ـ[الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني]ـ
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: ١٢٥٠هـ)
حققه ورتبه: أبو مصعب «محمد صبحي» بن حسن حلاق
الناشر: مكتبة الجيل الجديد، صنعاء - اليمن
عدد الأجزاء: ١٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
نامعلوم صفحہ
- أ -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة بقلم فضيلة العلامة القاضي
محمد بن إسماعيل العمراني
الأستاذ في قسم الدراسات العليا
بالمعهد العالي للقضاء
والأستاذ بجامعة الإيمان بصنعاء
وعضو هيئة الإفتاء
بدار الإفتاء في الجمهورية اليمنية
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(وبعد):
فهذا كتاب (الفتح الرباني) قد جمع ما تفرق من رسائل وأبحاث وفتاوى شيخ الإسلام القاضي العلامة المجتهد المطلق (محمد بن علي الشوكاني) قدس الله روحه ونور ضريحه، وكان الذي تولى جمعها واهتم بالبحث عنها هو صاحب الفضيلة الشيخ العلامة أبو مصعب (محمد صبحي حسن حلاق) الذي أخرج هذه الرسائل والأبحاث والفتاوى من عالم المخطوطات المخزونة في بعض المكاتب اليمنية والهندية إلى عالم المطبوعات، حيث بقي زمنا طويلا ينقب عنها حتى استطاع بهمته ونشاطه أن يجمع مائتين وأربعة عشر رسالة من تراث الإمام الشوكاني ﵀، ثم يخرجها في اثني عشر مجلدا محققة مخرجة، مطبوعة طبعا جيدا، قد حوت أبحاثا لم يقف الكثير من الباحثين على أسمائها فضلا عن أن يقفوا على بعض
المقدمة / 1
- ب -
نسخها بل كان بعض ممن ألف عن الشوكاني يصرح بعدم وجود بعض أجزائها لا في اليمن ولا في غيرها من الأقطار، ولكن فضيلة الشيخ (أبو مصعب) حفظه الله بهمته القعساء استطاع العثور على ما لم يستطع أحد العثور عليه من كنوز علوم الشوكاني ﵀، ومن ذخائر هذا الإمام العظيم الذي اشتهرت مؤلفاته القيمة في مشارق الديار الإسلامية ومغاربها، ولا سيما بعد طبع ما تأخر من مؤلفاته التي لم تر النور إلا في آخر القرن العشرين حينما اهتم بعض علماء العصر بطبعها ونشرها وعلى رأسهم فضيلة الشيخ (أبو مصعب) حفظه الله ووفقه وكتب أجره وضاعف حسناته وزاده همة وعلما ونشاطا فوق همته وعلمه ونشاطه، وزاد في العلماء العاملين من أمثاله ولا زال رمزا للعلماء العاملين ومثلا عاليا من أمثلة الحب للعلم والعشق العظيم لنشر كنوز العلماء المجددين، وذخائر الأئمة المجتهدين ﵃.
فدونك أيها القارئ الكريم هذه المجلدات العظيمة التي لم تر النور إلا في هذا العام من هذا القرن والفضل في نشرها إلى الله ﷿ أولا، ثم إلى علامتنا (أبو مصعب) ثانيا فرضي الله عنه وجزاه الله خيرا.
والله ﷾ ولي الهداية والتوفيق وسبحانه وبحمده سبحان الله العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
كتبه
محمد بن إسماعيل العمراني
وحرر بتاريخ ١٧ صفر سنة ١٤٢٢هـ
الموافق ١٠ مايو سنة ٢٠٠١ م
المقدمة / 2
- ج -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة بقلم فضيلة الدكتور:
عبد الوهاب بن لطف الديلمي
عضو هيئة التدريس في جامعة صنعاء
ومدير جامعة الإيمان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فعلم من أعلام الإسلام -في اليمن- هو الإمام محمد بن علي الشوكاني، الذي كان بمنهجه، وسيرته، وجهوده في خدمة الإسلام، ومؤلفاته القيمة، وأفكاره التي عادت بصاحبها إلى ما كان عليه السلف الصالح، وتحرره من ربقة التقليد ودعوته الصادقة إلى العودة إلى منابع الإسلام: الكتاب والسنة كان حقا هذه وغيرها من مزاياه التي عرفها مجددا، خاصة في جو كان مليئا بالجهل والعصبية المذهبية.
وقد ترك من ورائه ثروة علمية عظيمة في فنون كثيرة، ظهر بعضها منذ فترة من الزمن، وتبنت كثير من الجامعات الإسلامية تدريس بعض مؤلفاته لما وجدت فيها من الفوائد الجمة.
ولعل الله سبحانه علم من إخلاص الرجل ودفاعه عن الإسلام، وصفاء فكره، ما كان سببا في أن هيأ سبحانه من عباده الذين جاؤوا من بعده، فاعتنوا بإخراج كتبه ونشرها لتعم بها الفائدة.
وكنت قد سمعت منذ فترة من الزمن، أن بعض فتاوى الشوكاني فقدت حين
المقدمة / 3
- د -
وقعت في بعض أيدي الذين لا يروقهم فكر الشوكاني ولا منهجه ولا أسلوبه ولا عقيدته، وهم الذين يكثرون من التحامل عليه لا لشيء، إلا لأنه أراد لنفسه أن يخرج من طوق التقليد الخانق، الذي يئد الفكر والعقل معا، ودعا غيره كذلك إلى الخلاص من أغلال التبعية العمياء، ليدركوا بالفهم الصحيح حلاوة التعلق بنصوص الوحيين.
ولكن الله ﷿ الذي أبى إلا أن ينتشر علم الشوكاني، وهو سبحانه الغالب على أمره، شاءت إرادته أن يقيض من ينقب عن مواطن هذه الرسائل التي فقدت، ويهيئ له أسباب العثور على نسخ أخرى منها، كما يهيئ له التمكن من تحقيقها وطبعها ونشرها، لتعم ها الفائدة وتقوم بما فيها من الخير الحجة، وقد كان أخونا الشيخ محمد صبحي حسن حلاق وقد عشت شيئا من الوقت في مطالعة بعض هذا الجهد المشكور والذي دل على عناء كبير وجهد غير يسير بذله أخونا في إخراج النص بتحقيق يشمل:
١ - العناية بإخراج النص الأصلي للرسائل.
٢ - تحقيق الأحاديث قدر الإمكان.
٣ - شرح الألفاظ الغريبة.
٤ - ترجمة الأعلام والفرق والطوائف. . .
٥ - إيضاح بعض الأمور المهمة في الرسائل بالرجوع إلى كلام أهل العلم إلى غير ذلك مما برز جليا في الجهد المبذول.
ولم يسلم هذا الجهد من بعض الملاحظات التي لا يسلم منها بشر، وقد نبهت عليها أخانا المحقق لعله يستدرك ذلك بعناية تامة، تجنب الرسائل أي خلل قد يحدث مما هو غير متعمد، والكمال المطلق لله وحده.
المقدمة / 4
- هـ -
وكم كنت مسرورا بإخراج هذه الرسائل ونشرها، لما فيها من فوائد جمة يستفيد منها العلماء والباحثون والطلاب على حد ساء أسأل الله ﷿ أن يبارك في جهود أخينا المحقق وأن يجزل له المثوبة وأن ينفع بهذه الرسائل عامة المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
كتبه
د/ عبد الوهاب لطف الديلمي
٢٧/ ٢/١٤٢٢ هـ
٢٠/ ٥/٢٠٠١م
المقدمة / 5
كتاب
الفتح الرباني
من
فتاوى الإمام الشوكاني
المتوفى سنة ١٢٥٠هـ
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
وضبط نصه ورتبه وصنع فهارسه
أبو مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق
القسم الأول
المقدمة: (ص١ - ١١٦)
العقيدة: (ص١١٧ - ١١٠٢)
المجلد الأول
1 / 3
الإهداء
إلى المصابيح المتألقة في سماء اليمن الذين ذللوا الصعاب، وصححوا الانحراف، ونفوا عنها زغل الجهل بالقوة والصمود والمقاومة.
إلى كل عالم وإمام، ومجتهد قدم قول رسول الله ﷺ على أقوال الرجال.
إلى عدول هذه الأمة على مر الأجيال ..
إلى المتمثلين بقول القائل:
دين النبي محمد أخبار ... نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وآله ... فالرأي ليل والحديث نهار
١ - الإمام نشوان بن سعيد الحمري المتوفى سنة (٥٧٣ هـ/ ١١٧٧م).
فقد حورب وأوذي من قبل النفوس الضعيفة، والعصبية الممقوتة، ومن أنصاف الآلهة، ولكنه لشدة شكيمته وقوة إيمانه بترهم بمقوله وسيفه البتار ودفنهم تحت الثرى وبقط العلم المنشور.
٢ - الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (٨٤٠ هـ/ ١٤٣٦م). وهو صاحب "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" (١ - ٩).
فقد تحداه بأذى شديد شيخه (علي بن محمد) المتوفى سنة (٨٢٧هـ) وحزبه فقهره وأنزل به وبحزبه الأذى الشديد، وظل الإمام محمد نجما متألقا، وصوتا مدويا، لم يأفل نجمه ولا غاب بدره كلما تجدد الزمن تجدد ذكره في حين اختفى ذلك الصوت اللاغب المعارض، اللاهث.
٣ - الإمام المجتهد صالح بن المهدي المقبلي المتوفى سنة (١٠٨٥هـ/ ١٦٧٤م). وهو صاحب "المنار في المختار من جواهر البحر الزخار" و"العلم الشامخ" فقد نال شئبوبا من الآلام والمصائب وطورد فنجا بجلده، فجاور بمكة المكرمة ومات فيها.
1 / 5
٤ - الإمام المجتهد الحسن بن أحمد الجلال المتوفى سنة (١٠٨٢هـ/ ١٦٧٤م).
وهو صاحب "ضوء النهار" (١ - ٤). الذي تسلم راية الحق برتابة ووثاقة.
٥ - الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل الأمير المتوفى سنة (١١٨٢هـ/ ١٧٦٨ م).
مؤلف "سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام" (١ - ٨) وغيره.
فقد صارع بقلمه ولسانه ومؤلفاته واجتهاداته التقليد الأعمى بل جهر بصوته المدوي عاليا وبكل جرأة وإيمان بالعمل بالدليل. وخاض معركة سياسية بجسارة وشكيمة فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ونشر القصائد الرنانة، والرسائل الحماسية، والخطب النارية التي ألهبت جلود الطغاة الطغام، ورقى المنابر مرشدا ومنددا وواعظا وهاديا حتى حبس وشرد شأن كل مصلح يستعذب العذاب في سبيل الحق وفي ذات الله.
٦ - الإمام المجتهد محمد بن علي الشوكاني (١١٧٣هـ - ١٢٥٠هـ).
صاحب فتح القدير، ونيل الأوطار، ونيل الغمام، والدراري والفتح الرباني وغيرها. فقد أفرغ آلامه، وصب أوجاعه وشخص أحواله، وشرح ما عاناه وقاساه في مستهل شبيبته ومبدأ دراسته، وما جيء به من أعداء العلم والفضيلة وأسرى التقليد وخصوم السنة والقرآن، وأعان هؤلاء الزعانف قوم آخرون من ذوي السلطان والشيطان في كتابه "أدب الطلب ومنتهى الأرب".
أقدم إنتاجي
أبو مصعب
محمد صبحي بن حسن حلاق
1 / 6
ترجمة مؤلف "الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني"
وتحتوي على:
الفصل الأول: اليمن في عصر المؤلف.
ويحتوي على المباحث التالية:
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الدينية.
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية.
الفصل الثاني: حياة المؤلف.
ويحتوي على المباحث التالية:
المبحث الأول: نسبه وموطنه.
المبحث الثاني: مولده ونشأته.
المبحث الثالث: حياته العلمية.
المبحث الرابع: توليه القضاء.
المبحث الخامس: شيوخه وتلامذته.
المبحث السادس: مؤلفاته.
1 / 7
الفصل الأول: اليمن في عصر المؤلف
ويحتوي على المباحث التالية:
المبحث الأول: الحالة السياسية
المبحث الثاني: الحالة الدينية
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية
1 / 9
المبحث الأول:
الحالة السياسية:
كانت الدولة الإسلامية الكبرى تعاني من ضعف شديد، بلغت الصراعات المذهبية فيها درجة أشعلت الحرب بين الدولتين: العثمانية السنية، والدولة الصفوية الشيعية. وكان المغرب العربي يعاني من صراعات عرقية وقبلية سهلت اجتياح الحملات الإسبانية والبرتغالية لأجزاء من تلك البلاد.
ولعبت الأسرية والقبلية والقوة الدور الحاسم في تولي الحكم والسلطة، ومن ثم تحديد طبيعة النظام الحاكم، وهو أمر مخالف لمبدأ الشورى الإسلامي.
وقد أدى وجود الدويلات الإسلامية المستقلة إلى ضعف دولة الخلافة العثمانية، مما أضعف شوكتها أمام أعدائها -أعداء الإسلام-.
وفي ظروف التفكك والضعف هذه، برزت إلى الوجود قوات الغزو الصليبي العسكري- الاقتصادي بشقيه: الروسي والأوروبي، مستهدفة اقتسام بلاد المسلمين، بعد الإجهاز على دولة الخلافة الإسلامية- العثمانية التي أطلق عليها يومئذ: الرجل المريض.
وكانت الظروف مهيأة أمام الغزو الصليبي، فثغور المسلمين غير محصنة، وخاصة في سواحل البحر الأحمر، وبشكل أخص في بوابتيه الشمالية والجنوبية، والخليج العربي والبحر العربي (المحيط الهندي)، بالإضافة إلى تراخي المسلمين عن الجهاد.
وخالفت الدول الإسلامية مبدأ أساسيا في القرآن الكريم، وهو مبدأ (الولاء) ويعني المناصرة، فكانت الدولة العثمانية توالي الإنجليز ضد الفرنسيين، وكان (محمد علي باشا) يوالي الفرنسيين ضد (الإنجليز)، وحلت العقوبة الإلهية بكل من القوتين المسلمتين، قوة العثمانيين، وقوة (محمد علي باشا)، حيث تآمرت كل من (فرنسا) و(إنجلترا) مع أربع دول أخرى على كل منهما، ومهما قيل من تحليل حول أصداء الحملة الفرنسية، فقد كانت صدمة عسكرية -صليبية- لمصر وللعالم الإسلامي، حيث اكتشف المسلمون
1 / 11
أنهم لم يواكبوا التطور العلمى - التقني الذي سارت في ركابه الدول الأوروبية مما أوجد فجوة كبيرة بين الطرفين ساعدت على هزائم المسلمين أمام الغزو الأوروبي المتعاضد حينا والمتنافس حينا آخر، ولو لم تكن القوى الإسلامية - مهما بلغت من التفكك - قد بعثرت ما لديها من أسباب القوة في صراعاتها العديدة لاستطاعت مواكبة الركب الأوروبي، وإليك بعض الأشكال المختلفة لتلك الصراعات: صراعا عثمانيا- صوفيا، وصراعا عثمانيا- وهابيا، وصراعا عثمانيا- مصريا، وصراعا سعوديا- مصريا، وصراعا إنجليزيا- مصريا، وصراعا عثمانيا- فرنسيا، وصراعا يمنيا- سعوديا، والصراع الأخير كان صراع مهادنة وحذر وتربص.
وكانت هناك أربع قوى يمكن أن تمثل أمل التقدم والتطور لبلاد المسلمين، ويمكن أن تنتصر لو اجتمعت على الزحف الأوروبي الواسع النطاق، وهذه القوى هي: قوة (محمد بن عبد الوهاب) وأتباعه التي تركزت حول التغيير العقدي كأساس للتغيير الشامل والتقدم في كل جوانب الحياة بعد ذلك، ويمكن أن يطلق عليها: (ثورة العقيدة)، وكانت هناك قوة الحركة الإصلاحية المعاصرة للحركة الوهابية وهى حركة (محمد بن علي الشوكاني) التي تركزت في دفع المسلمين نحو التحرر من التقليد والجمود، وتحريك عجلة الاجتهاد بعيدا عن العصبيات المذهبية والسلالية فهي: (ثورة العقل) وكانت هناك حركة فتية تولى قيادها (محمد علي باشا) تركزت حول الاستفادة الجادة والسريعة من التطور العلمي- التقني الذي وصل إليه الأوروبيون، فكانت حركة (ثورة العلم والتكنولوجيا)، وكانت القوة الرابعة هي: قوة العثمانيين العسكرية التي صمدت إلى حين أمام الغزو الأوروبي- الصليبي، لولا معاناتها من الحروب الداخلية، ومن تآمر الحركة الماسونية المتمثلة يومئذ بجمعية (الاتحاد والترقي) التركية- العلمانية الاتجاه، بالإضافة إلى تآمر كل من: روسيا وإنجلترا وفرنسا واليونان والنمسا عليها وعلى (محمد علي باشا)، في نهاية مطاف (الولاء) والصداقة الكاذبة، ولو قدر لهذه القوى الأربع أن تجتمع في معسكر واحد مكللة بالإيمان لاستطاعت امتلاك المسيرة الحضارية المعاصرة،
1 / 12
بعيدا عن أمراضها المادية والخلقية ولتمكنت مشيئة الله من إنماء حياة المسلمين والإنسانية في كل أرجاء العالم.
ولم تخل اليمن من أمراض القوى الإسلامية الكبرى، فقد وجدت صراعات داخلية في ظل نظام الحكم الزيدي الإمامي هي: صراعات أسرية على الإمامة، وصراعات فيما بين القبائل ذات الشوكة من ناحية، وفيما بينها وبين دولة الإمامة من ناحية أخرى، وصراعات بين دولة الأئمة وبين قوة الحركة الإسماعيلية الباطنية- القرمطية، المتمركزة في منطقتي (حراز) و(نجران).
وكان حكم الإمامة يتسم تارة بالعدل وتارة أخرى بالجور، وأحيانا بالقوة وأحيانا بالضعف، ولأخلاقيات وزراء الإمام ودعاة الإمامة وطبيعة سلوك الإمام تأثير كبير بالإيجاب أو السلب على طبيعة النظام الحاكم.
وكانت سيادة اليمن غير كاملة على كل أجزائها، فهناك الصراع ضد سلطة أشراف أبي عريش والمخلاف السليماني، وهناك سلطنات مستقلة كسلطنه (لحج) في الجنوب، وهناك سلطنة الأتراك في (زبيد)، وقد احتل الإنجليز عدن عام ١٢٥٥هـ (بعد موت الشوكاني بخمس سنوات)، واحتل أنصار الدعوة الوهابية (السلفية) بلاد أبي عريش والمخلاف السليماني، وتمكنوا من الاستيلاء على الحديدة (أيام الإمام المتوكل على الله أحمد) وكانت دولة الأئمة تهادن حركة (محمد بن عبد الوهاب)، فتبادل أنصارها المكاتبات والرسل، وقاموا بتطبيق ما قام به سيدنا (علي ﵁ من تحطيم للقباب وتسوية للقبور بأمر رسول الله ﷺ وهو سلوك أثلج صدور علماء الحركة الوهابية (السلفية) وقد قام الشوكاني بدور بارز في تلك المكاتبات والمقابلات لأولئك العلماء (الرسل) وكان له دور بارز أيضا في إقامة العلاقات الدبلوماسية الناجحة مع أشراف مكة والحجاز، وأشراف أبي عريش والمخلاف السليماني، وقوات (محمد علي باشا) عبر مكاتباته التي يسندها الأئمة إليه، وغير الرسل التي يوكل الأئمة له صلاحية اختيارهم.
1 / 13
وقد أبدى النظام الإمامي استعدادا طيبا لمشاركة المسلمين في صد الغزو الصليبي -الاقتصادي- العسكري، كاستعداده لمجابهة الحملة الفرنسية، وحملات البرتغاليين، ورفض إقامة قاعدة إنجليزية في باب المندب، وتولي الشوكاني بمكاتباته إعلان المواقف السياسية المتصلة بهذا الاستعداد، وكان لهذه الأوضاع آثارها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والفكرية (١)
_________
(١) انظر كتاب "الإمام الشوكاني. حياته وفكره" للدكتور: عبد الغني قاسم غالب الشرجبي (ص٣٩ - ٧٦). و(ص١٣٧ - ١٤٠).
وانظر "الإمام الشوكاني مفسرا" للدكتور محمد حسن بن أحمد الغماري (ص٣١ - ٣٩)
1 / 14
المبحث الثاني
الحالة الاجتماعية
عاصر الشوكاني المذاهب والفرق والطوائف الدينية المختلفة، والتي كان له معها مواقفه الخاصة، فكان ناقدا لجوانب الخطأ في مقولاتها، ومزكيا لجوانب الحق والصواب من آرائها ومناهجها.
وفي ظل الحكم الإمامي الزيدي عاصر الشوكاني عصبية مذهبية وسلالية وجمودا على أقوال العلماء والأئمة، دونما بحث عن الدليل من قبل أرباب التعصب والمقلدين، فكانت للشوكاني أدواره الإيجابية في تشخيص ظاهرة التعصب، ومحاربتها بقلمه، وتدريسه، وفتاواه، وكان له رأيه السياسي في حل الفتنة العصبية التي أطلق عليها (فتنة العاصمة- صنعاء) عام ١٨٢٣ م. فاستجاب إمام زمانه لمقترحاته التي طالبت بنفي رؤساء تلك الفتنة إلى سجون متعددة، بعيدة عن العاصمة.
ويعد الاجتهاد- وهو شرط من شروط الإمامة في المذهب الزيدي- ميزة استطاع الشوكاني في ظله أن يصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، وبذلك تمكن من الانخلاع عن المذهبية، فانتقد المتعصبين في كل مذاهب المسلمين، وقام بالدعوة إلى التمسك بالإسلام جملة، وإلى عدم التعصب لأقوال العلماء أو الأئمة بل الالتزام بالكتاب والسنة، اللذين أمرنا الله باتباعهما (١).
وكان اليمنيون قبل دخول المذهب الزيدي متمذهبين بالمذهبين المالكي والشافعي، وقد انقرض المذهب المالكي، وبقي المذهب الشافعي سائدا في المناطق الوسطى والجنوبية والساحلية من اليمن، وكان الشوكاني من الأعلام الذين دعوا إلى اتباع السنة ومذهب السلف الصالح، بدون تعصب لمذهب ما من مذاهب المسلمين، وإنما هو الاقتفاء للحق والدليل فهما رائداه في كل ما يقرأ ويرجح من آراء.
_________
(١) انظر كتاب "القول المفيد في حكم التقليد" بتحقيقنا. الطبعة الثانية
1 / 15
وشهد الشوكاني صراع الأئمة الزيديين ضد الطائفة الإسماعيلية (الباطنية- القرمطية)، وأفتى بكفرها.
وأما المعتزلة فقد كان عام ٥٤٤ هـ أول عام دخل فيه تراثهم إلى اليمن على يد القاضي (جعفر بن أحمد بن عبد السلام- ت ٥٧٣ هـ) شيخ الزيدية والمعتزلة، وقضية الاتفاق والاختلاف بين الزيدية والمعتزلة مسألة جدلية ويمكن تمثيلها بمتصل في طرفه الأول طائفة تمثل قمة الاتفاق، وفي الطرف المقابل طائفة أخرى تمثل قمة الاختلاف، وفي الوسط مواقف تتأرجح نحو هذا الطرف أو ذاك، وموقف الشوكاني من علم الكلام موقف له سمته الخاصة، فهو ينصح طالبه في كتابه: "أدب الطلب" (١) بدراسة هذا العلم لكي يستطيع دراسة تفسير " الكشاف " للزمخشري، ودراسة تراث المعتزلة والأشاعرة والفرق الأخرى، ويتمكن بذلك من الخروج من دائرة التقوقع على علوم المذهب ومخاصمة أهل الكلام دونما علم بمقولاتهم ومصطلحاتهم ومنطلقاتهم، ولكنه يصف تجربته الشخصية مع هذا العلم بالمرارة، وأنها تجربة جلبت له الحيرة، وأنه قد وجد أن مقولاته في نهاية الأمر مجموعة من الخزعبلات، وبناء على ذلك دعا طلابه إلى نهج السلف الصالح الذي يقوم على هجر المصطلحات الكلامية والتمسك بالكتاب والسنة.
وأما الصوفية فقد اشتهر أصحابها بالتواكل وهجر الأسباب واشتهر أتباعها بتقديس زعمائها، والخضوع لأقوالهم، والاهتمام الشديد بتشييد وتزيين قبورهم، والتعلق ببعض الخرافات التي علقت بمحبتهم، فكان للشوكاني معهم جولة طويلة، خاصة في كتبه الثلاثة:
(١): شرح الصدور في تحريم رفع القبور.
(٢): والدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد.
(٣): وقطر الولي على حديث الولي أو ولاية الله والطريق إليها.
_________
(١) (ص١٢٨ - ١٣٠) بتحقيقنا
1 / 16
بالإضافة إلى رسالته: " الصوارم الحداد القاطعة لعلائق أرباب الاتحاد ".
وأما الرافضة فقد كشف الشوكاني النقاب عنهم، وفضح حقيقتهم فيما يتظهرون به من التشيع قائلا:
"ولا غرو فأصل هذا المظهر الرافضي مظهر إلحاد وزندقة، جعله من أراد كيدا للإسلام سترا له فأظهر التشيع والمحبة لآل رسول الله ﷺ استجذابا لقلوب الناس، لأن هذا أمر يرغب فيه كل مسلم، وقصدا للتعزير عليهم، ثم أظهر للناس أنه لا يتم القيام بحق القرابة إلا بترك حق الصحابة، ثم جاوز ذلك إلى إخراجهم- صانهم الله- عن سبيل المؤمنين " (١).
وهكذا بدت لنا الحالة الدينية في عصر الشوكاني ﵀ مما دفعت به إلى حمل لواء الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.
_________
(١) أدب الطلب ومنتهى الأرب (٩٥) بتحقيقنا
1 / 17
المبحث الثالث
الحالة الاجتماعية
لقد أصيبت الحالة الاجتماعية بالتدهور فكانت هناك أنماط متعددة من الصراع بين القوى الإسلامية المختلفة: بين الأتراك واليمنيين، وبين الأتراك والمصريين، وبين الأتراك والوهابيين (السلفيين) إلخ، كل هذا أدى إلى توهين قوة المجتمع الإسلامي وتضاؤل مكانته في العلم.
وعلى المستوى المحلي كان هناك صراع مرير بين المتعصبين وبين المنصفين من العلماء وبين أدعياء العلم والعامة من جهة، وبين علماء الإنصاف والاجتهاد من جهة أخرى.
وتعرض المجتمع الصنعاني كثيرا لحملات القبائل التي نشرت في أحيان كثيرة المجاعة حتى الموت، من جراء مطالبها في رفع مقرراتها المالية السنوية، وإن علقت ذلك بالدفاع عن المذهب السائد للدولة.
وكان (الجمود) سمة بارزة في مجتمع الشوكاني، وأما العلماء فقد قعدوا عن أداء أدوارهم الإيجابية في محو الأمية الدينية والثقافية فكانوا يدارون العامة في معتقداتهم الخاطئة، وسلوكياتهم المناقضة لتعاليم الإسلام مما أدى بالعامة وجهلة المتفقهة إلى إلحاق الأذى بالمنصفين ومعهم الإمام الشوكاني بسبب محاربتهم للعصبية والجمود.
وقد تهافت الظلمة الجهلة على مناصب القضاء فأكلوا أموال الناس بالباطل وهم يعلمون.
وأما الظلم الاجتماعي فقد كان سمة غالبة في المجتمع اليمني تبدت مظاهره في سلوكيات القضاة والعمال (المحافظين) والحكام بمساعدة علماء السوء ووزراء الجور. . .
ومما يؤخذ على الإمام الشوكاني تأثره بالعرف الصنعاني الفاسد الذي كان ينظر من خلاله إلى أصحاب بعض الحرف نظرة متدنية، ولعل هذا ما يبرر موقفه بعد أن
1 / 18
ذاق مرارة حرب المتعصبين من جهلة العلماء الذين كان ينتمي بعضهم إلى تلك الحرف (١). . .
وكانت الحرف الاقتصادية الراقية: " صناعة السيوف " " فن العمارة " " صياغة الذهب والفضة " بيد الجالية اليهودية في اليمن.
ولاحظ الشوكاني سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في اليمن فحاول أن يشخص أسباب تلك الأحوال في كتابه " الدواء العاجل في دفع العدو الصائل " وقد عزا تدهورها إلى الابتعاد عن حقيقة الإسلام، وهجر ما يدعو إليه من عدالة اجتماعية. وحاول رسم سياسة اقتصادية عادلة للنظام الإمامي يحقق من خلالها العدل، ويرفع بها الظلم الاجتماعي. وما أن بدأ تطبيقها بعد اعتمادها من قبل الدولة (الإمام) حتى تكالب عليه وزراء الظلم، وعلماء السوء، وقضاة الرشوة والحيف، وأقنعوا الإمام بالعدول عنها، حتى لا تؤدي إلى تقويض الملك على حد زعمهم.
وأما الأحوال الإدارية فقد كانت هي الأخرى تعكس ضعف السلطة المركزية. . . ودعا الشوكاني في كتابه المذكور سابقا إلى الإدارة المركزية بحيث تصل سلطة الدولة إلى كل قرية. ومن خلال هذه الإدارة تقوم الحكومة بتقديم خدماتها التربوية، والاقتصادية والتعليمية. . . (٢)
_________
(١) انظر " أدب الطلب" (ص١٤٣ - ١٤٥) بتحقيقنا
(٢) انظر كتاب " الإمام الشوكاني. حياته وفكره " للدكتور عبد الغني قاسم غالب الشرجبي (١٠٥ - ١٢٩) و(١٤٣ - ١٤٥)
1 / 19