8
وكان الرهبان آمنين وراء هذه الحصون واثقين بمناعتها؛ فلم يلتفتوا إلى اتخاذ الحيطة وإعداد الأمر لسلامتهم، بل دفعهم الاطمئنان إلى الجرأة على محادة عدوهم جهرا، ولكن جاءت إليهم كتيبة من الغرب
9
حيث كان معسكر الفرس، وأحاطت بأسوارهم، وما أسرع أن دكت حصونهم الضعيفة الساذجة، ثم قتل الفرس من فيها من الرجال لم يكد يفلت منهم أحد إلا النزر اليسير ممن دخلوا الجحور والثنايا، ونهب ما في الأديرة جميعه من مال ومتاع، وهدمت الكنائس والأبنية أو أحرقت، وأصبحت خاوية على عروشها، وظلت كذلك أطلاله ماثلة إلى زمن طويل بعد فتح العرب مصر.
ولكن ذلك العدو أخذ فيما أخذ من الغنائم الثمينة كنوزا علمية كانت تملأ مكاتب الأديرة. ولسنا نعلم علم اليقين ماذا كان من أمرها، ولكن لا شك في أن كل تلك المكاتب لم تهلك، بل بقي بعضها. وأكبر ما حدث أن الدير الكبير دير «الهانطون» لم يصل إليه أذى لبعده عن الإسكندرية، وأغلب الظن أن ما كان فيه من الكتب والمنسوخات لم يمسه سوء. ويدلنا على أن الدير نجا من الخراب أن البطريق «سيمون» سنة 694 للميلاد نشأ منه ثم دفن فيه.
10
وكان سيمون هذا سوري المولد، معروفا بضلاعته من علم الفقه المسيحي. ومن هذا نرى أن ذلك الدير بقي على صلته بسوريا، وأنه احتفظ بما عرف عنه من شهرة بالعلم، ويتردد ذكره في صفحات التاريخ بعد هذه الأيام. وكذلك أفلت من الدمار دير آخر، وهو دير «قبريوس»، وهو إلى الشمال الشرقي من الإسكندرية على ساحل البحر.
11
ومن هذا نرى أن تخريب الفرس حول المدينة العظمى كان في حدود ضيقة الرقعة لم يتعدها، وهو أمر غريب سببه أن الفرس كانوا أثناء الحصار بين أمرين؛ إما أنهم كانوا في شغل من حصارهم، وإما أنهم كانوا أقصر همة من أن يبعثوا البعوث بضعة أميال في الصحاري الرملية ليضيقوا على تلك البيوت المنعزلة ومن فيها من الرهبان. ولا بد أن الأديرة التي دمروها ونهبوها - وكانت عدتها كبيرة - كانت كلها على مرأى من معسكرهم، أو تكاد تكون على مرأى منه.
ولا بد لنا هنا أن نخالف «ساويرس» في رواية رواها عن فتح الإسكندرية؛ فقد روى أنه عندما أتت أنباء هدم الأديرة وقتل رهبانها إلى الإسكندرية استولى الرعب على أهلها، ففتحوا أبواب المدينة. وكان «سلار» الفرس، أي قائدهم، قد رأى فيما يرى النائم أن عظيما ظهر له ووعده أن يسلم المدينة إلى الفرس، ثم تقدم إليه أن يأخذ أهل المدينة بشدة لا لين فيها، وألا يغادر من أهلها أحد ينجو من النكال؛ وذلك لأنهم كانوا جميعا من أهل الكفر والنفاق. فأمر «السلار»، أو هو «شاهين»، أن يخرج كل من في المدينة من الرجال ذوي القوة ممن كانوا بين الثامنة عشرة من العمر والخمسين، مظهرا أنه قد أعد لكل منهم قطعتين من الذهب. فلما خرجوا إليه جميعا في صعيد واحد أمر بأسمائهم أن تكتب، ثم أمر جنده أن يفتكوا بهم ويقتلوهم، وكانوا نحو ثمانين ألفا.
نامعلوم صفحہ