فتح العرب للشام
لما انقضى مقام هرقل في بيت المقدس وعاد أدراجه إلى الشمال في «فلسطين»، لم يكن بعد قد بدا له ما في الإسلام من خطر عليه، وقد كان النبي (عليه الصلاة والسلام) عند ذلك قد فاز ونشر الإسلام في جزيرة العرب، وبلغ ظل الإسلام أكناف الدولة الرومانية، ولكن الإمبراطور لم ير في ذلك إلا ما اعتادت الدولة أن تصمد له من غارات أهل الصحراء، وكان هذا أمرا مألوفا؛ فإنه لو أدرك عند ذلك حقيقة ما في ثنايا الإسلام من الخطر لكان قد سارع إلى منازلته، ولعله كان يستطيع أن يقضي على دولة العرب في أول نشأتها ويمحو أثر الإسلام
1
من التاريخ، لو كان اتخذ الحيطة وأعد العدة قبل فوات وقتها، وكانت قوة عقله تمكنه من ذلك، وعنده موارد المال لا تزال مع ما نزل بها من ضعف كافية لما كان دونه.
ولكن قضى الله أن ذلك لا يكون؛ فإن واجبه كان يناديه أن يسرع بالسير من الجنوب، وكان قلبه مهموما بأمر البلاد التي في أكناف الدولة حريصا على تنظيمها حسب نصوص المعاهدة مع الفرس، وكذلك كان عليه أن يدبر أمر الأموال وأمر الحكم في كل البلاد الشرقية التي اضطربت أمورها في سنوات الحرب الست، وكان فوق كل ذلك يحب أن ينفذ ما اختمر في ذهنه منذ زمن طويل من أمر الديانة المسيحية وتوحيد مذاهبها، حتى يقوم التوحيد على الوفاق لا على الجبر والاضطرار. وكان يظن أن زعماء الكنيسة يستطيعون أن يخلقوا صورة جديدة من المذاهب تخلب الألباب وتسحرها. فإذا ما تم له صهر مذاهب الخارجين وأهل الشقاق والخلاف، وأخرج منها مذهبا خالصا مصفى لا يدخل إليه الخلاف من بين يديه ولا من خلفه؛ كانت عند المسيحيين قوة لا تقف دونها قوة أعداء الدولة والصليب!
وسار الإمبراطور عند منصرفه من بيت المقدس إلى جزيرة ما بين النهرين،
2
وكان طريقه عن دمشق فحمص فمدينة «بيرويه» فهيرابولس فأذاسة، وكانت «أذاسة» موطن آبائه، وكانت موطن القديس «أفريم» أبي الكنيسة «السورية»،
3
وكذلك كانت مشهد اليعاقبة (المونوفيسيين)؛ لأنها كانت مقر «يعقوبوس بارودايوس»، وكان ذلك المذهب هو السائد في الأديرة المجاورة وعدتها ثلاثمائة، وفي معظم بلاد أرمينيا والشام ومصر، وكانت أذاسة فوق كل ذلك موضعا ذا خطر عظيم في السياسة لوقوعها بين دجلة والفرات، وقربها من بلاد الأرمن والفرس وسوريا، فلم يكن بلد أصلح منها لما عزم عليه الإمبراطور من الأمور.
نامعلوم صفحہ