وفيما كانت السحب الدكناء تتعالى بعضها فوق بعض على أفق الدولة، كانت أعمال هرقل قد طبقت شهرتها الخافقين، وجعل الملوك من أقاصي الأرض في الشرق والغرب من الهند ومن فرنسا
7
يرسلون إليه الرسل والهدايا الثمينة وآيات الإعجاب، ولكن الإمبراطور ما لبث أن عرف أن القضاء يسخر منه؛ فإنه ما كادت تمثل بين يديه آيات خضوع العالم وإعجابه حتى كان العرب يقرعون أبواب الشام قرعا عنيفا، وحتى كان ابنه من صلبه «أثالاريك» يكيد له مشتركا مع ابن أخته «تيودور» وجماعة من الأرمن يريدون خلعه ثم قتله، وقد فشا أمر المتآمرين، أفشاه أحدهم، وكان عقاب المجرمين أن قطعت أنوفهم وأيديهم
8
اليمنى، إلا من نم عليهم؛ فإنه جوزي بحكم أخف وطأة، وهو النفي؛ وذلك لأنه لم يوافقهم على أمر قتل هرقل.
9
ويلوح لنا أنه قد حدث بعد هذا وبعد سفر هرقل إلى أذاسة أن اجتمع اليهود في تلك المدينة. وقد روى «سبيوس» أن قبائل اليهود الاثنتي عشرة كان لكل منها من ينطق بلسانها في ذلك الاجتماع. ورأى اليهود أن المدينة خالية من الجنود؛ فإن جنود الفرس خرجوا منها ولم تحل محلهم مسلحة من الرومان، فأغلقوا أبواب المدينة، وأصلحوا حصونها، وحادوا الإمبراطور وجنوده. فحاصرهم هرقل، ولم يلبثوا أن نزلوا على حكمه، فمن عليهم ولم يشتط في شرطه، بل سمح لليهود أن يعودوا آمنين إلى موطنهم، ولكنهم لم يطيعوا، بل ذهبوا إلى الصحراء، واتفقوا مع جند الإسلام، وصاروا لهم أدلاء في تلك البلاد.
10
ولا بد أن ذلك كان في سنة 634، حين كان العرب قد دخلوا بلاد الفرس بقيادة خالد بن الوليد.
فلما اتفق اليهود مع العرب طلب إلى هرقل أن يعيد أرض المعاد إلى أبناء إبراهيم، وهدد أنه إن لم يفعل أخذوا منه تراثهم وزيادة، ولم يكن لهذا الطلب إلا رد واحد وهو الحرب، وهزم الروم بقيادة «تيودور» في «جبته»، وأعقب ذلك انهزامهم الأكبر عند «اليرموك» في أول سبتمبر سنة 634، وقد مات أبو بكر قبل ذلك في شهر يوليو، وولي الأمر بعده الخليفة عمر بن الخطاب، وكان العرب قد فتحوا «بصرى»، وجاءوا بعد اليرموك إلى دمشق، وهي العاصمة القديمة لبلاد الشام، فحاصرها خالد حتى أسلمها لهم حاكمها «منصور» على عهد ضمن لأهلها سلامتهم وما يملكون، وأبقى في أيديهم كنائسهم لا ينازعهم فيها منازع، وكان هذا في سنة 635. وقد روى أحد المؤرخين
نامعلوم صفحہ