حروب صَلَاح الدّين وَفتح بَيت الْمُقَدّس
«وَهُوَ الْكتاب الْمُسَمّى الْفَتْح القسي فِي الْفَتْح الْقُدسِي»
تأليف
أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حَامِد
الشهير بعماد الدّين الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي الْمُتَوفَّى سنة ٥٩٧ هـ
دَار الْمنَار
نامعلوم صفحہ
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف]
نسأل الله من الحمد ما يبلغ قضاء حقه (وإن حقه لعظيم). ومن الرشد ما يكتب سلامة نياتنا في الطريق إلى كرمه وإنه لكريم. ونشكر بسر القلب وجهر اللسان إحسانه إلينا بأنهما حادث وقديم. ونستزيده ونستديمه نعمه ولن يخيب على الشكر والرضا مستزيد ومستديم. ونستعين به على الدهر وقد فعل (فإذا الذي بيننا وبينه) عداوة ولي حميم. والحمد الله الذي بدأ بنعمه متطولا، وبمزيده متفضلا، وعلمنا شكر فضله الموفور، وقبل منا عفو خواطرنا المنزور. فلا يكلفنا من الشكر فوق الطاقة، ولا يطلع من النعم الطليعة إلا وراءها من المزيد الساقة. وقد وصف المشكور منه نفسه بأنه شاكر عليم. فرب غافل منا عن الشكر ما غفل عنه فضله العظيم. فلا عد منا ينتاب منتابه راجيا وداعيا، ومستيقظا وساهيا، وصامتا ومتقاضيا، لنا منه على كل حال من مواهب ربما عطل عنها لسان شكرنا، وضمير ذكرنا، وباتت سارية إلينا لا طيفا بل حقيقة على نوم فكرنا. ثم أن الله (تعالى) سامحنا في حقه من الشكر فقبله من عيينا وبليغا، ومتجرعنا ومسيغنا، فتارة يقبله ضميرا مجمجما. وتارة يحيط به قولا ومرة يعلمه نظرا من قلب ينفذ نور الذكر من ظلمات ضلوعه، ومرة يسمعه همسا من لسان يناجي ملكه بنغمات مسموعه، وكيف لا يعلم السر وأخفى من بعينه مسارحه، وكيف لا يعلم الغيب من عنده مفاتحه.
ونرغب إليه في أن يحمل عنا حق نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فإنا لا نرضى بعفو استحقاقه من الوصف جهدنا، فنصل إليه صلاتنا ونؤدي إليه ودنا، ونعظم موقعه حين كان منه قاب قوسين أو أدنى. ونشكره على أن فتح علينا الدار التي كانت إلى الله طريقه ليلة أسرى به. فانبعث ﷺ سهما فكان كقاب قوسين في اقترابه. ما كذب الفؤاد، ولا خاب المراد، ولا صدق المراد. وأين من أخبر عنه إنه رآه بالأفق الأعلى ممن امتن عليه بأنك (بالوادي المقدس
طوى).
فمن كان في روض القرآن يسرح، فرق بين المنزلتين من (رب اشرح) و(ألم نشرح) ونصلي على رسول الله وأصحابه (ولاة الحق. وقضاة الخلق ورتقة الفتق، وغرر السبق، وألسنة الفرق، وفتحة الغرب والشرق.
منهم من رد ردة العرب عن إسلامها. ومنهم من استنزل أرجل
1 / 34
العجم عن أسرتها وتيجانها عن هامها. وأخمد عبدة نيرانه أن يطعموها حطبا ولو وصلت إليهم لأكلتهم، وأخمد عبدة أوثانه عن أن يقعوا لها سجدا ولو وقعت عليهم لقتلتهم. ومنهم من أنفق في سبيل الله وجهز، ومنهم من قتل أعداء الله فأجهز. ومنهم الأشداء على الكفار، ومنهم الأسداء إذا زاغت الأبصار. ومنهم الساجدون الراكعون، ومنهم السابقون ومنهم التابعون. ومنهم نحن أهل الزمن الآخر، وقد سلم علينا سلام الله عليه في زمنه الحاضر. وسمانا إخوانا واشتاق إلى أن يلقانا. فنحن الآن إنما نرد عليه تحيته والبادئ أكرم، وإنما نرجو شفاعته بالمودة التي قدمها والفضل للأقدم.
هذا كتاب فيه بين الأدباء الذين يتطلعون إلى الغرر المتجلية، وبين المستخبرين الذين يسترفون إلى السير المتحلية. يأخذ (الفريقان منه) (على قدر القرائح والعقول، ويكون حظ المستخبر أن يسمع والأديب أن يقول. فإن فيه من الألفاظ ما صار معدنا من معادن الجواهر التي نولدها، ومن غرائب الوقائع ما صار به لسانا من السنة العجائب التي نوردها.
وإنما بدأنا بالتاريخ به لاستقبال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة لأن التواريخ معتادها إما أن تكون مستفتحة من بدء نشأة البشر الأولى. وإما مستفتحة بمعقب من الدول الأخرى. فلا أمة من الأمم ذوات الملل؛ وذوات الدول، إلا ولهم تاريخ يرجعون إليه، ويعولون عليه. ينقله خلفها عن سلفها، وحاضرها عن غابرها.
وتقيد به شوارد الأيام، وتنصب به معالم الأعلام.
وأولا ذلك لانقطعت الوصل، وجهلت الدول ومات في أيام الأخر ذكر الأول. ولم يعلم الناس انهم لعرق الثرى، وأنهم نطف في ظلمات الأصلاب طويلة السرى. وأن أعمارهم مبتدأة من العهد الذي تقادم لآدم. وقد أخذ ربك من نبي آدم من ظهورهم ذرياتهم لما أراده من ظهورهم.
(ليعلم المرء) قبل انقضاء عمره؛ وقبل نزول قبره؛ ما استبعده أهل الطي من حقيقة النشر، وتقبل في واحدة من الأطوار شهادة عشر، فقد قطع عمرا بعد عمر، وسار دهرا بعد دهر، وثوى وأنشر في ألف قبر، وإنما كان من الظهور في ليل إلى أن وصل من العيون إلى فجر.
ولولا التاريخ لضاعت مساعي أهل السياسات الفاضلة، ولم تكن المدائح بينهم وبين المذام هي الفاصلة. ولقل الاعتبار بمسالمة العواقب وعقوبتها، وجهل ما وراء صعوبة الأيام من سهولتها، وما وراء سهولتها من صعوبتها.
فأرخ بنو آدم بيومه، وكان أول من اشترى الموت نفسه، وقام النزع مقام سومه، ثم أرخ الأولون بالطوفان الذي بلل الأرض وأغرقها، ثم بالعام الذي بلبل الألسن وفرقها، وأرخت الفرس أربعة تواريخ لأربع طبقات من ملوكها أولها كلشاه ومعنى هذا الاسم ملك الطين، فإليه ترجع الفرس بأنسابها. وعليه ينسق عقد حسابها. وهي
1 / 35
الآن تؤرخ بيزدجرد آخر ملوكها. وهو الذي بزه الإسلام تاج إيوانه. وأطفأ نور الله بيت نيرانه. وأرخ اليونان من فيلبس أبي الاسكندر وإلى قلوبطرة آخرهم؛ وهؤلاء المسمون بالحنفاء وهم الصابئون. وأرخ الروم بالاسكندر لعظم خطره، وشهرة أثره. وأرخ النبط - بالعراق - والقبط - بمصر - بتواريخ موجودة في الكتب التي خلدوها، والأزياج التي رصدوها. وأرخ اليهود بأنيابهم وخلفائهم، وبعمارة البيت المقدس وبخرابه على ما اقتضاه نقل أوائلهم وآبائهم.
وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة، فكانت حمير تؤرخ بالتبابعة ممن يلقب بـ ذو ويسمى بـ قيل وكانت غسان تؤخ بعام السد حين أرسل الله عرم السيل. وأرخت العرب اليمانية بظهور الحبشة على اليمن ثم بغلبة الفرس عليه. وأرخت معد بغلبة جرهم للعماليق وإخراجهم عن الحرم. ثم أرخوا بعام الفساد - وهو عام وقع فيه بين قبائل العرب تنازع في الديار فنقلوا منها، وافترقوا عنها. ثم أرخوا بحرب بكر وتغلب - ابني وائل - وهي حرب البسوس. ثم أرخوا بحرب عبس وذبيان - ابني يغيض - وهي حرب داحس والغبراء، وكانت قبل البعث بستين سنة. ثم أرخوا بعام الخنان. قال النابغة الذبياني.
فمن يك سائلا عني فإني ... من الفتيان في عام الخنان
وأرخوا بعده من مشاهير أيامهم وأعوامهم بعام المخانق، وعام الذنائب، ويوم ذي قار، وبحرب الفجار، وهي أربع حروب ذكرها المؤرخون، واسندها الراوون. وأدنى ما أرخوا به قبل الإسلام بحلف الفضول منصرف قريش من الفجار الرابع. وبحلف المطيبين - وهو قبل حلف الفضول. ثم قبل حلف الفضول. ثم بعام الفيل وهو الجار ذو القربى لتاريخ الإسلام. وبعده خرج إمام الجمعة فطويت الصحف وجفت الأقلام.
وأظهر الله على الأديان الدين القيم، ونسخ تاريخ الهجرة كل تاريخ متقدم، فأمن وقوع الخلف الواقع في تواريخ الامم، وجبت الهجرة ما قبلها جب الأنوار للظلم. ودفع الله الناس بعضهم ببعض، واستدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وسأل الله عباده على يد وكيل حقه من الأموال والأنفس ما يعيده إليهم مضاعفا من القرض.
ووقت هذه الهجرة الوقت الذي أمر به أمر الإسلام، ويومها اليوم الذي ما ولدت الليالي مثله من بنيها الأيام، وعامها الخاص بالفضل وكل ما بعده يعد من عوام الأعوام.
1 / 36
وأنا أرخت بهجرة ثانية تشهد للهجرة الأولى بأن أمدها بالقيامة معذوق، وبأن موعدها الموعد الصحيح غير المدفوع والصريح غير الممذوق، وهذه الهجرة هي هجرة الإسلام إلى البيت المقدس، وقائمها السلطان صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب. وعلى عامها يحسن أن يبني التاريخ وينسق، وتسفر عن أهلتها دآدئ المداد وتنشق، وهي وأن كانت هجرة الإسلام إلى القدس ثانية؛ فقد كان انثنى عن وطنه منها لما ثنته يد الكفر ثانية.
وهذه الهجرة أبقى الهجرتين، وهذه الكرة بقوة الله أبقى الكرتين. فإن العرب كانت إذا تناهت في وصف الرجل بالقوة قالت (كأنه كسر ثم جبر). والحق أن نقول: إن أطول الحياتين حياة المرء إذا مات ثم نشر. والعيان يشهد أن أمنع السوءين ما عمر بعد أن ثغر، والفرق بين فتوح الشام في هذا العصر وبين فتوحه في أول الأمر فرق يتبين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
فإن الشام فتح أول والعهد بالرسول ﷺ غير بعيد، والوحي ما كاد يتعطل في طريقه من السماء إلى الأرض بربد، والعيون التي شاهدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسل سيوفها من أجفانها، والقلوب التي شهدت مواقف معجزاته أوثق بخبره في الفتح منها بعيانها. ورسل عالم الغيب إلى عالم الشهادة بالآيات المؤتلفة مختلفة، ونجدات السماء إلى الأرض متصلة بالملائكة منزلة ومسومة ومردفة.
وقد أخبرهم سيدنا وسيدهم أن الأرض زويت له مشارقها ومغاربها. وأنه سيبلغ ملك أمته المثوبة المرحومة ما ضمت عليه جوانبها. والروم حينئذ بغاث ما استتر، والفرس يومئذ رخم ما استبصر، والحديد ما تنوعت اشكاله الرائعة، ولا طبعت سيوفه هذه القاطعة، ولا نسجت ثيابه هذه المانعة. والبروج لا تعرف إلا مشيدة لا
مجلدة، والمنجنيقات لا يتوثب ما يتوثب اليوم من خشبها المسندة. والأقران لا تتراجم بالنيران المذكاة، والاسوار لا تتناطح بالكباش المشلاة.
وبصائر السلف الصالح رضوان الله عليهم يقاتل بها لو كانوا عزلا، والواحد منهم يسوق العشرة كما يساقون إلى الموقف حفاة غرلا، وكانوا أحرص على الموت منا على البقاء، وكان شوقهم إلى لقاء الله باعثهم على لقاء الأعداء بذلك اللقاء.
والشام الآن قد فتح حيث الإسلام قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا، وهريق شبابه، واستشن أديمه، وقد عاد غريبا كما بدأ غريبا، وقد طلع شرف الستمائة وهي للملك المعترك، وكثرت معاثره بما نصب الشرك من الشرك، وأخلق الجديدان ثوبه وكان القشيب، وذوي غصنه وكان الرطيب، ونصلت كفه وكانت الحضيب.
وطال الأمد على القلوب فقست، ورانت الفتن على البصائر فطمست. وعرض هذا الأدنى قد أعمى وأصم حبه، ومتاع هذه الحياة القليل قد شغل عن الحظ الجزيل في
1 / 37
الآخرة كسبه. والكفار قد خشنت عرائكهم واتسعت ممالكهم، واستبصروا في الضلال، واستبضعوا للقتال، وخرجوا من ديارهم يخطبون غاشية الموت، ونفروا من وراء البحر يطلبون أمامهم من البرناشية الصوت.
وقاتلوا جندا ورعية، واستباحوا الأنفس متورعين فلا ترى أعجب من أن ترى استباحة ورعية (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعلمون) وأمدهم في طغيانهم يعمهون، ورفعوا التكليفات فلا ينزع الحديد لوضوء ولا مسح، واستشعروا لبوس البوس فلم يلبسوا وجها إلا مزرور الشفاه على القلوب بلا شر ولا مزح. شقرا كأنما لفحت النار وجوههم (وهم فيها كالحون)، زرقا كأنما عيونهم من حديدهم فهم بقلوبهم وعيونهم يكافحون، قد نزع الله الرقة من قلوبهم، ونقلها إلى غروبهم، وعذب بهم لما يريده من تعذيبهم، واشتعلت نار جهلهم في فحم ذنوبهم، تستعيذ
المردة من مردتهم ويدعى للنار بالعون على الاطلاع على أفئدتهم.
فظاظ غلاظ، جهنميون كلامهم شرر وأنفاسهم شواظ، (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أولئك هم الغافلون). خلق الله الخلق من طين وخلقهم من حجارة، فهم المكنى عنهم بوقود جهنم حين قال (وقودها الناس والحجارة). وإلا فالحجارة لا تستحق الوقود، إلا أن يراد بها القلوب التي هي كالجلمود في الجمود.
ومضت ملوك الإسلام، ومضت أيامهم كالبارق وأن لم يخلع الإظلام، وزادت أيامهم الأيام خيالا فتنازع الناس طرائف الأحلام. وحابوا هذا العدو الكافر فما اثروا فيهم، وكانوا محاربين كمسالمين وبذلوا جهدهم فلا تقول أنهم مظلومون بالعجز وما نسميهم ظالمين.
اللهم غفرا (لكل أجل كتاب) و(كل يوم هو في شأن) ولكل مقدور أجل، ولكل ما خلق له تيسير. ولكل ما تقدم الكتاب الموقوت تأخير، والأيام تمخض وتمطل بالزبدة، والسور تتلى إلى أن تأتي بالسجدة، والناس يريدون الخروج ولكن ما اعدوا له عدة، والعذر على كل لسان لكل قوم مدة.
إذا عجزوا قالوا مقادير قدرت ... وما العجز إلا ما تجر المقادير
وأبى الله من يقبل عذرا صحيحا، وكفى بلفظة النبوة لوما صريحا.
فلما أراد الله الساعة التي جلاها لوقتها؛ وأظهر الآية التي لا أخت له؛ فنقول: فهي أكبر من أختها؛ أفضت الليلة الماطلة إلى فجرها، ووصلت الدنيا الحامل إلى تمام شهرها. وجاءت بواحدها الذي تضاف إليه الأعداد، ومالكها الذي له السماء خيمة والحبك أطناب والأرض بساط والجبال اوتاد، والشمس دينار والقطر دراهم والأفلاك خدم والنجوم أولاد (صلاح الدنيا والدين). ومهما دعونا له فإن الله قد سبق إليه كونا، ورأينا بين منانا
1 / 38
وبين كرمه بونا. فهو سبحانه اكرم بالنوال منا
بالسؤال. والكريم بكرم الله مجزى، والساكت عن الدعاء له مكفى.
فإن قلنا: أحسن الله إليه: فقد قال (وإنا لا نضيع أجر من أحسن عملا). وإن قلنا: جزاه الله بالإحسان: فقد قال (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وإن قلنا: هداه الله سبيله: فقد قال (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا): وأن قلنا: لا ضيع الله عمله: فقد قال (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل). وإن قلنا: لا جعل الله لدهر عليه سبيلا: فقد قال (ما على المحسنين من سبيل). وأن قلنا: زاده الله هدى: فقد قال (والذين اعتدوا زادهم هدى)
كل مسئول سائل ... في معاليه قد كمل
لا يسل منه سائل ... سبق الجود ما سأل
ولتُصحَّح تأملا ... تجد الله قد فعل
ونعود إلى ذكره - أعز الله ذكره - فجاد إلى أن لم يبق مال ولا أمل، وجاهد إلى أن لم يبق سيف ولا قلل (فلا كفتح على يديه فتح) وما هو فتح واحد؛ ما هو إلا فتحان: فتح والدم ذائب، وفتح والذهب جامد. فما البلاد التي جمعها فاتحا، بأغرب من البلاد التي فرقها مانحا. فقد استوعب بأسه أكثر مما ولدت المعادن حديدا، وزاد لأنه ضرب بالسيوف التي كسرها (مدى ومنالا) ثم ضربها، واستوعب جوده ما ولدت المعادن ذهبا وزاد لأنه نقل إلى الأعداء ثمن سلع ثم نهبها فوهبها فكل معاد معادى إلا هذا المعاد. وكل مداد يكتب به أسود إلا هذا المداد. (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون)، أما يرى الناس ما على وجه الصدق من قبول القرائح! وما على يد الجود من قبل المدائح.
الناس أكيس من أن يمدحوا ملكا ... ولم يروا عنده آثار إحسان
وأنا لنرجو أن نكون قد كتبنا بمدحه مع الصادقين الذين أمر الذين آمنوا أن يكونوا معهم. وأن نكون قد كتبنا مع المحسنين لأنا أحسنا وصفه إحسان الله إلى عبادة،
ولم يقطع بنا ما قطعهم. وأنا وأن كنا رعاياه لنرى أنفسنا ملوكا ونرى الملوك وهم له سوقة، وأن القلم في أيدينا لهتز طربا لذكره كأنه جان، وكأن السيف يشنع بأنه فروقه. ولسنا نسميه قصيرا وأن جدع أنفه. ولكنا نركبه كما ركب قصير العصا إلى وصف هذا السلطان ليدرك وصفه.
ونقول للقلم إذا فاخره السيف (أن شانئك هو الابتر) ونريد إذا أوردناه وصف مولانا بـ (إنا أعطيناك الكوثر).
1 / 39
على أن هذا القلم يلزم الأدب لذكره - أعلاه الله - فينكس رأسه، ويقبل بين يديه كما يقبل حامله الأرض قرطاسه. ولست ببعيد في تقييد هذه المفاخر، وتشييد هذه المآثر من رجال الطعن والضرب الذين فتحوا بين يديه وأوجبوا الحق عليه، بل حقي من حقوقهم أوجه وأوجب، وقلمي من سيوفهم أضرى وأضرب، ومن رماحهم أخطى وأخطب، ومن سهامهم أنجى وأنجب، ومن قسيهم أكسى وأكسب، ومن جيادهم أسرى وأسرب. ومدارى من نقعهم أغلى وأغلب، وقرطاسي من راياتهم أجلى وأجلب. وسيوفهم قد أغمدت وجردت منه مالا يغمد ولا يعمد، وآثار السيف من الجراح قد رقأ دمها، وآثاري من الذكر لا تخمل ولا تخمد.
وما السيف أسوى ضربة من لسانيا
فكل أثر خبر به غيري يموت الخبر بموته، وينقطع صيت الأثر بانقطاع صوته، والذي أخبر أنا به عنه روض يزهو إذا أقلعت الأيام سحبت، ونجم يبدو إذا أفاض الشفق على فضة النجوم ذهبا، فهو قول يذكر وينسى كل فعل وفاعله، لا قول يؤثر مهما عاش اليوم عالمه ثم لا يأتي في غد إلا جاهله. فهذه الكتب تهب الأعمار الثانية. وتفاخر الألسنة القائلة بها الأيدي الكاتبة البانية.
فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه، تجدوا الإيوان قد خرت شعفاته، وعفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد أبقى بها اسم كسرى في
ديوانه. أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه، وإنما نراوح بين الأوصاف الغادية، ونناوب بين السمات السامية، للإشارة إلى من ينبه على مسماه، وينوه بسيماه.
فأما من يقول الله لاسمه أنت من معقبات حمدي ويقول الدهر لذكره أنت الباقي من بعدي فإنما يلزم الأدب بوصف فضله العظيم، ويرفع قدر القول بفضل وصفه الكريم.
ويسر الله هذه الفتوح وأنزل بها الملائكة والروح، في أيام سيدنا ومولانا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن الإمام المستضيئ بالله أبي محمد الحسن بن الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن الإمام المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام المقتدى بالله عبد الله بن الذخيرة محمد بن الإمام القائم بأمر الله عبد الله بن الإمام القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن الإمام المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن الإمام المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن الإمام المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن الإمام المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الإمام الرشيد بالله أبي جعفر هارون بن الإمام المهدي بالله أبي عبد الله محمد بن الإمام المنصور أبي جعفر
1 / 40
عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين والخلفاء الراشدين، وهي الأيام التي زواهر أيامها زواه، ومضاء مضاربها في القضاء مضاه.
فما اجلها فضلا وأفضلها جلالا، واقبلها جدا وأجدها إقبالا، وأقربها ندى ونوالا، وأبعدها مدى ومنالا وما أعلى سني مجدها، وأحلا جنى رفدها، وأفغم ريا رياض فضائلها. وأفعم حيا حياض فواضلها، وأسح سماء سماحها أمطارا، وأصح جناح نجاحها مطارا. والسلطان صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب ناصر دعوته وداعي نصرته، ووليه الطائع وسيفه القاطع، والمحكم بأمره، والمؤثر
بحكمه. فرأيت إبداء ميامن هذه الأيام الغر على الآباد بغرر الآداب، وقيدت شوارد معانيها، وسيرت محامد معاليها بهذا الكتاب، وأودعته من فوائد الكلام والفرائد الفذ والتوأم، در السحاب ودر السخاب.
وسميته الفتح القدسي تنبيها على جلالة قدره، وتنويها بدلالة فخره، وعرضته على القاضي الأجل الفاضل، وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل. فقال لي: سمه (الفتح القسي في الفتح القدسي) فقد فتح الله عليك فيه بفصاحة قس وبلاغته، وصاغت صيغة بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته.
ولما كان هذا الفتح في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بدأت بها، وأنشأت رياضي بسحبها، وما شهدت إلا بما شاهدته وشهدته، وما استمطرت الاعهاد العهد الذي عهدته، وما عنيت إلا بإيراد ما عاينته، ولا بنيت القاعدة إلا على أس ما تبينته قبينته، وما توخيت إلا الصدق، وما انتهيت إلا الحق، ولا ذكرت كلمة تسقط ولا اعتمدت إلا ما يرضي الله ولا يسخط. وبالله التوفيق والعصمة، وله الحمد ومنه النعمة.
1 / 41
دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
وكتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الأقطار والبلاد، يستدعي من جميع الجهات جموع الجهاد، وأهل للاستدعاء أهل الاستعداد، واستحضر الغزو، من الحضر والبدو.
وبرز من دمشق يوم السبت مستهل المحرم قبل استنجاد الجنود، واستحشاد الحشود، واصحار الأسود، وإحضار البيض والسود، مضيء العز، ماضي العزم، صائب السهم، نائب الفهم، ثابت السعود كابت الحسود، وخيم على قصر سلامة من بصرى، وكفت يد رعبه الطولى من الفرنج اليد القصري، وأقام على ارتقاب اقتراب الحجاج، وقد رتب الفرنج من الأرصاد أفواجا على تلك الفجاج، لاسيما
ابرنس الكرك، فإنه كان حريصا على الدرك، ناصبا شر الشرك. نصب الشرك. فلما شم ذلك الذئب رائحة الأسد، عاود دخول حصنه حذار خروج روحه من الجسد. ووصل الحاج في أول صفر وقد قضوا حاجهم، ورضوا منهاجهم، وخرجوا عن فرضهم، ودخلوا إلى أرضهم، وفرغ القلب من شغلهم، وخف ما لزم من ثقلهم.
وانتظر السلطان وصول المستدعي، ورعى منه حصول العدد المسترعي. فأبطأ عليه وروده، واختلفت في الإسراع وعوده، فأمر ولده الأكبر الملك الأفضل نور الدين عليا؛ ولم يزل مكانه عنده عليا؛ أن يقيم على رأس الأمراء برأس الماء، وتجتمع العساكر الواصلة منه تحت اللواء.
وتقدم السلطان في أتباعه وأشياعه، إلى الكرك وضياعه، فأقام عليها يرهق ويزهق، ويحرب ويحرق، ويرعب بصاعقة بأسه ويبرق؛ حتى ألحق الموجود بالمعدوم، وأتى بالقطع على البساتين والكروم. ورعى الزروع، وعرى الدروع، واستأصل الأصول والفروع حتى أقوت من الأقوات، واستعرت الغلة بغلاء سعر الغلات. وحلت آجال الأرزاق، وانحلت عرا الارماق. وأقفر بلد الشرك، وامتلأ من الكرد والترك.
وسار إلى الشوبك فأسار به شوبا، وألحفه من عريه ثوبا. وأخلاه من زرع ونبات، وفرغه من أقوات وقوات. وأذهب ضياء تلك الضياع، وأزال بقاء تلك البقاع. وجلس الخلال، وداس الغلال. وقشر الثرى وبشره، وحشر الردى ونشره. وسلب قرار القوى وسكون مسكونها، وفجع الفرنج بكرمها وزيتونها، وقد عدم ليلها المصباح، وصباحها الإصباح.
ووصل عسكر مصر فتلقاه بالقريتين، وفرقه على أعمال القلعتين، وأقام على هذه الحالة في ذلك الجانب شهرين. والملك الأفضل ولده مقيم برأس الماء، في جمع
عظيم من العظماء. وعنده الجحافل الحافلة، والحواصل الواصلة، والعساكر الكاسرة، والقساور القاسرة. والبواتر الواترة. والخضرم الضرم، والعرمرم العرم، واللهام الملتهم.
1 / 42
والجيش الجائش، والترك والاكادش. والجنود والبنود والأسود السود. والفيالق الفوالق. والبيارق البوارق. وبنات الأغماد قد برزن من خدورها حبا لمعانقة العدا، ظامنات إلى ورود الوريد وما أحسن حلى نجيع الكفر على عرائس الهدى.
والعزم يستنهضه، والعز يحرضه، والدين يستبطيه، والنصر يستعطيه. والقدر يحركه، والظفر يدركه. والكفر قد مات من ذعره، والإسلام قدمت بعذره. وهو ينتظر أمرا من أبيه يأتيه بما يأتيه، ويكتب إليه ويقتضيه، من رأيه بما رأيه يقتضيه.
ولما استمر تأخر الأمر استمر التأخير، وقدم في الإقدام التبكير والتكبير. وانتهز الفرصة وأحرز الحصة. وانتخى وانتخب الأجناد الانجاد، وجرد الجرد واستجاد الجياد. وسرى السرية السرية، وأمرها بالغارة على الغرة بأعمال طبرية. و(عليهم) مظفر الدين بن زين الدين على كوجك المقدم المقدام، والهمام الهمام، والأسد الأسد. والأرشد الأشد. وعلى عسكر دمشق قايماز النجمي. وعلى عسكر حلب دلدرم الياروقي. فساروا مدججين، وسروا مدلجين. وصبحوا صفورية وساء صباح المنذرين.
فخرج إليهم الفرنج في جمع شاك، وجمر ذاك. وقنطاريات طائرات، وسابريات سابغات. وللداوي دوى. وللاسبتارى هوى. والباروني يقدم على البوار، والتركبولي يلقي نفسه على النار.
وقد ثاروا والثار قد وقد، والجو قد عقد. وقد انصدع زجاج الزجاج، وارتجز عجاج العجاج. وانفض الفضاء، وانقض القضاء. وكادوا يفلون الجمع ويجمعون
الفل، ويحلون العقد ويعقدون ما انحل.
فثبت قايماز النجمي في صدورهم، واشرع الأسنة إلى نحورهم. وروى اللهاذم من تامورهم وعطف مظفر الدين يشلهم ويفلهم. لا يكترث بكثرتهم ويستقلهم. ولقيهم دلدرم بالوجه الابيض، والعزم الانهض. والجد الأجد، والحد الأحد. وانجلى الغبار وقد عم الفرنج القتل والإسار، وفجع بقتل مقدمهم الاسبتار. وأفلت مقدم الداوية وله حصاص، ووقع الباقون ولم يكن لهم من الهلك محاص. وأخلفت رنة السراء أنة الإسراء، وكانت هذه النوبة بلا نبوة. والهبة بلا هبوة.
وسكنت القلوب بهذه الحركة، وركنت النفوس إلى هذه البركة. وسارت البشرى وسرت، ودارت النعمى ودرت. وعد ذلك من إقبال الملك الأفضل وفضل الملك المقبل. وحسنت السنة بالنصر وأحسنت الألسنة في الشكر. هذا والعساكر في كل يوم يفدون ويفيدون. وفيما يجدون الطريق إليه من النكاية في العدو يجدون ويجيدون. وجاءتنا البشارة ونحن بالكرك فأيقنت الآمال بالنجح والدرك. وسار سلطاننا الملك الناصر صلاح الدين ووصل السير بالسرى، وخيم بعشترا فغصت بسيول الخيول الوهاد والذرا. واجتمع به ولده، وقر عينا بشبل العرين أسده.
وما رأيت عسكرا أبرك منه ولا أكبر، ولا أكرث للكفر ولا أكثر. وكان يوم عرضه
1 / 43
مذكرا بيوم العرض. وما شاهده إلا من تلا (ولله جنود السماوات والأرض). في ألوية كأنما عقدتها حور الجنان بخمرها. وبيارق كأنما حبتها أنف الرياض بزهرها. ويوم كالليل عجاجا، وليل كاليوم ابتلاجا. ومناصل بالمنى صلت، وقساطل بالقسي طلت. وفيلق لهام اللهام يفلق. وقلوب يمانية رقاق في صدور الأغماد تقلق، وطيور سهام من أوتار الحنايا إلى أوكار المنايا تمرق. وسوابغ مفاضة، وسوابق مرتاضة. وهضاب راسيات، وهواضب ساريات.
ولما تم العرض، حم الفرض. وتعين الجهاد، وتبين الاجتهاد. واضطربت السهول
والوعوث، وانبعثت الهمم وهمت البعوث. وسمع الفرنج بكثرة الجمع الجم، وزخرة اليم الخضم. وبروز التوحيد إلى التثليث، وانتهاض الطيب لإدحاض الخبيث. فخافوا وخابوا، وهبوا وهابوا. وعرفوا أن حزبهم مخذول، وأن غربهم مفلول. وأن حدهم مثلوم، وأن جندهم مهزوم. وأنه قد جاءهم ما لا عهد لهم بمثله، وأن الإيمان كله برز إلى الشرك كله.
وقد كان بينهم حينئذ خلف منبعث، وحلف منتكث. ووقوع نفار بين الأنفار، ووقود شرار بين الشرار. ولما استدنوا حين حينهم، سعوا في إصلاح ذات بينهم. ودخل الملك على القومص ليتقمص له بالود الاخلص. ورمى عليه بنفسه، واستبدل وحشته بأنسه. فاصطحبا بعد ما اصطلحا. واصحبا بعد ما جمحا.
وتزاور الفرنج وتوازروا. وتآمروا ما بينهم وتشاوروا. وقالوا هذا دين متى دنا منه الوهي هوى، وعود إذا عاده الأذى ذوى. فالمسيح لنا، والصليب معنا. والمعمودية عمدتنا، والنصرانية نصرتنا. ورماحنا مراحنا، وصحافنا صفاحنا. وفي لوائنا اللأواء. ومع اودائنا الداوية الأدواء. وطوارقنا الطوارق، وبيارقنا البوائق. وسيف الاسبتار بتار، ولقرن الباروني من مقارنته بوار. ومعنا الدلاص والصلاد، والصعاب والصعاد. وفي كل قنطاري قنطار، ولكل سابري من اسنتنا مسبار.
وقد عم بحرنا الساحل، وشددنا به المعاقد والمعاقل. وهذه الأرض تسعنا نيفا وتسعين سنة، وما تضيق بنا في هذه السنة، وأرماحنا إلى هذه الغاية من الاسواء أسوار هذه البقاع والأمكنة. وسلاطين الإسلام ما صدقوا أن يسلموا إلينا ويسالمونا، ويبذلوا لنا القطائع ويقاطعونا، وطالما ناصفونا وما صافونا، وهادونا وهادنونا. وفي جمعنا تفريقهم، وفي وقعتنا تعويقهم.
فقال القومص وكان محربا مجربا، متدبرا متدربا هذا صلاح الدين لا يقاس بأحد
من السلاطين لتسلطه، وإقدامه على المخاوف وتورطه. وإن كسركم مرة فلا يصح لكم الجبر. وليس إلا المراوغة والمغاورة والصبر. والصواب ألا نخالطه ولا نباسطه، ولا نخالفه ونقبل شرائطه.
1 / 44
فقال له الملك أنت قد قلبتك الآفة، وفي قلبك المخافة. وأنت للحور رخو، وللخشية حشو. وأنا لا بد أن أصدمه وأصده، وأكدمه وأكده، وأرادده حتى أرده. وأقيم صليب الصلبوت فلا يعقد عنه من أهل الأحد. وأمد يد الأيد لجمعي فلا تمتد لأهل الجمعة يد.
فقبل القومص قوله على مضض، وصح ظاهره معه على ما كان في الباطن من مرض. ولما أحس منه الملك بالوفاء والوفاق؛ وعدم أهل الشقاء ما وجدوه بينهما من الشقاق؛ اشتغلوا بالحشد والحشر، والطي والنشر.
ذكر ما كان بين ملك الإفرنج وبين القومص من الخلف
لما هلك الملك أمارى بن فلك في آخر سنة تسع وستين وخمسمائة خلف ولدا مجذوما، وكان مع الوجود معدوما. قد أعضل داؤه، وأيس شفاؤه، وسقطت أعضاؤه، وطال بلاؤه. فوضع الفرنج التاج على رأسه، وتمسكوا مع إمراضه بأمراسه. ونفخوا في ضرمه، وتسمنوا بورمه، وصحوا بسقمه، ورقوا في سلمه، ورضوا بتقدمه. وأكبروه وأركبوه، واقدموا به وقدموه، وهم يكرثون بحذاذ ملكهم هذا، ولا يكترثون بجذامه، ويحمون حماه أن يحم حلول حمامه، وبقى بينهم زهاء عشر سنين ملكا مطاعا، معارا من إشفاقهم واتفاقهم مراعى.
فلما أحس بهلاكه، وسكون حراكه. أحضر البطرك والقسوس، والمقدمين والرءوس. وكان له ابن أخت صغير؛ عن التطاول إلى الملك قصير، وقال لهم:
الملك في هذا، ولكن القومص يكلفه مدة سني صغره، وهو يستقل بع بعد كبره. فهو الآن لا يستبد، ومن أمر القومص يستمدز فقبل القومص الوصية، وجمع إليه الأطراف الدانية والقصية، وسكن طبرية. فإن صاحبتها كانت تزوجت به، وطمعت في قوته وقربه.
وهلك الملك المجذوم، وظهر السر المكتوم. وطمع القومص في الملك استقلالا، فعدم موافقة الداوية. وقالوا يلزمك العمل بشرط الوصية. فكفل بالأمر وهو مغلوب، وتفقد اختياره فإذا هو مسلوب. ورغب في مقاربة السلطان صلاح الدنيا والدين، ليقوى بجانبه، ويحظى من مواهبه. فاشتد أزره، واستد أمره، واستقل بنفسه، واستولى على جنسه، حتى مات الملك الصغير فانتقل الملك منه إلى أمه، وبطل ما كان في عزم القومص برغمه.
وانتقل الملك إليها، واجتمع الفرنج عليها. فقال لهم زوجي أقدر. وهو أحق بالملك وأجدر وأخذت التاج من رأسها فوضعته على رأسه، وعاش رجاءه بعد يأسه. وراش غناه بعد إفرسه، وانتاش ابليسه بعد ابلاسه
1 / 45
وقامت قيامة القومص بإجلاسه. وطالبه الملك الجديد بحساب ما تولاه، فما أجاب دعوته ولا لباه. واستنصر عليه بسطاننا الملك الناصر، وأقام بطبرية في زي المتطاول المتقاصر. وضم إليه من الإفرنجية من استرغبه، بما استماحه من سلطاننا واستوهبه.
وحث العزم السلطاني على قصدهم ليرد إليه الملك، ويجد له في نظم أمره السلك. فلما اجتمعت العساكر الإسلامية، وتألفت منها الجزرية والديار بكرية والمصرية والشامية، جاء الملك إلى القومص بنفسه، وفتح له ما وجده من وحشته وعدمه من أنسه. وقال أصحاب القومص له أن لم تنصره فنحن ما نخذل الدين، ولا نكون بأيدينا مسلمين إلى المسلمين. وتمت بينهم ليوم المصاف المصافاة، وزالت المنافرة والمنافاة.
ذكر دخول السلطان صلاح الدين بالعسكر إلى ديار الفرنج
أصبح بالمخيم عارضا من العسكر لعارض ثجاج، وبحر بالعجاج عجاج، وخضم بالصواهل السوابح والمناصل والصفائح ذي أمواج. وقد رتب أبطاله وأطلابه، وسحب على وجه الأرض سحابه، ونقل به من الثرى إلى الثريا ترابه. وأطار إلى النسر الواقع من الغبار غرابه. وقد فض الفضاء ختام القتام. وشدت للشدائد كتب الكبت على حمام، وحنت ضلوع الحنايا على أجنة السهام وتكلفت العوجاء بالمعتدلة، وضمت المنفلتة إلى المنفتلة. ووفت الأوتار بالاوتار، وثار كل طلب لطلب النار. ووقف السلطان يوم العرض يرتب العسكر ترتيبا، ويبوبه تبويبا. ويعيبه بعيدا وقريبا. وقرر لكل أمير أمرا ولكل مقدام مقاما. ولكل موفق موقفا. ولكل كمين مكانا. ولكل قرن قرانا. ولكل جمر مطفئا، ولكل جمع نكفئا. ولكل زند موريا، ولكل حد ممهيا. ولكل قضية حكما، ولكل حنية سهما. ولكل يمين مقضبا. ولكل يمان مقبضا. ولكل ضامر مضمارا، ولكل مغوار مغارا. ولكل رام مرتمى، ولكل نام منمى، ولكل سام مسمى، ولكل اسم مسمى.
وعين لكل أمير موقفا في الميمنة والميسرة لا ينتقل عنه. ولا يغيب جمعا ولا يبرح أحمد منه. وأخرج الجاليشية الرماة الكماة من كل طلب، ووصى كل حزب بما يقربه من حزب. وقال إذا دخلنا بلد العدو فهذه هيئة عساكرنا، وصورة مواردنا ومصادرنا. ومواضع اطلابنا، ومطالع أبطالنا. ومصارع أسنتنا، وشوارع أعنتنا. وميادين جردنا، وبساتين وردنا. ومواقف صروفنا، ومصارف وقوفنا. ومرامي مرامنا، ومجالي مجالنا.
وقوى الآمال بما بذله من الأموال، وحقق في إنجاز المواعد وإنجاح
1 / 46
المقاصد
رجاء الرجال، وجمع العدد، وفرق العدد. ووهب الجياد وأجاد المواهب، ورغب في العطايا وأعطى الرغائب. ونثر الخزائن، ونثل الكنائن. وانفق الذخائر، واستنفد كرائمها والاخاير. وقسم أحمال النشاب فتفرق الناس منه بأكثر من ملء الجعاب. وأجرى الجرد وأجنى الأجناد، وأذكى المذاكي وأشهد الأشهاد. وأذال مناقب المقانب، واستمال معاطف المعاطب. وقوى القواطع، وروى الروائع.
وعاد إلى المخيم مسرورا محبورا، مقبولا مبرورا، موفورا مشكورا. وقد رتب وربت، وقنب وكتب، وثبت ونبت. قد بر عمله، وأبر أمله. وفاح نشره، ولاح لشره. وتأرج رياه، وتبلج محياه. وأيقن بالظفر وظفر باليقين، وأمن إلى الدعوى المستدعية للتأمين، وتيمن بأوضاح عرابه الميامين، وإيضاح إعرابه في اقتضاء دين الدين. وأنس ببهجة الخيل ولهجة الخير، وسر سره بما سرى له من وجه السير. وشد حزم الحزم، وجد في العزم الجزم. وقدم الإسراج للإسراء، وألجم العراب للعراء.
ورحل يوم الجمعة السابع عشر شهر ربيع الآخر والتوفيق مسايره، والتأييد موازره، والتمكين مضافره، والسعد مظاهره، والجد مكاثره، واليمن محاضره، والعز مسامره، والظفر مجاوره، والإسلام شاكره، والله ﷿ ناصره. وسار على الهيئة التي قدمنا ذكرها من المناقب المقنبة، والكتائب المكتبة، والمراتب المرتبة. والمذاهب المهذبة. والسلاهب المجنبة والصوائب المجعبة. والهواضب المقربة. والثعالب المذربة. واللهاذم الهاذمة. والصلادم اللاذمة. والضراغم الضاغمة.
وخيم على خسفين، وقد أدنى الله الخسف بالعدو وخسوفه، وكسف الكفر وكسوفه. وبات والوجوه سافرة، والعيون في سبيل الله ساهرة، والأيدي لسيوف الأيد شاهرة، والألسن لأنعم الله شاكرة، والقلوب بالإخلاص عامرة، والأنفس للأنس
مسامرة، والأقدام بالأقدار متضافرة متظاهرة.
ثم أصبح سائرا ونول على الأردن بثغر الأقحوانة، بعزم الصيال وعز الصيانة. وأحاط ببحيرة طبرية بحره المحيط، وضاق ببسائط خيامه ذلك البسيط. وبرزت الأرض في قشب أثوابها، وتفتحت السماء لتنزل الملائكة من أبوابها. ورست سفن المضارب على تلك الاثباج، وطمت الاطلاب أمواجا على أمواج، وانعقدت سماء العجاج، وطلعت فيها أنجم الخرصان والزجاج.
وأعاد الاقحوانة رياضا نضرة، وحدائق مزهرة. من فرس ورد وفارس كالأسد الورد ومشرفيات كطاقات الرياحين، ويزنيات كأشجار البساتين، ورايات صفر تخفق بعذبات الياسمين. وألوية حمر كشقائق النعمان. وموضونة زغف كالغدران، ومصقولة بيض كالخلجان. ومريشة زرق كالأطيار، ومحنية عوج كالافنان، وبيض تلمع كثغور الأقحوان. وحبب ترائك على نحور الدارعين، وعقبان صواهل تروق وتروع الناظرين والسامعين.
1 / 47
والفرنج قد صفوا راياتهم بصفورية. ولووا الألوية، ومدوا على مدود الضوامر الزواخر قناطر القنطاريات، وأوقدوا في ظلام القتام الثائر سرج السريجيات. وصوبوا إلى صوب قرا الأقران نياب اليزنيات. وأحاطوا حول مراكزهم بدوائرهم، وحاطوا بواترهم بواترهم. وجمعوا الاوشاب والأوباش، ورتبوا الجيش وثبتوا الجأش.
وحشدوا الفارس والراجل، والرامح والنابل، ونشروا ذوائب الذوابل، وحشروا أبطال ورفعوا صليب الصلبوت، فاجتمع إليه عباد الطاغوت، وضلال الناسوت واللاهوت. ونادوا في نوادي أقاليم الاقانيم، وصلبوا الصليب الأعظم بالتعظيم. وما عصاهم من له عصا، وخرجوا عن العد والإحصاء، وكانوا عدد الحصى. وصاروا في زهاء خمسين ألفا أو يزيدون، ويكيدون ما يكيدون. قد توافوا على
صعيد، ووافوا من قريب وبعيد. وهم هناك مقيمون، لا يرومون حركة ولا يريمون.
والسلطان صلاح الدين في كل صباح يسير إليهم، ويشرف عليهم، ويراميهم وينكى فيهم. ويتعرض لهم ليتعرضوا له، ويردوا عن رقابهم سيوفه وعن شعابهم سيوله. فربضوا وما نبضوا، وقعدوا وما نهضوا. فلو برزوا لبرز إليهم القتل في مضاجعهم، وعاينوا مقام صارعهم في سوقهم إلى مصارعهم. وفرعوا مما فيه وقعوا. وجبنوا عما له تشجعوا.
فرأى السلطان أن يطيب ريه من طبرية، ويشرف على خطتها بالخطية والمشرفية. ويحوز حوزتها ويملك مملكتها. فجر على الادن أردان الردينيات، وأطلع النقع المثار من البحر بحوافر الاعوجيات، واستسهل عليها ولم يستوعلر بيات العربيات. فأمر عساكره، وأمراء جيشه وأكابره، أن يقيموا قبالة الفرنج، ويضيقوا عليهم واسع النهج. فإن خرجوا للمصاف بادروا إلى الانتقام منهم والانتصاف. وأن تحركوا إلى بعض الجوانب؛ وثبوا بهم وثب الأسود بالأرانب، وإن قصدوا طبرية لصونها، وأم يكونوا في عونها، عجلوا الأعلام ليعجل عليهم الإقدام.
ذكر فتح طبرية
ونزل على طبرية في خواصه، وذوي استخلاصه. وأحضر الجاندارية والنقابين والخراسانية والحجارين. وأطاف بسورها، وشرع في هدم معمورها. وصدقها القتال، وما صدف عنها النزال، وكان ذلك يوم الخميس. وأخذ النقابون النقب في برج فهدوه وهدموه، وتسلقوا فيه وتسلموه، ودخل الليل وصباح الفتح مسفر، وليل الويل على العدو معتكر. وامتنعت القلعة بمن فيها - من القومصية - ست طبرية - وبنيها.
ولما سمع القومص بفتح طبرية وأخذ بلده: سقط في يده، وخرج عن جلد
1 / 48
جلده، وسمح للفرنج بسيده ولبده. وقال لهم لا قعود بعد اليوم، ولا بد لنا من وقم القوم، وإذا أخذت طبرية أخذت البلاد، وذهبت الطراف والتلاد. وما بقى لي صبر، وما بعد هذا الكسر لي جبر.
وكان الملك قد حالفه، فما خالفه، ووافقه فما نافقه، وما حضه فما ماذقه، ووادده فما رادده، واعده فما عاوده، ورحل بجمعه، وبصره وسمعه. وثعابينه وشياطينه، وسراحيبه وسراحينه. واتباع غيه، وأشياع بغيه. فمادت الأرض بحركته، وغامت السماء من غبرته ووصل الخبر بأن الفرنج ركبوا، وثابوا عن ثبات ثيابهم ووثبوا. وعبوا وعبوا. ودبوا حتى يذبوا. وشبوا النار، ولبوا الثار، وقدموا للنزول بالدار البدار. وذلك في يوم الجمعة رابع عشري شهر ربيع الآخر.
فما كذب السلطان الخبر حتى صدق عزمه؛ بما سبق به حكمه، وسرحين أحاط بمسيرهم علمه. وقال قد حصل المطلوب، وكما المخطوب. وجاءنا ما نريد، ولنا بحمد الله الجد الجديد، والحد الحديد، والبأس الشديد، والنصر العتيد. وإذا صحت كسرتهم، وقتلت وأسرت اسرتهم؛ فطبرية وجميع الساحل ما دونها مانع. ولا عن فتحها وازع.
واستخار الله وسار، وعدم القرار. وجاء يوم الجمعة رابع عشري شهر ربيع الآخر والفرنج سائرون إلى طبرية بقضهم وقضيضهم، وكأنهم على اليفاع في حضيضهم. وقد ماجت خضارمهم، وهاجت ضراغمهم، وطارت قشاعمهم، وثارت غماغمهم، وسدت الآفاق غمائمهم، وشاقت ضاربيها جماجمهم.
وهم كالجبال السائرة، وكالبحار الزاخرة. أمواجها ملتطمة، وأفواجها مزدحمة، وفجاجها محتدمة. واعلاجها مصطلمة. وقد جوى الجو، وضوى الضو، ودوى الدو. والفضاء منفض، والقضاء منقض. والثريا قد استزار الثرى، وجر ذيل
الخيل قد برى البرى.
والحوافر الحوافز للأرض حوافر، والفوارس اللوابس في البيض سوافر. وذئاب الذياد وأجلاد الجلاد؛ قد حملوا كل عدة، وكملوا كل عدة.
فرتب السلطان في مقابلتهم اطلابه، وقصر على مقاتلتهم آرابه. وحصل بعسكره قدامهم، ورقب على الحملة أقدامهم. وحجز بينهم وبين الماء، ومنع ذمامهم على الذماء. وحلاهم عن الورد، وصدعهم بالصد. ذاك واليوم قيظ، وللقوم غيظ. وقد وقدت الهاجرة، فوقدتها غير هاجرة، وشربت ما كان في أدواتها فهي على الظمأ غير صابرة. وحجز الليل بين الفريقين، وحجرت الخيل على الطريقين. وبات الإسلام للكفر مقابلا، والتوحيد للتثليث مقاتلا. والهدى للضلال مراقبا، والإيمان للشرك محاربا. وهيئت دركات النيران، وهنئت درجات الجنان، وانتظر مالك واستبشر رضوان.
حتى إذا أسفر الصباح، وسفر الصباح، وفجر الفجر أنهار النهار؛ ونفر النفير غراب الغبار، وانتهبت في الجفون الصوارم؛ والتهبت في الضوامر الضوارم؛ وتيقظت الاوتار؛
1 / 49
وتغيظت النار؛ وسل الغرار؛ وسلب القرار؛ خرج الجاليشية تحرق بنيران النصال أهل النار، ورنت القسي وغنت الأوتار. ورقصت مران المراد، لجلاء عرائس الجلاد. وبرزت البيض من ملئها في الملأ عارية، ورتعت السمر لكلئها من الكلى راعية.
فرجا الفرنج فرجا، وطلب طلبهم المحرج مخرجا. فكلما خرجوا جرحوا، وبرح بهم حر الحرب فما برحوا. وحملوا وهم ظماء، ومالهم سوى ما بأيديهم من ماء الفرند ماء. فشوتهم نار السهام وأشوتهم، وصممت عليهم قلوب القسي القاسية وأصمتهم. وأعجزوا وأزعجوا، وأحرجوا وأخرجوا. وكلما حملوا ردوا وأردوا، وكلما ساروا وشدوا؛ أسروا وشدوا. وما دبت منهم نملة، ولا ذبت عنهم حملة،
واضطرموا واضطربوا، والتفوا والتهبوا. وناشبهم النشاب فعادت اسودهم فنافذ، وضايقتهم السهام فوسعت فيهم الخرق النافد. فآووا إلى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار، فأحاطت بحطين بوارق البوار. ورشفتهم الظبا، وفرشتهم على الربا. ورشقتهم الحنايا، وقشرتهم المنايا، وقرشتهم البلايا، ورقشتهم الرزايا، وصاروا لردى درايا، وللقضايا رمايا.
ولما أحس القومص بالكسرة، حسر عن ذراع الحسرة. واقتال من العزيمة، واحتال في الهزيمة. وكان ذلك قبل اضطراب الجمع واضطرام الجمر، واحتداد الحرب. فخرج بطلبه يطلب الخروج، واعوج إلى الوادي وما ود أن يعوج. ومضى كومض البرق، ووسع خطى خرقه قبل اتساع الخرق. وافلت في عدة معدودة، ولم يلتفت إلى ردة مردودة. وغاب حالة حضور الوغى، ونابه الرعب الذي نوى الهزيمة به وما ونى.
ثم استجرت الحرب، واشتجر الطعن والضرب، وأحيط بالفرنج من حواليهم بما حووا إليهم، ودارت دائرة الدوائر عليهم. وشرعوا في ضرب خيامهم، وضم نظامهم. فحطوا على حطين مضاربهم، وفلت حدود الرماة الكماة مضاربهم. وأعلجوا عن نصب الخيم ورفعها، وشغلوا عن أصل الحياة وفرعها. وترجوا خيرا فترجلوا عن الخيل، وتجلدوا وتجالدوا فجرفهم السيف جرف السيل. وأحاط بهم العسكر إحاطة النار بأهلها، ولجئوا إلى حزم الأرض فبلغ حرامهم الطبيين من سهلها. وأسر الشيطان وجنوده، وملك الملك وكنوده.
وجلس السلطان لعرض أكابر الاسارى، وهم يتهاودون في القيود تهادى السكارى. فقدم بدائه مقدم الداوية، ومعه عدة كثيرة منهم ومن الاسبتارية. وأحضر الملك (كي) وأخوه (جفري) و(اوك) صاحب جبيل و(هنفري). و(البرنس ارناط) صاحب الكرك وهو أول من وقع في الشرك. وكان السلطان قد نذر دمه، وقال
لأعجلن عند وجدانه عدمه.
فلما حضر بين يديه، أجلسه إلى جنب الملك والملك بجنبه، وقرعه على غدره وذكره بذنبه، وقال له كم تحلف وتحنث، وتعهد وتنكث. وتبرم الميثاق وتنقض،
1 / 50
وتقبل على الوفاق ثم تعرض فقال الترجمان عنه يقول قد جرت بذلك عادة الملوك، وما سلكت غير السنن المسلوك.
وكان الملك يلهث ظميا، ويميل من سكرة الرعب منتشيا. فآنسة السلطان وحاوره، وفثأ سورة الوجل الذي ساوره. وسكن رعبه، وأمن قلبه، وأتى بماء مثلوج أزال لهثة، وازاح من العطش ما كرثه. وناوله الابرنس ليخمد أيضا لهبه، فأخذه من يده وشربه. فقال السلطان للملك لم تأخذ مني في سقيه إذنا، فلا يوجب ذلك له مني أمنا، ثم ركب وخلاهما، وبنار الوهل أصلاهما. ولم ينزل إلى أن ضرب سرادقه، وركزت أعلامه وبيارقه، وعادت عن الحومة إلى الحمى فيالقه.
فلما دخل سرادقه، استحضر الابرنس فقام إليه وتلقاه بالسيف فحل عاتقه. وحين صرع أمر برأسه فقطع، وجر برجله قدام الملك حين أخرج فارتاع وانزعج. فعرف السلطان إنه خامره الفزع، وساوره الهلع، وسامره الجزع. واستدناه وأمنه وطمنه، ومكنه من قربه وسكنه. وقال له ذاك رداءته أردته، وغدرته كما تراه غادرته. وقد هلك بغيه وبغيه، ونبا زند حياته ووردها عن وريه وريه.
وصحت هذه الكسرة؛ وتمت هذه النصرة؛ يوم السبت. وضربت ذلة أهل السبت على أهل الأحد، وكانوا اسودا فعادوا من النقد. فما افلت من تلك الآلاف إلا آحاد، وما نجا من أولئك الأعداء إلا أعداد. وامتلأ الملأ بالأسرى والقتلى، وانجلى الغبار عنهم بالنصر الذي تجلى. وقيدت الاسارى بالحبال واجفة القلوب، وفرشت القتلى في الوهاد والجبال واجبة الجنوب.
وحطت حطين تلك الجيف على متنها، وطاب نشر النصر بنتنها. وعبرت بها
فلقيت أشلاء المشلولين في الملتقى ملقاة، بالعراء عراة. ممزقة بالمازق، مفصلة مفرقة المرافق، مفلقة المفالق. محذوفة الرقاب، مقصوفة الأصلاب. مقطعة الهام، موزعة الأقدام. مجدوعة الآناف، منزوعة الأطراف. معضاة الأعضاء، مجزأة الأجزاء. مفقوءة العيون، مبعوجة البطون. مخضوبة الضفائر، معضوبة المرائر. مبرية البنان، مفرية اللبان.
مقصومة الاضالع، مفصومة الاشاجع. مرضوضة الصدور، مفضوضة النحور. منصفة الأجساد. مقصفة الاعضاد. مقلصة الشفاه، مخلصة الجباه. قانية الذوائب، دامية الترائب. مشكوكة الأضلع، مفكوكة الأذرع. مكسورة العظام، محسورة اللثام. بائدة الوجوده، بادية المكروه. مبشورة الابشار، معشورة الأعشار. منشورة الشعور، مقشورة الظهور. مهدومة البنيان، مهتومة الأسنان. مهرقة الدماء، مرهقة الذماء. هاوية الذرا، واهية العرا، سائلة الاحداق، ماثلة الاعناق، مفتوتة الافلاذ، مبتوتة الأفخاذ. مشدوخة الهامات، مسلوخة اللبات. عديمة الأرواح، هشيمة الاشياح. كالأحجار بين الأحجار، عبرة لأولي الأبصار.
1 / 51
وصارت تلك المعركة، بالدماء دأماء، وعادت الغبراء حمراء. وجرت أنهار الدم المنهر، وسفر بتلك الخبائث المظلمة وجه الدين المطهر. فما أطيب نفحات الظفر من ذلك الخبث، وما ألهب عذبات العذاب في تلك الجثث، وما أحسن عمارات القلوب بقبح ذلك الشعث، وما أجزأ صلوات البشائر بوقوع ذلك الحدث. هذا حساب من قتل. فقد حصرت ألسنة الأمم عن حصرة وعده. وأما من أسر: فلم تكف أطناب الخيم لقيده وشده. ولقد رأيت في حبل واحد ثلاثين وأربعين يقودهم فارس، وفي بقعة واحدة مائة أو مائتين يحميهم حارس. وهنالك العتاة عناه، والعداة عراه. وذوو الأسرة أسرى، وأولوا الأثرة عثرى. والقوامص قنائص، والفوارس فرائس، وغوالي الأرواح رخائص. ووجوه الداوية الداوية عوابس،
والرءوس تحت الاخامص، مطالع الأجسام ذوات المقاطع والمخالص. فكم أصيد صيد، وقائد قيد وقيد. ومشرك مكشر، وكافر مفكر. ومثلث منصف، ومكيف مكتف. وجارح مجروح، وقارح مقروح. وملك مملوك، وهاتك مهتوك. ومتبر مبتور، ومحسر محسور. وكابل في الكبول، ومغتال في الغلول. وحر في الرق، ومبطل في يد المحق.
ذكر الصليب الأعظم والاستيلاء عليه يوم المصاف
ولم يؤسر الملك حتى أخذ صليب الصلبوت، وأهلك دونه أهل الطاغوت. وهو الذي إذا نصب وأقيم ورفع؛ سجد له كل نصراني وركع وهم يزعمون إنه من الخشبة التي يزعمون إنه صلب عليها معبودهم، فهو معبودهم ومسجودهم. وقد غلفوه بالذهب الاحمر، وكللوه بالدر والجوهر. واعدوه ليوم الروع المشهود، ولموسم عيدهم الموعود. فإذا أخرجته القسوس؛ وحملته الرءوس؛ تبادوا إليه، وانثالوا عليه. ولا يسع لأحدهم عنه التخلف، ولا يسوغ للمتخلف عن اتباعه في نفسه التصرف. وأخذه أعظم عندهم من أسر الملك، وهو أشد مصاب هم في ذلك المعترك. فإن الصليب السليب ماله عوض، ولا لهم في سواه غرض، والتأله له عليهم مفترض. فو إلههم وتعفر له جباههم، وتسبح له أفواههم. يتغاشون عند احصاره، ويتعاشون لإبصاره، ويتلاشون لإظهاره، ويتغاضون إذا شاهدوه، ويتواجدون إذا وجدوه. ويبذلون دونه المهج، ويطلبون به الفرج. بل صاغوا على مثاله صلبانا يعبدونها، ويخشون لها في بيوتهم ويشهدونها.
فلما أخذ هذا الصليب الأعظم عظم مصابهم، ووهت أصلابهم. وكان الجمع المكسور عظيما، والموقف المنصور كريما. فكأنهم لما عرفوا إخراج هذا
الصليب، لم يتخلف أحد من يومهم العصيب. فهلكوا قتلا وأسرا، وملكوا قهرا وقسرا. ونزل السلطان على صحراء طبرية كالأسد المصحر، والقمر المبدر.
1 / 52