورية من عدد محدود من النقاط؛ ومن ثم يساوي بعدها صفرا. وحتى يمكن تصور ذلك، خذ على سبيل المثال كرات يكون نصف قطرها
r ، أصغر من أقرب زوج نقاط في الحلقة، مع اعتبار عدد النقاط في كل كرة ثابتا (يساوي 1)، وهو ما يمكن أن نكتبه متناسبا مع قيمة
r
0 ؛ ومن ثم يكون بعد كل نقطة صفرا. في الفصل السابع، سنرى سبب صعوبة إثبات ما يحدث على المدى الطويل باستخدام المحاكاة الحاسوبية. أولا، سنلقي نظرة فاحصة أكثر على تحديات قياس ديناميكيات عدم اليقين حتى بعد معرفتنا النظام الرياضي تماما. في نظم العالم الواقعي، لا نمتلك إلا ملاحظات مشوشة، ولا تزال المسألة أكثر صعوبة.
الفصل السادس
قياس ديناميكيات عدم اليقين
تكشف الفوضى عن تحيزاتنا عندما نبحث ديناميكيات عدم اليقين. على الرغم من كثرة الدعاية حول عدم القابلية للتوقع، فسنرى أن الكميات المستخدمة لتكوين الفوضى لا تضع أي قيد من أي نوع على دقة التوقع حاليا؛ لا تنطوي الفوضى على أن التوقع أمر مستحيل. يمكننا أن نرى كيف أن العلاقة بين الفوضى والقابلية للتوقع جرت المبالغة فيها بصورة سيئة عبر النظر إلى تاريخ الإحصاءات المستخدمة في قياس عدم اليقين، وحاليا تتوافر إحصاءات إضافية.
عند مجرد أبسط تناول لعدم اليقين والقابلية للتوقع من جانب العلماء، يلتزمون التزاما أخلاقيا بتوضيح مدى صحة توقعاتهم والإحصاءات المستخدمة في قياس عدم يقينهم. ربما قدم الرجل الأكبر سنا الذي ينظر خارج لوحة لاتور للرجل الأصغر سنا جداول احتمالات دقيقة للأوراق التي يحملها كل لاعب من بين 52 ورقة لعب، لكنه يعرف أن تلك الاحتمالات لا تعبر عن اللعبة التي يلعبونها. وبالمثل، يستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين قياس ديناميكيات عدم اليقين بدقة شديدة، باستخدام نموذجه المثالي، لكننا نعلم أننا لا نملك نموذجا مثاليا. في ظل مجموعة من النماذج غير المثالية، كيف يمكن الربط بين تعدد أنماط سلوكها وعدم يقيننا حيال الحالة المستقبلية للعالم الواقعي؟
تآكل اليقين: معلومات دون ارتباط
عندما يتعلق الأمر بتوقع ما سيقوم به النظام كخطوة تالية، تقدم البيانات حول الحالة الحديثة للنظام عادة معلومات أكثر من البيانات حول حالة ما قديمة للنظام. في عشرينيات القرن العشرين، أراد يول قياس مدى ما تقدمه البيانات حول البقع الشمسية في عام معين من معلومات أكثر حول عدد البقع التي ستظهر في السنة التالية مقارنة بما تقدمه بيانات تعود إلى عشر سنوات مضت. كان إحصاء مثل ذلك سيسمح ليول بمقارنة خواص البيانات الأصلية كميا مع خواص السلاسل الزمنية التي تولدها النماذج. ابتكر يول ما صار يطلق عليه حاليا دالة الارتباط التلقائي، التي تقيس الارتباط الخطي بين حالات يفصل بينها تكرارات بمعدل
k . وعندما تكون قيمة
k
صفرا تصبح قيمة دالة الارتباط التلقائي 1؛ حيث يرتبط كل رقم على نحو مثالي مع نفسه. وإذا كانت السلسلة الزمنية تعكس دورة متكررة، تتناقص قيمة دالة الارتباط التلقائي من 1 مع تزايد قيمة
k ، ثم تعود لتساوي 1 متى كانت
k
تساوي قيمة مضاعفة محددة للدورة. في ظل توافر بيانات مستقاة من نظام خطي تصادفي تعتبر دالة الارتباط التلقائي ذات قيمة عظيمة، ولكن مثلما سنرى لاحقا، تنخفض قيمة الدالة أمام الملاحظات المستقاة من نظام لا خطي. ولكن بعض الإحصائيين تمادوا كثيرا بحيث عرفوا الحتمية باعتبارها ارتباطا خطيا، ولا يزال كثيرون يتعثرون نتيجة لهذا الزلل. ومن المعروف أن الارتباط لا يستلزم السببية؛ وبينت دراسة الفوضى أن السببية لا تستلزم أيضا الارتباط (الخطي). يساوي الارتباط بين الحالات المتتابعة للخريطة اللوجيستية الكاملة صفرا على الرغم من أن الحالة التالية تحددها بالكامل الحالة الحالية. في حقيقة الأمر ، تساوي دالة الارتباط التلقائي لها صفرا عند كل فاصل زمني ؛ فكيف يمكن لنا إذن أن نحدد العلاقات في النظم اللاخطية، ناهيك عن قياس القابلية للتوقع، إذا كان أحد المكونات الرئيسية للتحليل الإحصائي عبر قرن من الزمان لا يأخذ في الاعتبار هذه العلاقات الظاهرة؟ للإجابة عن هذا السؤال، نستعرض أولا نظام التمثيل الثنائي للبيانات.
وحدات البيانات وإنشاء المعلومات
تميل الحواسب إلى تسجيل الأرقام في صورة تمثيل ثنائي؛ فبدلا من استخدام الرموز العشرة (0 و1 و2 و3 و4 و5 و6 و7 و8 و9) التي نتعلمها في المدرسة، يستخدم الحاسوب الرمزين الأولين فقط (0 و1). بدلا من 1000، و100، و10 التي تمثل 10
3 ، و10
2 ، و10
1 ، تمثل هذه الأرقام في النظام الثنائي 2
3 ، و2
2 ، و2
1 ، أي ثمانية، وأربعة، واثنين. يمثل الرمز 11 في نظام التمثيل الثنائي الآتي 2
1 + 2
0 ، أي ثلاثة، بينما 0,10 تمثل 2 −1 (1 / 2)، و0,001 تمثل 2 −3 (1 / 8)، ومن هنا جاءت المزحة أن ثمة عشرة أنواع من علماء الرياضيات في العالم، أولئك الذين يفهمون الترميز الثنائي وأولئك الذين لا يفهمونه. مثلما يسهل الضرب في عشرة (10) في النظام العشري، يسهل الضرب في 2 (10) في النظام الثنائي؛ فكل ما عليك هو تحريك جميع وحدات البيانات (وحدات البت) إلى اليسار بحيث تصبح 1,0100101011 هي 10,100101011، ومن هنا جاء اسم الخريطة الانتقالية. ينطبق الأمر نفسه عند القسمة على اثنين؛ حيث لا يعدو الأمر عن حركة انتقال إلى اليمين.
يستخدم أي حاسوب عادة عددا ثابتا من وحدات البيانات لكل رقم، ولا يهدر مساحة قيمة من الذاكرة في تخزين العلامة «العشرية»، وهو ما يجعل من عملية القسمة مسألة مثيرة للفضول بعض الشيء. على الحاسوب، تنتج قسمة الرقم 001010010101100 على اثنين الناتج 000101001010110، إلا أن قسمة الرقم 001010010101101 على اثنين تعطي الناتج نفسه! وينتج ضرب الرقم 000101001010110 في اثنين الناتج 00101001010110
Q ؛ حيث تمثل
Q
وحدة بيانات جديدة على الحاسوب أن يحسبها. وهكذا فإن مع كل حركة انتقالية إلى اليسار، يشترط وجود وحدة بيانات جديدة في الموضع الخالي أقصى اليمين. عند القسمة على اثنين، يظهر الصفر على نحو صحيح في الموضع الخالي أقصى اليسار، بيد أن أي وحدات بيانات تنتقل إلى الخارج للجانب الأيمن تفقد إلى الأبد، وهو ما يكشف عن ملمح مزعج. فإذا أخذنا رقما وقسمناه على اثنين، ثم ضربناه في اثنين، ربما لا يمكننا استعادة الرقم الأصلي الذي بدأنا به.
تفضي المناقشة حتى الآن إلى رؤى مختلفة لنمو وتآكل عدم اليقين - أو إنشاء المعلومات - في أنواع النظم الديناميكية الرياضية المتعددة مثل النظم العشوائية، والنظم الرياضية الفوضوية، والنسخ الحاسوبية للنظم الرياضية الفوضوية. عادة ما يكون تصور تطور حالة أحد الأنظمة في صورة شريط يمر عبر صندوق أسود، ويعتمد ما يحدث داخل الصندوق على نوع النظم الديناميكية التي نراقبها، وعند خروج الشريط من الصندوق نرى وحدات البيانات المسجلة عليه. إن مسألة إن كان الشريط خاليا عند دخوله الصندوق، أو كانت ثمة وحدات بيانات مسجلة عليه بالفعل؛ تفضي إلى مناقشات حامية الوطيس في غرف الاستراحة في الأبراج العاجية. ما هي الخيارات؟ إذا كانت الديناميكيات عشوائية، فإن الشريط إذن يدخل إلى الصندوق خاليا ويخرج مسجلا عليه وحدات بيانات محددة على نحو عشوائي. وفي هذه الحالة، أي نمط نعتقد أننا نرصده في وحدات البيانات مع تقدم الشريط إلى الأمام عبر الصندوق هو سراب. فإذا كان النظام الديناميكي حتميا، فإن وحدات البيانات كانت مطبوعة بالفعل على الشريط (وخلافا لنا، فإن شيطان لابلاس في موضع يمكنه من خلاله رؤية جميع وحدات البيانات تلك). لا نستطيع أن نرى وحدات البيانات بوضوح حتى تمر عبر الصندوق، لكنها موجودة بالفعل. يعتبر إنشاء كل وحدات البيانات تلك من معلومات شيئا كالمعجزة من الناحيتين، ويبدو أن الأمر يتلخص في النهاية في التفضيل الشخصي، سواء إذا كنت تفضل حدوث معجزة كبرى واحدة أو سلسلة منتظمة من المعجزات الصغيرة. في ظل النظام الحتمي تشبه الصورة توليد عدد غير محدود من وحدات البيانات مرة واحدة، وهو العدد غير النسبي الذي يمثل الحالة الأولية، وفي ظل النظام العشوائي، يبدو الأمر كما لو أن وحدات البيانات الجديدة تولد عند عملية تكرار. عمليا، يبدو يقينا أننا نتحكم بعض الشيء في دقة قياس شيء ما، وهو ما يوحي بأن الشريط جرى تسجيله سابقا.
لا يوجد أي شيء في تعريف أي نظام فوضوي يحول دون رجوع الشريط بشكل عكسي لفترة. وعندما يحدث هذا، يصبح التوقع سهلا لفترة ؛ فحيث إننا شاهدنا الشريط وهو يرجع عكسيا، لذا فنحن نعرف بالفعل وحدات البيانات التالية التي ستظهر عند مرور الشريط إلى الأمام مرة أخرى. إذا ما حاولنا أن نجعل هذه الصورة تتخذ شكل نظام حسابي، فستصادفنا مشكلات؛ إذ لا يمكن أن يكون الشريط خاليا حقيقة قبل دخوله إلى الصندوق. ويتوجب على الحاسوب «إنشاء» وحدات البيانات الجديدة تلك وفق قاعدة ما حتمية عندما تنتقل البيانات إلى جهة اليسار؛ لذا فإن وحدات البيانات هذه تكون فعليا مسجلة على الشريط قبل دخوله إلى الصندوق. الأمر الأكثر تشويقا هو ما يحدث في منطقة ما يقوم فيها الشريط بالرجوع عكسيا؛ حيث إن الحاسوب لا يستطيع «تذكر» أي وحدات للبيانات فقدها عند الانتقال إلى اليمين. في حالة خرائط الميل الثابت ننتقل دوما إلى اليسار أو إلى اليمين، ولا يقوم الشريط بالرجوع عكسيا أبدا. لا تزال المحاكاة الحاسوبية نظاما حتميا، على الرغم من أن الأشرطة المختلفة التي تولدها أقل ثراء من أشرطة الخريطة الرياضية الحتمية التي تحاكيها؛ فإذا كانت الخريطة التي تجري محاكاتها تتضمن مناطق من عدم يقين متناقص، إذن فثمة مرحلة مؤقتة يرجع الشريط خلالها عكسيا، ولا يستطيع الحاسوب معرفة أي وحدات بيانات جرى تسجيلها على الشريط. عندما يمر الشريط إلى الأمام عبر الصندوق مجددا يستخدم الحاسوب قاعدته الداخلية لإنشاء وحدات بيانات جديدة، وربما نجد «0» و«1» مسجلين على الشريط عند خروجه من الصندوق مرة ثانية! نناقش في الفصل السابع أمورا أخرى غريبة تحدث في نماذج المحاكاة الحاسوبية للنظم الرياضية الفوضوية.
إحصائيات توقع القابلية للتوقع
أحد الاستبصارات من الفوضى هو التركيز على محتوى المعلومات؛ ففي النظم الخطية يعكس التباين محتوى المعلومات، ويكون محتوى المعلومات أكثر تعقيدا في النظم اللاخطية حيث لا يكون الحجم هو المؤشر الوحيد على الأهمية. كيف يمكن لنا قياس المعلومات بطريقة أخرى؟ خذ على سبيل المثال النقاط في دائرة على مستوى
X, Y
بقطر يساوي 1، واختر زاوية عشوائيا. تدلنا قيمة
X
على الكثير عن قيمة
Y ؛ حيث تخبرنا أن
Y
تساوي إحدى القيمتين. وبالمثل، إذا كنا لا نعرف جميع وحدات البيانات اللازمة لتمثيل
X
بالكامل، فسنجد أنه كلما زادت وحدات بيانات
X
التي نعرفها، عرفنا عدد وحدات بيانات أكثر من
Y . على الرغم من أننا لن نستطيع أبدا أن نختار بين موقعين بديلين من
Y ، فيتناقص عدم يقيننا فيما يتعلق بالموقعين المحتملين عند قياس
X
بدقة أكثر فأكثر. ما لا يدعو إلى الدهشة هو أن الارتباط الخطي بين
X
و
Y
في هذه الحالة يساوي صفرا. ثمة قياسات إحصائية أخرى طورت لقياس كم ما يمكن أن نعرفه عن قيمة من القيمتين من خلال معرفة القيمة الأخرى. تعكس «المعلومات المتبادلة»، على سبيل المثال، عدد وحدات بيانات
Y
التي نعرفها - في المتوسط - عندما نعرف وحدة بيانات أخرى من
X . بالنسبة إلى الدائرة، إذا كنت تعرف وحدات البيانات الخمس الأولى من
X ، فستعرف أربع وحدات بيانات من وحدات بيانات
Y
الخمس الأولى، وإذا كنت تعرف 20 وحدة بيانات من
X ، فستعرف 19 من
Y ، وإذا كنت تعرف جميع وحدات بيانات
X ، فستعرف جميع وحدات بيانات
Y
إلا وحدة واحدة. ودون معرفة هذه الوحدة الغائبة، لن نستطيع معرفة أي من قيمتي
Y
المحتملتين تمثل قيمة
Y
الفعلية. ولسوء الحظ، من وجهة نظر التفكير الخطي، تمثل وحدة البيانات الغائبة «أكبر» قيمة لوحدة بيانات في
Y . غير أنه يعتبر من قبيل التضليل نوعا ما تفسير أن الارتباط ذا القيمة صفر يعني أن المرء لا يعرف أي شيء عن
Y
عند معرفة قيمة
X .
بم تخبرنا المعلومات المتبادلة عن ديناميكيات الخريطة اللوجيستية؟ ستعكس المعلومات المتبادلة حقيقة أن معرفة قيمة واحدة من
X
ستمنحنا بالضبط معلومات كاملة عن قيم
Y
المستقبلية. بينما تنطوي المعلومات المتبادلة على تحديد دقيق ومحدد لقيمة
X ، تعكس المعلومات المتبادلة حجم ما نعرف - في المتوسط - عن قيمة
Y
مستقبلا. في ظل وجود التشويش الذي تتعرض له الملاحظات، من المرجح أننا سنعرف أقل عن قيم
X
المستقبلية كلما كانت أبعد في المستقبل، بما أن وحدات البيانات المماثلة لقيمة
X
الحالية ستطمس بفعل التشويش؛ لذا تميل المعلومات المتبادلة إلى التآكل كلما زاد الانفصال الزمني، بينما تبلغ قيمة معلم الارتباط الخطي صفرا في جميع حالات الانفصال الزمني (فيما عدا صفرا). تعد المعلومات المتبادلة أداة مفيدة ؛ إذ يمثل تطور الإحصائيات المخصصة المستخدمة في تطبيقات محددة مجال نمو سريعا في إطار الديناميكيات اللاخطية. من المهم معرفة ما تخبرنا إياه هذه الإحصائيات تحديدا، ومن المهم على السواء أيضا قبول وجود ما هو أكثر مما تخبرنا به الإحصائيات التقليدية.
يمنحنا نموذج التشويش فكرة عن عدم يقيننا الحالي؛ من ثم تتمثل إحدى طرق قياس القابلية للتوقع في الوقت الذي نتوقع أن يستغرقه تضاعف عدم اليقين. يجب أن نتفادى هنا شرك التفكير الخطي الذي يوحي بأن زمن التضاعف أربع مرات سيساوي ضعف زمن التضاعف في نظام لا خطي. وبما أننا لا نعرف أي زمن سيصبح محل اهتمام (زمن التضاعف لمرتين، زمن تضاعف ثلاث مرات، زمن تضاعف أربع مرات، أو ...)، فسنشير ببساطة إلى زمن تضاعف
q
قرب شرط مبدئي محدد. ترتبط أزمنة التضاعف
q
هذه مع القابلية للتوقع، وتعكس هذه الأزمنة مباشرة الزمن الذي نتوقع أن يستغرقه عدم يقيننا في كل توقع محدد ليمر بحد معين من الحدود مهم بالنسبة إلينا. يقدم متوسط زمن تضاعف عدم اليقين المعلومات نفسها التي يؤخذ متوسطها عبر عدة توقعات تعتمد على هذا النموذج. وبينما يعد الحصول على رقم واحد أمرا ملائما، فإن هذا المتوسط قد لا ينطبق على أي حالة أولية على الإطلاق.
يمثل متوسط زمن تضاعف عدم اليقين إجراء إحصائيا مفيدا لقياس القابلية للتوقع. غير أن تعريف الفوضى الرياضية لم يوضع بالارتباط مع إحصائيات زمن التضاعف لمرتين (أو أي تضاعف
q )، بل وضع ليكون مرتبطا ب «أس ليابونوف» الذي سنعرفه لاحقا، وهو ما يعد أحد الأسباب في أن الفوضى والقابلية للتوقع لا ترتبطان ارتباطا وثيقا مثلما هو شائع. بينما يقدم متوسط زمن التضاعف مؤشرا أكثر عملية على القابلية للتوقع على نحو يتفوق على أس ليابونوف، ينقص هذا الأسلوب ميزة نظرية مهمة يقدرها علماء الرياضيات أيما تقدير، وهي ميزة - مثلما سنرى - يحظى بها أس ليابونوف.
تعرف الفوضى على المدى الطويل. يقتصر وجود النمو الأسي المنتظم في عدم اليقين على أبسط النظم الفوضوية. في حقيقة الأمر، يعد النمو المنتظم نادرا بين النظم الفوضوية التي تظهر عادة «نموا أسيا فعالا»، أو ما يطلق عليه أيضا نمو أسي في المتوسط. يحسب المتوسط في حدود رقم لا نهائي من التكرارات، ويطلق على الرقم المستخدم في قياس هذا النمو «أس ليابونوف». فإذا كان النمو أسيا بحتا، وليس أسيا في المتوسط، فيمكن قياسه من خلال التمثيل الرياضي
λ t ، حيث تمثل
t
الزمن و
λ
أس ليابونوف. يتألف أس ليابونوف من وحدات بيانات عند كل تكرار، ويشير الأس الموجب إلى عدد وحدات البيانات التي زادها عدم يقيننا «في المتوسط» بعد كل تكرار. يتضمن أي نظام عددا من آساس ليابونوف بقدر ما يوجد من اتجاهات في فضاء حالته، وهو ما يساوي نفس عدد المركبات التي تؤلف الحالة. للسهولة، تدرج الآساس في ترتيب تنازلي، ويطلق على الأس الأول - الأكبر - عادة «أس ليابونوف الرئيسي». في الستينيات، أكد العالم الرياضي الروسي أوسيليدك على أن أس ليابونوف موجود في مجموعة واسعة من النظم المتنوعة، وبرهن على أنه في كثير من النظم يكون للشروط المبدئية «تقريبا كلها» آساس ليابونوف نفسها. بينما يحدد أس ليابونوف من خلال تتبع المسار اللاخطي لأحد النظم في فضاء حالة، لا تعكس هذه الآساس إلا النمو في عدم اليقين كأقرب ما يكون لذلك المسار المرجعي اللاخطي، وما دام عدم يقيننا لا متناهي الصغر فهو لا يكاد يلحق ضررا بتوقعاتنا.
بالنظر إلى أن عملية حساب آساس ليابونوف تتطلب حساب متوسطات عبر فترات زمنية غير محدودة وتحصر الانتباه في حالات عدم اليقين اللامتناهي الصغر، فإن استخدام هذا الأس في التعريف الاصطلاحي للفوضى الرياضية يلقي هذا العبء على تحديد إن كان نظام ما فوضويا أم لا. الميزة هنا هي أن هذه الخواص نفسها تجعل أس ليابونوف صورة حية للنظام الديناميكي المتضمن. يمكننا أخذ فضاء الحالة ومطه، وطيه، وليه، وتغيير شكله تغييرا طفيفا، دون أن يتغير أس ليابونوف . يقدر علماء الرياضيات هذا الاتساق أيما تقدير؛ ومن ثم تحدد آساس ليابونوف إن كان نظام ما يتضمن اعتمادا حساسا أم لا. إذا كان أس ليابونوف الرئيسي موجبا ، إذن يكون هناك نمو «أسي في المتوسط» لحالات عدم اليقين اللامتناهي الصغر، ويعد أس ليابونوف الموجب شرطا أساسيا للفوضى، إلا أن الخصائص نفسها التي تمنح أس ليابونوف حيويته تجعله صعب القياس في النظم الرياضية، وربما مستحيل القياس في النظم الديناميكية الطبيعية. في الوضع المثالي، يجب أن يساعدنا ذلك على التمييز بوضوح بين الخرائط الرياضية والنظم الطبيعية (الفيزيائية).
بينما لا يوجد بديل لأس ليابونوف الذي يتميز بجاذبيته من الناحية الرياضية، ثمة كميات أكثر ارتباطا لقياس القابلية للتوقع؛ فمعرفة متوسط الزمن الذي يستغرقه قطار للانتقال من أكسفورد إلى وسط لندن الأسبوع الماضي يرجح أن يقدم لنا فكرة حول الوقت الذي سيستغرقه القطار اليوم، أكثر من قسمة طول المسافة بين أكسفورد ولندن على متوسط سرعة جميع القطارات التي سارت عبر إنجلترا منذ بداية تسيير حركة القطارات. تقدم لنا آساس ليابونوف متوسط سرعة، بينما يقدم لنا زمن التضاعف متوسط أزمنة. بطبيعتها، لا ترتبط آساس ليابونوف بأي توقع محدد.
انظر إلى مجموعة الخرائط في الشكل رقم
3-2 . كيف يمكن حساب آساس ليابونوف أو أزمنة التضاعف فيها؟ نرغب في قياس التمدد (أو الانكماش) الذي يجري قرب مسار مرجعي، ولكن إذا كانت خرائطنا لا خطية فستعتمد كمية التمدد على مدى بعدنا عن المسار المرجعي. إن اشتراط بقاء عدم اليقين على مسافة قريبة لا متناهية الصغر من المسار المرجعي يجنبنا هذه الصعوبة المحتملة. بالنسبة إلى النظم الأحادية البعد، يمكننا النظر إلى منحنى الخريطة عند كل نقطة على نحو يتفق مع المعايير. نهتم بمقدار زيادة عدم اليقين عبر الزمن. لدمج مقدار الزيادة، يجب علينا أن نضرب مرات الزيادة جميعها معا. إذا تضاعفت قيمة فاتورة بطاقتي الائتمانية في أحد الأيام، ثم ازدادت قيمتها بمقدار ثلاث مرات في اليوم التالي، فإن الزيادة الإجمالية بلغت ست مرات القيمة الابتدائية، وليس خمسا، وهو ما يعني أن حساب متوسط الزيادة لكل تكرار يتطلب حساب «متوسط هندسي». هب أن عدم اليقين يزيد بعامل ثلاثة عند التكرار الأول، ثم بعامل اثنين، ثم أربعة، ثم ثلث، ثم أربعة ؛ وهو ما يمثل إجمالا عامل 32 خلال خمسة تكرارات؛ لذا تصبح الزيادة في المتوسط بعامل اثنين لكل تكرار، بما أن الجذر الخماسي لقيمة 32 يساوي اثنين؛ بصورة أخرى: 2 × 2 × 2 × 2 × 2 = 32. لا نهتم كثيرا هنا بالمتوسط الحسابي؛ حيث إن 32 مقسومة على 5 تساوي 6,4، ولم تحدث زيادة في عدم يقيننا «قط» بهذا القدر في يوم واحد. لاحظ أيضا أنه على الرغم من أن عامل متوسط الزيادة اثنان يوميا، كانت العوامل اليومية الفعلية 3، 2، 4، 1 / 3، 4. ولم تكن الزيادة منتظمة وتقلص عدم اليقين حقيقة في أحد الأيام. إذا كان بمقدورنا المراهنة على جودة توقعاتنا في نظام فوضوي، وإذا كان بمقدورنا المراهنة على كميات مختلفة في أيام مختلفة، فثمة أوقات إذن نصبح فيها أكثر ثقة «كثيرا» في المستقبل. ثمة خرافة أخرى تندحر، ألا وهي أن الفوضى لا تستلزم استحالة أي توقع. في حقيقة الأمر، إذا كان لك أن تتحدى شخصا ما يعتقد اعتقادا راسخا أن توقع الفوضى مسألة خاسرة دوما، فأنت في موضع يمكنك من تلقينه درسا.
لقد أفضت حقيقة أن بعض أبسط حالات الفوضى (وأكثر الأمثلة شيوعا) تتضمن حالات ميل ثابت إلى التعميم المفرط القائل بأن الفوضى غير قابلة للتوقع على نحو منتظم. بمراجعة النظم الفوضوية الستة في الشكل رقم
3-2 ، نلاحظ أن في أربعة منها (الخريطة الانتقالية، وخريطة الخيمة، وخريطة الأرباع، وخريطة الخيمة ذات التضعيف الثلاثي)، يتساوى مقدار الميل. على الجانب الآخر، في الخريطة اللوجيستية، وخريطة موران-ريكر، يختلف الميل كثيرا عند قيم
X
المختلفة. بما أن ميلا بقيمة مطلقة أقل من واحد يشير إلى تقلص عدم اليقين، تظهر الخريطة اللوجيستية زيادة كبيرة في عدم اليقين عند اقتراب قيم
X
من الصفر أو من الواحد، وتقلصا في عدم اليقين عند اقتراب قيم
X
من 1 / 2! وبالمثل، تظهر خريطة موران-ريكر زيادة كبيرة في عدم اليقين قرب الصفر أو عند القيم التي تقترب من واحد، حيث يكون مقدار الميل كبيرا أيضا، ولكنه يتقلص عند قيم
X
المتوسطة والمرتفعة؛ حيث يقترب الميل من الصفر.
كيف يمكن أن نحدد قيمة متوسطة تمتد إلى المستقبل اللانهائي؟ مثل كثير من التحديات الرياضية، أسهل طرق حل هذه المسألة الرياضية هي الخداع. أحد أسباب انتشار الخريطة الانتقالية وخريطة الخيمة في النظم الديناميكية اللاخطية هو أنه بينما تعتبر المسارات فوضوية، تظل زيادة عدم اليقين هي نفسها في كل حالة. بالنسبة إلى الخريطة الانتقالية، يزيد كل عدم يقين لا متناهي الصغر بعامل اثنين عند كل تكرار؛ لذا تصبح المهمة الصعبة لأخذ قيمة متوسطة بتقدم الزمن لانهائيا بلا أهمية. إذا زاد عدم اليقين بعامل اثنين عند كل تكرار، فإنه يزيد بعامل اثنين في المتوسط، وتتضمن الخريطة الانتقالية أس ليابونوف يساوي وحدة بيانات واحدة لكل تكرار. تتساوى في السهولة تقريبا عملية حساب أس ليابونوف في خريطة الخيمة؛ فإما أن تكون الزيادة بعامل اثنين أو بعامل سالب اثنين، وهو ما يعتمد على معرفة أي نصف من «الخيمة» نكون فيه. لا تؤثر علامة السالب على حجم عملية الزيادة، بل تشير فقط إلى أن الاتجاه تحول من اليسار إلى اليمين، وهو ما يمكننا تجاهله دون خوف. مرة أخرى، يكون لدينا وحدة بيانات واحدة لكل تكرار. تصلح الخدعة نفسها مع خريطة الخيمة ذات التضعيف الثلاثي، بيد أن مقدار الميل في الخارطة هنا ثلاثة، وأس ليابونوف يساوي 1,58 وحدة بيانات تقريبا عند كل تكرار (القيمة الدقيقة هي
log
2 (3) ). لماذا نظل نستخدم اللوغاريتمات بدلا من الحديث عن «عوامل الزيادة» (أرقام ليابونوف)؟ ولماذا نستخدم لوغاريتمات التمثيل الثنائي؟ هذا اختيار شخصي، يبرره الارتباط بالنظام الحسابي الثنائي واستخدامه في الحاسوب، وهو تفضيل أن نقول «وحدة بيانات واحدة لكل تكرار» على أن نقول «0,693147 نات لكل تكرار»، وحقيقة أن إجراء عملية الضرب في اثنين عملية سهلة نسبيا بالنسبة إلى البشر.
يظهر شكل الخريطة اللوجيستية الكاملة قطعا مكافئا؛ لذا تختلف الزيادة مع اختلاف الحالات، ويبدو أن خدعتنا بحساب متوسط أحد الثوابت لا تفلح. كيف يمكن مد الحد إلى المستقبل اللانهائي؟ سيشغل الفيزيائي لدينا الحاسوب في الحال ثم يحسب آساس ليابونوف المحددة الفترة الزمنية للعديد من الحالات المختلفة، وسيحسب الفيزيائي - على وجه التحديد - المتوسط الهندسي للزيادة على مدى تكرارين لقيم
X
المختلفة، ثم يحسب التوزيع الملائم لثلاثة تكرارات، ثم أربعة تكرارات، ... وهكذا. إذا تقارب هذا التوزيع نحو قيمة واحدة، فقد يعتبرها الفيزيائي تقديرا لقيمة أس ليابونوف، ما دام الحاسوب لا يجري تشغيله لفترة طويلة أكثر مما ينبغي؛ ما يجعل نتائجه غير موثوقة. كما يتضح، يتقارب هذا التوزيع بصورة أسرع مما قد يوحي قانون الأعداد الكبيرة. يسعد الفيزيائي بهذه القيمة التي تم تقديرها، والتي يتضح أنها تقترب من وحدة بيانات واحدة لكل تكرار.
لن يفكر عالم الرياضيات لدينا - بالطبع - في إجراء استقراء خارجي مثل ذلك؛ إذ لا يرى الرياضي أي تشابه بين عدد محدود من العمليات الحسابية الرقمية، كل منها غير دقيقة، وعملية حسابية دقيقة جرى تمديدها إلى المستقبل اللانهائي. من وجهة نظره، تظل قيمة أس ليابونوف عند معظم قيم
α
غير معلومة، حتى اليوم. ولكن تظل الخريطة اللوجيستية الكاملة حالة خاصة، تبين حيلة علماء الرياضيات الثانية، ألا وهي أنه باستبدال قيمة جيب
θ
بقيمة
X
في القاعدة التي تحدد الخريطة اللوجيستية الكاملة، وباستخدام بعض الدوال من حساب المثلثات، يمكن إثبات أن الخريطة اللوجيستية الكاملة «هي» الخريطة الانتقالية. وبما أن آساس ليابونوف لا تتغير في ظل هذا النوع من الحيل الرياضية، يمكن للرياضي أن يثبت أن أس ليابونوف يساوي في حقيقة الأمر وحدة بيانات واحدة عند كل تكرار، ويفسر عدم الالتزام بقانون الأعداد الكبيرة في حاشية سفلية.
آساس ليابونوف في الأبعاد المتعددة
إذا كانت حالة النموذج تتضمن أكثر من مركبة واحدة، إذن يمكن أن يسهم عدم اليقين في إحدى المركبات في عدم اليقين المستقبلي في المركبات الأخرى، وهو ما يثير مجموعة جديدة كلية من الموضوعات الرياضية؛ حيث يصبح الترتيب الذي يجري ضرب المركبات معا وفقا له أمرا مهما. سنتجنب مبدئيا هذه التفصيلات المعقدة من خلال طرح أمثلة لا تختلط حالات عدم اليقين في المركبات المختلفة فيها، بيد أننا يجب ألا ننسى بأي حال من الأحوال أن هذه الأمثلة حالات خاصة جدا!
يتألف فضاء الحالة في «خريطة الخباز» من مركبتين،
x
و
y ، مثلما هو موضح في الشكل رقم
6-1 . ويبين الشكل مربعا ثنائي الأبعاد ينطوي على ذاته تماما وفق القاعدة التالية:
إذا كان
x
أقل من 1 / 2:
فاضرب
x
في 2 للحصول على قيمة
x
الجديدة، واقسم
y
على 2 للحصول على قيمة
y
الجديدة.
وإلا:
فاضرب
x
في 2، واطرح واحدا من الناتج للحصول على قيمة
x
الجديدة، واقسم
y
على 2 وأضف 1 / 2 للناتج للحصول على قيمة
y
الجديدة.
في خريطة الخباز، سيتضاعف أي عدم يقين في المركبة الأفقية
x
لحالتنا عند كل تكرار، بينما ينقسم أي عدم يقين في المركبة الرأسية
y
إلى نصفين. وبما أن ذلك صحيح في كل خطوة، يصح الأمر أيضا في المتوسط. متوسط زمن تضاعف عدم اليقين هو تكرار واحد، وتتضمن خريطة الخباز أس ليابونوف واحدا يساوي وحدة بيانات واحدة عند كل تكرار، وأسا واحدا يساوي وحدة بيانات تساوي سالب واحد عند كل تكرار.
شكل 6-1: رسم تخطيطي يوضح طريقة تطور النقاط في المربع للأمام عند تكرار واحد في خريطة الخباز (إلى اليسار)، وخريطة الخباز المتمرن (إلى اليمين).
يتماثل أس ليابونوف الموجب مع عدم يقين متزايد، بينما يتماثل أس ليابونوف السالب مع عدم يقين متناقص. لكل حالة من الحالات ثمة اتجاه يرتبط بكل من هذين الأسين؛ وفي هذه الحالة الخاصة على وجه التحديد تتطابق هذه الاتجاهات بالنسبة إلى جميع الحالات؛ ومن ثم لا تخلط بين حالات عدم اليقين في
x
مع حالات عدم اليقين في
y . وقد وضعت خريطة الخباز في ذاتها بعناية لتفادي الصعوبات من جراء عدم اليقين في إحدى المركبات، وهو الأمر الذي يسهم في عدم اليقين في مركبة أخرى. «تقريبا كل» الخرائط الثنائية البعد تختلط فيها حالات عدم اليقين هذه؛ لذا لا يمكننا عادة حساب أي آساس ليابونوف موجبة على الإطلاق!
شكل 6-2: مجموعة من الحالات الأولية تتخذ شكل الفأر (الصورة العلوية)، وأربعة إطارات تبين بالتوازي تطور هذه المجموعة تحت خريطة الخباز (إلى اليسار)، وخريطة الخباز المتمرن الرابعة (إلى اليمين).
ربما نستطيع أن ندرك سبب اعتقاد بعضنا أن توقع الفوضى مسألة خاسرة بالنظر إلى الأشكال الموجودة على اليسار في الشكل رقم
6-2
الذي يبين تطور مجموعة تتخذ هيئة فأر عبر عدة تكرارات للخريطة، ولكن تذكر أن هذه الخريطة حالة خاصة جدا؛ فالخباز الافتراضي ماهر جدا في عملية العجن، ويستطيع مط العجين بانتظام بعامل اثنين في المحور الأفقي، بحيث يتقلص بعامل اثنين في المحور الرأسي، قبل أن يعود إلى المربع في نظام الإحداثيات. تفيد مقارنة خريطة الخباز مع خرائط متنوعة من عائلة خرائط الخباز المتمرن؛ فالخباز المتمرن أقل انتظاما؛ حيث يمط جزءا صغيرا من العجين على الجانب الأيمن من المربع كثيرا، بينما لا يكاد يمط معظم العجين إلى اليسار على الإطلاق، كما يتضح في الشكل رقم
6-1 . لحسن الحظ، يتمتع جميع أعضاء عائلة خرائط الخباز المتمرن بالقدر الكافي من المهارة؛ ما لا يجعلها تخلط بين عدم اليقين في إحدى المركبات مع مركبة أخرى؛ ما يمكننا من حساب أزمنة التضاعف وآساس ليابونوف لأي عضو من أعضائها.
مثلما يتضح، تتضمن كل خريطة للخباز المتمرن أس ليابونوف رئيسيا أكبر من ذلك الخاص بخريطة الخباز؛ لذا إذا اعتمدنا أس ليابونوف الرئيسي باعتباره مقياسنا للفوضى، إذن فكل واحدة من خرائط الخباز المتمرن «أكثر فوضوية» من خريطة الخباز، وهي نتيجة ربما تسبب شعورا بعدم الراحة، عند أخذها في الاعتبار في ضوء الشكل رقم
6-2 ، الذي يوضح، جنبا إلى جنب، تطور إحدى مجموعات النقاط عند استخدام خريطة الخباز، وأيضا عند استخدام خريطة الخباز المتمرن رقم 4. قد يكون متوسط زمن التضاعف لإحدى خرائط الخباز المتمرن أكبر كثيرا منه في خريطة الخباز، على الرغم من أن أس ليابونوف الخاص بها أكبر أيضا من أس ليابونوف في خريطة الخباز. ينطبق هذا الأمر على عائلة خرائط الخباز المتمرن بأسرها، وقد نجد خريطة الخباز المتمرن بمتوسط زمن تضاعف أكبر من أي رقم يستطيع أحد أن يسميه. ربما يجب علينا إعادة النظر في العلاقة بين الفوضى والقابلية للتوقع؛ أليس كذلك؟
آساس ليابونوف الموجبة مع حالات عدم اليقين المتناقصة
ما دام عدم يقيننا أصغر من أصغر رقم يمكننا أن نتصوره، يصعب أن يشكل عدم اليقين أي حد عملي لتوقعاتنا، وبمجرد زيادة عدم اليقين ذلك بالقدر الذي يسمح بقياسه، فلن يكون ثمة حاجة أن يعكس تطوره آساس ليابونوف بأي طريقة من الطرق. حتى في الحالة اللامتناهية الصغر، تبين خرائط الخباز المتمرن أن آساس ليابونوف تعد مؤشرات مضللة للقابلية للتوقع؛ حيث قد يختلف مقدار زيادة عدم اليقين وفق الحالة التي يكون عليها النظام. يصبح الأمر أفضل؛ ففي نظام لورنز الكلاسيكي لعام 1963 يمكننا إثبات أن ثمة مناطق في فضاء الحالة «تنخفض» جميع حالات عدم اليقين فيها لفترة. عند إعطاء خيار حول وقت المراهنة على أحد التوقعات، فإن المراهنة على توقيت الدخول إلى هذه المنطقة يزيد من فرص فوزك. إن توقع سلوك النظم الفوضوية بعيد كل البعد عن عدم الجدوى، وربما تصبح مراهنة أحد الأشخاص - الذين يعتقدون في سذاجة أن هذا التوقع مسألة لا طائل من ورائها - أمرا يعود بالفائدة.
ننهي هذه المناقشة حول آساس ليابونوف بكلمة تحذيرية، وهي أنه بينما ينطوي الاتجاه الذي لا يزيد فيه عدم اليقين - أو يقل - على قيمة أس ليابونوف تساوي صفرا، فإن العكس ليس صحيحا؛ فلا ينطوي أس ليابونوف الذي يساوي صفرا على اتجاه لعدم زيادة عدم اليقين! تذكر النقاش حول النمو الأسي الذي جاء في إطار مثال أرانب فيبوناتشي. حتى نمو سريع بمقدار مربع الزمن يكون أبطأ من النمو الأسي، وسيسفر عن أس ليابونوف يساوي صفرا. وهو ما يفسر سبب حرص علماء الرياضيات الشديد بشأن مد الحدود نحو المستقبل اللانهائي. إذا أخذنا في الاعتبار فترة زمنية طويلة لكنها محدودة، إذن فستشير «أي» عملية زيادة على الإطلاق إلى أس ليابونوف موجب؛ إن النمو الأسي والخطي أو حتى النمو الأبطأ من الخطي قد يسفر عن زيادة أكبر من واحد خلال أي فترة زمنية محددة، وسيصبح لوغاريتم أي رقم أكبر من واحد موجبا. ومن هنا ستثبت صعوبة حساب إحصائيات الفوضى.
فهم ديناميكيات حالات عدم اليقين ذات الصلة
مثلما أشرنا آنفا، لا يمكن أن يتسبب عدم يقين لا متناهي الصغر في صعوبة كبيرة لنا في التوقع. بمجرد إمكانية قياسه، تظهر تفاصيل حجمه تماما والنقطة التي تبدأ فيها الحالة في فضاء الحالة في إحداث التأثير. حتى الآن، لم يكتشف علماء الرياضيات أي أسلوب متسق لتتبع حالات عدم اليقين الصغيرة هذه ولكنها ملحوظة، والتي - بالطبع - ترتبط ارتباطا كبيرا بالتوقع في العالم الحقيقي. أفضل ما نستطيع أن نصنعه هو أخذ عينة من الحالات الأولية، تسمى مجموعة، ونجعل هذه المجموعة متسقة مع ديناميكيات نموذجنا والتشويش الموجود في ملاحظاتنا، ثم نرى كيف تتبدد المجموعة في المستقبل. يعد هذا كافيا بالنسبة إلى شيطان القرن الحادي والعشرين؛ ففي ظل نموذجه المثالي للنظام وللتشويش، وملاحظاته المشوشة للحالات السابقة التي ترجع إلى الماضي البعيد، وقدرته الحاسوبية التي لا نهاية لها، فإن مجموعته ستعكس بدقة احتمالية الأحداث المستقبلية. إذا أشار ربع عدد مجموعته إلى احتمال هطول أمطار غدا، فثمة فرصة إذن بنسبة 25٪ لسقوط أمطار في الغد، في ظل الملاحظات المشوشة المتوافرة لديه. يزيد تقليص التشويش من القدرة على تحديد ما هو مرجح الحدوث، ولا تشكل الفوضى عائقا حقيقيا أمامه، وهو ليس على يقين من الحاضر، ولكنه يستطيع رسم خارطة لعدم اليقين ذلك في المستقبل. من عساه أن يطلب ما هو أكثر من ذلك؟ غير أن نماذجنا غير مثالية ومواردنا الحاسوبية محدودة. سنعقد في الفصل التاسع مقارنة بين عدم الملاءمة التي يجب أن نتعامل معها وعدم اليقين الذي يمكنه احتماله.
يتضمن المجال اللاخطي أكثر من مجرد فوضى. يجب ألا يكون الأمر بالضرورة أنه كلما كان عدم اليقين أقل، كان سلوكه أكثر انتظاما؛ فثمة أشياء أخرى أسوأ من الفوضى. وربما يكون الأمر أنه كلما انخفض عدم اليقين، زاد بنسبة أسرع، وهو ما يسفر عن زيادة هائلة في حالات عدم اليقين اللامتناهي الصغر وصولا إلى نسب محدودة، فقط بعد فترة زمنية محدودة. وهو ليس بالأمر الغريب مثلما يبدو؛ حيث يظل سؤالا عويصا ما إذا كانت المعادلات الأساسية في ديناميكا الموائع تعبر عن هذا السلوك الأسوأ من الفوضى.
الفصل السابع
الأعداد الحقيقية والملاحظات الحقيقية والحواسب
يحدد الرياضي الأرقام غير النسبية بحرص بالغ. لا يصادف الفيزيائي هذه الأرقام على الإطلاق ... ينتفض الرياضي خوفا عند مواجهة عدم اليقين، ويحاول تجاهل الأخطاء التجريبية.
ليون بريلوان (1964)
في هذا الفصل نبحث العلاقة بين الأعداد في نماذجنا الرياضية، والأعداد التي نلاحظها عند إجراء قياسات في العالم الحقيقي، والأعداد المستخدمة في حاسوب رقمي. ساهمت دراسة الفوضى في توضيح أهمية التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة من الأعداد. ماذا نعني بوجود أشكال مختلفة من العدد الواحد؟
الأعداد الكاملة صحيحة. تكون قياسات أشياء مثل «عدد الأرانب في حديقتي» على هيئة أعداد صحيحة بصورة طبيعية، ويستطيع الحاسوب إجراء عمليات حسابية مثالية باستخدام أعداد صحيحة ما دامت لا تزيد أكثر مما ينبغي. ولكن ماذا عن أشياء مثل «طول هذه المائدة»، أو «درجة حرارة مطار هيثرو؟» يبدو أن هذه الأشياء يجب ألا تعبر عنها أعداد صحيحة، ومن الطبيعي تصور تمثيلها بأعداد حقيقية، أعداد يمكن أن تتضمن سلسلة طويلة لا نهائية من أعداد إلى يمين العلامة العشرية، أو وحدات بيانات إلى يمين العلامة الثنائية. يرجع الخلاف حول ما إذا كانت هذه الأعداد الحقيقية موجودة أم لا في العالم الواقعي إلى العصور القديمة. إلا أنه ثمة أمر واضح، ألا وهو أننا عندما «نأخذ بيانات»، فإننا «نحتفظ» بالقيم الصحيحة فقط؛ فمثلا إذا قسنا «طول هذه المائدة» ودوناه كالآتي: 1,370، فلا يبدو قياس الطول رقما صحيحا من النظرة الأولى، إلا أنه يمكننا تحويله إلى رقم صحيح بضربه في 1000، ومتى استطعنا قياس أي كمية مثل الطول أو درجة الحرارة بدقة محدودة - وهي الحال دوما عمليا - يمكن تمثيل قياسنا في صورة رقم صحيح. وفي حقيقة الأمر، تجرى قياساتنا حاليا ودوما تقريبا على هذا النحو؛ إذ إننا نجريها ونعالجها باستخدام حاسوب رقمي، وهو الذي يخزن الأعداد «دوما» في صورة أعداد صحيحة، وهو ما يشير إلى وجود نوع من الانفصال بين فكرتنا المادية حول الطول وقياساتنا للطول، وثمة انفصال مشابه بين نماذجنا الرياضية، التي تتعامل مع الأعداد الحقيقية، ونظائرها الحاسوبية، التي لا تتعامل إلا مع الأعداد الصحيحة فقط.
بالطبع لن يقول عالم فيزياء حقيقي إن طول المائدة كان يبلغ 1,370، بل سيقول شيئا آخر من قبيل أن الطول كان يبلغ 1,370 بزيادة أو نقصان 0,005، بهدف تحديد عدم يقينه الذي يرجع إلى التشويش. ينطوي هذا على نموذج للتشويش. تعتبر الأعداد العشوائية المستقاة من المنحنى الجرسي بلا شك أكثر نماذج التشويش شيوعا. ويتعلم المرء إدراج أشياء من قبيل «بزيادة أو نقصان 0,005» بغرض النجاح في مقررات العلوم المدرسية، وهو ما ينظر إليه عادة باعتباره أمرا مزعجا، لكن ماذا يعني هذا حقا؟ ما هي الأشياء التي تقيسها مقاييسنا؟ هل ثمة رقم دقيق يماثل الطول الحقيقي للمائدة أو درجة الحرارة الحقيقية في المطار، لكن شوش عليها التشويش وجرى قطعها عند تسجيلها؟ أو هل الأمر محض خيال، ولا يعتبر الاعتقاد بضرورة وجود عدد دقيق سوى اختلاق علمي؟ أوضحت دراسة الفوضى دور عدم اليقين والتشويش في تقييم نظرياتنا من خلال الإشارة إلى طرق جديدة لبحث إن كانت هذه القيم الحقيقية موجودة أم لا. سنفترض في الوقت الحالي وجود القيمة الحقيقية، وأننا فقط لا نستطيع رؤيتها.
الملاحظات الحقيقية
إذن، ما هي الملاحظة تحديدا؟ تذكر أول سلسلة زمنية، وهي التي كانت تتألف من أعداد شهرية للأرانب في حديقة فيبوناتشي الخيالية. في تلك الحالة، كنا نعرف العدد الإجمالي للأرانب في الحديقة. ولكن في معظم دراسات الديناميكيات السكانية لا نمتلك مثل هذه المعلومات الكاملة. هب على سبيل المثال أننا ندرس مجموعة من فئران الحقول في فنلندا؛ ننصب شراكنا، ونفحصها يوميا، ونطلق سراح الفئران المأسورة، وندون سلسلة زمنية يومية بعدد الفئران التي وقعت في الشراك. يرتبط هذا العدد إلى حد ما بعدد الفئران لكل كيلومتر مربع في فنلندا، لكن كيف يرتبطان على وجه التحديد؟ هب أننا رصدنا اليوم عدد صفر من الفئران في شركنا، فماذا يعني هذا «الصفر»؟ هل يعني عدم وجود أي فئران في هذه الغابة؟ أم عدم وجود أي فئران في الدول الاسكندنافية؟ هل انقرضت الفئران؟ ربما يشير الصفر في شركنا إلى أي من هذه الأشياء أو لا يشير إلى أي منها، وهو ما يشير إلى نوعين متمايزين من عدم اليقين يجب أن نتعامل معهما عندما نربط بين مقاييسنا ونماذجنا. النوع الأول من حالتي عدم اليقين هو التشويش الذي تتعرض له الملاحظات البسيطة، ومثال ذلك هو الخطأ في تعداد الفئران في الشرك، أو اكتشاف امتلاء الشرك، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالية إمكانية عد المزيد من الفئران في ذلك اليوم حال استخدامنا لشرك أكبر. يطلق على النوع الثاني من حالتي عدم اليقين «خطأ التمثيل». تتعامل نماذجنا مع كثافة المجموعة السكانية لكل كيلومتر مربع، بيد أننا نقيس عدد الفئران في أحد الشراك؛ لذا لا يمثل قياسنا المتغير الذي تستخدمه نماذجنا. هل يمثل هذا أحد أوجه القصور في النموذج أو القياس؟
إذا قمنا بإدخال العدد الخاطئ إلى نموذجنا، يمكننا توقع الحصول على العدد الخاطئ؛ فما يدخل خطأ يخرج خطأ. يبدو أن نماذجنا تتطلب «نوعا» واحدا من الأعداد، بينما تقدم ملاحظاتنا نسخة مشوشة من نوع آخر من الأعداد. في حالة توقع حالة الطقس حيث يعتقد أن تكون متغيراتنا المستهدفة - مثل درجة الحرارة، والضغط، والرطوبة - أعدادا حقيقية، لا يمكن أن نتوقع أن تعكس ملاحظاتنا القيم الحقيقية على وجه الدقة، وهو ما قد يشير إلى أننا ربما نبحث عن نماذج ذات ديناميكيات «متوافقة» مع ملاحظاتنا، بدلا من اعتبار أن ملاحظاتنا وحالات نماذجنا تمثلان، بصورة أو بأخرى، الشيء نفسه ومحاولة قياس المسافة بين حالة ما مستقبلية لنموذجنا والملاحظة المستهدفة المماثلة. إن هدف التوقع في النظم الخطية هو تقليص هذه المسافة؛ أي تقليص خطأ التوقع. عند إجراء توقع في النظم اللاخطية يصير من المهم التمييز بين أشياء متنوعة ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه الكمية، بما في ذلك حالات عدم اليقين في الملاحظة، والتقطع في القياس، والفرق بين نماذجنا الرياضية، ونماذج المحاكاة الحاسوبية لها، وأيا ما كان ما تولد عنه في حقيقة الأمر تلك البيانات. نستعرض أولا ما يحدث عندما نحاول إدخال الديناميكيات إلى الحاسوب الرقمي.
الحاسوب والفوضى
تذكر أن اشتراطاتنا الثلاثة لأي نظام فوضوي رياضي كانت: الحتمية، والاعتماد الحساس، والتكرار. النماذج الحاسوبية حتمية إلى حد مبالغ فيه. يعكس الاعتماد الحساس ديناميكيات لا متناهية الصغر، بيد أنه في أي حاسوب رقمي ثمة حد لمدى تقارب عددين، بعده لا يستطيع الحاسوب تمييز أي فارق على الإطلاق، ويتعامل معهما باعتبارهما عددا واحدا. وإذا لم توجد قيم لا متناهية الصغر، فلا يوجد سلوك رياضي فوضوي. ثمة سبب ثان في أن الحاسوب لا يستطيع التعبير عن الفوضى، ينشأ من حقيقة أن ثمة حيزا محدودا من الذاكرة في أي حاسوب رقمي؛ فكل حاسوب لديه عدد محدود من وحدات البيانات، ومن ثم عدد محدود فقط من الحالات الداخلية المختلفة؛ لذا يعود الحاسوب حتما في النهاية إلى حالة كان موجودا فيها بالفعل، بعدها، وبسبب حتميته، سيكرر الحاسوب سلوكه السابق مرارا وتكرارا إلى الأبد، وهو مآل لا يمكن تفاديه، إلا إذا تدخلت قوة ما أخرى إنسانية أو خارجية، في الديناميكية الطبيعية للحاسوب الرقمي ذاته. فيما يلي صورة لحيلة بسيطة للعبة الورق توضح هذه النقطة على نحو رائع.
علام ينطوي هذا بالنسبة إلى نماذج المحاكاة الحاسوبية للخريطة اللوجيستية؟ في النسخة الرياضية من الخريطة، لن تتضمن السلسلة الزمنية المستقاة من التكرار أي قيمة
X
تقع بين قيمتي صفر وواحد على قيمة
X
ذاتها مرتين أبدا، مهما كان عدد التكرارات المتضمنة. مع زيادة عدد التكرارات، ستقترب أصغر قيمة ل
X
لوحظت حتى الآن شيئا فشيئا من الصفر، غير أنها لا تبلغه أبدا. بالنسبة إلى نموذج المحاكاة الحاسوبية للخريطة اللوجيستية ثمة حوالي 2
60 (حوالي مليون مليون مليون) قيمة
X
مختلفة بين قيمتي صفر وواحد؛ لذا يجب أن تشتمل السلسلة الزمنية المستقاة من الحاسوب في نهاية المطاف على قيمتين ل
X
متطابقتين تماما؛ ومن ثم تدور السلسلة الزمنية في حلقة مفرغة. بعد حدوث هذا، لن تنخفض أصغر قيم
X
أبدا مرة أخرى، وستعكس أي قيمة حسابية في هذه الحلقة، سواء كان متوسط قيمة
X
أو أس ليابونوف في الخريطة، خواص الحلقة المحددة، لا الخريطة الرياضية. صار مسار الحاسوب «دوريا رقميا»، بصرف النظر عما كان سيصنعه النظام الرياضي. وهكذا ينطبق الأمر نفسه على جميع الحواسب الرقمية. فلا يستطيع الحاسوب معالجة نماذج فوضوية.
ربما يكون ثمة أكثر من حلقة دورية رقمية. أعد ترتيب مجموعة من الأوراق وضع بعضها في دائرة كبيرة بحيث تلي الورقة الأولى الورقة الأخيرة التي جرى تداولها. تفضي عملية تحديد أي حلقة ينتهي المطاف بكل ورقة فيها إلى قائمة بجميع الحلقات. أيهما أكبر: عدد الأوراق التي توجد في الحلقات بالفعل أم تلك الأوراق الوقتية؟ أعد ترتيب الأوراق وكرر التجربة لترى كيف أن عدد الحلقات وأطوالها تتغير مع تغير عدد الأوراق التي يجري تداولها. بالطريقة نفسها، يؤدي التغيير غير الحقيقي لعدد وحدات البيانات التي يستخدمها الحاسوب لكل قيمة
X
إلى تحويله إلى ميكروسكوب رياضي لفحص البنية الدقيقة رقميا للخريطة، باستخدام ديناميكيات الحاسوب لفحص مقاييس الأطوال التي سيصبح عندها عدد الصناديق أكثر كثيرا؛ ما لا يسمح بحصرها جميعا.
خدع لعبة الورق وبرامج الحاسوب
سل صديقا لك أن يختار رقما لا يكشف عنه، لنقل بين 1 و8، ثم وزع مجموعة ورق اللعب مثلما هو موضح في الشكل رقم
7-1 . مع اعتبار أن أي ورقة عليها صورة تساوي في قيمتها عشرة، وأي ورقة آس تساوي واحدا، سل صديقك أن يستبعد رقمه السري ويجعل رقم الورقة التي يلتقطها رقمه الجديد. إذا كان الرقم السري واحدا، فسيختار صديقك ورقة ستة بستوني، ومن خلال الرقم الجديد ستة، سينتقل صديقك إلى ورقة أربعة إسباتي، وإذا كان الرقم السري الأصلي ثلاثة، فسيصل إلى ثلاثة ديناري، ثم آس القلوب، وهكذا. جرب ذلك بنفسك باستخدام الشكل رقم
7-1
وتوقف عندما تصل إلى ورقة جاك القلوب. كيف عرفت أنك ستصل إلى جاك القلوب؟ للسبب نفسه الذي وراء عدم قدرة الحاسوب على التعبير عن الفوضى. سيصل الجميع إلى ورقة جاك القلوب.
ما علاقة هذا بالحاسوب؟ الحاسوب الرقمي ماكينة حالة محدودة، وثمة عدد محدود من وحدات البيانات في الحاسوب تحدد حالته الحالية. وقد شفرت في الحالة الحالية للماكينة القاعدة التي تحدد أي حالة تأتي تالية؛ ففي لعبة الورق كان ثمة عشر قيم محتملة عند كل موضع، فإذا تقدم لاعبان لديهما ورقتان مختلفتان إلى اختيار نفس الورقة، فستظل أوراقهما متطابقة من تلك اللحظة فصاعدا. دون توخي المرء الحرص البالغ، قد تنهار الحالات المتقاربة في الحاسوب على النحو ذاته. يمتلك الحاسوب الحديث خيارات أكثر، لكنها خيارات محدودة؛ لذا في نهاية المطاف سيبلغ الحاسوب تهيئة (حالة داخلية) كان قد بلغها من قبل، وبعد حدوث هذا سيدور الحاسوب في الحلقة ذاتها إلى الأبد. تعمل خدعة لعبة الورق على ذات المنوال؛ إذ يبدأ جميع اللاعبين برقمهم الأولي، ثم يقومون بالتحديث والانتقال إلى قيمة أخرى، ولكن بمجرد تقارب مسارين من هذه المسارات عند الورقة ذاتها، يتلازمان إلى الأبد. بالنسبة إلى الأوراق الموجودة على المائدة، سيصل الجميع إلى ورقة جاك القلوب، ولن يصل أحد إلى ورقة آس البستوني إلا إذا بدءوا اللعب منها. للتأكد من هذا، جرب البدء بكل قيمة. إذا اخترت واحدا، تصل إلى ستة، ثم أربعة، ثم ورقة جاك؛ وإذا اخترت اثنين تصل إلى خمسة ثم أربعة ثم ورقة جاك؛ وإذا اخترت ثلاثة تصل إلى ثلاثة، والآس، وأربعة، وجاك؛ وإذا اخترت أربعة، تصل إلى اثنين، والآس، وأربعة، وجاك؛ وإذا اخترت خمسة، تصل إلى ستة وجاك؛ وإذا اخترت ستة، تصل إلى الآس، وأربعة، وجاك؛ وإذا اخترت سبعة، تصل إلى أربعة وجاك؛ وإذا اخترت ثمانية، تصل إلى الآس، واثنين، وجاك. تفضي جميع القيم إلى ورقة جاك. ضع الأوراق في دائرة فيصبح لدينا ماكينة حالة محدودة لا بد أن تفضي كل قيمة أولية فيها إلى حلقة متكررة، لكن ربما يكون ثمة أكثر من حلقة واحدة.
بعرض الأوراق على شاشة، يمكن استخدام هذا المثال أمام جمهور واسع. اختر رقما بنفسك ثم وزع الأوراق حتى تتأكد من أن الجميع قد تقاربوا، ثم سل الجمهور أن يرفع يده كل من كان لديه - في هذه الحالة - ورقة جاك القلوب. ستجد أن ثمة نظرة دهشة على وجوه الحاضرين عندما يدركون أنهم جميعا يحملون الورقة نفسها. سيكون هناك تقارب أسرع لدى اللاعبين إذا جرى قصر الأوراق الموزعة على القيم الصغيرة. إذا كنت راغبا في رص مجموعة الأوراق للوصول إلى تقارب أسرع، فأي ترتيب ستضع الأوراق فيه؟
شكل 7-1: طريقتان لإجراء حيلة لعبة الورق التي توضح عدم قدرة الحاسوب على التعامل مع الفوضى، فإذا كانت مجموعة الأوراق كبيرة بما يكفي فسيأتي وقت يجد الجميع أنفسهم يتداولون الورقة نفسها، حتى لو كانوا جميعا مصطفين في خط واحد مثلما هو مبين في الشكل العلوي.
ظلال الواقع
الواقع هو الذي - عندما نتوقف عن الإيمان به - لا يتلاشى.
بي كيه ديك
يجد الفيلسوف والفيزيائي لدينا هذه النتائج مزعجة. إذا كان الحاسوب لا يستطيع أن يعكس نماذجنا الرياضية، فكيف يمكن أن نقرر إن كانت النماذج الرياضية تعكس الواقع أم لا؟ إذا لم يستطع الحاسوب التعرف على نظام رياضي في مثل بساطة الخريطة اللوجيستية، فكيف لنا أن نقيم النظرية الكامنة وراء نماذج الطقس والمناخ الأكثر تعقيدا؟ أو أن نقارن نماذجنا الرياضية مع الواقع؟ يعتبر موضوع عدم ملاءمة النموذج أعمق من موضوع عدم اليقين في الشرط المبدئي.
أحد الاختبارات التي تبين عدم ملاءمة النموذج هو جمع الملاحظات التي تتوافر لدينا بالفعل، والبحث عما إن كان بإمكان نموذجنا توليد سلسلة زمنية تظل على مقربة من هذه الملاحظات. إذا كان النموذج مثاليا، فستكون ثمة حالة أولية واحدة على الأقل تظلل أي نطاق ملاحظات قد نختاره، ونعني ب «الظلال» أن الفرق (أو الفروق) بين السلسلة الزمنية للنموذج والسلسلة الزمنية للملاحظات يتوافق مع نموذجنا للتشويش، وهو ما يمنح نموذجنا للتشويش مكانة أعلى كثيرا مما كان عليه في الماضي. ألا نزال نتوقع حالات ظلال في حال كون نماذجنا غير كاملة؟ نعم، ليس على المدى الطويل، إذا كان نموذجنا فوضويا. يمكننا البرهنة على عدم وجود مسار ظلالي. لن يتلاشى التشويش، حتى عندما نتوقف عن الاعتقاد في وجوده؛ ففي النماذج الفوضوية غير الكاملة، لا نستطيع أن نجعل التشويش يقدم تفسيرا مقبولا للفرق بين نماذجنا والملاحظات. تختلط أخطاء النماذج وتشويش الملاحظات بصورة معقدة، وإذا كانت الملاحظات وحالات النماذج والأعداد الحقيقية تمثل في الحقيقة أنواعا مختلفة من الأعداد - مثل التفاح وإنسان الغاب - فماذا كنا نظن أنفسنا فاعلين عندما كنا نحاول طرح أحد أنواع هذه الأعداد من نوع آخر ؟ لمتابعة الإجابة عن هذا السؤال، يجب أولا معرفة المزيد عن إحصائيات الفوضى.
الفصل الثامن
الإحصائيات والفوضى
لا أمتلك بيانات بعد، وإنه لخطأ عظيم التنظير قبل الحصول على بيانات.
هولمز إلى واطسن في القصة القصيرة «فضيحة في بوهيميا»، لإيه سي دويل
تضع الفوضى تحديات جديدة أمام التقدير الإحصائي، بيد أن هذه التحديات يجب النظر إليها في سياق التحديات التي كان ولا يزال الإحصائيون يتعاملون معها لقرون. عند تحليل سلسلة زمنية مستقاة من نماذجنا نفسها، ثمة الكثير مما يمكن استخلاصه وفهمه من الاستبصار الإحصائي والقواعد الأساسية في الممارسة الإحصائية السليمة. ولكن الفيزيائي لدينا يواجه مشكلة عند مقارنة النماذج الفوضوية مع ملاحظات العالم الواقعي لأنهما شديدتا الاختلاف، وهو ما يدخل دور الإحصائيات في سياق أقل شيوعا. أوضحت دراسة النظم الفوضوية مدى ما وصل إليه الوضع من غموض، حتى إنه ثمة خلاف حول طريقة حساب حالة حالية في أحد النظم في ضوء ملاحظات مشوشة، وهو ما يهدد بتوقفنا عن وضع توقع حتى قبل أن نبدأ. سيثمر إحراز تقدم في هذا المجال نتائج حول موضوعات على قدر كبير من الاختلاف والتباين يماثل قدرتنا على توقع طقس الغد وقدرتنا على التأثير على تغير المناخ خلال خمسين عاما من الآن.
إحصائيات الحدود وحدود الإحصائيات
خذ على سبيل المثال تقدير إحدى الإحصائيات، لنقل متوسط طول جميع البشر. ربما يكون ثمة بعض الخلاف حول تحديد مصطلح يشمل «جميع البشر» (أيكون عدد البشر الموجودين على قيد الحياة في 1 يناير 2000؟ أم البشر على قيد الحياة اليوم؟ أم كل البشر الذين كانوا ولا يزالون على قيد الحياة؟)، على أن هذا يجب ألا يشتت انتباهنا؛ إذ إنه في ظل توافر طول لكل فرد من أفراد المجموعة يكون لدينا قيمة محددة جيدا؛ كل ما في الأمر أننا لا نعرف قيمة هذا الطول. يطلق على متوسط الطول المأخوذ من عينة من البشر متوسط العينة. وسيتفق جميع الإحصائيين على هذه القيمة، حتى إذا كانوا لا يتفقون حول علاقة هذا الرقم بالمتوسط المنشود في المجموعة كاملة. (حسنا ، سيتفق كل الإحصائيين تقريبا على ذلك.) ولكن لا ينطبق الأمر نفسه على عينات آساس ليابونوف. لا يتضح إن كان يمكن تحديد عينات الآساس للفوضى بصورة فريدة بأي طريقة حساسة.
يعود هذا الأمر إلى أسباب عديدة؛ أولا: يتطلب حساب إحصائيات الفوضى، مثل الأبعاد الكسرية وآساس ليابونوف، وضع حدود للأطوال اللامتناهية الصغر خلال فترات طويلة لانهائيا. لا يمكن وضع هذه الحدود بناء على الملاحظات. ثانيا: قدمت دراسة الفوضى طرقا جديدة لوضع نماذج تعتمد على بيانات دون تحديد طريقة بناء النماذج على وجه الدقة. وحقيقة أن الإحصائيين المختلفين الذين تتوافر لديهم نفس البيانات قد يتوصلون إلى «إحصائيات معتمدة على عينة» مختلفة نوعا ما تجعل إحصائيات الفوضى مختلفة نسبيا عن متوسط العينة.
الفوضى تغير ما يعتبر «جيدا»
تتضمن نماذج كثيرة معلمات «حرة»؛ وهو ما يعني معلمات - على خلاف سرعة الضوء أو نقطة تجمد الماء - لا نعرفها على وجه الدقة. فما هي إذن أفضل قيمة نمنحها للمعلم في نموذجنا؟ وإذا كان الهدف من استخدام النموذج هو إجراء التوقعات، فلماذا نستخدم قيمة مستقاة من تجربة مختبرية أو من نظرية ما أساسية، إذا كان ثمة قيمة معلمات أخرى تقدم توقعات أفضل؟ بل لقد أجبرتنا نمذجة النظم الفوضوية على إعادة تقييم، بل إعادة تعريف، «الأفضل».
في النسخة البسيطة من سيناريو النموذج المثالي، يتضمن نموذجنا البنية الرياضية نفسها كما في النظام الذي تولدت عنه البيانات، لكننا لا نعرف قيم المعلمات الحقيقية. لنقل إننا نعرف أن البيانات جرى توليدها باستخدام الخريطة اللوجيستية، دون معرفة قيمة
α . في هذه الحالة، تتواجد القيمة «الأفضل» المحددة جيدا، ألا وهي قيمة المعلم التي تولدت عنها البيانات. في ظل نموذج مشوش مثالي لعدم اليقين في الملاحظة، كيف يمكننا استخلاص «أفضل» قيم المعلمات لاستخدامها غدا في ظل ملاحظات مشوشة من الماضي؟
إذا كان النموذج خطيا، إذن تشير قرون عديدة من التجربة والتنظير إلى أن أفضل المعلمات تتمثل في تلك التي تقترب توقعاتها من قيمها المستهدفة. يجب أن نحرص على ألا نبالغ في ضبط نموذجنا إذا كنا نرغب في تطبيقه على ملاحظات جديدة، على أي حال هذا موضوع يعرفه الإحصائي لدينا حق المعرفة. ما دام النموذج خطيا وكان تشويش الملاحظات نابعا من منحنى توزيع جرسي، إذن فسيصبح لدينا هدف جذاب بتقليص المسافة بين التوقع والهدف. تحدد المسافة وفق طريقة المربعات الصغرى المعتادة؛ أي بناء على إضافة مربعات الفروق في كل مركبة من الحالة. مع نمو مجموعة البيانات، ستقترب قيم المعلمات التي نحسبها أكثر فأكثر من تلك القيم التي أنتجت البيانات، وذلك بالافتراض بالطبع أن نموذجنا الخطي ولد البيانات حقيقة. فماذا إذا كان النموذج لا خطيا؟
في الحالة اللاخطية أثبتت خبرة مئات السنين من استخدام الحدس أنها سبب في الارتباط إن لم تكن عائقا، وربما أيضا توجهنا طريقة المربعات الصغرى بعيدا عن قيم المعلمات الصحيحة. يصعب استيعاب الأثر السلبي الذي يسببه العجز عن الاستجابة لهذه الحقيقة البسيطة على عملية النمذجة العلمية. كانت ثمة تحذيرات كثيرة من أن الأمور قد تئول مآلا خاطئا، بيد أنه في ظل غياب أي مصدر تهديد واضح ووشيك - وفي ظل سهولة استخدام هذه الطرق - أسيء تطبيق هذه الأساليب بصورة منتظمة في النظم اللاخطية. غير أن توقع الفوضى قد جعل هذا الخطر واضحا. هب أن لدينا ملاحظات مشوشة من الخريطة اللوجيستية تكون فيها قيمة
α
تساوي 4، حتى في ظل مجموعة بيانات لا نهائية، تسفر طريقة المربعات الصغرى عن قيمة
α
أصغر مما ينبغي. المسألة ليست مسألة بيانات أو قدرة حاسوبية أقل مما ينبغي؛ إذ تقدم الأساليب المستخدمة في النظم الخطية الإجابة الخاطئة عند تطبيقها في مسائل لا خطية. ببساطة لا يصمد عماد علم الإحصائيات عند تقدير قيمة معلمات النماذج اللاخطية، وهي حالة يفضي تجاهل التفاصيل الرياضية فيها وعقد الأمل على تحقيق الأفضل إلى كوارث عند التطبيق. يفترض التفسير الرياضي لاستخدام طريقة المربعات الصغرى وجود توزيعات جرسية الشكل لعدم اليقين في كل من الحالة الأولية وعند التوقعات. في النماذج الخطية، يفضي التوزيع الجرسي لعدم اليقين في الشرط المبدئي إلى توزيع جرسي لعدم اليقين في التوقعات، إلا أن الأمر نفسه لا ينطبق في النماذج اللاخطية.
هذا التأثير مهم بقدر ما هو مهمل. وحتى اليوم، نفتقد قاعدة متماسكة قابلة للتطبيق لوضع تقدير المعلمات في النماذج اللاخطية. كانت دراسة الفوضى هي ما جعلت هذه المسألة واضحة على نحو مؤلم. كان كيفن جاد قد دفع، وهو أستاذ رياضيات تطبيقية في جامعة غرب أستراليا، بأن طريقة المربعات الصغرى ليست وحدها، بل هناك أيضا طريقة تقدير الاحتمال الأرجح بالنظر إلى أن الملاحظات تعد أيضا دليلا لا يعول عليه كثيرا في النظم اللاخطية. لا ينطوي كل هذا على أن المشكلة غير قابلة للحل؛ فبإمكان شيطان القرن الحادي والعشرين حساب قيمة
α
بدقة بالغة، لكنه لن يستخدم طريقة المربعات الصغرى، بل سيعمل الشيطان باستخدام الظلال. تتزايد قدرة الإحصائيات الحديثة على الدخول في تحدي التقدير اللاخطي، على الأقل في الحالات التي تكون فيها البنية الرياضية في نماذجنا صحيحة.
تقدير الأبعاد
كان يرغب أحد الطلاب الشباب،
في حساب بعد شكل كسري.
بيد أن نقاط البيانات غير حرة،
وفي ظل وجود 42 بعدا،
اكتفى بإجراء معاينة بصرية.
نقلا عن جيمس ثيلر
ربما كان مارك توين سيحب الأشكال الكسرية، لكنه لا شك كان سيكره عمليات تقدير الأبعاد. في عام 1983، نشر بيتر جراسبيرجر وإتامار بركاتشيا ورقة بحثية عنوانها: «قياس الغرابة في عناصر الجذب الغريبة»، وهي ورقة يجري الاقتباس منها في الآلاف من الأوراق البحثية العلمية الأخرى. لا تتضمن غالبية الأوراق البحثية إلا عددا محدودا من الاقتباسات من الأوراق البحثية الأخرى، وسيصبح أمرا شائقا استخدام هذه الاقتباسات وبحث كيفية انتشار الأفكار المستقاة من دراسة الفوضى بين العلوم المعرفية، من الفيزياء والرياضيات التطبيقية ومرورا بكل مجال علمي.
تقدم الورقة البحثية إجراء بسيطا جذابا لتقدير عدد المركبات - من خلال سلسلة زمنية - التي تتطلبها حالة نموذج جيد لنظام فوضوي. جاء الإجراء متضمنا كثيرا من التحذيرات من العقبات، ولكن العديد من التطبيقات - إن لم يكن معظمها - على البيانات الحقيقية يكمن على الأرجح في واحدة أو أكثر من هذه الشراك. الحيوية الرياضية التي تتضمنها الأبعاد هي ما يجعل حسابها بمثابة جائزة. يمكنك اختيار شيء، ومطه، وطيه، وتكويره في صورة كرة، بل حتى تقطيعه إلى أجزاء متعددة ثم تجميع الأجزاء مرة أخرى معا بأي طريقة قديمة، ولكنك لن تغير من بعده؛ إنها المرونة التي تتطلب في الواقع مجموعات بيانات ضخمة لتحظى بفرصة في الحصول على نتائج ذات معنى. للأسف، أسفر الإجراء في الورقة البحثية عن نتائج إيجابية زائفة، وكان رائجا آنذاك القول بأن أبعاد الفوضى قليلة. إنه عبارة عن مزيج غير موفق. كان قد حفز الاهتمام بتحديد الديناميكيات ذات الأبعاد القليلة والفوضى نظرية رياضية كانت تشير إلى إمكانية توقع الفوضى دون حتى معرفة المعادلات.
نظرية تاكنس والتضمينية
شكل 8-1: رسم توضيحي يشير إلى أن نظرية تاكنس ربما تتصل بالبيانات المستقاة من دائرة ماشيتي الكهربائية التي صممت بعناية لتوليد سلاسل زمنية تشبه تلك السلاسل الزمنية في نظام مور-شبيجل. يحمل أسلوب إعادة البناء المتأخر لأحد القياسات في الشكل السفلي بعض الشبه بالتوزيع في الشكل العلوي، والذي يرسم مسار قيم ثلاثة قياسات مختلفة متزامنة. قارن هذين الشكلين بالشكل السفلي في شكل رقم
4-4 .
تغير شكل تحليل السلاسل الزمنية في ثمانينيات القرن العشرين بعد أن وجدت الأفكار المستقاة من الفيزيائيين في كاليفورنيا بقيادة باكارد وفارمر أساسا رياضيا تستند إليه على أيدي عالم الرياضيات الهولندي تاكنس. بناء على هذا الأساس، تسارع ظهور أساليب جديدة لإجراء تحليلات وتوقعات تعتمد على سلاسل زمنية. وتشير نظرية تاكنس إلى أننا إذا سجلنا ملاحظات لنظام حتمي يتطور في فضاء حالة له البعد
d ، إذن ففي ظل قيود غير محكمة على الإطلاق سيوجد نموذج ديناميكي مماثل تقريبا في الفضاء المتأخر الذي تعرفه «تقريبا كل» دالة قياس (منفردة). هب أن حالة النظام الأصلي تتضمن ثلاثة مركبات
a ، و
b ، و
c ، تذهب النظرية إلى إمكانية بناء نموذج للنظام كله استقاء من سلسلة زمنية من ملاحظات لأي من هذه المركبات الثلاثة ، وهو ما يوضحه شكل رقم
8-1
من خلال ملاحظات حقيقية؛ فإذا أخذنا قياسا واحدا، قياس
a
على سبيل المثال، ووضعنا متجها تتألف مركباته من قيم
a
في الحاضر وفي الماضي، فإن ذلك سينتج عنه فضاء حالة «التأخير - إعادة البناء»، يمكن العثور فيه على نموذج مكافئ للنظام الأصلي. عندما يفلح ذلك، يسمى ذلك «تضمين» تأخير. تكون القيود «تقريبا كلها» ضرورية لتفادي اختيار فترة زمنية سيئة على وجه الخصوص بين الملاحظات. بالمثل، إذا رصد الطقس وقت الظهيرة فقط، فإننا لن نعرف أي شيء على الإطلاق عما سيحدث ليلا.
تعيد نظرية تاكنس طرح مسألة التوقع من الاستقراء الخارجي في الزمن إلى الاستقراء الداخلي في فضاء الحالة. يقف الإحصائي التقليدي عند نهاية تيار البيانات، محاولا إجراء توقع نحو مستقبل غير معلوم، بينما تضع نظرية تاكنس الفيزيائي لدينا في فضاء حالة تضمين-متأخر محاولا الاستقراء داخليا من بين الملاحظات السابقة. تؤثر هذه الاستبصارات على ما هو أكثر من النماذج التي تعتمد على البيانات؛ إذ يمكن أيضا نمذجة نماذج المحاكاة المعقدة ذات الأبعاد المتعددة التي تتطور بناء على عنصر جذب قليل الأبعاد، من خلال نماذج ذات أبعاد أقل بكثير وتقوم على البيانات. من حيث المبدأ، يمكن دمج المعادلات في هذا الفضاء القليل الأبعاد أيضا، غير أنه من الناحية العملية نضع نماذجنا كنماذج محاكاة فيزيائية في فضاءات متعددة الأبعاد. يمكننا في بعض الأحيان إثبات ظهور الديناميكيات القليلة الأبعاد، بيد أننا لا نملك أي فكرة عن طريقة وضع معادلات في الفضاءات ذات الأبعاد القليلة ذات الصلة.
توضح المقارنة بين الشكل رقم
8-1
مع الشكل رقم
4-4
أن ملاحظات الدائرة الكهربائية «تشبه» عنصر جذب نظام مور-شبيجل، لكن كم تبلغ درجة هذا التشابه حقا؟ يختلف كل نظام فيزيائي عن الآخر. عادة، عندما لا تتوافر لدينا بيانات كثيرة ولا يكون فهمنا كبيرا، تقدم النماذج الإحصائية نقطة بداية قيمة في التوقع. مع تنامي معرفتنا، ومع جمع المزيد من البيانات، تظهر نماذج المحاكاة سلوكا «مشابها» لسلوك السلاسل الزمنية للملاحظات، ومع تزايد تعقيد النماذج يصبح هذا التشابه عادة كميا أكثر. في الحالات النادرة مثلما في حالة الدائرة هذه، عندما تتوافر فترة زمنية هائلة من الملاحظات، يبدو أن نماذجنا القائمة على البيانات - بما في ذلك تلك النماذج التي تشير إليها نظرية تاكنس - تعتبر عادة أفضل نماذج ملائمة من الناحية الكمية. يصبح الأمر كما لو أن نماذج المحاكاة تقوم بنمذجة دائرة ما مثالية، أو كوكب، بينما تعكس النماذج القائمة على البيانات أكثر الدائرة الموجودة على المائدة. في كل حالة، ثمة تشابه فقط، سواء كنا نستخدم النماذج الإحصائية، أو نماذج المحاكاة، أو نماذج إعادة البناء المتأخر، ويظل منطق توصيف النظام الفيزيائي بواسطة أي معادلات نموذجية غير واضح، وهو أمر يمكن رؤيته باستمرار في النظم الفيزيائية التي تكون أفضل نماذجنا لها فوضوية. نرغب في جعل هذه النظم ملائمة من الناحية التجريبية، بيد أننا لا نعرف يقينا كيف نحسنها، وفي ظل نظم مثل مناخ الأرض، لا نستطيع أن ننتظر استغراق فترة الملاحظة اللازمة. تشير دراسة الفوضى إلى مزج بين أساليب النمذجة الثلاثة هذه، لكن لم تتحقق أي نتيجة بعد بالاعتماد على ذلك.
ثمة أمثلة متعددة على سوء فهم نظرية تاكنس، وأحد هذه الأمثلة هو أنك في حال توافر لديك عدد من الملاحظات المتزامنة «يجب» استخدام واحدة منها فقط، بينما تسمح نظرية تاكنس باستخدام جميع الملاحظات! مثال ثان على سوء الفهم يتمثل في نسيان أن نظرية تاكنس تدلنا فقط على أنه في حال كان لدينا نموذج حتمي قليل الأبعاد، سيجري حفظ الكثير من خواص النموذج في نموذج إعادة بناء-متأخر. يجب أن نأخذ في الاعتبار ألا نفترض العكس، ونفترض أن رصد بعض الخواص في نموذج إعادة بناء-متأخر يشير ضمنا بالضرورة إلى وجود فوضى؛ إذ إننا نادرا ما نعرف البنية الرياضية الحقيقية للنظام الذي نرصده (إذا ما عرفناها على الإطلاق).
تخبرنا نظرية تاكنس أن «تقريبا كل» قياس سيفلح، وهي حالة تتقابل فيها «تقريبا كل» في فضاء دالة الرياضي لدينا مع «ولا واحد من» في المختبرات في العالم الواقعي. يتعارض التقطع الذي يحدث على عدد محدود من وحدات البيانات مع أحد افتراضات النظرية. ثمة أيضا مسألة تشويش الملاحظات في قياساتنا. إلى حد ما، ليس ذلك سوى نوع من الشكاوى الفنية، وربما يبقى نموذج إعادة البناء المتأخر موجودا، ويستطيع الإحصائي والفيزيائي لدينا مواجهة تحدي وضع نموذج تقريبي في ظل وجود قيود واقعية على تدفقات البيانات. ثمة مشكلة أخرى أصعب في تجاوزها؛ ألا وهي أن فترة ملاحظاتنا يجب أن تتجاوز زمن التكرار النموذجي. ربما لا تكون الفترة الزمنية المطلوبة أطول فحسب من الفترة الزمنية التي تغطي مجموعة البيانات الحالية، بل ربما تكون أطول من العمر الزمني للنظام نفسه. وهو ما يعتبر قيدا أساسيا ينطوي على تداعيات فلسفية. كم سيمضي من الوقت قبل أن نتوقع رصد يومين تتشابه حالة الطقس فيهما على نحو يجعلنا غير قادرين على التمييز بينهما؟ بعبارة أخرى، يومان كان الفرق بين الحالتين المتناظرتين لمناخ الأرض يقع في نطاق عدم اليقين في الملاحظات؟ حوالي 1030 عاما. لا يكاد يعتبر هذا قيدا فنيا؛ ففي هذا المقياس الزمني ستتضخم الشمس إلى كيان أحمر عملاق وتبخر الأرض، وربما يكون الكون قد تدمر في عملية الانسحاق الشديد. سندع الفيلسوف لدينا يتأمل تداعيات نظرية تتطلب أن تتجاوز فترة الملاحظات العمر الزمني للنظام.
في النظم الأخرى، مثل سلسلة ألعاب الروليت، ربما يكون الوقت الفاصل بين ملاحظات الحالات المشابهة أقل كثيرا. وببطء يجري إحلال محاولات بناء نماذج مستقاة من تدفقات البيانات محل البحث عن أبعاد مستقاة من تدفقات البيانات تدريجيا. كان من المتوقع أن الأمر يتطلب دوما بيانات أقل لبناء نموذج جيد أكثر مما يتطلبه الحصول على تقدير دقيق للأبعاد، وهو ما يعتبر إشارة أخرى إلى أنه من الأفضل كثيرا تركيز الانتباه إلى الديناميكيات أكثر من الإحصاءات التقديرية. على أي حال، دفعت الحماسة الناتجة عن بناء هذه النماذج الجديدة القائمة على البيانات الكثير من الفيزيائيين للدخول إلى ما كان إلى حد كبير مقصورا على مجال عمل الإحصائيين. بعد مرور ربع قرن، كان أحد آثار نظرية تاكنس الكبرى هو دمج أسلوب الإحصائيين في نمذجة النظم الديناميكية مع أسلوب الفيزيائيين، ولا تزال الأساليب تتطور، وربما سيظهر أسلوب مركب حقيقي يجمع بين الأسلوبين.
البيانات البديلة
أثارت صعوبة التعامل مع التقديرات الإحصائية في النظم اللاخطية موجة من الاختبارات الإحصائية الجديدة المهمة باستخدام «بيانات بديلة». يستخدم العلماء البيانات البديلة في محاولة منهجية لتقويض نظرياتهم المفضلة وإبطال نتائجهم الأثيرة، بينما لا يؤدي كل اختبار يفشل في دحض إحدى النتائج إلى ترسيخها، تعتبر معرفة أوجه القصور في إحدى النتائج أمرا جيدا دوما.
تهدف اختبارات البيانات البديلة إلى توليد سلاسل زمنية تشبه بيانات الملاحظات، لكنها تستقى من نظام ديناميكي معروف، ومناط الأمر هنا هو أن هذا النظام معروف بأنه ليس لديه الخاصية المأمول اكتشافها؛ فهل نستطيع التخلص من النتائج التي تبدو واعدة لكنها ليست كذلك في حقيقة الأمر (تسمى نتائج إيجابية زائفة) من خلال تطبيق التحليل نفسه على بيانات الملاحظات، ثم على مجموعات البيانات البديلة الكثيرة؟ نعرف من البداية أن البيانات البديلة قد لا تسفر إلا عن نتائج إيجابية زائفة؛ لذا إذا لم يسهل تمييز مجموعة بيانات الملاحظات عن البيانات البديلة، إذن فسينطوي التحليل على بعض التداعيات العملية. ماذا يعني هذا عمليا؟ حسنا، هب أننا نأمل في «تحديد نمط فوضوي»، ثم اتضح أن أس ليابونوف التقديري كان يساوي 0,5، هل هذه القيمة أكبر كثيرا من الصفر؟ إذا كانت كذلك، فسيتوافر لدينا إذن دليل على أحد اشتراطات الفوضى.
بالطبع، 0,5 أكبر من صفر. السؤال الذي نرغب في الإجابة عنه هو: هل التذبذبات العشوائية في قيم أس تقديري ستميل على الأرجح إلى أن تبلغ قيمة كبيرة مثل 0,5 في نظام: (أ) ولد سلاسل زمانية متشابهة في شكلها، و(ب) لم تكن قيمة أس ليابونوف الحقيقية الخاصة به أكبر من صفر؟ نستطيع أن نولد سلسلة زمنية بديلة، ونقدر قيمة الأس استقاء من هذه السلسلة البديلة. في حقيقة الأمر، يمكننا توليد 1000 سلسلة زمنية بديلة مختلفة، فنحصل على 1000 قيمة أسية مختلفة. ربما نطمئن حينئذ إلى نتيجتنا إذا كانت معظم القيم الألف المستقاة من السلاسل البديلة أقل كثيرا من قيمة 0,5، لكن إذا كان تحليل البيانات البديلة يفضي عادة إلى قيم آساس أكبر من 0,5، إذن فسيصعب الادعاء بأن تحليل البيانات الحقيقية يقدم برهانا على أن قيمة أس ليابونوف أكبر من صفر.
الإحصاء التطبيقي
يمكننا في وقت الضرورة أن نستخدم الأشياء في غير موضعها. قد تقدم الأدوات الإحصائية المصممة لتحليل النظم الفوضوية طريقة جديدة ومفيدة لدراسة الملاحظات المستقاة من نظم غير فوضوية؛ ففقط لأن البيانات لا تستقى من نظام فوضوي لا يعني أن تحليلا إحصائيا مثل ذلك لا يتضمن معلومات قيمة. ربما يندرج تحليل الكثير من السلاسل الزمنية، خاصة في العلوم الطبية والبيئية والاجتماعية، تحت هذا التصنيف وقد يقدم معلومات مفيدة؛ معلومات لا تتوافر من خلال التحليل الإحصائي التقليدي. تحول الممارسة الإحصائية السليمة دون فقدان معالم الطريق من جراء التفكير غير الواقعي الذي يأمل في نتائج معينة، ويمكن أن يثبت الاستبصار الناتج قيمته عند التطبيق، بصرف النظر عما إذا كان هذا الاستبصار يرسخ الخصائص الفوضوية في تدفقات البيانات أم لا.
استيعاب البيانات هو المصطلح الذي يشير إلى عملية تحويل مجموعة من الملاحظات المشوشة إلى مجموعة من حالات النموذج الأولية. في إطار سيناريو النموذج المثالي، ثمة حالة حقيقية يمكن حساب قيمتها التقريبية، وفي ظل نموذج التشويش ثمة مجموعة مثالية - على الرغم من توافرها فقط لشيطان القرن الحادي والعشرين - نستطيع أن نحسب قيمتها التقريبية، ولكن في جميع مهام التوقع الحقيقية، نحاول أن نتوقع النظم الطبيعية الحقيقية باستخدام نظم رياضية أو نماذج محاكاة حاسوبية. لا يمكن أبدا إثبات صحة نظرية النموذج المثالي، ودائما ما تكون خاطئة. فما الغاية من وراء استيعاب البيانات في هذه الحالة؟ في هذه الحالة، لا يقتصر الأمر على الحصول على «الرقم الخاطئ» عند تقدير حالة نموذجنا الذي يماثل الواقع، بل في عدم وجود «رقم صحيح» يجب تحديده. يبدو أن عدم ملاءمة النماذج يتجاوز بالتوقعات الاحتمالية ما وراء تصوراتنا. تؤدي محاولات توقع النظم الفوضوية باستخدام نماذج غير كاملة إلى طرق جديدة في استكشاف كيفية استغلال تنوع السلوكيات التي تبديها نماذجنا غير الكاملة . يتطلب تحقيق تقدم ألا نميع التفرقة بين نماذجنا الرياضية، ونماذج المحاكاة الحاسوبية والعالم الواقعي الذي يقدم إلينا الملاحظات الواقعية. ننتقل في الفصل التالي إلى التوقع.
الفصل التاسع
القابلية للتوقع: هل تقيد الفوضى توقعاتنا؟
في مناسبتين سئلت من قبل أعضاء في البرلمان: «عذرا، يا سيد بابيدج، إذا زودت الماكينة بأرقام خاطئة، فهل ستخرج النتائج الصحيحة؟» لا أستطيع عن حق أن أستوعب نوع الخلط في الأفكار الذي قد يثير سؤالا مثل ذلك.
تشارلز بابيدج
دائما ما نزود ماكيناتنا بالأرقام الخاطئة، وقد أعادت دراسة الفوضى تسليط الاهتمام على تحديد إن كانت هناك أي «أرقام صحيحة» من عدمه. يسمح لنا التوقع ببحث العلاقة بين نماذجنا والعالم الواقعي بطريقتين مختلفتين إلى حد ما. قد نختبر قدرة نموذجنا على توقع سلوك النظام على المدى القصير، مثلما في عملية توقع حالة الطقس. في المقابل، ربما نستخدم نماذجنا عند تحديد كيفية تغيير النظام نفسه، وهنا نحاول تغيير المستقبل نفسه في اتجاه سلوك مرغوب، أو غير مرغوب بدرجة أقل، مثلما يحدث عندما نستخدم النماذج المناخية لانتهاج سياسة محددة.
لا تشكل الفوضى أي مشكلات في التوقع بالنسبة إلى شيطان لابلاس. في ظل شروط مبدئية محددة، ونموذج مثالي وقدرة على إجراء حسابات دقيقة، سيستطيع شيطان لابلاس تتبع سلوك نظام فوضوي في المستقبل بدقة مثلما يحدث في حالة أي نظام دوري. يمتلك شيطان القرن الحادي والعشرين نموذجا مثاليا، ويستطيع إجراء عمليات حسابية دقيقة، لكنه مقيد بملاحظات غير يقينية، حتى إذا كانت هذه الملاحظات تمتد على فترات منتظمة إلى الماضي اللانهائي. مثلما يتضح، لا يستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين استخدام هذه الملاحظات السابقة في تحديد الحالة الحالية، غير أنه يستطيع في المقابل الاطلاع على تمثيل كامل لعدم اليقين في الحالة في ظل الملاحظات التي أجريت، وهو ما قد يطلق عليه البعض التوزيع الاحتمالي الموضوعي للحالة، على أنه لا حاجة لنا للخوض في ذلك. تنطوي هذه الحقائق على مجموعة من التداعيات، منها أنه حتى في ظل نموذج مثالي لنظام حتمي، لا يستطيع شيطان لابلاس أن يفعل ما هو أكثر من وضع توقعات احتمالية، ولا يمكن أن نتطلع إلى ما هو أفضل، وهو ما ينطوي على وجوب تبنينا تقييما احتماليا لنماذجنا الحتمية. لكن كل هذه الشياطين توجد في إطار سيناريو النموذج المثالي، ويجب أن نتخلى عن الخيالات الرياضية بوجود نماذج مثالية وأرقام غير نسبية، إذا ما أردنا أن نقدم توقعات صادقة للعالم الحقيقي. إذا ما عجزنا عن الإثبات بوضوح أننا تخلينا عن هذه الخيالات، فسيصبح الأمر بمثابة الترويج لدواء وهمي.
توقع الفوضى
ولن تصدق هذه الشياطين المخادعة بعد الآن،
التي تراوغنا بمعان مزدوجة،
وتظل تردد عبارات واعدة على مسامعنا،
ثم لا تلبث أن تنكث وعدها عندما نعقد آمالنا عليها.
مسرحية «ماكبث» (الفصل الخامس)
كان ولا يزال من يغامرون بإجراء توقعات محل نقد حتى عندما تثبت دقة توقعاتهم، من الناحية العملية. تركز مسرحية «ماكبث» لشكسبير على التوقعات التي رغم كونها دقيقة من الناحية الفنية، فإنها لا تقدم دعما فعالا في عملية اتخاذ القرار. عندما يواجه ماكبث الساحرات سائلا إياهن عما يفعلنه، يجبن قائلات: «عملا بلا اسم». بعدها ببضع مئات من السنوات، استحدث الكابتن فيتزروي مصطلح «توقع». ثمة احتمال دوما أن يكون أي توقع متوافقا داخليا من وجهة نظر واضعي النموذج، بينما هو في الواقع يضلل توقعات مستخدميه باستمرار، وهنا تكمن جذور شكوى ماكبث من الساحرات في أنهن يقدمن أخبارا سارة بصورة متكررة حول ما يبدو طريقا إلى مستقبل مزدهر. يبرهن كل توقع على دقة لا غبار عليها، لكن لا يسفر أي منها عن ازدهار كبير. فهل يستطيع واضعو التوقعات في العصر الحديث - ممن يفسرون عدم اليقين في نماذجهم الرياضية، كما لو كانت تعكس احتمالات العالم الواقعي للأحداث المستقبلية - تفادي تهمة التحدث ب «لغة مزدوجة»؟ هل هم مدانون باتهام ماكبث لهم بأنهم يصوغون توقعاتهم الاحتمالية، مع معرفتهم معرفة كاملة بأننا سنتقبل حجة الفوضى لصرف انتباهنا عن أشياء أخرى مختلفة تماما تحدث؟
من الدقة إلى الموثوقية
لا يمكننا أن نلوم واضعي التوقعات لعجزهم عن تقديم صورة واضحة عن الموضع الذي سينتهي بنا المآل إليه إذا لم نستطع تقديم صورة واضحة لهم عن موضعنا الحالي. غير أنه يمكننا في المقابل توقع أن تدلنا نماذجنا على مدى الدقة التي يجب أن نعرف بها الشرط المبدئي، بغرض ضمان أن تظل أخطاء التوقع تحت مستوى ما هو مستهدف. نأمل ألا يرتبط السؤال حول كوننا نستطيع أو لا نستطيع خفض التشويش حتى ذلك المستوى بقدرة نموذجنا على إجراء توقع في ظل حالة أولية دقيقة بما يكفي.
في الوضع المثالي، أي نموذج يمكن أن يظلل، وستكون ثمة حالة أولية نستطيع أن نكررها بحيث تظل السلسلة الزمنية الناتجة قريبة من السلسلة الزمنية للملاحظات. علينا أن ننتظر إلى ما بعد الحصول على الملاحظات لنرى إن كان ثمة ظلال أم لا، ويجب تحديد معنى كلمة «قريبة» من خلال خواص تشويش الملاحظات. لكن في حال «عدم» وجود حالة أولية ظللت، إذن يعتبر النموذج غير ملائم بصورة أساسية. في المقابل، إذا كان ثمة مسار ظلال واحد فسيكون ثمة مسارات كثيرة، ويمكن اعتبار مجموعة الحالات الحالية التي ظللت حالاتها السابقة حتى الآن غير قابلة للتمييز بينها. إذا كانت الحالة الحقيقية موجودة، لا يمكن أن نحددها، ولا يمكن أن نعرف أي منها سيستمر في الظلال عند تكرار الخارطة في اتجاه قيم آتية لإجراء توقع، لكننا قد نشعر ببعض السلوى من معرفة أن أوقات الظلال النموذجية للتوقعات قد بدأت انطلاقا من واحدة من هذه الحالات غير القابلة للتمييز بينها.
يسهل كثيرا إدراك أننا نتجه نحو توقعات مجمعة تعتمد على مجموعة توقعات أخرى مرشحة ظلت الأرصاد حتى الحاضر. بإدراك أنه حتى أي نموذج مثالي لا يمكن أن يفضي إلى توقع مثالي في ظل شرط مبدئي غير مثالي، في ستينيات القرن العشرين، وضع الفيلسوف كارل بوبر تعريفا ل «النموذج الموثوق به» باعتباره النموذج الذي يستطيع وضع حد حول قدر عدم اليقين الأولي المطلوب بغرض ضمان وضع حد مرغوب ومحدد لأخطاء التوقع. يعتبر تحديد حد لعدم اليقين الأولي هذا أكثر صعوبة إلى حد كبير في حالة النظم اللاخطية عن النظم الخطية، بيد أننا يمكننا تعميم فكرة الموثوقية واستخدامها في تقييم ما إذا كانت توقعاتنا المجمعة تعكس على نحو معقول توزيعات الاحتمالات. ستتضمن توقعاتنا المجمعة على الدوام عددا محدودا من التوقعات؛ لذا فإن أي توقع احتمالي نبنيه سيتأثر سلبا من جراء هذه المحدودية. إذا كان لدينا 1000 توقع، إذن فربما نأمل في أن تكون معظم الأحداث ذات احتمال حدوث بنسبة 1٪، ولكننا نعلم احتمال أن يفوتنا توقع الأحداث التي يبلغ احتمال حدوثها 0,001٪. يوصف نظام التوقع المجمع بأنه «موثوق به» إذا كان يشير إلى أي مدى يجب أن يكون حجم المجموعة؛ بحيث يشمل أحداثا ذات احتمال حدوث بنسبة محددة. يجب تقييم الموثوقية إحصائيا عبر عدة توقعات، وهو شيء يعرف الإحصائيون لدينا كيف يقومون به على أكمل وجه.
يستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين إجراء توقعات موثوق بها. لن يعرف الشيطان المستقبل، بيد أن المستقبل لن يحمل له أي مفاجآت، فلن تكون ثمة أحداث غير متوقعة، وستقع أحداث غير معتادة بمعدلاتها المتوقعة.
عدم ملاءمة النموذج
في ظل النموذج المثالي، يستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين حساب الاحتمالات المفيدة في حد ذاتها؛ فلماذا لا نستطيع نحن ذلك؟ هناك إحصائيون يرون أننا نستطيع ذلك، ربما منهم أحد مراجعي هذا الكتاب، الذي يمثل أحد عناصر مجموعة أوسع من الإحصائيين الذين يطلقون على أنفسهم البايزيين. يصر معظم البايزيين بصورة مقنعة للغاية على استخدام مفاهيم الاحتمالات على نحو صحيح، غير أن ثمة مجموعة صغيرة لكنها ذات صوت مسموع بينهم تخلط بين التباين الملاحظ في نماذجنا وعدم اليقين في العالم الواقعي. مثلما أن من الخطأ استخدام مفاهيم الاحتمالات على نحو غير صحيح، من الخطأ أيضا تطبيق هذه المفاهيم حيث لا ينبغي أن تطبق. لنضرب مثلا مستقى من لوحة جالتون.
عد إلى الشكل رقم
1-2 . يمكن شراء مجسمات حديثة للصورة إلى اليسار من على الإنترنت، ما عليك إلا البحث عن «كوينكانكس» عبر جوجل، غير أن المجسم المماثل للصورة إلى اليمين يصعب الحصول عليه أكثر، لدرجة أن الإحصائيين المحدثين تساءلوا عما إن كان جالتون قد بنى بالفعل هذه الماكينة أم لا. وعلى الرغم من أن جالتون يصف تجارب باستخدام تلك الماكينة، فإن هذه التجارب يطلق عليها «تجارب فكرية»؛ إذ إنه حتى الجهود الحديثة لبناء جهاز لإعادة إنتاج النتائج النظرية المتوقعة وجدت أن «من الصعوبة البالغة صنع جهاز ينجز المهمة بطريقة مرضية.» من الأمور الشائعة بالنسبة إلى المنظر إلقاء اللائمة على الجهاز عندما تفشل أي تجربة في إصدار نتائج تطابق النتائج في نظريته. هل من الممكن أن يرجع هذا إلى أن النماذج الرياضية مختلفة عن النظم الطبيعية التي تهدف إلى توضيحها؟ لتوضيح الفروق بين نماذجنا والواقع، سنعمل مع لوحة شبيهة بلوحة جالتون والتي تظهر في الشكل رقم
9-1 .
اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون: مثال على الجلبة
اللوحة الموضحة في الشكل رقم
9-1
هي لوحة جرى إنشاؤها في الأصل من أجل أحد الاجتماعات للاحتفال بمرور مائة وخمسين عاما على تأسيس جمعية الأرصاد الجوية الملكية، التي كان جالتون عضوا بها. كانت هذه اللوحة تتضمن مجموعة من المسامير تم توزيعها بطريقة تذكر بطريقة توزيع المسامير في لوحة جالتون، بيد أن المسامير موزعة بصورة متباعدة أكثر، ولم يجر دقها جيدا. لاحظ الدبوس الأبيض الصغير أعلى اللوحة، إلى يسار منتصف اللوحة تماما؛ فبدلا من استخدام دلو من كرات الرصاص، تستخدم كرات جولف في كرة واحدة تلو الأخرى، تبدأ كل منها رحلتها من الموضع نفسه تماما، أو على نحو مطابق تماما لوضع كرة جولف تحت الدبوس الأبيض يدويا. تصدر كرات الجولف صوتا محببا، لكنها لا تتخذ قيما ثنائية عند كل مسمار بل تتحرك، في حقيقة الأمر، أحيانا مارة أفقيا بعدة مسامير قبل أن تنتقل إلى المستوى التالي. مثل لوحة جالتون ولعبة الروليت، لا تعتبر ديناميكيات هذه اللوحة متكررة. تعتبر ديناميكيات كل كرة عابرة؛ ومن ثم لا تعبر هذه النظم عن فوضى. اقترح شبيجل تسمية هذا السلوك ب «الجلبة». وعلى عكس لوحة جالتون، لا يعكس توزيع كرات الجولف أسفل هذه اللوحة التوزيع الجرسي؛ غير أنه يمكننا استخدام مجموعة من كرات الجولف للحصول على تقدير احتمالي مفيد حول الموضع المحتمل لكرة الجولف (الشكل رقم
9-1 ).
شكل 9-1: لوحة شبيهة بلوحة جالتون، وهي التي جرى عرضها للمرة الأولى في كلية سانت جون بجامعة كامبريدج ، للاحتفال بمرور مائة وخمسين عاما على تأسيس جمعية الأرصاد الجوية الملكية. لاحظ أن كرة الجولف التي تجتاز الرحلة عبر اللوحة لا تتخذ خيارات ثنائية بسيطة.
لكن الحقيقة ليست كرة جولف. الحقيقة كرة مطاطية حمراء، وهي لا تسقط إلا مرة واحدة. لن يسمح شيطان لابلاس بأي مناقشة لأي شيء آخر مما يمكن أن يكون قد حدث، لم يكن أي شيء آخر سيحدث. يتمثل القياس في هذه الحالة في اعتبار الكرة المطاطية الحمراء هي مناخ الأرض، وكرات الجولف باعتبارها التوقعات الفردية في التوقع المجمع لنموذجنا. يمكننا وضع توقعات كيفما شئنا، لكن بم يخبرنا توزيع كرات الجولف عن مرور كرة مطاطية حمراء مرة واحدة؟ هل يدلنا تنوع الأنماط السلوكية التي نرصدها بين كرات الجولف على أي شيء مفيد؟ إذا كان ذلك يدلنا على شيء، تضع الأنماط السلوكية المتنوعة حدا أدنى لعدم يقيننا نعرف أننا وراءه لا يمكن أن نكون متيقنين، لكن الأنماط السلوكية المتنوعة لا يمكنها وضع حد يمكننا الشعور باليقين تماما في داخله، حتى في إطار التصور الاحتمالي. من باب القياس الأقرب، ربما يصبح بحث تنوع نماذجنا مفيدا جدا، حتى إذا لم يكن ثمة توقع احتمالي في الأفق.
الكرة الحمراء تشبه كرة الجولف كثيرا. تمتلك الكرة الحمراء قطرا أكبر قليلا من قطر كرة الجولف لكنه مساو تقريبا له، كما أنها تتميز إلى حد ما بمرونة مشابهة. ولكن الكرة الحمراء التي تمثل الواقع تستطيع القيام بأشياء لا تستطيعها كرة الجولف، بعضها أشياء غير متوقعة، وبعضها أشياء متوقعة، بعضها يرتبط بالتوقعات، وبعضها غير ذلك، بعضها معروف، وبعضها غير معروف. في اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون، تعتبر كرة الجولف نموذجا جيدا للواقع، نموذجا مفيدا للواقع، ولكنه نموذج غير مثالي للواقع. كيف يمكن لنا تفسير توزيع كرات الجولف هذا؟ لا يعرف أحد وسيلة لذلك. نستطيع دوما تفسير توزيع كرات الجولف باعتباره يمثل توقعا احتماليا يتوقف على الافتراض القائل بأن الواقع هو كرة جولف. ألا يعد ازدواجية تقديم التوقعات الاحتمالية التي كان المرء يعرف بتوقيفها بناء على نموذج غير مثالي، كما لو كانت تعكس احتمالية وقوع أحداث مستقبلية، بصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة تحت هذا التوقع؟
لا تقتصر توقعاتنا المجمعة على استخدام كرات الجولف فقط، بل ربما نستخدم كرات مطاطية خضراء ذات قطر أصغر قليلا ونكرر التجربة؛ فإذا حصلنا على توزيع كرات خضراء مشابه لتوزيع كرات الجولف، فربما نتشجع - أو أفضل من ذلك، نأمل في - ألا تلعب جوانب عدم الملاءمة في نماذجنا هذا الدور الكبير في التوقع محل اهتمامنا. في المقابل، ربما يشترك النموذجان في بعض أوجه القصور المنهجية التي لا نعي بوجودها بعد. لكن ماذا لو كانت توزيعات كرات الجولف والكرات الخضراء في غاية الاختلاف؟ إذن لا يمكننا الاعتماد منطقيا على أي منهما. كيف يمكن أن يسمح لنا قياس تنوع نماذجنا في ظل المجموعات المتعددة النماذج هذه التي تسمح لنا ببناء توقع احتمالي للمسار الوحيد للواقع؟ عندما ننظر إلى توقعات حالات الطقس الموسمية، باستخدام أفضل النماذج في العالم، يميل التوزيع المستقى من كل نموذج إلى التقارب، كل بطريقة مختلفة. كيف يمكننا تقديم دعم في عملية اتخاذ القرار في هذه الحالة، أو تقديم توقع؟ ماذا يجب أن يكون هدفنا؟ في حقيقة الأمر، كيف يمكن أن نستهدف تنفيذ أي غاية في ظل نماذج غير ملائمة من الناحية التجريبية؟ إذا فسرنا على نحو ساذج تنوع مجموعة نماذجنا باعتبارها احتمالا، فسنضلل بصورة متكررة. نعرف من البداية أن نماذجنا غير مثالية؛ لذا لن يكون أي نقاش حول «الاحتمالات الذاتية» سوى مجرد تشتيت؛ فنحن لا نصدق أيا من نماذجنا في المقام الأول!
المحصلة النهائية واضحة نوعا ما. إذا كانت نماذجنا مثالية وكان لدينا موارد مثلما لدى شيطان لابلاس، كنا سنعرف المستقبل. بينما إذا كانت نماذجنا مثالية وكانت تتوافر لدينا موارد شيطان القرن الحادي والعشرين، إذن فستقيدنا الفوضى في إطار توقعات احتمالية، حتى إذا كنا نعرف أن قوانين الطبيعة حتمية. في حال ما إذا كانت القوانين الحقيقية للطبيعة تصادفية، يمكننا تصور شيطان إحصائي، يقدم مرة أخرى توقعات احتمالية موثوق بها في وجود أو غياب معرفة دقيقة بالحالة الحالية للكون. لكن هل يعتبر الاعتقاد في وجود قوانين للطبيعة دقيقة رياضيا - سواء كانت حتمية أو تصادفية - مجرد تفكير تواق لا يختلف كثيرا عن الأمل في مصادفة أي من الشياطين المتعددة التي تقدم توقعات بشكل منعزل؟
على أي حال، يبدو أننا لا نعرف حاليا المعادلات ذات الصلة بالنظم الطبيعية البسيطة، أو بالنظم المعقدة. تشير دراسة الفوضى إلى أن الصعوبة لا تكمن في عدم اليقين في العدد الذي «يتم إدخاله»، بل في غياب نموذج ملائم من الناحية التجريبية يتم إدخال أي شيء فيه. ربما يمكن التعامل مع الفوضى، لكن عدم ملاءمة النموذج، لا الفوضى، هو الذي يحد من قدرتنا على التوقع. ربما يكون النموذج المستخدم هو الأفضل في العالم لا مراء، بيد أن هذا لا يشير بأي حال من الأحوال إلى كونه مناسبا من الناحية التجريبية أم لا، بل لا يوضح إن كان مفيدا، أو حتى آمنا، عند الاستخدام العملي أم لا. من الناحية الفنية، ربما يكون كلام واضعي التوقعات الذين يعبرون عن تكهنات يتوقعون قصورها على نحو جوهري بما فيها من عبارات خادعة مثل «هب أن النموذج مثالي» أو «أفضل المعلومات المتوافرة»؛ حقيقيا، لكن إذا لم تستطع تلك النماذج تكهن الماضي، إذن فربما لا يتضح معنى عبارة «عدم اليقين في الحالة الأولية». إن هؤلاء الأشخاص الذين يلقون باللائمة على الفوضى وكونها سببا لأوجه القصور في التوقعات الاحتمالية التي وضعوها تحت فرضية أن نماذجهم كانت مثالية - وهي نماذج كانوا يعرفون عدم ملاءمتها - يكذبون علينا مستخدمين عبارات تحمل معاني مزدوجة.
الفصل العاشر
الفوضى التطبيقية: هل يمكن فهم أي شيء من خلال نماذجنا؟
جميع الفرضيات صحيحة،
جميع النماذج خاطئة،
جميع البيانات غير دقيقة؛
فماذا نفعل؟
يقلل العلماء في كثير من الأحيان من الفضل الذي يدينون به تجاه واضعي التوقعات الآنية الذين يصمدون ، يوما بعد يوم، ويقدمون رؤيتهم للمستقبل. من بين أبرز هؤلاء واضعو توقعات حالة الطقس والاقتصاديون، بينما يخاطر المقامرون المحترفون بأكثر من تدمير صورتهم عند مقامرتهم. وهي الحال نفسها مع متداولي العقود الآجلة. أثارت دراسة الفوضى عملية إعادة التفكير في النمذجة وبينت القيود حول ما يمكن أن نراه ونفهمه من خلال نماذجنا. بالطبع، تختلف التداعيات بالنسبة إلى النظم الرياضية حيث نعرف هدفا نرمي إليه، والنظم الطبيعية التي ربما لا يتواجد فيها ما نرمي إليه.
النمذجة من الألف إلى الياء: النماذج القائمة على البيانات
سنعرض أربعة أنواع من النماذج القائمة على البيانات. تتمثل النماذج الأبسط في «النماذج الاستمرارية» التي تفترض بقاء الأشياء على حالتها الراهنة. ثمة شكل مختلف ديناميكي بسيط من تلك النماذج يتمثل في نماذج «حركة الهواء الأفقية»، وهي نماذج تفترض استمرار السرعات؛ في هذه الحالة سيجري توقع أن عاصفة تتحرك ناحية الشرق تستمر في الاتجاه شرقا بالسرعة نفسها. استخدم فيتزروي ولوفيريه هذا الأسلوب في أوائل القرن التاسع عشر، مستغلين الإشارات البرقية التي تستطيع استباق عاصفة قادمة. يتمثل النوع الثالث في «النماذج التناظرية». ينهي لورنز ورقته البحثية الكلاسيكية المنشورة في عام 1963 بالعبارة التالية: «في حالة الطقس الحقيقية، إذا عجزت جميع الأساليب الأخرى، يمكن أن ننتظر حالة تناظر.» يتطلب النموذج التناظري مجموعة كاملة من الملاحظات السابقة حيث يتم من خلالها تحديد حالة سابقة تشبه الحالة الحالية؛ يقدم التطور المعروف لحالة التناظر التاريخية هذه عملية التوقع. تعتمد جودة هذا الأسلوب على مدى جودة رصد الحالة الحالية، وعلى معرفة إن كانت مجموعة الحالات المتوافرة تتضمن حالات تناظر على قدر من الجودة الكافية أم لا. عند إجراء توقع لأحد النظم المتكررة، تعد عملية الحصول على حالة تناظر جيدة مجرد مسألة ما إذا كانت مجموعة الحالات كبيرة بما يكفي في ظل أهدافنا الموضوعة ومستوى التشويش. عمليا، ربما يتطلب بناء مجموعة من الحالات أكثر من مجرد الانتظار؛ كيف يمكن أن نحرز تقدما إذا كان الزمن المتوقع اللازم لرصد حدوث تكرار أطول من العمر الزمني للنظام نفسه؟
شكل 10-1: رسم تخطيطي يوضح كيفية تفسير حالات التناظر بغرض وضع توقع في فضاء حالة قائم على البيانات. بمعرفة موضع صورة كل نقطة قريبة، يمكن إجراء استقراء داخلي لوضع توقع للنقطة التي تميزها العلامة ⋆ .
استخدمت الإحصاءات التقليدية على مدى زمن طويل هذه الأساليب الثلاثة في إطار سياق إجراء توقعات تعتمد على الإحصاءات التاريخية. تشير نظرية تاكنس إلى أنه بالنسبة إلى النظم الفوضوية يمكننا أن نبلي بلاء أفضل منها. هب أننا نرغب في توقع حالة الطقس غدا استنادا إلى مجموعة من حالات سابقة. يوضح الشكل رقم
10-1
هذه الحالة بصورة تخطيطية. يتمثل أسلوب التناظر في استخدام الحالة المستقاة من مجموعة الحالات السابقة الأقرب إلى حالة الطقس اليوم، ونعتبر ما كان من تغير للحالة في اليوم التالي هو توقع حالة الجو غدا. تشير نظرية تاكنس إلى استقاء مجموعة من حالات التناظر القريبة وإجراء عملية استقراء داخلي بين نتائجها لوضع توقعاتنا. يمكن إثبات فائدة «نماذج إعادة البناء المتأخرة» هذه القائمة على البيانات دون أن تكون كاملة؛ فليس ثمة حاجة في هذه النماذج إلا أن تتخطى في نتائجها الخيارات الأخرى المتوافرة لدينا - أو تتكامل معها. تظل النماذج التناظرية شائعة الاستخدام في عمليات توقع حالة الطقس الموسمية، بينما تدلل لعبة الروليت على نجاح عملية النمذجة القائمة على البيانات.
تسهل المراهنة بالمال على أحد الأرقام الفائزة في لعبة الروليت؛ فليس عليك سوى المراهنة بدولار واحد على كل رقم وستحصل على رقم فائز في كل مرة. ستفقد مالا، بالتأكيد، بما أن الرقم الفائز سيدفع 36 دولارا، بينما سيجب عليك المراهنة على أكثر من 36 رقما. تسفر استراتيجيات «المراهنة على الأرقام كلها» عن خسارة المال عند كل لعبة، وهو ما وضعت له صالات القمار حلا منذ وقت طويل مضى. يتطلب تحقيق ربح أكثر من مجرد إجراء مراهنة على رقم فائز كل مرة؛ إذ يتطلب الأمر إجراء توقع احتمالي أفضل من احتمالات صالة القمار. ولحسن الحظ، يمكن تحقيق ذلك دون اللجوء إلى اشتراطات الملاءمة التجريبية أو التفسير الرياضي الصعب.
لعل إمكانية أن تجرى المراهنات بعد دوران الكرة تجعل من لعبة الروليت لعبة شائقة على وجه خاص بالنسبة إلى الفيزيائيين والإحصائي الغريب الأطوار. هب أنك سجلت كل مرة اللحظة التي تمر فيها الكرة ، على سبيل المثال، على الرقم صفر عن طريق الإصبع الكبيرة في القدم اليسرى، واللحظة التي تخطى فيها الرقم صفر نقطة محددة على المائدة عن طريق الإصبع الكبيرة في قدمك اليمنى، كم مرة يستطيع أي حاسوب مثبت على كعب حذاء راعي البقر الذي ترتديه إجراء توقع صحيح حول أي ربع في عجلة الروليت ستستقر الكرة فيه؟ سيجعل توقع الربع الصحيح في العجلة لنصف عدد المرات فرص الفوز تميل إلى صالحك. عندما تكون صائبا ستفوز بأموال تساوي أربع مرات حجم الأموال التي خسرتها، وهو ما يجعلك تربح بمقدار ثلاثة أضعاف حجم الأموال التي راهنت بها، وستخسر كل أموالك عند انتصاف عدد المرات تقريبا؛ لذا ستحقق في المتوسط مكسبا يتجاوز ما راهنت به بمقدار مرة ونصف. بينما لن يعرف العالم أبدا كم مرة حاول الآخرون عمل ذلك، يمكن وضع حد أدنى لمرة واحدة. يفرد توماس باس تفاصيل هذه العملية بصورة رائعة في كتاب «الكازينو النيوتوني».
نماذج المحاكاة
ماذا يحدث إذا لم تقدم أكثر حالات التناظر تشابها توقعا مفصلا بما يكفي؟ أحد البدائل هو معرفة ما يكفي من الفيزياء لبناء نموذج للنظام استنادا إلى «المبادئ الأولى». ثبتت فائدة هذه النماذج في مختلف أنواع العلوم إلى حد كبير، على أننا يجب ألا ننسى أن نعود من عالم النماذج ونقيم توقعاتنا في مقابل الملاحظات الحقيقية. ربما تتوافر لدينا أفضل النماذج في العالم، لكن مسألة كون ذلك النموذج ينطوي على أي قيمة أم لا في عملية اتخاذ القرار مسألة أخرى.
شكل 10-2: رسم تخطيطي يعكس الطريقة التي تقسم بها نماذج الطقس والمناخ كلا من الطقس والمحيط إلى «نقاط شبكية». تمثل كل نقطة شبكية هنا في الغلاف الجوي مساحة تبلغ تقريبا 250 كيلومترا في 250 كيلومترا مربعا، وهو ما يعني أن حوالي ست نقاط تمثل بريطانيا بأسرها مثلما هو موضح في الشكل.
الشكل رقم
10-2
هو عبارة عن رسم تخطيطي يعكس فضاء الحالة في أحد النماذج الصادرة عن مكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة. يسير فضاء الحالة لأحد نماذج التوقع الرقمي للطقس على منوال مشابه، بيد أن نماذج الطقس لا يتم تشغيلها لفترات طويلة مثلما يحدث في نماذج المناخ؛ لذا يجري تبسيط نماذج الطقس من خلال افتراض ثبات أشياء تتغير ببطء، مثل المحيطات، الجليد البحري أو استخدام الأراضي. بينما يجعل الرسم التخطيطي النماذج تبدو أكثر تفصيلا من الخرائط البسيطة المعروضة في الفصول السابقة؛ فبمجرد نقلها إلى حاسوب رقمي، لا يصبح تكرار أحد نماذج الطقس مسألة أكثر التباسا وغموضا في الحقيقة، بل مسألة أكثر تعقيدا فحسب. ينقسم الغلاف الجوي في الحقيقة، فضلا عن المحيط، والأمتار الأولى القليلة من قشرة الأرض في بعض النماذج، إلى مربعات، وتحدد متغيرات النموذج - مثل درجة الحرارة، والضغط الجوي، ومستوى الرطوبة، وسرعة الرياح ... إلخ - من خلال رقم واحد في كل مربع. بقدر ما تحتوي حالة النموذج من قيمة لكل متغير في كل مربع داخل الشبكة، يمكن أن تكون حالة النموذج كبيرة نسبيا، يضم بعضها أكثر من 10 ملايين مركبة. عملية تحديث حالة النموذج عملية مباشرة ومملة. تطبق القاعدة لكل مركبة، وتكرر مرة بعد أخرى، وهو ما كان ريتشاردسون يفعله يدويا، مستغرقا سنوات في توقع حالة الطقس ليوم واحد تال. وقد ألهم تركيز العمليات الحسابية على المركبات المستقاة من الخلايا «القريبة» ريتشاردسون بفكرة مفادها أن غرفة مليئة بحواسب منظمة مثلما هو موضح في الشكل رقم
10-3 ، يمكن فيها تقدير حالة الطقس أسرع مما كان يجري. ولأنه كان يكتب في عشرينيات القرن العشرين، لم تكن أجهزة ريتشاردسون إلا بشرا، أما اليوم فتستخدم الحواسب الرقمية الفائقة المتعددة المعالجات الطريقة نفسها. تعتبر نماذج التوقع الرقمي للطقس ضمن أكثر شفرات الحاسوب تعقيدا في كتابتها، وعادة ما يصدر عنها نماذج محاكاة تبدو واقعية بصورة لافتة، غير أنها - مثل جميع النماذج - تعتبر تمثيلات غير كاملة لنظام العالم الواقعي الذي تستهدف محاكاته، كما تعتبر الملاحظات التي تعتمد عليها مشوشة. كيف يمكن استخدام نماذج المحاكاة القيمة هذه في إدارة شئوننا؟ هل يمكن أن نعرف على الأقل كيف نعتمد على توقع اليوم لتوقع حالة الطقس في عطلة نهاية الأسبوع القادمة؟
شكل 10-3: صورة تحقق حلم ريتشاردسون، الذي كان يرى فيه حواسب من البشر تعمل بأعداد كبيرة في تواز لحساب حالة الطقس قبل حدوثه الفعلي. لاحظ أن مصدر الضوء في المنصة المركزية يسلط الضوء على شمال فلوريدا، على افتراض الإشارة إلى أن الحواسب في تلك المنطقة تبطئ من سرعة المشروع. (أو ربما يصعب على وجه خاص توقع الطقس هناك؟)
نظم توقع الطقس المجمعة
تشير نظم التوقع المجمع إلى ميزة نسبية لمنطقة شمال فرنسا على كورنوول. هل لديكم وكيل سفريات بإمكانه تقديم النصح حول حجوز العبارات؟
رسالة بريد إلكتروني أرسلها تيم بتاريخ 5 أغسطس 1999
في عام 1992 تقدمت مراكز توقع حالة الطقس التشغيلية على جانبي الأطلنطي خطوة كبيرة إلى الأمام؛ حيث توقفت المراكز عن تقديم تقرير مؤكد حول حالة الطقس لإجازة نهاية الأسبوع التالية. على مدى عقود، كانت نماذج المحاكاة الحاسوبية في تلك المراكز تدار لمرة واحدة في اليوم، ومع زيادة سرعة الحاسوب، صارت النماذج أكثر تعقيدا، ولا يقيدها سوى ضرورة تقديم التوقع قبل تحقق حالة الطقس، إلا أن نظام التشغيل هذا الذي يعتمد على «أفضل التوقعات» توقف في عام 1992. وبدلا من تشغيل نموذج المحاكاة الحاسوبي الأكثر تعقيدا مرة واحدة، ثم الاكتفاء بالمشاهدة بينما يحدث شيء آخر في الواقع، جرى تشغيل نموذج أقل تعقيدا لبضع مئات من المرات. كان كل نموذج ضمن هذه المجموعة يبدأ عند حالة مختلفة قليلا، ثم يراقب واضعو التوقعات مجموعة نماذج محاكاة وهي تفترق كل عن الأخرى مع تطور الوقت وصولا إلى إجازة نهاية الأسبوع القادمة، ثم يستخدمون هذه المعلومات في تحديد مدى اعتمادية التوقع لكل يوم. ويسمى هذا النظام نظام التوقع المجمع.
من خلال إجراء «توقع مجمع» نتمكن من فحص البدائل المتوافقة مع معرفتنا الحالية للطقس ومع نماذجنا، وهو ما يوفر ميزات كبيرة في عملية دعم اتخاذ القرار السليمة القائمة على المعلومات. في عام 1928، توقع السير آرثر إدنجتون حدوث كسوف شمسي «مرئي فوق كورنوول» في يوم 11 أغسطس 1999. أردت أن أرى هذا الكسوف، مثلما كان يرغب في ذلك تيم بالمر، رئيس قسم التوقعات الاحتمالية في المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى في ريدنج، بإنجلترا. مع اقتراب موعد الكسوف، بدا كما لو أن كورنوول ستظللها الغيوم. كانت رسالة البريد الإلكتروني من تيم والمشار إليها في بداية هذا القسم قد أرسلت قبل ستة أيام من الكسوف. تفحصنا التوقع المجمع الخاص بيوم 11، فلاحظنا أن عدد التوقعات الفردية التي كانت تشير إلى سماء صافية فوق فرنسا تخطى مثيله بالنسبة إلى كورنوول. وحدث الشيء نفسه في يوم 9، فتركنا إنجلترا قاصدين فرنسا باستخدام عبارة.
هناك رأينا الكسوف، وهو ما يرجع الفضل فيه إلى الاحتمالات التي قدمتها نظم التوقعات المجمعة، وإلى الإسراع في اللحظة الأخيرة للحصول على رؤية أفضل بفضل مهارات تيم في القيادة عبر طرق زراعية فرنسية صغيرة في سيارة مقودها إلى اليمين، هذا فضلا عن نظارة واقية كان يضعها لمشاهدة الكسوف الكلي. تشير دراسة الفوضى في نموذجنا إلى أن عدم اليقين في الحالة الحالية للطقس يجعل من الاستحالة التوقع على وجه اليقين - حتى لو قبل أسبوع مقدما - للموضع الذي يمكن فيه رؤية الكسوف بوضوح، والموضع الذي ستحجب السحب فيه رؤيته. من خلال إجراء توقع مجمع بهدف تتبع عدم اليقين هذا، قدمت نظم توقع الطقس المجمعة دعما فعالا في عملية اتخاذ القرار؛ حيث نجحنا في رؤية الكسوف. لم يكن علينا افتراض أي شيء حول كمال النموذج، ولم تكن ثمة أي توزيعات احتمالية في الأفق.
شكل 10-4: توقعات مجمعة مستقاة من نموذج توقع الطقس الخاص بالمركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى، قبل يومين من عاصفة يوم ميلاد بيرنز. تظهر بعض التوقعات عواصف، بينما لا تظهر أخرى أي عواصف. بخلاف نموذج «أفضل التوقعات» الوحيد في الشكل رقم
1-4 ، يتوافر لدينا هنا ما يشبه تحذيرا سابقا بالعاصفة.
منذ تطبيق نظم توقعات الطقس المجمعة للمرة الأولى في عام 1992، لم يجر وضع توقعات مجمعة لعاصفة يوم ميلاد بيرنز في يناير 1990. قدم المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى توقعا مجمعا بأثر رجعي باستخدام البيانات المتوافرة قبل يومين من وقوع عاصفة يوم ميلاد بيرنز . يوضح الشكل رقم
1-4
العاصفة مثلما تظهر في أحد نماذج توقع الطقس الحديثة - ويسمى «التحليل» - فضلا عن توقع قبل يومين من وقوع الحدث باستخدام بيانات مستقاة قبل الوقت الذي أبلغت السفينة عن أرصادها الخطيرة، التي جرت مناقشتها في الفصل الأول. لاحظ عدم وجود أي عاصفة في نموذج التوقع. يظهر الشكل رقم
10-4
اثني عشر توقعا فرديا أخرى من بين التوقع المجمع الذي يعود إلى يومين قبل وقوع العاصفة. يتضمن بعض هذه التوقعات عواصف، فيما لا يتضمنها البعض الآخر. يبدو التوقع الثاني ضمن المجموعة في الصف العلوي شبيها بالتحليل إلى حد كبير، كما يتضمن التوقع الموجود أسفله بصفين ما يبدو مثل عاصفة هائلة، بينما تشير توقعات أخرى إلى يوم شتوي بريطاني عادي. وحيث إن تقديم السفينة أرصادها المهمة جاء بعد توقع نظام التوقع المجمع هذا، كان هذا التوقع المجمع سيقدم إشارة على احتمال وقوع عاصفة، وكان سيقلل بصورة كبيرة من الضغوط الواقعة على مسئول تعديل التوقعات. عبر آماد زمنية أطول، يتضمن التوقع المجمع الذي أجري قبل ثلاثة أيام من يوم ميلاد بيرنز توقعات تشير إلى احتمال وقوع عواصف في اسكتلندا، بل ثمة توقع ضمن التوقع المجمع الخاص بالأيام الأربعة السابقة على وقوع العاصفة يتضمن عاصفة كبرى في المحيط القريب. فالتوقع المجمع يقدم تحذيرا مبكرا بالفعل.
في جميع الفترات الزمنية الفاصلة، يجب التعامل مع أثر بيرنز. تظهر مجموعة «كرات الجولف» في نموذج توقع الطقس من المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى تنوع الأنماط السلوكية في نماذجنا لمساعدتنا في «التخمين والتوجس»، دون قياس عدم اليقين حقيقة في المستقبل مثلما هو في العالم الواقعي. في حقيقة الأمر، يمكن التوسع في تنوع هذه الأنماط السلوكية؛ فإذا توافرت لدينا قدرة حاسوبية كافية وشككنا في مصداقية بعض الملاحظات، فربما يمكن استخدام بعض التوقعات الفردية ضمن التوقع المجمع التي تتضمن هذه الملاحظات مع إسقاطها في توقعات أخرى. لن نرى أبدا موقفا آخر يشبه تماما عاصفة يوم ميلاد بيرنز في عام 1990. ربما نقرر وجهة الملاحظات المستقبلية المصممة لتعظيم فرصة التمييز بين أي من توقعات التوقع المجمع أكثر واقعية: تلك التي تتضمن عاصفة في المستقبل أم تلك التي لا تتضمن أي عاصفة؟
بدلا من إهدار جهد أكثر مما ينبغي في محاولة تحديد «أفضل» النماذج، ربما ندرك أن التوقعات الفردية ضمن التوقعات المجمعة من نماذج مختلفة أكثر قيمة من محاكاة واحدة لنموذج فائق واحد باهظ الكلفة، لكننا يجب ألا ننسى الدروس المستقاة من اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون. تكشف التوقعات المجمعة عن تعدد الأنماط السلوكية في نماذجنا، لا عن احتمالية وقوع أحداث مستقبلية. يمكن اختبار التوقعات المجمعة باستخدام شروط مبدئية، وقيم معلمات، بل حتى باستخدام بنى نماذج رياضية، لكن يبدو أن شيطان القرن الحادي والعشرين لا يقدر إلا على وضع توقعات احتمالية مفيدة في حد ذاتها لا أكثر. لحسن الحظ، يمكن أن يقدم نظام التوقع المجمع المعلومات ويضيف قيمة دون تقديم توقعات باحتمالات نستخدمها كما هي في عملية اتخاذ قرار.
بعد أعياد الكريسماس في عام 1999، اكتسحت عاصفة أخرى كبرى أوروبا باسم «تي وان» في فرنسا و«لوثار» في ألمانيا، اقتلعت هذه العاصفة 3000 شجرة في مدينة فرساي وحدها، وسجلت مستوى قياسيا في مطالبات التأمين في أوروبا. قبل اثنتين وأربعين ساعة من العاصفة، وضع المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى نظام التوقع المجمع المعتاد الذي يتألف من 51 توقعا منفصلا. تضمن أربعة عشر توقعا ضمن التوقع المجمع المكون من 51 نموذجا حدوث عاصفة. ثمة إغراء بنسيان أن هذه التوقعات ليست سوى شبيهة بكرات الجولف في اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون، وتفسير ذلك باعتباره يمثل احتمالا يبلغ 28٪ على وقوع عاصفة كبرى. وعلى الرغم من ضرورة مقاومة ذلك الإغراء، يتوافر لدينا هنا نموذج آخر لنظام التوقع المجمع العظيم الفائدة. باستخدام نموذج أكثر واقعية، وأكثر تعقيدا مرة واحدة ربما كان سيظهر عاصفة، أو ربما لم يكن سيظهر أي عاصفة. لماذا المخاطرة بعدم رصد العاصفة في الوقت الذي ربما يقدم نظام توقع مجمع إمكانية تحديد فرصة حدوث العاصفة كميا؟ من الواضح أن عمليات التوقع المجمع فكرة معقولة، لكن كيف يمكننا تحديدا توزيع الموارد المحدودة بين استخدام نموذج أكثر كلفة ووضع نموذج توقع مجمع أكبر؟ يظل هذا السؤال البحثي النشط مطروحا للنقاش. في الوقت نفسه، يقدم نظام التوقع المجمع من المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى لمحة عن السيناريوهات المستقبلية البديلة من خلال نماذجنا ذات القيمة المضافة المهمة.
تظل أيضا طريقة توصيل هذه المعلومات الموجودة في التوقع المجمع دون عرض عشرات خرائط الطقس على العامة مسألة مفتوحة للنقاش. في نيوزيلندا، حيث يعتبر الطقس القاسي أمرا مألوفا، تقدم خدمة الأرصاد الجوية بصورة منتظمة توقعات احتمالية مفيدة للأرصاد الجوية على موقعها، من خلال عبارات من قبيل «احتمال بنسبة اثنين إلى خمسة»، وهو ما يضيف قيمة كبيرة إلى توصيف حادثة محتملة. بالطبع، يقدم علماء الأرصاد الجوية عادة توقعات طقس متطرفة، بينما تسعد شركات الطاقة أيما سعادة باستغلال القيمة الاقتصادية الكبيرة في استخلاص معلومات مفيدة من توقعات أرصاد جوية عادية يوميا، وها هم الآخرون في المجالات الأخرى التي تتضمن مخاطر جوية في عمليات التشغيل يسيرون في إثر شركات الطاقة.
الفوضى والتغير المناخي
المناخ هو ما تتوقعه. والطقس هو ما تعايشه.
روبرت هاينلاين، من رواية «وقت كاف للحب» (1974)
تختلف عملية النمذجة المناخية جذريا عن عمليات توقع الطقس. تصور حالة الطقس في الأسبوع الأول من يناير بعد عام من الآن، سيكون الوقت منتصف الصيف في أستراليا ومنتصف الشتاء في نصف الكرة الشمالي، وهو ما يمنحنا وحده فكرة عن نطاق درجات الحرارة التي يمكن أن نتوقعها. تمثل مجموعة التوقعات هذه المناخ، وهو ما يعكس بصورة مثالية الاحتمال النسبي لحدوث كل نمط يمكن تصوره لحالة الطقس. إذا كنا نؤمن بالحتمية الطبيعية، إذن فسيكون الطقس في يناير القادم محتوما سابقا. بالرغم من ذلك، يعتبر مفهومنا حول مجموعة التوقعات المناخية مهما؛ إذ لا تستطيع النماذج الحالية تمييز هذا المستقبل المحتم. في ظل أي توقعات مجمعة مثالية للطقس سيكون هناك تتبع لنمو أي عدم يقين أولي في حالة الغلاف الجوي حتى يصبح من غير الممكن تمييزها عن التوزيع المناخي المماثل. في ظل النماذج غير الكاملة، لا يحدث هذا على الإطلاق؛ إذ تدور مجموعة نماذج المحاكاة في التوقعات المجمعة حول عنصر الجذب في النموذج وليس حول النقطة الحقيقية في العالم الواقعي، إذا كان موجودا من الأساس. حتى في ظل نموذج كامل، ومع تجاهل آثار الإرادة الإنسانية الحرة التي أشار إليها إدنجتون، سيحول دون وضع توقعات احتمالية دقيقة تعتمد على الحالات الحالية للأرض المؤثرات المناخية التي برحت الشمس توا، أو تلك التي تكاد تصل من مناطق تقع خارج المجموعة الشمسية، التي لا يمكن أن نعرف عنها شيئا اليوم، ولو حتى من الناحية النظرية.
تختلف النمذجة المناخية أيضا عن توقعات الطقس في أن الأولى تتضمن عادة مركبة «ماذا لو». يشبه تغيير كمية ثاني أكسيد الكربون وغازات الاحتباس الحراري الأخرى في الغلاف الجوي تغيير معلم
α
في الخريطة اللوجيستية، ومع تغيير قيم المعلمات، يتغير عنصر الجذب نفسه أيضا. بعبارة أخرى: بينما يحاول واضعو التوقعات الجوية تفسير الآثار المترتبة على توزيع مجموعة من كرات الجولف على عملية إسقاط واحدة لكرة مطاطية حمراء في اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون في الشكل رقم
9-1 ، يضيف واضعو النماذج المناخية سؤالا آخر يزيد الأمور تعقيدا حول ما سيحدث إذا جرى تحريك المسامير من مواضعها.
ينطوي استخدام نموذج مناخي واحد فقط على المخاطر نفسها الموجودة في استخدام نموذج توقع واحد في يوم ميلاد بيرنز في عام 1990، على الرغم من أن تداعيات هذه الثقة المفرطة الساذجة ستكون أكبر في حالة التوقعات المناخية. لا يملك أي مركز حسابي في العالم القدرة على تشغيل مجموعات كبيرة من النماذج المناخية، غير أن مثل هذه التجارب أصبح ممكنا من خلال تعزيز قدرة المعالجة في الحواسب الشخصية المنزلية المنتشرة في جميع أرجاء العالم (زر موقع:
www.climateprediction.net ) فقد كشفت الآلاف من نماذج المحاكاة عن كم كبير على نحو مدهش من التنوع داخل نموذج مناخي حديث واحد، وهو ما يشير إلى أن عدم يقيننا في مستقبل المناخ في العالم الواقعي كبير جدا على أقل تقدير. تسهم هذه النتائج في تحسين النماذج الحالية، لكنها تعجز عن تقديم براهين على أن النماذج المناخية الحالية يمكن أن تركز بصورة واقعية على التفصيلات الإقليمية، والتي - عند توافرها - ستصبح ذات قيمة كبيرة في عملية دعم اتخاذ القرار. تلقي أي عملية تقييم صادقة لأوجه القصور في النماذج المناخية الحالية ظلالا من الشك على الإجماع الواسع القائل بأن الاحترار الكبير الحالي قد رصد في البيانات التي توافرت في الماضي القريب.
ما هو قدر اتساع نطاق التنوع الحالي بين نماذجنا؟ تعتمد الإجابة بالطبع على متغيرات النموذج محل الفحص. من حيث متوسط درجة الحرارة على مستوى الكوكب، ثمة صورة متسقة للاحترار. يظهر عدد ضخم من التوقعات في التوقعات المجمعة قدرا من الاحترار أكثر مما كان مقدرا سابقا، ومن حيث التفصيلات الإقليمية، ثمة تنويعات هائلة بين هذه التوقعات الفردية. يصعب تحديد نفع القيمة التقديرية للأمطار والثلوج في عملية دعم اتخاذ القرار، حتى بالنسبة إلى كمية الأمطار الشهرية فوق منطقة أوروبا بأكملها. كيف يمكن التمييز بين ما يعتبر مجرد أفضل التوقعات المتوافرة حاليا فقط، والتوقعات التي تتضمن في حقيقة الأمر معلومات مفيدة بالنسبة إلى متخذي القرار في السياق المناخي؟
في الواقع، تتغير مستويات ثاني أكسيد الكربون وعوامل أخرى باستمرار، ويندمج الطقس والمناخ في إجراء واحد لتجربة عابرة لا تتكرر. وينظر واضعو توقعات الطقس إلى أنفسهم عادة باعتبارهم يحاولون استخلاص معلومات مفيدة من نماذج التوقعات المجمعة قبل انتشارها حول «عنصر جذب الطقس». يجب على واضعي النماذج المناخية التعامل مع مسائل صعبة حول طريقة تغير بنية عنصر الجذب هذا في حال - قل على سبيل المثال - تضاعفت كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ثم ظلت ثابتة. كان لورنز يجري أبحاثا في هذا المجال في ستينيات القرن العشرين، محذرا من أن موضوعات مثل الاستقرار البنيوي والتجارب العابرة الطويلة المدى تعقد من توقعات المناخ، ومشيرا إلى الآثار المترتبة على ذلك في نظم لا تزيد في تعقيدها عن الخرائط التي عرضناها في الفصل الثالث.
في ظل عدم كمال نماذج توقع الطقس لدينا، لا تتطور التوقعات المجمعة الخاصة بها في حقيقة الأمر نحو توزيعات مناخية واقعية، وفي ظل تغير خواص النظام المناخي للأرض باستمرار، لا يكون الحديث عن «توزيع مناخي واقعي» متغير باستمرار وغير قابل للملاحظة أمرا منطقيا كثيرا في المقام الأول. هل يمكن أن يوجد شيء مثل ذلك خارج عالم النماذج؟ بالرغم من ذلك، حسن فهم الفوضى والديناميكيات اللاخطية تصميمات التجارب في دراسات المناخ وممارستها، وهو ما يسمح بتقديم دعم يقوم على المعلومات في عملية اتخاذ القرار لصانعي السياسات. لعل أكثر الأشياء أهمية هو أن ذلك بين كيف أن القرارات الصعبة ستتخذ في ظل عدم اليقين. لا تعد حقيقة أن عدم اليقين هذا غير مقيد تماما أو أنه لا يمكن قياسه إلا باستخدام نماذج غير كاملة عذرا للتقاعس عن اتخاذ أي خطوة. تتخذ جميع القرارات السياسية الصعبة في سياق أثر بيرنز.
الفوضى في التجارة: فرص جديدة من خلال الفيزياء المالية
عندما يلعب عدد كبير من الأشخاص لعبة ذات قواعد واضحة غير معروفة الديناميكيات، يصعب التمييز بين أولئك الذين يفوزون اعتمادا على مهارتهم وأولئك الذي يفوزون حظا. تعتبر هذه المسألة أساسية في الحكم على مديري المحافظ الوقائية وفي تحسين نماذج توقع الطقس بما أن النتائج التقليدية قد تسفر في الواقع عن فرض عقوبات على من يعتمدون على اللعب الاحتمالي المهاري. تأسست شركة بردكو، بناء على افتراض ضرورة وجود طريقة لتوقع حالة الأسواق الاقتصادية أفضل من الأساليب الإحصائية الخطية التي سادت مجال التمويل الكمي خلال العقدين الماضيين. انتهجت بردكو مسارا مختلفا كان من رواده دوين فارمر ونورم باكارد، بالإضافة إلى عدد من ألمع المختصين بالنظم اللاخطية من الشباب اليوم، الذين تخلوا عن إجراء دراسات ما بعد الدكتوراه في مقابل الانخراط في مجال تداول وتجارة الأسهم. إذا كانت ثمة فوضى في الأسواق، أيكون آخرون قد خدعوا دون عشوائية؟ من المحزن في الأمر أن اتفاقيات الحفاظ على السرية لا تزال تلقي بظلالها حتى على الأيام الأولى من نشاط بردكو، بيد أن تحقيق الأرباح المستمر في الشركة يشير إلى أنه مهما كان ما يجري في الشركة، فإنها تبلي بلاء حسنا.
تمثل بردكو أحد النماذج على الاتجاه العام نحو الفيزياء المالية، والتي يتم من خلالها اجتذاب علماء فيزياء رياضية مدربين جيدا لبحث مشكلات التوقع في الأمور المالية، وهو ما كان تقليديا المجال الحصري لعمل الإحصائيين. هل سوق الأسهم فوضوية؟ تشير الدلائل الحالية إلى أن أفضل نماذجنا للأسواق تصادفية بصورة أساسية؛ لذا فإن الإجابة عن السؤال هي «لا»، لكنها ليست نماذج خطية أيضا. كمثال، ساهمت دراسة الفوضى في حدوث تطورات مدهشة في نقطة التقاء الطقس والاقتصاد؛ إذ يتأثر الكثير من الأسواق بالطقس بصورة بالغة، بل يتأثر بعضها حتى بتوقعات الطقس. من هنا يخشى كثير من المحللين من أن تخدعهم العشوائية، حتى إنهم يلتزمون التزاما صارما باستخدام نماذج بسيطة، وتصادفية محضة، ويتجاهلون الحقيقة البادية للعيان أن بعض توقعات الطقس المجمعة تتضمن معلومات مفيدة. بالنسبة إلى شركات الطاقة، تستخدم المعلومات حول عدم اليقين حيال معلومات الطقس يوميا لتفادي «اللهاث وراء التوقع»، مثلما يحدث عند شراء المتر المكعب من الغاز الطبيعي بثمن مرتفع، ثم البيع بسعر منخفض، ثم شراء المتر المكعب نفسه بسعر مرتفع مرة بعد أخرى مع انخفاض درجات الحرارة المتوقعة يوم الجمعة التالي، ثم ارتفاعها، ثم انخفاضها مجددا، مصطحبة معها في ارتفاعها وانخفاضها الطلب المتوقع على الكهرباء ليوم الجمعة التالي؛ وهو ما جعل المضاربين يسعون سعيا محموما وراء أساليب لتوقع التوقع التالي.
تفضي دراسة الفوضى إلى الفاعلية التي تتجاوز تحقيق الربح على المدى القصير. تسهم الفيزياء المالية إسهاما كبيرا في توزيع أفضل للسلع السريعة التلف التي ترتبط في طلبها بالطقس، وحركة السفن، والقطارات، والشاحنات، وتوقع مستوى الطلب عموما. تزيد التوقعات الاحتمالية الأفضل للتذبذبات الفوضوية في الرياح والأمطار بقدر كبير من قدرتنا على استخدام الطاقة المتجددة بدرجة كبيرة؛ وهو ما يحد من الحاجة إلى إبقاء مولدات الطاقة الحفرية في «وضع الاستعداد »، باستثناء الأيام التي تتسم بانخفاض القابلية للتوقع فيها بصورة حقيقية.
اللجوء إلى واقع أبسط
ألهمتنا النظم الفيزيائية بدراسة النظم الديناميكية الفوضوية، وندرك الآن كيف استطاع تجسيد شيطان لابلاس في القرن الحادي والعشرين وضع توقعات احتمالية موثوق بها للنظم الفوضوية باستخدام نموذجه الكامل. وسواء كانت قائمة بالكلية على البيانات أو مستقاة من «قوانين الطبيعة» الحالية، فإن النماذج التي في حوزتنا غير كاملة. يجب أن نواجه عدم اليقين في الرصد وعدم ملاءمة النماذج. يعد تفسير توقع مجمع للعالم الواقعي كما لو كان يمثل توقعا احتماليا عبر نموذج كامل لأحد النظم الرياضية أحد أكثر أخطاء التوقع سذاجة. هل يمكن إيجاد نظام عالم واقعي واحد تضع الفوضى فيه القيد الوحيد على توقعاتنا؟
يعد توقع نظام الغلاف الجوي/المحيطات في الأرض عملية صعبة. يتفادى الفيزيائيون اللجوء الكامل نحو الاستعانة بالنماذج الرياضية من خلال فحص نظم طبيعية أبسط تتكسر عليها إجراءات توقعاتهم ونظرياتهم للقابلية للتوقع. سنتتبع مسار هذا اللجوء بدءا من الغلاف الجوي للأرض وانتهاء بواحد من أبسط النظم، ثم نبحث ما هو كائن فيه بمزيد من التفصيل. أشار لورنز إلى تجارب «الأحواض المائية» التي أجراها رايموند هايد لدعم التفسيرات الفوضوية في نماذج المحاكاة الحاسوبية التي وضعها في أوائل ستينيات القرن العشرين. لا تزال بعض ثمار تلك التجارب تستخدم في قسم الفيزياء في جامعة أكسفورد؛ حيث يقدم بيتر ريد البيانات الأولية اللازمة في عمليات إعادة بنائها القائمة على البيانات. حتى الآن، تظل التوقعات الاحتمالية لهذه النظم الخاصة بالموائع غير كاملة على الإطلاق. استقى التجريبيون حول العالم بيانات قيمة من نظم الموائع ومن النظم الميكانيكية، يدفعهم في ذلك الطبيعة الفوضوية للنماذج الفيزيائية المماثلة. تميل درجة حرارة البندول الحقيقي إلى الزيادة، وهو ما يغير من المعلمات «الثابتة» في نماذج المحاكاة مع ترك مناطق فضاء الحالة التي يحدث فيها تتبع للنماذج القائمة على البيانات. حتى قطع النرد تبلى قليلا مع كل إلقاء لها. هذه هي حال العالم الواقعي.
شكل 10-5: توقعات مجمعة لدائرة ماشيتي مور-شبيجل الكهربائية. يشير الخط الأسود إلى الملاحظات، بينما تمثل الخطوط الخفيفة التوقعات الفردية ضمن التوقعات المجمعة. يبدأ التوقع عند التوقيت صفر. يظهر الشكلان إلى اليسار توقعات مجمعة للبيانات نفسها لكن باستخدام نموذجين مختلفين . لاحظ أن التوقع المجموع في الشكل السفلي يفلح في اللحاق بالدائرة حتى عندما يخفق النموذج في الشكل العلوي قرب القيمة الزمنية 100 في اللحاق بها. يظهر الشكلان إلى اليمين التوقعات المستقاة من شرط مبدئي ثان باستخدام هذين النموذجين نفسيهما؛ حيث تخفق التوقعات المجمعة في كلا النموذجين عند الوقت نفسه تقريبا.
ربما تثبت سهولة انقياد النظم الطبيعية التي توفر كمية هائلة من البيانات، ومستويات منخفضة من التشويش في الملاحظة، وظروفا طبيعية مستقرة لأدوات تحليل البيانات اللاخطية الحديثة. تبرز في الحال النظم البيئية. أثبتت أشعة الليزر السريعة والنظيفة والدقيقة أنها من المصادر الثرية، لكننا لا نمتلك نماذج توقع موثوقا بها هنا أو عند دراسة ديناميكيات موائع شاذة نسبيا مثل الهليوم. نتحول لواحد من أبسط نظم العالم الواقعي وهو الدوائر الكهربية؛ ربما الحواسب التناظرية البسيطة. ربما سيجري رفض ورقة بحثية تتضمن استخدام توقعات مجمعة ناجحة لهذه النظم من قبل محكمين محترفين نظرا لاستخدام نظام أبسط مما ينبغي. يزداد الاستبصار قوة عندما «نعجز» عن وضع توقعات موثوق بها لأبسط نظم العالم الواقعي. يوضح الشكل رقم
10-5
توقعات مجمعة لفولطيات جرى رصدها في دائرة كهربية بنيت بحيث تحاكي نظام مور- شبيجل. تظهر توقعات مستقاة من نموذجين مختلفين في الشكل. يشير الخط المتصل الأسود - في كل شكل - إلى الملاحظات المستهدفة الصادرة عن الدائرة الكهربية، بينما يشير الخط الخفيف إلى أحد التوقعات الفردية ضمن التوقعات المجمعة. تبدأ التوقعات عند قيمة زمنية تساوي صفرا، وقد جرى تشكيل التوقع المجمع باستخدام الملاحظات المأخوذة فقط قبل ذلك الزمن. يعرض الشكلان العلويان نتائج النموذج الأول، بينما يعرض الشكلان السفليان نتائج النموذج الثاني. انظر إلى الشكلين إلى اليسار، اللذين يظهران توقعات فورية من كل نموذج. يتباعد كل توقع ضمن التوقع المجمع في النموذج الأول عن الواقع دون تحذير سابق قبل القيمة الزمنية 100 مباشرة، مثلما يظهر في الشكل العلوي. في المقابل، يفترق التوقع المجمع في النموذج الثاني في الشكل السفلي عند القيمة الزمنية الصحيحة تقريبا (أم هل يفترق قبل ذلك قليلا؟)، ويبدو تنوع الأنماط السلوكية في هذا التوقع المجمع مفيدا طوال الوقت حتى نهاية التوقع. في هذه الحالة، ربما لن نعرف أي النماذج كان سيثبت صحته، لكننا نرى موضع افتراقها بشدة بعضها عن بعض. في الأشكال إلى اليمين، يفترق كلا النموذجين عند الوقت نفسه تقريبا، وبالطريقة ذاتها تقريبا.
في كل حالة، تقدم التوقعات استبصارا حول الملاحظات المستقبلية المحتملة، بيد أن أيا من نظامي التوقعات المجمعة لا يعكس جيدا النقطة المستقبلية التي يخفق عندها هذا الاستبصار. ما هي أفضل طريقة لتفسير هذا التنوع فيما يتعلق بالتوقعات؟
يظهر تحليل الكثير من التوقعات المستقاة من شروط مبدئية مختلفة أن هذه التوقعات المجمعة - عند تفسيرها باعتبارها توقعات احتمالية - لا تعتبر موثوقا بها، وهو ما يمثل نتيجة عامة عند استخدام نماذج رياضية فوضوية لتوقع نظم واقعية. لا أعرف أي استثناءات. لحسن الحظ، لا يتطلب مبدأ المنفعة استخلاص تقديرات احتمالية مفيدة.
هل يجب أخذ نماذجنا على محمل الجد بشكل كبير؟
في الرياضيات الأكاديمية، يعتبر مفهوما الأرجحية والاحتمالية متطابقين بصورة أو بأخرى، وهو ما لا ينطبق في العالم الواقعي. إذا أضفنا احتمالية وقوع كل حدث ممكن، إذن يجب أن يكون حاصل جمع الاحتماليات جميعا واحدا. بالنسبة إلى أي مجموعة محددة من أرجحيات الحدوث، يمكن تحديد «الاحتمالية الضمنية» لحدث من خلال أرجحيات تحقق ذلك الحدث. إذا كان حاصل جمع الاحتماليات الضمنية مساويا لقيمة واحد، إذن تمثل هذه المجموعة من الأرجحيات «أرجحيات احتمالية». خارج محاضرات الرياضيات، يصعب العثور على الأرجحيات الاحتمالية في العالم الواقعي. تشير فكرة «الأرجحيات المتساوية» المتصلة بهذه النقطة - حيث تكون الأرجحيات ثابتة، ويصبح المرء حرا في الانتقال إلى أي من جانبي الرهان - إلى نوع مشابه من «التفكير التواق» داخل برج عاجي. لا تتكامل الاحتماليات الضمنية في حالة أرجحيات عدم الحدوث مع تلك الخاصة بالحدوث. تنبثق الحيرة في قلب كلا المفهومين بصورة كبيرة من تشويه الفارق بين النظم الرياضية والنظم في العالم الواقعي التي تعد هي نموذجا لها. في مضمار سباق أو في صالة قمار، تتجاوز قيمة الاحتماليات الضمنية قيمة واحد. تبلغ نسبة الاحتماليات الضمنية في عجلة روليت أوروبية 37 / 36، بينما تبلغ في نظيرتها الأمريكية 38 / 36. في صالة القمار تضمن هذه الزيادة تحقيق أرباح. علميا، ربما نستغل هذه الزيادة نفسها في إيصال معلومات عن عدم ملاءمة النموذج.
قد تبعدنا عدم ملاءمة النموذج عن التوقعات الاحتمالية على نحو لا يختلف كثيرا عن إبعاد عدم اليقين في الشرط المبدئي لنا عن طريقة المربعات الصغرى في النماذج اللاخطية. ثمة نظرية مكتملة عن تضمين نظم توقع احتمالي في دعم اتخاذ القرار من خلال تعظيم المنفعة المتوقعة أو أي انعكاس آخر لأهداف المستخدم. ربما يجب عدم تسمية «التوقع الاحتمالي» الذي لن يستخدم هكذا في هذا السياق على الإطلاق. يمكن - بلا شك - بناء نظرية تعمل على تضمين نظم توقعات تقدم أرجحيات بدلا من احتماليات تدعم عملية اتخاذ القرار. قدم جد حقيقة أمثلة عديدة جيدة في هذا الإطار.
يبدو أن قبول عدم الملاءمة في نماذجنا - مع الجهل بعدم ملاءمة النماذج التي تستخدمها الجهات المنافسة - يتطلب أن نستهدف شيئا خلافا للأرجحيات المتساوية. إذا استطاع أحد نظم توقع الأرجحيات تغطية خسائره - بمعنى أن يحدث تساويا بين الربح والخسارة عند تقييمه من جميع المشاركين مع تغطية تكاليفه التشغيلية - يمكننا إذن أن نقول إن نظاما مثل ذلك يولد «أرجحيات رشيدة». تقدم الأرجحيات الرشيدة إذن دعما في عملية اتخاذ القرار، وهو ما لا يترتب عليه (لم يترتب عليه بعد) كارثة ولا يرسخ الرغبة في استثمار أكثر لتحسين تلك الأرجحيات إما للحصول على حصة سوقية أكبر، وإما لتغطية نفقات التشغيل.
قد يفضي أخذ عينات من توقعات مجمعة تشمل جميع البدائل التي يمكن أن يتصورها المرء إلى أرجحيات رشيدة، وهو ما يجعل التنوع في التوقعات المجمعة المتعددة النماذج يسمح بقياس تأثير عدم ملاءمة النموذج. يوفر القدر الذي يتجاوز به حاصل جمع احتمالياتنا الضمنية قيمة واحد طريقة لقياس عدم ملاءمة النموذج . يتساءل المرء إن كان بإمكاننا - مع تزايد فهمنا لنظام العالم الواقعي أكثر فأكثر - توقع أن يصل مجموع الاحتماليات الضمنية لتوقعات الأرجحيات قيمة واحد في «أي» نظام طبيعي؟
إن الانتقال إلى نظم التوقعات التي تقدم أرجحيات بدلا من احتماليات يطلق دعم عملية اتخاذ القرار في العالم الواقعي من القيود غير الطبيعية التي تنشأ نتيجة للاحتماليات، التي لا يمكن تحديدها بدقة إلا من خلال نظمنا الرياضية. لعل الحقيقة صعبة ولكنها حتمية أن الأرجحيات الرشيدة ستعتمد على جودة نموذجك المستخدم وعلى جودة النموذج المنافس. ستسهل عملية اتخاذ القرار إذا كانت التوقعات الاحتمالية الموثوق بها متوافرة، لكن في حال عدم القدرة على ترجمة تنوع النماذج إلى احتمالية (ذات صلة بالقرار)، فإننا لا نستطيع استخدام التوقعات الاحتمالية. إن السعي وراء إدارة المخاطر كما لو كنا قد طبقناها حقيقية بغرض التبسيط لهو أمر طائش. وبينما تثبت فائدة الأرجحيات في عمليات اتخاذ القرار التي لا تستغرق سوى ساعات أو أيام، ماذا سنفعل في سيناريو التغير المناخي؛ إذ يبدو أن لدينا حدثا واحدا فقط شديد الأثر في غياب حالات اختبارية مشابهة نتعلم منها؟
بلغنا كبد عملية التوقع العلمية في العالم الواقعي. يتلاشى الحد الفاصل القديم للاحتمالية تدريجيا ولا يبدو واضحا في أي اتجاه يجب أن نتوجه في المستقبل. إذا لم توفر لنا النظم الديناميكية الفوضوية أداة جديدة، فقد قدمت لنا على الأقل إشارة تساعدنا على الاهتداء إلى أي طريق نسلك.
الفصل الحادي عشر
الفلسفة في الفوضى
لست مضطرا إلى تصديق كل ما تحسبه.
هل ثمة شيء جديد حقا في الفوضى؟ ثمة مزحة قديمة حول ثلاثة حكام بيسبول يناقشون حقائق الحياة في اللعبة. يقول الحكم الأول: «أسمي الأشياء وفقا لرؤيتي لها.» ويقول الحكم الثاني: «أسمي الأشياء مثلما هي.» وأخيرا يقول الحكم الثالث: «الأشياء لا تكون، حتى أسميها.» تجبرنا دراسة الفوضى على الاتجاه نحو تبني الموقف الفلسفي للحكم الثالث.
تعقيدات الفوضى
هل توجد الكميات التي نتوقعها فقط في نماذج التوقعات التي نبنيها؟ إذا كان الأمر كذلك، إذن فكيف يمكن مقارنتها بملاحظاتنا؟ يكمن أي توقع في فضاء حالة نموذجنا في حين أن الملاحظة المقابلة ليست موجودة في فضاء الحالة ذلك، فهل التوقع والملاحظة المقابلة «قابلان للطرح أحدهما من الآخر »؟ يمثل هذا الطرح النسخة الرياضية من المقارنة بين شيئين شديدي الاختلاف. هل حالة النموذج والملاحظة متشابهتان بما يكفي بحيث يمكن طرح إحداهما من الأخرى لحساب مسافة، ونستطيع بعد ذلك تسمية خطأ توقع ما؟ أم أنهما غير متشابهتين؟ وإذا لم تكونا كذلك، إذن ففي أي اتجاه نمضي؟
كشف تقييم النماذج الفوضوية عن تعقيد ثان أساسي ينشأ حتى في النماذج اللاخطية الكاملة ذات قيم المعلمات غير المعروفة. كيف يمكن تحديد أفضل القيم؟ إذا كان النموذج خطيا، إذن فإن لدينا قرونا عديدة من الخبرة العملية والنظرية التي ترسخ بصورة مقنعة حقيقة أن أفضل القيم عمليا تتمثل في تلك القيم التي تقترب بأكبر قدر ممكن من البيانات المستهدفة؛ حيث يقاس هذا القرب وفق مبدأ المربعات الصغرى (المسافة الأصغر بين النموذج والملاحظات المستهدفة). تعد الاحتمالية شيئا مفيدا لنعلي من أهميتها. إذا كان النموذج لا خطيا، إذن فلن تعتبر القرون التي جرى الاعتماد فيها على الانطباعات الحدسية عادة سوى خروج عن المسار الصحيح، إذا لم تكن عائقا عن التقدم. إن قبول مبدأ المربعات الصغرى لم يعد حلا مثاليا، مثلما يجب إعادة التفكير في فكرة «الدقة» في حد ذاتها. هذه الحقيقة البسيطة مهمة بقدر ما هي مهملة. تتضح هذه المسألة بسهولة في الخريطة اللوجيستية، فإذا كانت لدينا المعادلة الرياضية الصحيحة وتوافرت جميع تفصيلات نموذج التشويش - أرقام عشوائية تتخذ صورة منحنى جرسي - يفضي استخدام مبدأ المربعات الصغرى لحساب قيمة
α
التقديرية إلى أخطاء منهجية. الأمر هنا لا يتعلق ببيانات أقل مما ينبغي أو قدرة حاسوبية غير كافية، بل يرجع الأمر إلى فشل الأسلوب. يمكننا حساب قيمة المربعات الصغرى المثالية، التي تعتبر قيمتها بالنسبة إلى
α
أقل مما ينبغي عند جميع مستويات التشويش. لا ينطبق هذا الأسلوب الصارم على النماذج اللاخطية لأن الفرضيات الكامنة وراء مبدأ المربعات الصغرى تفترض مرارا توزيعات جرسية. تحافظ النماذج الخطية على شكل هذه التوزيعات، بيد أن «النماذج اللاخطية تشوه الشكل الجرسي»؛ وهو ما يجعل مبدأ المربعات الصغرى غير ملائم. عمليا، يقلل هذا «التفكير الخطي التواق» بصورة منهجية من أهمية قيمة المعلم الحقيقية عند كل مستوى تشويشي. وقد تعثرت التفسيرات (الخاطئة) الحديثة للنماذج المناخية بسبب طريقة التفكير الخطي التواق المشابهة. سيستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين حساب قيمة
α
بدقة بالغة، لكنه لن يستخدم مبدأ المربعات الصغرى في ذلك! (سيبحث الشيطان عن تكهنات.)
تساءل الفلاسفة أيضا عما إن كان تعقد الأشكال الكسرية ربما رسخ وجود الأعداد الحقيقية في الطبيعة، وهو ما يبرهن على وجود الأعداد غير النسبية حتى إذا كنا لا نستطيع أن نرى سوى أعداد رئيسية قليلة منها. لا تقدم عناصر الجذب الغريبة شيئا يدعم هذه الأطروحات التي لا تتأتى من نظم ديناميكية خطية. على الجانب الآخر، تقدم الفوضى طريقة جديدة لاستخدام النماذج وملاحظاتنا في تحديد المتغيرات بتفصيل لافت - إذا كانت نماذجنا جيدة بما يكفي - من خلال الحالات عبر التكهن من نماذج لا خطية ملائمة تجريبيا. إذا كان نموذجنا يتكهن بالملاحظات عبر فترة ممتدة، إذن فلن تتجاوز جميع حالات التكهنات نطاقا محدودا جدا من القيم، وهو ما يوفر طريقة لتحديد قيم الملاحظات مثل درجة الحرارة بدرجة من الدقة يتقوض عندها مفهومنا المعتاد للحرارة. لن نحصل على رقم غير نسبي أبدا، لكن قد يقدم نموذج ملائم تجريبيا بديلا ذا دقة اعتباطية، باستخدام الملاحظات مع منح النموذج دورا لا يختلف كثيرا عن دور الحكم الثالث. وبالرغم من ذلك، تظل العلاقة التقليدية بين درجة الحرارة وقياساتنا لها من خلال نموذج تشويش في مأمن حتى يتضح وجود مسارات تكهنات مفيدة.
تنشأ معضلة فلسفية أخرى في إطار طريقة تحديد «أفضل» توقع من الناحية العملية. تقدم التوقعات الاحتمالية توزيعا كما هي الحال في كل توقع، بينما سيمثل الرصد المستهدف الذي نتحقق من صحة توقعاتنا إزاءه حدثا واحدا دوما. عندما يختلف توزيع التوقعات من توقع إلى آخر، ستظهر لنا مرة أخرى مشكلة المقارنة بين شيئين شديدي الاختلاف ولا يمكن أبدا تقييم حتى أحد توزيعات توقعاتنا باعتباره توزيعا.
يفضي نجاح نماذجنا إلى دغدغة مشاعرنا نحو الفكرة المثالية القائلة بأن القوانين الرياضية تحكم نظم العالم الواقعي محل اهتمامنا. شكلت النماذج الخطية عائلة مثالية. قد يقترب النموذج الخطي الخاطئ من النموذج الخطي الصحيح، وينظر إليه باعتباره كذلك، على نحو ما لا ينطبق على النماذج اللاخطية. ليس من السهل إدراك أن النموذج اللاخطي غير الكامل «يقترب» من النموذج الصحيح في ظل الملاحظات فقط، وهو ما نراه يسمح بظهور حالات تكهنات طويلة، لكن إذا كان النموذجان يتضمنان عنصري جذب مختلفين - ونحن نعرف أن عناصر الجذب في النماذج الرياضية الشديدة التشابه قد تكون مختلفة جدا - فإننا إذن «لا» نعرف كيف نؤلف مجموعات نماذج ينشأ عنها توقعات احتمالية موثوق بها. يجب أن نعيد النظر في طريقة اقتراب نماذجنا اللاخطية من الحقيقة، حال إمكانية احتواء الحقيقة في إطار نموذج ما «صحيح». لا يوجد سبب علمي للاعتقاد بوجود نموذج مثالي مثل ذلك. ربما ينتقل الفيلسوف من موضوعات محيرة أثيرت خلال البحث عن الحقيقة، ويتأمل تداعيات عدم وجود ما هو أكثر من مجموعات نماذج غير كاملة. أي نصيحة يمكن أن يتقدم الفيلسوف بها إلى الفيزيائي؟ إذا كانت القدرة الحاسوبية الجديدة تسمح بتوليد مجموعات نماذج تتألف من أي شيء يمكننا تصوره (شروط مبدئية، قيم معلمات، نماذج، بنية حاسوب ... إلخ)، كيف نفسر التوزيعات التي تتأتى علميا؟ أو كيف يمكن الكشف عن حماقة عدم مواجهة هذه الموضوعات من خلال استخدام نموذج محاكاة واحد مستقى من نموذج معقد فائق الدقة؟
أخيرا، لاحظ أنه عند استخدام النموذج الخاطئ، ربما نوجه السؤال الخاطئ. من يلعب دور من في لعبة ورق لاتور؟ يفترض السؤال نموذجا يلعب كل لاعب فيه دور عالم الرياضيات أو الفيزيائي أو الإحصائي أو الفيلسوف فقط، وضرورة وجود ممثل عن كل مجال على المائدة. ربما هذا افتراض خاطئ. كعلماء في العالم الواقعي، هل يستطيع كل لاعب لعب جميع الأدوار؟
عبء برهنة فوضوية النظم
إذا استخدمنا المعايير الرياضية في البرهان، إذن فالقليل جدا من النظم يمكن إثبات فوضويته. لا يطبق تعريف الفوضى الرياضية إلا على النظم الرياضية؛ لذا لا نستطيع أن نبدأ بالبرهنة على فوضوية - أو دورية - أي نظام فيزيائي بالتأكيد لهذا السبب. غير أنه من المفيد أن نصف النظم الفيزيائية باعتبارها نظما دورية أو فوضوية، ما دمنا لا نخلط بين النماذج الرياضية والنظم التي نستخدمها في وصفها. عندما يوجد نموذج لدينا، يمكننا أن نرى إن كان حتميا أو تصادفيا، ولكن حتى بعد ثبوت حتمية النموذج، لا تعتبر البرهنة على فوضويته مسألة يسيرة. يعتبر حساب آساس ليابونوف مهمة صعبة، وثمة نظم قليلة جدا يمكننا بها إجراء مثل هذا الحساب على نحو تحليلي. استغرق الأمر حوالي 40 عاما لترسيخ برهان رياضي يقول بأن ديناميكيات نظام لورنز لعام 1963 كانت فوضوية؛ لذا يحتمل أن يبقى مفتوحا لفترة السؤال المتعلق بالمعادلات الأكثر تعقيدا مثل معادلات توقعات الطقس على الأرجح.
لا نستطيع حتى أن نأمل في الدفاع عن ادعاء بأن نظاما فيزيائيا يعد فوضويا إلا إذا أزحنا عبء البرهان من على كاهل علماء الرياضيات؛ وهو ما يتضمن أيضا التخلص من المعنى الأكثر شيوعا للفوضى. في المقابل، إذا تبين أن أفضل نماذجنا لأحد النظم الفيزيائية تبدو فوضوية، وإذا كانت حتمية، فتبدو متكررة، وتشير إلى اعتمادها الحساس من خلال إبداء نمو سريع في حالات عدم اليقين الصغيرة، إذن تقدم هذه الحقائق تعريفا عمليا لما يعنيه أن يكون نظام فيزيائي فوضويا. ربما نجد يوما ما توصيفا أفضل لذلك النظام الفيزيائي لا يمتلك هذه الخواص، بيد أن ذلك هو مسلك جميع مجالات العلم. في هذا الإطار، يعد الطقس فوضويا بينما لا يعد الاقتصاد كذلك. هل يشير هذا ضمنا إلى أننا لو أضفنا ما يسمى بمولد أعداد عشوائية إلى نموذج الطقس لدينا فلن نعتقد بعد ذلك في فوضوية الطقس الحقيقي؟ مطلقا، ما دمنا نرغب فقط في استخدام مولد أرقام عشوائية في أغراض هندسية، مثل تفسير أوجه القصور في النموذج الحاسوبي المحدود. بالمثل، لا تشير حقيقة أننا لا نستطيع استخدام مولد أعداد عشوائية حقيقي في نماذج الحاسوب إلى ضرورة اعتبار سوق الأسهم حتمية. كشفت دراسة الفوضى عن أهمية التمييز بين أفضل نماذجنا وأفضل طريقة لبناء نماذج محاكاة حاسوبية لتلك النماذج. إذا كانت بنية نموذجنا غير كاملة، فربما سيتبين أن أفضل نماذجنا لأحد النظم الحتمية ما هو إلا نظام تصادفي!
ربما يتمثل أحد أكثر الأسئلة تشويقا، والذي ينشأ من التوقع الفوضوي، في السؤال المفتوح حول أسلوب نمذجة رابع. نرى أفضل نماذجنا تعجز عن التكهن؛ ما يجعلنا نتشكك في عدم وجود طريقة لتعديل هذا النموذج، سواء في إطار خطة النمذجة الحتمية التي يضعها الفيزيائي، أو في إطار خطط النماذج القياسية التصادفية التي يضعها الإحصائي. هل يمكن أن يسفر المزيد من دراسة الفوضى الرياضية عن مجموعة مركبة من النماذج توفر لنا نماذج تتكهن على الأقل بالنظم الفيزيائية؟
الظلال، والفوضى، والمستقبل
بمجرد فتح أعيننا، ربما نرى العالم من منظور جديد، بيد أننا لا نستطيع أبدا العودة إلى المنظور القديم.
إيه إدنجتون (1927)
تعتبر الرياضيات هي التجسيد المطلق للخيال العلمي. بينما قد يكتفي علماء الرياضيات بقصر أنشطتهم - وهم سعداء - على مجالات تصح فيها افتراضاتهم (تقريبا دوما)، يضطر الفيزيائيون والإحصائيون إلى التعامل مع العالم الخارجي من خلال البيانات المتوافرة بين أيديهم والنظريات المتصورة في عقولهم. يجب أن نحافظ على هذا الفرق في أذهاننا إذا كنا سنستخدم كلمات مثل «فوضى» عند الحديث مع علماء الرياضيات والعلماء الآخرين. إن أي نظام رياضي فوضوي لهو كيان مختلف عن أي نظام طبيعي نسميه فوضويا. بينما تقدم الرياضيات البراهين، يصارع العلم من أجل تقديم توصيفات فقط. وقد أفضى العجز عن إدراك هذا الفرق إلى إضفاء مرارة على النقاش لا داعي لها. لن «يفوز» أي من الطرفين في النقاش، ومع انسحاب الجيل السابق تدريجيا من المجال، فإنه من الشائق متابعة بعض أفراد الجيل الجديد وهم يتبنون أسلوب النماذج المجمعة؛ والذي يتمثل بشكل أساسي في تبني نماذج متعددة ك «نموذج واحد» واستخدامها معا دون اختيارها أو دمجها معا. بدلا من ممارسة دور الغرماء في منافسة، هل يمكن أن يعمل الفيزيائي والرياضي والإحصائي كفريق واحد؟
تساعدنا دراسة الفوضى على أن نرى بوضوح أكثر أي الأسئلة منطقية وأيها غير منطقي على الإطلاق. أجبرتنا دراسة الديناميكيات الفوضوية على القبول بأن بعض غاياتنا غير قابلة للتحقيق في ظل الخواص المزعجة للنظم اللاخطية. وبالنظر إلى أن أفضل نماذجنا عن العالم لا خطية - نماذج الطقس، والاقتصاد، والأوبئة، والدماغ، ودائرة مور-شبيجل الكهربائية، بل وحتى النظام المناخي في الأرض - يترتب على هذا الاستبصار نتائج تتجاوز العلم، تصل إلى دعم عملية اتخاذ القرار وصناعة السياسات. مثاليا، ستسهم الاستبصارات المستقاة من الفوضى والديناميكيات اللاخطية في مساعدة واضع النماذج المناخية، وهو الذي يشعر بالثقة في تفسير حدود معرفتنا الحالية، عند توجيه سؤال إليه يعرف عدم منطقيته، ويقدم المعلومات المتوافرة. حتى إذا كانت أوجه القصور في النموذج تشير ضمنا إلى عدم وجود توقع احتمالي مرتبط بالسياسات، ساعد الفهم الأفضل للعمليات الطبيعية الكامنة متخذي القرار لعقود طويلة ولا يزال يساعدهم.
تتخذ جميع القرارات الصعبة في ظل عدم اليقين، وقد ساعدنا فهم الفوضى على تقديم دعم أفضل في عملية اتخاذ القرار. تحقق بالفعل تقدم اقتصادي كبير في قطاع الطاقة؛ حيث أفضى الربح الوفير من جراء استخدام توقعات مجمعة للطقس زاخرة بالمعلومات إلى الاستخدام اليومي لمعلومات عدم اليقين بدءا من قاعات تداول الأسهم في الأسواق المالية إلى غرف التحكم في شبكات الكهرباء الوطنية.
التوقع صعب. لا يتضح أبدا أي سياق سيتخذه العلم لاحقا، بيد أن حقيقة أن الفوضى غيرت مرمى الهدف ربما تمثل أكثر الآثار ديمومة على العلم، وهي رسالة يجب طرحها مبكرا في مجال التعليم؛ إذ لا يزال الدور الذي يلعبه عدم اليقين والتنوع الزاخر في السلوك الذي تكشف عنه النظم الرياضية البسيطة لا ينال قدره من التقدير بدرجة كافية. يرتبط عدم اليقين في الملاحظات مع أخطاء النماذج ارتباطا وثيقا، وهو ما يجبرنا على إعادة تقييم ما يعد نموذجا جيدا. أثبتت غايتنا القديمة في تقليص استخدام مبدأ المربعات الصغرى تضليلها لنا، لكن أيجب أن يحل البحث عن البدائل محل المربعات الصغرى ؟ أهو بحث عن نموذج يبدو سلوكه جيدا؟ أم عن القدرة على وضع توقعات احتمالية موثوق بها أكثر؟ من خلال منظور الرؤية الشاملة، يمكننا أن ندرك بوضوح أي الأسئلة منطقي، وهو ما يستدعي تحديات للافتراضات الأساسية في الفيزياء الرياضية وتطبيقات نظرية الاحتمالات. هل ترجع حالات الفشل في النمذجة إلى عدم قدرتنا على انتقاء الإجابة الصحيحة من بين الخيارات المتاحة، أم هل ينعدم أي خيار مناسب مطروح؟ كيف يمكننا تفسير محاكاة مستقاة من نماذج غير ملائمة تجريبيا؟ بصرف النظر عن معتقداتنا الشخصية حول وجود الحقيقة، تجبرنا الفوضى على إعادة التفكير فيما يعنيه تقريب الطبيعة.
قدمت دراسة الفوضى أدوات جديدة، مثل نماذج إعادة بناء متأخرة ربما تسفر عن نماذج متناسقة حتى حال كوننا لا نعرف «المعادلات المتضمنة»، وإحصاء جديد يمكن من خلاله قياس النظم الديناميكية كميا، وأساليب جديدة في توقع عدم اليقين، وظلال تعمل على رأب الفجوات بين نماذجنا وملاحظتنا، والتشويش الذي نتعرض له. انتقلت دراسة الفوضى بمحور الاهتمام من الارتباط إلى المعلومات، ومن الدقة إلى الموثوقية، من تقليص أخطاء هامشية على نحو غير حقيقي إلى تعظيم المنفعة. تعيد دراسة الفوضى إثارة النقاش حول مكانة الاحتمالات الموضوعية. هل يمكننا بناء توقع احتمالي ناجح عمليا، أم هل نحن مضطرون إلى ابتكار أساليب جديدة «مخصصة» لاستخدام المعلومات الاحتمالية دون توقعات احتمالية؟ هل نقيس عدم اليقين في مستقبل العالم الواقعي أم أننا نستكشف التنوع في نماذجنا؟ يسعى العلم إلى نقاط عدم الملاءمة فيه؛ فلا يعتبر التوافق مع عدم اليقين الدائم في العلم نقطة ضعف بل مكمن قوة. لقد قدمت الفوضى إطارا جديدا لدراستنا للعالم، دون تقديم أي نماذج كاملة أو حلول نهائية. العلم عبارة عن قطع مختلفة الألوان تحاك بعضها مع بعض، وبعض الحدود الفاصلة غير محكمة تماما.
في بداية فيلم «ماتريكس»، يردد مورفيس صدى كلمات إدنجتون التي افتتح بها هذا القسم الأخير:
هذه هي فرصتك الأخيرة، وبعد هذا لا سبيل إلى العودة. عليك بتناول القرص الأزرق ثم ستنتهي القصة. ستستيقظ في فراشك وستعتقد أيا ما تود أن تعتقده. ولو تناولت القرص الأحمر فستمكث في أرض العجائب وسأريك مبلغ عمق حفرة الأرنب. تذكر أن كل ما أقدمه لك ليس إلا الحقيقة، لا شيء أكثر من ذلك.
الفوضى هي القرص الأحمر.
مسرد المصطلحات
يشبه علماء الرياضيات نوعا محددا من الفرنسيين؛ عندما تتحدث إليهم يترجمون كلامك إلى لغتهم، ثم سرعان ما يتبين أن الكلام صار شيئا مختلفا تماما.
جوته، «مبادئ وتأملات» (1779)
ليس مقصودا من هذا المسرد تقديم تعريفات دقيقة للمصطلحات، بل يقصد منه إيصال الفكرة الرئيسية لتلك المصطلحات لسهولة الرجوع إليها. تحمل بعض المصطلحات معاني مختلفة عند استخدامها من قبل علماء الرياضيات (ر)، أو الفيزيائيين (ف)، أو علماء الحاسوب (ح)، أو الإحصائيين (ص). تتوافر التعريفات والمناقشات حولها في منتدى المناقشة الخاص بمركز تحليل السلسلة الزمنية التابع لكلية لندن للاقتصاد على العنوان التالي:
www.lsecats.org ، وفي الكتب المدرجة في قسم «قراءات إضافية».
أثر بيرنز:
تعبير يشير إلى الصعوبة التي يضفيها الاستبصار غير الكامل والنماذج غير الكاملة لمحاولات اتخاذ قرارات عقلانية.
احتمالي:
كل شيء غير قاطع تماما، عبارات تعبر عن عدم اليقين.
إحصائية معتمدة على عينة (ص):
إحصائية (مثلا: المتوسط، والتباين، ومتوسط «زمن التضاعف»، أو أكبر «أس ليابونوف») تحسب استقاء من عينة بيانات. يستخدم هذا المصطلح لتفادي الخلط مع القيمة الحقيقية للإحصائية.
أس ليابونوف:
قياس متوسط سرعة افتراق الحالات القريبة «على نحو لا متناهي الصغر» بعضها عن بعض. يعود استخدام تعبير أس إلى أنه يعد لوغاريتم المعدل المتوسط، وهو ما ييسر التمييز بين النمو الأسي في المتوسط (أكبر من صفر)، والتناقص الأسي في المتوسط (قيمة سالبة). لاحظ أن النمو الأبطأ من النمو الأسي، والتناقص الأبطأ من النمو الأسي، وعدم النمو على الإطلاق؛ جميعها يمتزج في قيمة واحدة (صفر).
إعادة بناء متأخر: «فضاء حالة نموذجي» يبنى باستخدام قيم متأخرة زمنيا للمتغير نفسه، عوضا عن ملاحظات متغيرات حالات إضافية.
الاعتماد الحساس (ف):
الافتراق السريع، الأسي في المتوسط للحالات القريبة عبر الزمن.
برهان غير بناء:
برهان رياضي يرسخ وجود شيء ما دون الإشارة إلى كيفية العثور عليه.
تأثير الفراشة:
تعبير يشتمل على فكرة أن الفروق الصغيرة في الحاضر قد تفضي إلى فروق كبيرة في المستقبل.
تدفق:
نظام ديناميكي يكون الزمن فيه مستمرا.
تشويش (القياس):
عدم اليقين في الملاحظة، الفكرة القائلة بأن ثمة قيمة «حقيقية» نحاول أن نقيسها، وتتمخض المحاولات المتكررة عن أرقام تقترب منها لكنها ليست دقيقة تماما. التشويش هو ما نلقي عليه باللائمة في عدم دقة قياساتنا.
تشويش (ديناميكي):
أي شيء يتداخل مع النظام، مغيرا من سلوكه المستقبلي عن ذلك الجانب الحتمي في النموذج.
تقريبا كل (ر):
عبارة رياضية معروفة تنطوي على تحذير من أنه على الرغم من أن شيئا قد يكون صحيحا بنسبة 100٪، فثمة حالات يصبح الشيء فيها خاطئا.
تقريبا كل (ف):
تقريبا كل.
تكرار:
تطبيق قاعدة تحديد «خريطة» ديناميكية لمرة واحدة؛ ما يحرك الحالة خطوة واحدة إلى الأمام.
توقع مجمع:
توقع يعتمد على تكرارات عدد من الحالات الأولية المختلفة للأمام (ربما باستخدام قيم معلمات مختلفة، أو حتى نماذج مختلفة)، وهو ما يكشف عن تنوع نماذجنا؛ ومن ثم يضع حدا أدنى للآثار المترتبة المحتملة لعدم اليقين في التوقعات القائمة على النماذج.
توقع:
تعبير عن الحالة المستقبلية لنظام ما.
جلبة: «ديناميكيات عابرة» تظهر خصائص توحي بالفوضى، ولكن عبر فترة زمنية محددة فقط (ومن ثم فإنها غير متكررة).
حالة غير مميزة:
نقطة ضمن مجموعة من النقاط التي لا يتوقع استبعادها - في ظل نموذج «تشويش» في الملاحظات - نظرا لأنها ولدت الملاحظات التي ولدها في حقيقة الأمر مسار
X
مستهدف. يطلق على هذه المجموعة مجموعة حالات
X
غير المميزة، وليس لها علاقة بأي مجموعة ملاحظات محددة.
حالة:
نقطة في «فضاء حالة» تحدد بصورة كاملة الحالة الحالية لذلك النظام.
حلقة دورية:
سلسلة من الحالات في نظام حتمي ينطبق على نفسه: تتبع الحالة الأولى من آخر حالة، وهي عملية تتكرر إلى الأبد. مدار متكرر على نحو دوري أو دورة حدودية.
خريطة:
قاعدة تحدد حالة جديدة استقاء من الحالة الحالية. في هذا النوع من النظم الديناميكية الرياضية، يتخذ الزمن قيما (صحيحة) متمايزة فقط؛ لذا يشار إلى سلسلة قيم
X
كالآتي:
X
i
حيث
i
تسمى عادة «الزمن».
ديناميكيات تصادفية:
انظر «ديناميكيات عشوائية».
ديناميكيات حتمية:
نظام ديناميكي يمكن تكراره دون اللجوء إلى مولد أعداد عشوائية ، والذي تحدد حالته الأولية جميع الحالات المستقبلية في ظل التكرار.
ديناميكيات عابرة:
سلوك مؤقت مثلما يحدث في إحدى جولات الروليت، أو كرة واحدة في لوحة جالتون أو اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون (التي عرضنا لها في الفصل التاسع)؛ حيث تتوقف الكرة في النهاية. انظر «جلبة».
ديناميكيات عشوائية:
ديناميكيات لا تتحدد الحالة المستقبلية فيها عن طريق الحالة الحالية. تسمى أيضا ديناميكيات تصادفية.
زمن تضاعف:
الزمن الذي يستغرقه عدم يقين أولي حتى يزيد بعامل اثنين. يعد متوسط زمن التضاعف مقياسا للقابلية للتوقع.
زمن ليابونوف:
واحد مقسوم على «أس ليابونوف». لا يرتبط هذا الرقم بقابلية أي شيء للتوقع، اللهم إلا في أكثر النظم الفوضوية بساطة.
سلسلة زمنية (ر، ف، ص):
سلسلة من الملاحظات تمثل تطور أحد النظم عبر الزمن. على سبيل المثال، موضع الكواكب التسعة، وعدد البقع الشمسية، وعدد الفئران. أيضا، يشير مصطلح «سلسلة زمنية» إلى ناتج نموذج رياضي. يشير هذا المصطلح في علم الإحصاء إلى النموذج نفسه، وهو ما قد يثير بعض اللبس.
سيناريو نموذج مثالي:
خدعة رياضية مفيدة يجري فيها استخدام النموذج المطبق في توليد البيانات، ثم التظاهر بنسيان ذلك وتحليل «البيانات» باستخدام نموذجنا وأدواتنا. بصورة أكثر عمومية، ربما يمثل سيناريو النموذج المثالي أي موقف نمتلك فيه نموذجا مثاليا للبنية الرياضية للنظام الذي ندرسه.
شكل كسري:
مجموعة من النقاط ذاتية التشابه، أو شيء ذاتي التشابه على نحو شائق (أكثر تشويقا - قل على سبيل المثال - من مستوى أو خط متعرج). عادة، ما يتطلب الأمر توافر حجم قيمته صفر لدى أي مجموعة من الأشكال الكسرية في الفضاء الذي تشغله، مثلما أن خطا مرسوما في بعدين ليس له مساحة، أو أن سطحا مرسوما في ثلاثة أبعاد لا يمتلك حجما.
ظلال (ر):
علاقة بين نموذجين معروفين تماما تختلف ديناميكياتهما اختلافا يسيرا، حيث يمكن إثبات أن أحدهما سيسلك مسارا ما يظل قريبا من مسار محدد للنموذج الآخر.
ظلال (ف):
يقال إن نظاما ديناميكيا «يظل» مجموعة من الملاحظات في حال إنتاجه مسارا ربما أفضى إلى تلك الملاحظات في ظل «تشويش» الملاحظات المتوقع. فالظلال مسار متوافق مع نموذج التشويش والملاحظات.
عدم اليقين في الملاحظة:
أخطاء القياس، حالات عدم يقين ترجع إلى عدم الدقة في أي من ملاحظات حالة النظام.
عنصر جذب غريب: «عنصر جذب» يمتلك بنية «كسرية». ربما يكون عنصر الجذب الغريب فوضويا أو غير فوضوي.
عنصر جذب فوضوي:
عنصر جذب تصبح الديناميكيات عنده فوضوية. ربما يتضمن عنصر الجذب الفوضوي «أشكالا كسرية» أو لا يتضمنها؛ لذا ثمة عناصر جذب فوضوية «غريبة»، وعناصر جذب فوضوية غير غريبة.
عنصر جذب:
نقطة أو مجموعة من النقاط في «فضاء حالة» تقترب منها مجموعة أخرى من الحالات أكثر فأكثر عند تكرارها للأمام.
فضاء حالة:
هو الفضاء الذي تحدد كل نقطة فيه بصورة كاملة الحالة، أو الوضع، في أحد النظم الديناميكية.
فوضى (ح):
برنامج حاسوبي يهدف إلى تمثيل نظام رياضي فوضوي. عمليا، تقع أو تتطور جميع النظم الديناميكية الحاسوبية الرقمية في اتجاه حلقة دورية.
فوضى (ر):
نظام ديناميكي رياضي حتمي، ومتكرر، وله اعتماد حساس على حالة أولية.
فوضى (ف):
نظام فيزيائي نعتقد حاليا في إمكانية نمذجته في أفضل صورة من خلال نظام رياضي فوضوي.
القابلية للتوقع (ر):
خاصية تسمح ببناء توزيع توقع مفيد يختلف عما يستمد عشوائيا من التوزيع (المناخي) النهائي. بالنسبة إلى النظم التي تشتمل على عناصر جذب، تنطوي القابلية للتوقع على توقع أفضل من انتقاء نقاط على نحو عشوائي من عنصر الجذب.
القابلية للتوقع (ف):
خاصية تسمح للمعلومات الحالية بأن تفضي إلى معلومات مفيدة حول الحالة المستقبلية لنظام ما.
قسم بوانكاريه:
قطاع عرضي من «تدفق» ما، يقوم بتسجيل قيمة جميع المتغيرات عندما يحدث أن يتخذ متغير قيمة محددة. ابتكره بوانكاريه ليتمكن من تحويل أي تدفق إلى «خريطة».
لا خطي:
كل ما هو ليس بخطي.
لا متناهي الصغر:
كمية قيمتها أقل من أي رقم يمكن تسميته ، لكنها بالضرورة أكبر من الصفر.
متوسط هندسي:
حاصل ضرب أرقام
N
معا، ثم الحصول على جذر عدد أرقام
N
للناتج.
مجمع جذب:
بالنسبة إلى «عنصر جذب» محدد، هو مجموع جميع الحالات التي ستقترب منه في النهاية.
مسار متكرر:
مسار سيعود في النهاية قريبا جدا من حالته الحالية.
معلمات:
كميات في نماذجنا تمثل وتحدد خصائص محددة في النظام المنمذج. تبقى قيم المعلمات ثابتة عموما مع تطور حالة النموذج.
نظام ديناميكي خطي:
نظام ديناميكي يمثل مجموع الحلول فيه حلولا أيضا، وهو عموما حل واحد يسمح بتراكب الحلول. (لأسباب فنية، لا نريد أن نقول إنه ذلك النظام الذي «يتضمن قواعد خطية فقط».)
نظام ديناميكي مشتت:
نظام ديناميكي يتناقص فيه - في المتوسط - حجم «فضاء الحالة» عند تكراره إلى الأمام بموجب النظام. بينما يقترب الحجم من الصفر، فليس هناك ضرورة لأن يتناقص بالضرورة إلى نقطة، وربما يقترب من «عنصر جذب» معقد جدا.
نظم ديناميكية محافظة:
نظام ديناميكي لا يتناقض حجم «فضاء الحالة» فيه عند تكراره للأمام. لا يمكن أن تشتمل هذه النظم على «عناصر جذب».
نقطة ثابتة:
حالة في نظام ديناميكي تظل ثابتة، وهي نقطة ثابتة تساوي قيمتها المستقبلية في النظام قيمتها الحالية.
نمو أسي فعال:
معدل النمو في الزمن، الذي عند حساب متوسطه في المستقبل اللانهائي، سيبدو أسيا في المتوسط، وإن كان يمكن أن ينمو ببطء نسبي، أو ربما يتناقص، عبر فترات زمنية طويلة.
نمو أسي:
هو النمو عندما يكون معدل الزيادة في
X
متناسبا مع قيمة
X ، بحيث يصير نموها أسرع كثيرا كلما زادت.
نموذج تشويش:
نموذج تشويش رياضي يستخدم في محاولة تفسير أي ما كان يعتبر تشويشا حقيقيا.
نموذج:
نظام ديناميكي رياضي مهم، سواء لديناميكياته في حد ذاتها أو لأن ديناميكياته تشبه ديناميكيات نظام فيزيائي.
قراءات إضافية
للأطفال
Michael Coleman and Gwyneth Williamson,
One, Two, Three, Oops! (London: Little Tiger Press, 1999).
الأدب
Ray Bradbury, 'A Sound Like Thunder’ (
Collier’s Magazine,
28 June 1952).
Carol Shields,
Unless (Toronto: Random House Canada, 2002).
تاريخ العلم والعلم التاريخي
Thomas Bass,
The Newtonian Casino (Harmondsworth: Penguin, 1991).
Leon Brillouin,
Scientific Uncertainty and Information (New York: Academic Press, 1964).
John L. Casti,
Searching for Certainty (New York: William Morrow, 1991).
Arthur Eddington,
The Nature of the Physical World (Cambridge: Cambridge University Press, Gifford Lectures Series, 1928).
E. E. Fournier d’Albe,
Two New Worlds (London: Longmans Green, 1907).
Francis Galton,
Natural Inheritance (London: Macmillan, 1889).
Stephen M. Stigler (2002)
Statistics on the Table: The History of Statistical Concepts and Methods (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 2002).
H. S. Thayer,
Newton’s Philosophy of Nature (New York: Hafner, 1953).
فلسفة العلم
R. C. Bishop,
Introduction to the
(London: Continuum, in press).
N. Cartwright,
How the Laws of
(Oxford: Oxford University Press, 1983).
John Earman,
A Primer on Determinism (Dordrecht: Reidel, 1986).
Jennifer Hecht,
Doubt: A History (San Francisco: Harper, 2003).
Explaining Chaos (Cambridge: Cambridge University Press, 1998).
الفوضى
L. Glass and M. Mackey,
From Clocks to Chaos (Princeton: Princeton University Press, 1988).
Ed Lorenz,
The Essence of Chaos (London: UCL Press, 1993).
J. C. Sprott,
Chaos and Time-Series Analysis (Oxford: Oxford University Press, 2003).
I. Stewart,
Does God Play Dice? (Harmondsworth: Penguin, 1997).
الطقس
T. Palmer and R. Hagedorn,
(Cambridge: Cambridge University Press, 2006).
نقاشات أكثر تفصيلا
Edward Ott,
Chaos in Dynamical Systems (Cambridge: Cambridge University Press, 2002).
G. Gouesbet, S. Meunier-Guttin-Cluzel, and O. Menard (eds),
Chaos and its Reconstruction (NOVA, 2003). (See, in particular, Chapter 9 by Kevin Judd for a review of ten years of work at CADO in dynamical systems modelling from time series.)
H. Kantz and T. Schreiber,
Nonlinear Time Series Analysis,
2nd edn. (Cambridge: Cambridge University Press, 2003).
More on the Bakers, including the equations, can be found in H. Tong (ed.), 'Chaos and Forecasting’,
World Scientific Publications (Singapore, 1995).
The full 51-member forecast, along with a number of colour illustrations in this Very Short Introduction, can be found in L. A. Smith (2002) 'Predictability and Chaos’, in
Encyclopedia of Atmospheric Sciences , ed. J. Holton, J. Pyle, and J. Curry (New York: Academic Press, 2002), pp. 1777-85.
مصادر الصور
(1-1) © The Times/NI Syndication Limited. (1-3) © The Times/NI Syndication Limited 1990/John Frost Newspapers. (1-5) Louvre, Paris. © Photo12.com/Oronoz. (10-2) Crown Copyright. (10-3) © F. Schuiten.
نامعلوم صفحہ