شرح البسملة
:
بسم الله الرحمن الرحيم، الباء للاستعانة، وهي حرف جر، واسم لغة من لغاتها الستة، قال الناظم:
اسم بضم أول والكسر ... مع همزة وحذفها والقصر
وهو مجرور بالباء، والجار المجرور متعلق يعامل مقدر أما عامل عام يصلح في كل مقام كالابتداء، أو عامل خاص كأقرأ في القراءة وأصنف في التصنيف، وأمثال هذه، وعلى كلتا الحالتين إما فعل كاستقر وثبت، أو اسم كمستقر وثابت، وعلى أي تقدير مقدم أو مؤخر فالوجوه المتصورة فيها ثمان صور، فالأولى منها ما كان عاما مؤخرا وفاقا للفظ الحديث "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أقطع" 1. وفي حديث "أجذم" 2, وفي آخر "أبتر" 3. والمعنى: فهو قليل البركة أو مفقود البركة، وفاقا للمقصود الذي هو الابتداء بذكر الله قبل كل شيء ولو قدر مقدما لحصل المقصود حصولا ما، ولكن الحصول التام الأوفى بالتأجير اسما كان أو فعلا، قال ابن القيم -رحمه الله-: "لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة منها: أنها موطن لا ينبغي أن يقدم فيه سوى ذكر الله، فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله تعالى كما تقول في الصلاة: الله أكبر.
صفحہ 19
ومنها أن الفعل إذا حذف صح الابتداء في التسمية في كل عمل وقول بما يخص ذلك العمل والقول.
ومنها: أن الحذف أبلغ لأن المتكلم بهذه الكلمة كأنه يدعي الاستغناء بالمشاهدة عن النطق بالفعل فكأنه لا حاجة إلى النطق به لأن المشاهدة والحال دالة على أن هذا الفعل وكل فعل إنما هو بسم الله تعالى والحوالة على شاهد الحال أبلغ من الحوالة على شاهد المنطق كما قيل:
ومن عجب قول العواذل ما به ... وهل غير من يهوى يحب ويعشق1
صفحہ 20
ولفظ (الله) علم على الأصح على ذات واجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال، المنزه عن العيوب والنقائص المتصلة والمنفصلة. وأصله من أله يأله إلها بمعنى: معبود، ككتب يكتب كتابا بمعنى مكتوب، فأريد تعريفه فأدخل عليه الألف واللام للتعريف فصار الإله فأدغمت اللام في اللام فصار الله وهو من تألهه القلوب بكمال المحبة وغاية الذل والخضوع لقدرته الكاملة وعمله المحيط بكل شيء. وهذا معنى العبادة وعلى هذا كان عاما في كل من عبده بهذا النوع باطلا كان أو حقا، فلما أمعن النظر فكرر ثم كرر واستشهد على إثبات الحق ونفي الباطل ما وجدت الشهود المرضية العدول السنية العلية إلا بإثباته للواحد الأحد الصمد الوتر المعبود المقصود وذلك لما تفكرت العقول السليمة والفطر المستقيمة ما رأت يوفى بالشهود إلا من اتحد بالأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال الكاملة التامة الحسنة والأقوال الصدق العدل، وذلك الله تعالى، فأفعاله الجميلة أبهرت العقول أن يدركوا كنه حكمها، وأقواله # الصدق العدل عجزت ألسنة الفصحاء أن يأتوا بمثلها أو بعضها، وأسماؤه الحسنى قصرت الأوهام أن يدركوا لها كفوا غيره، وصفاته العليا عجز الخلق أن يرقوا مراقيها، فثبت الحق وهو العبادة للمستحق المتوحد بأوصاف الكمال ونعوت الجمال، وهو الله إلا إله إلا هو سبحانه وتعالى، ونفت العبادة عن غيره لأن غيره خلقه وتحت قهره وتصريفه {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [غافر: 62] . فليس له كفو حتى يستحق العبادة، وهل يستحق الحمد إلا مدبرا يربي جميع العالمين بحسناه وذاك هو الله الذي ليس مثله شيء، هو الأحد المعبود جل ثناؤه ولقد كان قبل الخلق حيا وقيما ولم يبق بعد الخلق قط سواه هو الموجد القيوم بالخلق لا سواه فكل عبد ذليل لمولاه فمن أين يلقى المشرك الكفؤ مثله ومن أين يلقى من له الأمر إلا هو فسبحانه سبحانه جل شأنه علا واعتلى عن كل ند وأشباه قال تعالى: {قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1-4] . فهو الله لا إله إلا هو فعال لما يريد لا مضاد لأمره ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه لا شريك له في ملكه ولا في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا ند له ولا ضد ولا مثل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، يعز ويذل ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، له الملك وله الحمد وله الثناء الكامل وله الخلق والأمر كل يوم هو في شأن لا إلا هو ولا رب لنا سواه.
صفحہ 21
الرحمن صفة لله واستبعد قوم أن يكون الرحمن نعتا لله من قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} قالوا: ويدل على هذا أن الرحمن علم مختص بالله لا يشاركه فيه غيره وليس هي كالصفات التي هي كالعليم والقدير والسميع والبصير ولهذا لا يحتوي على غيره # تعالى، قالوا: ويدل عليه أيضا وروده في القرآن غير تابع لما قبله لقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] . {الرحمن} [الرحمن: 1] . {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} [الملك: 20] . وهذا شأن الأسماء المختصة، لأن الصفات لا تقتصر على ذكرها دون الموصوف، قال السهيلي: والبدل عندي ممتنع وكذلك عطف البيان لأن الأول هو أعرف المعارف وأبينها ولهذا قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا وما الله، ولكنه وإن جرى مجرى الأعلام فهو وصف يراد به الثناء وكذلك الرحيم إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية فإن التثنية في الحقيقة تضعيف، وكذلك هذه الأبنية وفائدة الجمع بين الصفتين، أعني الرحمن الرحيم الإنباء عن رحمة عاجلة وآجلة وعامة وخاصة، قلت: ولهذا أي عمومية الرحمة في الدنيا وخصوصيته في الآخرة للمؤمنين الموحدين مثل مطابق يظهر الأمر المعنوي المشار إليه في صورة الحسي عند الأذهان، وهو أن الكريم إذا أمر عمالا أن يصنعوا له شيئا وأحضر للعمال الطعام وحضر مع العمال ناس غيرهم أطعم الكل لكرمه ولم يرض أن يشذ منهم أحدا؛ لأنه يرى أن في ذلك نقص في جانبه وهو كذلك عند الكريم فكيف بأكرم الأكرمين، ولكن إذا حضر عند إعطاء الأجرة فلم يعط إلا العاملين فالله تعالى له المثل الأعلى في السموات والأرض، في الدنيا رحمته وسعت كل شيء، وفي الآخرة عند إعطاء الجزاء ما يرحم إلا العاملون المخلصون بفضله وأمسك رحمته عن المجرمين بعدله، قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} . [لأعراف: 156] . قال ابن القيم -رحمه الله-: أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية # والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، لا تنافي اسميته وصفيته، فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله تعالى، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورود الاسم العلم1. ولما كان هذا اسم مختصا به سبحانه حسن مجيئه مفردا غير تابع لمجيء اسم الله تعالى كذلك، وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى وهو أحسن المعنيين الذين ذكرهما السهيلي وهو: أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه وتعالى، الرحيم الدال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفة، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم ذلك فتأمل قوله تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيما} . [الأحزاب: 43] . {إنه بهم رؤوف رحيم} . [التوبة: 117] . ولم يجيء قط رحمان بهم، فعلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة والرحيم برحمته، وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب. انتهى. قلت: وهذا المعنى الذي ذكره -رحمه الله- هو كما قال، لكن لا يفي بعمومية الرحمة في دار التكليف للكافر والمسلم، والبر والفاجر، وخصوصيتها في دار الجزاء للمؤمنين المتقين كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} . أي الشرك وفروعه وذلك أن الشيخ -رحمه الله- بين أن الرحمن دال على أن الرحمة صفته تعالى، والرحيم دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وهذا لا ينكره من له أدنى لب ومعرفة، ولكن ما يشعر هذا القول بعموميتها في الدنيا وخصوصيتها في الآخرة، وهذان المعنيان هما أليق بمبادئ الأمور؛ لأنه يتبرأ العامل من الحول والقوة، ويعلم أنه لولا رحمته عليه لكان من الخاسرين، وأيضا يصلح النية # والعمل إذا علم أن الرحمة مختصة في الآخرة بالمؤمنين، فتأمل. فإن قلت: بدأ المؤلف -رحمه الله- بالبسملة ولم يبدأ بالحمدلة وقد ورد في الأثر في كل منهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أقطع" 1. وكذلك ورد "كل أمر ذي بال لم يبدأ بالحمد لله فهو أقطع" 2. قلت: الحمد هو الثناء باللسان على جميل الاختيار مطلقا بإزاء النعمة أم لا، وهذا القدر حصل من قوله: بسم الله الرحمن الرحيم وبدؤه بها لأن فيها أوصاف ثلاثة متضمنات الثناء، وثانيا: ليس في الحديثين إشعار بالجمع بينهما، فعلى هذا لو يكتفي بواحدة منهما لحصل المقصود الذي هو الابتداء بذكر الله تعالى قبل كل شيء تيمنا وتبركا مستعينا به، وثالثا: ليس فيهما تصريح بكتابتهما أمام المقصود الذي يريده، بل إذا سمى الله تعالى وحمد الله بلسانه وبدأ بمقصوده الذي يريده حصل المراد والامتثال بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فربما أن الشيخ -رحمه الله- حمد الله بلسانه عند الابتداء ولم يكتبه. فإن قلت: كيف الجمع بين الحديثين وكلاهما ذكر فيهما الابتداء فإن بدء البسملة لم يبدأ بالحمدلة وإن بدأ الحمدلة ما بدأ بالبسملة؟ قلت: الابتداء على ثلاثة أنواع: حقيقي وهو الذي لم يذكر قبله شيء، وإضافي وهو الذي ذكر قبله شيء ولكنه قبل الخطبة، وعرفي وهو الذي قبل المقصود، فالابتداء بالبسملة: حقيقي إضافي عرفي، والابتداء بالحمدلة إضافي عرفي لا حقيقي، والابتداء بالخطبة عرفي لا إضافي ولا حقيقي لأنه في العرف يطلق عليها أنها مبدوء بها لأنها قبل المقصود والغاية.
صفحہ 24
كتاب التوحيد
:
وقول الله تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} . [الذاريات: 56] . وقوله: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} . [النحل: 36] . وقوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} . [الإسراء: 23] . وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} . [النساء: 35] . وقوله: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} . [الأنعام: 151-154] .
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} -إلى قوله-: {وأن هذا صراطي مستقيما} . [الأنعام: 154] .
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله"؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
صفحہ 25
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} . [الكافرون: 3،5] .
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر والطاغوت؛ ففيه معنى قوله: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} . [البقرة: 256] .
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف. وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا} . [الإسراء: 22] . وختمها بقوله: {ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا} . [الإسراء: 39] . ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة} . [ (الإسراء: 39] .
صفحہ 26
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية # الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} . [النساء: 36] .
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
صفحہ 27
الشرح
قال الشيخ: كتاب التوحيد كتاب، مصدر كتب يكتب كتابا بمعنى مكتوب، والتوحيد مصدر يوحد توحيدا، كصرف يصرف تصريفا من الثلاثي مزيد فيه بتكرار العين وكتاب مضاف إلى التوحيد، والمجموع خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا الكتاب في بيان التوحيد ووصفه وصفته وأنواعه، فأما بيانه مجملا فهو إفراد الله بالعبادة التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ونفي العبادة عما سواه، لا على ما ظنه ابن سينا أخذا مما نسب إلى أرسطوا اليوناني أن التوحيد أن تجعل الإله الوجود المطلق مجردا عن الأوصاف جميعها لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يختار ولا يشاء, لكن هذا الوجود المطلق المجعول لها لا يفني أبدا. والشرك عندهم إثبات الصفات للإله، هذا توحيد ابن سينا والنصير الطوسي الملاحدة ومن تبعهم. ولا على ما ظنه ابن سبعين وأهل الاتحاد أن تجعل الكائنات بأسرها الله هو عينها لا غيرها ولا هنا عبد ورب وخالق ومخلوق. والشرك عندهم أن الوجود اثنين: رب وعبد. ولا على ما ظنه الجهم ومن تبعه من أهل تعطيل التوحيد نفي الصفات التي وصف الله نفسه بها في القرآن كالعلو والكلام ونحوهما، والشرك عندهم إثبات الصفات لله، وهؤلاء مع ابن سينا يتوافقون في الشرك، وقولهم فيه واحد سواء، لكن اختلفوا في التوحيد عند ابن سينا الوجود المطلق هو الإله مجردا عن الصفات، وهؤلاء عندهم الإله الذات المجرد عن الصفات فتأمل. ولا على ما ظنه الجبرية أن التوحيد عندهم أن الله فاعل الأفعال التي تصدر من الإنسان كلها طاعة أو فسوق، قبيح أو حسن، شرك أو كفر، نافق أو إيمان، والعبد كالميت ما له فعل، بل هو مجبور على ما يصدر منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
صفحہ 28
وأما صفة التوحيد: أن تجعل الخالق المكون المدبر نصب عينيك وتفنى فيه1، أن تفنى في معرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحسنة، وأقواله الصدق وتستدل بها على أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأن عبادة ما سواه باطل، قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} فحينئذ تثمر لك هذه الحالة أن تقطع العلائق عن الخلائق من حيث الجملة على الإطلاق، وتجعلهم كالعدم المحض وتقول: إياك نعبد وإياك نستعين، وكيف لا وقد قال الله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} . [يونس: 107] . وقال تعالى: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} . [الزمر: 38] . وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، أما ترى أن الله تعالى أمر رسوله بالتعلق به تعالى وحده، من بعد ما بين صريحا أن غيره لا ينفع ولا يضر؟ هذا؛ فكيف يجتمع في قلب مؤمن سليم الإيمان بهذه الآيات وأشباهها، ودعوة غير الله في كشف الكربات ودفع الملمات وقد قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} . [الإسراء: 56] . ذكر المفسرون أن ناسا كانوا يعبدون عيسى، وناسا عزيزا، فأنزل الله تعالى هذه الآية أن هؤلاء لا يملكون لكم شيئا لا كشف الضر عنكم ولا تحويلا للضر، قال تعالى: {بل لله الأمر جميعا} . [الرعد: 31] وقال تعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} ، [يس: 83] . هذا في الدنيا، وقال تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس # لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} . [الانفطار: 17- 19] . وهذا في الآخرة، فبان بالنص الصريح من تنزيل رب العالمين أن ليس لغير الله دعوة لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: {ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار} . [غافر: 41-43] .
فبين الله أن ليس لأحد دون الله دعوة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن بيده الآخرة والأولى، وما سواه تحت قهره وتصريفه، قال تعالى: {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} . [الليل: 12،13] . وذلك أن غير الله ليس له ملك في السماوات والأرض ولا شراكة ولا عوانة ولا شفاعة إلا بإذنه. قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} . [سبأ: 22،23] . فنفى الملك فيهما عمن سواه ونفى الشراكة ونفى العوانة والشفاعة إلا بإذنه، هذا فكما أن النور والظلمة لا يجتمعان، وكذلك الحياة والممات اجتماعهما محال، كذلك الإيمان بهذه الآيات وما أشبهها لا يجتمع مع دعوة غير الله في كشف الضر وتحويله، بل مهما وجد واحد منهما في شخص انتفى الثاني ولابد، كالنور والظلمة.
صفحہ 30
وأما وصف التوحيد: فوصف النور، ووصف ضده -وهو الشرك- الظلمة، قال تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور # يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} . [النور: 35] . فمثل الله نوره الذي في قلب المؤمن بمشكاة، أي: كوة فيها المصباح، والمصباح في زجاجة، أي القنديل والزجاجة التي فيها المصباح كأنها كوكب من حسن صفاء الزجاجة، وتوقد فتيلة المصباح من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية فيغلب عليها الحرورة فيصفر لونه، ولا غربية تغلب عليها البرودة فيغبر لونه، بل معتدلة في الطبع فصفى لونه، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه -لشدة صفائه- نار، نور على نور، نور المصباح ونور الزجاجة ونور الزيت فكما إذا اجتمعت هذه الأنوار حصل منها أنوار عظيمة، كذلك قلب المؤمن الموحد وكما أن الزيت الذي وصفه الله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} وكذلك قلب الموحد يداك يستبصر بنور التوحيد ويتبرهن ببراهين قاطعة وحجج ساطعة عقلا على المبطلين والملحدين وأصحاب البدع بما يدحض حججهم ويبطل مآخذهم من دون أن يسمع من عالم أو فقيه أو محدث. وهل ذلك إلا كما قال تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} . قال ابن القيم -رحمه الله-: الثالث قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الله انقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد ولو دنا منه الوساوس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منه ليتخطاها رجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله له أتم حراسة من حراسة السماء، والسماء معبد الملائكة ومستقر الوحي، وفيها الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة، وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئا إلا خطفة، وقد مثل هذا بمثل حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيت لملك فيه كنوزه # وذخائره وجواهره، وبين للعبد ليس فيه جواهر الملك وذخائره، وبين خال صفر لا شيء فيه فجاء اللص ليسرق أحد البيوت فمن أيها يسرق؟ فإن قلت من البيت الخال كان محالا؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء فيسرقه، ولهذا قيل لابن عباس: أن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلواتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟ وإن يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس ما يرده، ولا يزال ما لا يستطيع اللص من الدنو منه، كيف وقد حارسه الملك نفسه؟ وكيف يستطيع الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث وهو الذي يشن عليه الغارات، فقلب خلا من الخير كله وهو قلب الكافر والمنافق فذلك بيت الشيطان قد أحرزه لنفسه واستوطنه واتخذه مسكنا ومستقرا فأي شيء يسرق وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه ووساوسه؟ انتهى.
صفحہ 32
قلت: وذلك لما خلا من قلبه نور التوحيد ونور الكتاب والسنة صار مثله كما قال تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} . [النور: 40] . وحينئذ لقي العدو عليه مساطي1، وهذا شأن العدو الضعيف: وهو الشيطان ضعيف فإنه في الكيد، قال تعالى: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} . [النساء: 76] .وشأن السراق وقطاع الطريق بل السباع الضواري بل والهوام وحشرات الأرض كالحيات والعقارب وأشباهها ما يظهرون ولا يعدون على الحصون والبيوت والطرق إلا في الليل المشتمل على الظلمات التي # تستر الأعين عن الأبصار والاستبصار ويستغنم الفرص، لما فيها من الغفلة والسكون وعدم الفطنة والدرك، فهم على هذا حتى يتبين النور، فإذا أحسوا بنور فروا واستكمنوا. وهذا القلب يضاده قلب المؤمن، كتضاد النور والظلمة، قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} . [البقرة: 257] . وتضاد القلبين كتضاد الحياة والممات، قال تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} . [الأنعام: 122] . قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} . [النور: 40] . مثل للمشرك أنه لما تراكمت على قلبه الظلمات لعضها فوق بعض، ظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة اتباع الأهواء والآراء والآباء، فحينئذ لم يكد يرى القبيح والحسن، والحق والباطل، أي لا يميز بينهما بل ربما يجعل القبيح حسنا، والحسن قبيحا، والحق باطلا، والباطل حقا، لعمى بصيرته، قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} . [الحج: 46] .ووقوع هذا الداء العضال في الكفار والمشركين والمنافقين أمر واضح، نطق به الوحيان، ويقع في أهل المعاصي إذا أدمنوا عليها، قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} . [المطففين: 14] . فلما كان هذا ممكن الواقع ولا يدفعه دافع ولا يمنعه مانع إلا الله العليم الوسيع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: "اللهم أرني الحق حقا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلا وارزقني اجتنباه ولا تجعله ملتبسا علي فأفضل" 1.
صفحہ 33
وأما أنواعه، فالتوحيد نوعان: قولي اعتقادي، وفعلي، فالقولي الاعتقادي نوعان: ثبوتي وسلبي، والسلبي أيضا نوعان: سلب النقائص والعيوب كلها عنه تعالى، وهذا أيضا نوعا، سلب العيوب المتصلة التي تنسب إلى الذات أي يعتريه كالموت والنوم والسنة والعبث والجهل والإعياء والتعب والظلم والعدوان والغفلة والنسيان والاحتياج، والثاني -من نوعي سلب النقائص-: سلب العيوب المنفصلة عن الذات، كالولد والوالد والزوج والكفو والولي والشريك والظهير والشفيع، والثاني من أنواع السلب: سلب أوصافه عن التشبيه والتمثيل والتعطيل.
صفحہ 34
والنوع الثاني من نوعي التوحيد القولي الاعتقادي: إثبات صفات الكمال التي ذكرها الله تعالى في كتابه وأسمائه الحسنى، قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} . [الأعراف: 180] . وهن: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 22-24] . هو الله، الغفار، القهار، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحكيم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، # المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن ، الولي، المتعالي، البر، التواب، المنعم، المنتقم، العفو، الرؤوف، المالك، ذو الجلال والإكرام، الرب المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، النافع، الضار، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور، الذي ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وهذه الأسماء التي ذكرها الله في كتابه العزيز وألزم عباده بأنهم إذا أرادوا أن يدعوا الله تعالى في أمر أن يدعوه سبحانه بها قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} . [لأعراف: 180] .
والإلحاد في أسماء الله تعالى أربعة أنواع: نوع شركي، بمعنى أن يسمى بأسماء الله تعالى الآلهة الباطلة، وهذا النوع كثيرا ما يقع عند المشركين، قال البن عباس في قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} . [الأعراف: 180] . قال: يشركون: سموا اللات من الإله والعزى من العزيز1.
والنوع الثاني: نوع تغييري بمعنى يدخل فيها ما ليس منها، قاله الأعمش.
والنوع الثالث: تعطيلي بمعنى أنه ينفي عنها حقائقها من المعاني البينة في اللغة والسنة.
والنوع الرابع: إنكاري كما أنكرت قريش الرحمن قالوا: {وما الرحمن} .
صفحہ 35
قال ابن القيم في مدارج السالكين: "الإلحاد تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة. وقال ابن عباس في تفسير الآية: {يلحدون في # أسمائه} يكذبون عليه، وهذا تفسير بالمعنى. وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج معانيها عنها هذا حقيقة الإلحاد، ومن فعل ذلك فقد كذب على الله، ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب، إذ هو غاية الملحد في أسمائه تعالى، فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها، وخرج بها عن حقائقها أو بعضها فقد عدل بها عن الصواب والحق، وهو حقيقة الإلحاد. فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها، أو بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب، وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة، وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات، كإلحاد أهل الاتحاد، فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون، محمودها ومذمومها، حتى قال زعيمهم: "وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا، وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا" تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا1.
والأوصاف التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، يوصف الرب تعالى بها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، منها العلو، قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} . [طه: 5] . وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} . [فاطر: 10] . وقال تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير} . [الملك: 16،17] .
وقد ذكر العلو لله في خمسة وعشرين موضعا من القرآن.
ومنها الكلام، قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} . [النساء: 164] .
صفحہ 36
ومنها الإرادة، قال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم # الرجس} . [الأحزاب: 33] . وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} . [البقرة: 185] .
زمنها الرحمة، قال تعالى: {فقل ربكم ذو رحمة واسعة} . [الأنعام: 147] . وقال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} . [لأعراف: 156] .
ومنها المحبة، قال تعالى: {يحبهم ويحبونه} . [المائدة: 54] .
ومنها الغضب، قال تعالى: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم} . [الفتح: 6] .
ومنها الرضى، قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} . [البينة: 8] .
ومنها المشيئة، قال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} . [القصص: 68] .
ومنها الوجه، قال تعالى: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والأكرام} . [الرحمن: 27] .
ومنها اليد، قال تعالى: {يد الله فوق أيديهم} . [الفتح: 10] .
ومنها الفرح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يفرح بتوبة العبد أشد فرحا من فاقد راحلته بأرض فلاة" 1.
ومناه الخلة، قال تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} . [النساء: 125] .
صفحہ 37
والإلحاد فيها نوعان: تعطيلي بمعنى أنه يعطل حقائق معانيها ويؤولها، كالجهمية ومن تبعهم، وفروخ الأشاعرة في بعضها، ش # والمعتزلة في بعضها، كتأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة، وأشباه ذلك؟ وإنكاري بمعنى ينكر أوصافه كلها، كابن سبنا، وأرسطو، ومن تبعهم. أو بعضها كالجهمية: في الكلام، والخلة، والمعتزلة: في الرؤية.
هذا وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " 1. فالهدي القويم والعقل السليم يدلان على أن الله هو أعلم بنفسه من غير، وما سواه لم يدركوا كنه ذاته؛ لأن ما سواه مخلوق مصنوع، والمصنوع ما يعرف الصانع، كما قيل:
تقاصرت الأفهام عن كنه ذاته ... فلا كيف يدري ما العقول ولا ما هو
وهل يعرف المصنوع صانع نفسه بلى يعلم الباري بما هو سواه إذ العقل لم يدر الذي قد تخلفا فكيف برب خالق الكون أنشاه، فهو جل وعلا وصف نفسه بهذه الأوصاف، فاللازم على كل مسلم أن يؤمن بها، من دون تكييف، ولا تمثيل ولا تشبيه، ولا تعطيل، ويكون كما قال مالك اقرأ في الإثبات: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} . [الإخلاص: 1-4] . واقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} . [الشورى: 11] . وقال في جواب السائل حين سأله عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك يا هذا إلا مبتدعا.
صفحہ 38
النوع الثاني من نوعي التوحيد: فعلي، وهو توحيد العبادة، وهو أن تفرد الله بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إنا أنزلنا # إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص} . [الزمر: 2-3] . والسورة كلها عامتها في هذا المعنى إلى قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه} . [الزمر: 11-15] . إلى قوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد} . [الزمر: 36] . وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} . [البينة: 5] . وقال تعالى: {هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين} . [غافر: 65،66] .
واعلم أن التوحيد والإخلاص ما يتم إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} . [النور: 63] .
صفحہ 39
قال الإمام أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه من الزيغ فيهلك. وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} . [الحشر: 7] . وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} . [النساء: 59] . وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} . [النساء: 65] . وقال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك # مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} . [النساء: 69] . وقال تعالى: {إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} . [الجن: 23] . فعلم أن شهادة أن لا إله إلا الله، لا تتم، بمعنى أنه لا تتم الألوهية أي العبودية إلا برسول مرسل إلينا، يعلمنا طريق العبادة وأنواعها، فتأمل، إلا بشهادة أن محمدا رسول الله، ولهذا صارا في الإسلام ركنا واحدا بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ركن، وإقامة الصلاة، ركن، وإيتاء الزكاة، ركن، وصوم رمضان، ركن، الحج، ركن، فالأصل: شهادة أن لا إله إلا الله، وتتمتها شهادة أن محمدا رسول الله، فلا إله إلا الله حصن كما في الحديث القدسي "لا إله إلا الله حصني أمن من عقابي" 1. الحديث، وباب الحصن الذي يدخل منه شهادة أن محمدا رسول الله، فلا إله إلا الله هي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي الحصن الحصين. وكل حصن له باب وقفل فالباب: الشهادة بالرسالة، والقفل العمل بما جاء به صلى الله عليه وسلم، ولا يتم الضبط والاحتكام إلا بهذه الثلاثة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله مفتاح الجنة" 2، وكل مفتاح له أسنان، فمن أتى بها يفتح له، ومن لم # يأت بها لم يفتح. والأسنان الأعمال الصالحة، والعمل الصالح ما كان على شريعة الرسول اللهم صل وسلم عليه.
والحاصل، أن الدين لا يتم إلا بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة، ولا يقبل عمل إلا ما كان مؤسسا عليهما، كما قال عياض: ما يقبل الله عملا إلا أخلصه وأصوبه، قيل: ما أخلصه وأصوبه يا أبا علي؟ قال: العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، والخالص ما كان لابتغاء وجه الله، والصواب ما كان على شريعة محمد بن عبد الله، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] . فجعل الله محبته منوطا على اتباعه صلى الله عليه وسلم.
صفحہ 41
باب في أنواع الشرك
1
أنواع الشرك
اعلم أن الشرك نوعان: خفي وظاهر، والثاني قولي وفعلي، وكل منهما أصغر وأكبر، فأما الخفي فكيسير الرياء والسمعة، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به" 2. أخرجه الشيخان، قيل: معنى سمع الله به وراءى الله به يظهر سريرته فيعرف المرائي والمسمع. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك" 3. وفي الصحيح: "أول من تسعر بهم النار القارئ المرائي والمجاهد المرائي والمتصدق المرائي" 4 الحديث. وأما القولي الأصغر كالحلف، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 5. صححه الحاكم وابن حبان، ومنه قول القائل: "ما شاء الله وشئت" وقوله: "لولا الله وفلان" "أعوذ بالله وبك"، "لولا البط في الدار لأتانا اللصوص"، "وأنا في حسب الله وحسبك"، "وذا من بركة الله وبركتك"، "ولي الله في السماء وأنت في الأرض" وأمثال ذلك من الأقوال التي يجمع فيها بين الله وخلقه بالواو وذلك لأن حرف الواو تفيد الجمعية تقول: جاء زيد وعمرو، أي جميعا معا.
صفحہ 42
وأما الفعلي الأصغر كلبس الحلقة للواهنة، والخيط للحمى، # وتقبيل حجر غير الحجر الأسود، وتقبيل القبور واستلامها من دون قصد شرعي، فإن قصد جلب نفع، أو دفع ضرر منها فذلك شرك أكبر يخرجه من الإسلام، ويرتد عن الإسلام بذلك، وأمثال ذلك من الأفعال.
وأما القولي الأكبر فكدعوة غير الله والاستعانة بغيره، كقوله: أغثني يا فلان. والاستعانة بغيره كقوله: أستعين بك في أمري أو في حاجتي، معتقدا أنه يقضي حاجته دون الله تعالى. والاستعانة بغير الله تعالى كقول المشركين إذا نزلوا بواد: إنا نعوذ بكبراء هذا الوادي من سفهائهم. وأمثال ذلك من الأقوال التي يريدون بها دون الله تعالى كشف الكربات، ودفع الملمات، وإغاثة اللهفان، وشفاء الأمراض.
وأما الفعلي الأكبر كالسجود لغير الله والركوع والنذر والذبح لغيره، والخوف والرجاء من غيره، كخوفه من الله تعالى، وحب غير الله كحب الله، والتوكل على غيره، والخشية من غيره. وهنا نوع آخر من الشرك؛ لعموم البلاء وكثرة وقوعه في الناس ذكرته منفردا، فأضع إليه سمعك، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، هل أنت معافى أم لا؟ وهو الشرك في الإرادات والنيات.
قال ابن القيم -رحمه الله-: وهو البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى غير التقرب لله وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونياته، وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحدهم غيرها، وهي حقيقة الإسلام {ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} . [آل عمران: 85] . وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها # فقد سفه نفسه.
صفحہ 43